تكوين
– 1 –
أزعم أنه مع انتباه الوعي الذاتي لكاتب هذه السطور لقيمة طه حسين وأدواره المتعددة، أدركتُ أن قيمة طه حسين الكبرى، في ظني، أنه استطاع في لحظةٍ مبكرة، في السنوات الأولى من القرن العشرين، إدراك لُبِّ الأزمة التي يعانيها مجتمعنا؛ مجتمع يحيا مشكلات عالم قديم في زمن حديث، أدرك طه حسين أننا ندق على أبواب العالم الحديث، ظاهريًّا، ونحن محملون حتى النخاع بقضايا وهموم عالم مضى وانتهى..
ومن هنا، اتخذ الاحتفال السنوي بذكرى رحيل عميد الأدب العربي، في الثامن والعشرين من أكتوبر من كل عام، مناسبة حافزة وضرورية على إعادة تأمل بل استعادة سيرة طه حسين الإنسانية والفكرية والثقافية، والبحث في جانبٍ أو أكثر من جوانب إنجازاته الضخمة ومسيرة حياته الزاخرة.
على مدى ما يزيد على أحد عشر عاما، كان من المدهش -بالنسبة لي- أنه مع كل مناسبة تخص طه حسين (ذكرى ميلاده أو وفاته وبينهما شهر واحد)، ويتجدد فيها الحديث عنه، يجد الباحث الجاد والمنقب الدؤوب والمقلب في أوراقه وأعماله مادة غزيرة جدًّا جدًّا تستأهل إعادة النظر في كل ما تركه من أفكار ومقولات ورؤى، بل وتكتشف زوايا جديدة ومدهشة لقراءة جانب أو أكثر من إرثه الزاخر، تأليفًا وترجمة، تحقيقًا وتقديمًا، مراجعة وتعليقًا، وهجومًا كاسحًا من خصومه، وآراء قوية ومتماسكة تدحض هذه الاتهامات، وتأتي عليها من أساسها.. إلخ. إنه ما زال حيًّا، وحاضرًا، حتى وإن ثارت العواصف وزمجرت الأعاصير، وعلا صراخ المتطرفين والكارهين لكل ما يمثله طه حسين من قيم “الحرية” و”العقلانية”، و”التفكير العلمي”، والدفاع عن العلم، والحداثة، والبحث عن المستقبل، إلخ.
من هو طه حسين
وفي خضم ذلك كله؛ كان ثمة أجيال ناشئة، بازغة، واعدة، تتساءل: ومن يكون طه حسين؟ وما أهميته لنا؟ ولماذا يجب علينا أن نقرأه ونتعرف عليه؟
وذلك في مقابل أجيال أخرى، للأسف، نشأت -وتنشأ- في سجون الظلامية والتعصب والتطرف، لا تسأل ولا تبحث عن إجابة؛ فهي ترث الحقيقةَ المطلقة أبًا عن جد! وفي هذه الدائرة لن تجد طرحًا أو سؤالًا عن طه حسين بل وصمًا واتهامًا بالكفر والزندقة والخروج عن الإسلام[1].
وبين هذا وذاك، ورغم سيولة المعلومات والانفجار الرهيب في وسائل التواصل والوسائط المعلوماتية؛ يبقى الرهان على غرس قيمة المعرفة، والبحث عنها، والقدرة على إنتاجها، فضلًا على امتلاكها، وقد كان طه حسين الرائد الذي لم يكذب أهله، أبدًا، فكان نبي المعرفة المبشر بها، والداعي إليها في زمننا هذا!
– 2 –
وإذا كانت ثورة 1919 -بمعنى من المعاني- ملهمة لأجيال من المصريين، صنعوا ما عرف بقوة مصر الناعمة التي أسهم طه حسين إسهامًا كبيرًا ووافرًا في تشكيلها، وشهدت مصر خلال العقود الثلاثة التي تلت 1919 ما لم تشهده قبل ذلك في تاريخها كله؛ أدبًا وفكرًا وثقافةً ورسمًا ونحتًا وتصويرًا وموسيقى وعِلْمًا ومؤسسات.. إلخ.. فإنني أظن أن ما جرى في 2011 وبعدها، وتلاها، سيكون له مردوده الفكري والثقافي على المدى البعيد، مهما كان يبدو بعيدًا!
لكن من أهم آثاره القريبة والمباشرة هي الاهتزاز القوي المزلزل الذي حرك الجامد والمتجمد والمتكلس على مدى عقود طويلة، انشرخت القشرة الصلبة التي التفت حول أذهان المصريين بفعل تعليم رديء ومناخ مُغلق عطن، وأريد لهم أن يكونوا بين مطرقة الرضا بما هو كائن أو سندان الاستسلام لما هو غائب وخرافي ووهمي بتوظيفٍ مجرم للدين!
ولم يكن أمامهم سوى أن يحاولوا الخروج من هذه البوتقة السامة، وكان لهم ما أرادوا وإن تأخر، فانفتحت فُرْجة يستطيعون من خلالها أن يشموا الهواء (وحتى إن لم يكن نقيا تماما!)، وأن يطرحوا الأسئلة لا أن يتلقنوا الإجابات المحفوظة سلفا، وأن يبحثوا بحرية (أو هذا ما نتمناه) عن أسباب تخلف حاضرهم بالرجوع والتقصي الحقيقي لطبقات ماضيهم لفهمه وتحليله، ومن ثَم البحث عن المستقبل واستشرافه.
وساعدهم على ذلك حالة الزخم غير المسبوقة التي فرضت نفسها فرضًا على واقعهم الاجتماعي والثقافي مع ظهور الفضائيات، ووسائل التواصل الاجتماعي، وسهولة الاتصالات، وسيولة تداول المعلومات..
كل ذلك أدى في النهاية إلى انتشار ثقافة “المراجعة” و”طرح السؤال”، ونماء البحث والتنقيب، وظهور أدوات الاستفهام بكثافة: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ وأين؟ وإلى أين؟
في ظل هذا المناخ الموَّار، تبرز على الفور قيمة بل أهمية بل ضرورة البحث عن طه حسين، وتجديد ذكراه باعتباره كان أحد سادات الثورة الفكرية والعقلية على السائد والمألوف والتقليدي، ودفع في سبيل ذلك ثمنًا غاليًا.
كان نجيب محفوظ يقول عن طه حسين “اعتبرنا جميعًا في شبابنا أن ثورة طه حسين ضد المناهج القديمة هي انتفاضة عقلية موازية للثورة الحقيقية التي فجَّرها سعد زغلول على أرض الواقع”. هذا على مستوى نهْج التفكير العقلي، والثورة المنهجية التي بشَّر بها.
وكان طه حسين يؤمن بقيمة العلم والمعرفة، وكان يرى أن معاهد العلم ليست مدارس فحسب، ولكنهــا -قبل كل شيء، وبعد كل شيء- بيئات للثقافة بأوسع معانيها: “إن الجامعة بيئة لا يتكون فيها العالم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذي لا يكفيه أن يكون مثقفًا بل يعنيه أن يكون مصدرًا للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضرًا، بل يعنيه أن يكون منميًا للحضارة. فإذا قصَّرت الجامعة في تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين فليست خليقةً أن تكون جامعةً، وإنما هي مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة وما أكثرها. وليست خليقة أن تكون مشرق النور للوطن الذي تقوم فيه والإنسانية التي تعملُ لها، وإنما هي مصنع من المصانع يُعِدُّ للإنسانية طائفةً من العلماء ومن رجال العلم، محدودةٌ آمالُهم، محدودةٌ قدراتُهم على الخير والإصلاح”.
أما على مستوى إصلاح التعليم والدعوة إلى نشره وذيوعه لكل أبناء مصر لا فارق بين غني وفقير، وابن أعيان وابن فقراء، فقد أسس طه حسين لثورةٍ أخرى نبيلة وعظيمة؛ آتت أكلها لحين، ثم ولأسباب عديدة وعوامل يطول شرحها توقفت أو أجهضت ولما تكتمل للأسف الشديد!
– 3 –
لقد استطاع طه حسين أن يمسك بمفاصل الثقافة العربية، منذ العصر الجاهلي وحتى القرن الثاني عشر الهجري، في أعلامه وكتبه ونصوصه الكبرى؛ من «الشعر الجاهلي» وأدبه إلى «حديث الشعر والنثر»، إلى «حديث الأربعاء»، وصولًا إلى «ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية»، فضلًا على تناولاته التحليلية المعتبرة لكل من “المتنبي” و”أبي العلاء” و”ابن المقفع” و”الجاحظ” و”التوحيدي”، إنه بحق، وكما وصفه المرحوم عبد المنعم تليمة، قدم للثقافة المصرية والعربية ما يمكن تسميته بـ«بيان شامل للنهضة والتحديث»، ربما كان الأهم والأكثر إحداثًا للجدل والنقاش في مصر والعالم العربي في القرن العشرين.
وبقدر ما كان مشروع طه حسين الثقافي، يقوم في جوهره على الاحتفاء بالعقل والعلم وقِيم التنوير والحداثة والنهضة، بقدر ما كان يمثل في الوقت ذاته احتفاء بالاختلاف والتنوع والتعددية والتسامح، أو بالجملة النظرة الإنسانية الكلية الشاملة.
تقريبًا، كل الشخصيات الإبداعية والثقافية الكبرى، في تراثنا الفكري والأدبي القديم والحديث، كتب عنها طه حسين كتابةً مرجعية تأسيسية، دراسة أو أكثر، ما زالت تحتفظ بقيمتها وأهميتها حتى اللحظة (مع الاعتراف بأن جهودًا أخرى قد تجاوزت بعض ما فيها من نتائج أو آراء).
في الشعر، كتب عن شعراء الجاهلية، وشعراء الغزل العذري، وشعراء المجون والهزل. كتب عن المتنبي، وأبي تمام، والبحتري، وأبي العلاء، وراجع كتبه الأصيلة «مع المتنبي»، و«تجديد ذكرى أبي العلاء»، و«مع أبي العلاء في سجنه»، و«تعريف القدماء بأبي العلاء»، و«صوت أبي العلاء».
درس النثر العربي، وأشكال الكتابة الفنية، وتوقف عند أعلامها، فكتب عن ابن المقفع، والجاحظ، والتوحيدي، وابن العميد، وابن خلدون.. وقارن بين أبي العلاء وكافكا، وبين ابن حزم الفقيه الظاهري الأصولي وبين ستندال الفرنسي، قارن بين كتابيهما «طوق الحمامة» و«الأحمر والأسود»، وعرَّف بأعلام الأدب الأمريكي، والفرنسي، والألماني، حتى وقته.
كتب عن ابن مضاء القرطبي، وكتابه «الرد على النحاة»، وقدَّم رؤية تجديدية [جريئة] لعلم النحو العربي، وكتب مقدمة رائعة لكتاب زميله إبراهيم مصطفى «إحياء النحو»، صاحب أول محاولة لتيسير النحو العربي وطرق تدريسه، وقدم أيضًا في هذه الدائرة واحدة من دراساته العميقة المثيرة للجدل والنقاش عن «استخدامات الضمير في القرآن الكريم»، وكتب دراسته التأسيسية الملهمة (تاريخ البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر) التي تعد بحق أوفى تلخيص وتكثيف لمسيرة البلاغة العربية، والنقد العربي القديم.. (ترجمها إلى العربية الدكتور عبد الحميد العبادي بإشراف طه حسين).
أعمال طه حسين
وغطَّى طه حسين، ولأول مرة في تاريخ الثقافة العربية الحديثة، دراسة الأدب العربي في عصوره المتعاقبة، منذ الجاهلية، وأبرز أعلامه شعرًا ونثرًا في القرون الخمسة الأولى للهجرة، وراجع مصداق ما أقول في كتبه ذائعة الصيت؛ «في الأدب الجاهلي»، و«من حديث الشعر والنثر»، و«حديث الأربعاء» (الجزءان الأول والثاني)، و«من أدبنا القديم».. إلخ.
وعلى مستوى “تأصيل” الدارسة الأدبية والعلمية الحديثة، وإنشاء المؤسسات العلمية والثقافية وأقسام اللغات وآدابها، يعد طه حسين هو الأب الشرعي لقسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة، وهو مؤسس الدراسات الكلاسيكية (اليونانية واللاتينية)، ومؤسس الدراسات الشرقية (الفارسية والتركية)، واللغات السامية وآدابها، هو الذي أسس جامعة الإسكندرية وكان أول مدير لها (كانت تعرف بجامعة فاروق الأول)، وأسس كذلك جامعتي عين شمس وأسيوط. وهو الذي أنشأ المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، وكان افتتاحه في نوفمبر من العام 1950 حدثًا تاريخيا بكل معنى الكلمة، كما أسس كرسي للأدب العربي في أثينا، وأسس المعهد المصري لتعليم اللغة العربية في المغرب، وخاض نضالا عظيما لإنشاء مثيله في الجزائر، وتصدت له فرنسا القوة الاستعمارية الباطشة في ذلك الوقت[2].
ولن أُحدِّثك عن أعماله الرائدة في الرواية، والقصة، والسيرة الذاتية، والنصوص الأدبية الخالصة؛ فهي أشهر من أن يُشار إليها، ولكنها لا تمثل في نظري، على قيمتها وأهميتها وجمالها، سوى شريحة محدودة للغاية من أثر طه حسين الأكبر والأوسع دائرة في الفكر العربي، والتربية والتعليم، والاجتماع، والنقد الأدبي، والنقد الفكري بمعناه الشامل، والدراسات التاريخية التحليلية، والترجمة، وتحقيق التراث وتيسيره وتقريبه، والتنمية الثقافية واللغوية الشاملة، ونظراته التجديدية في كل المجالات السابقة. فضلًا على أجيال من التلاميذ الذين صاروا بدورهم أساتذة وأعلامًا وأسماء كبيرة في الثقافة المصرية والعربية.
سيرة طه حسين
– 4 –
التحق بالجامعة المصرية الحديثة وهو شاب، فبعث سيرة الشاعر الفيلسوف أبي العلاء المعري، وأوفد إلى فرنسا ليعرف معنى العلم الإنساني، ودعا لفصل العواطف الدينية عن علوم الأدب والاجتماع والإنسانيات عموما، وهو مدرس بكلية الآداب، وتمسك باستقلال الجامعة وهو عميد وخاض المعارك دفاعا عنها، وهاجم الاستبداد والظلم الاجتماعي وهو شيخ في كتابه الرائع «المعذبون في الأرض»، فمنعت السلطات آنذاك طباعته في مصر..
وعندما دعاه الزعيم الوفدي الكبير مصطفى النحاس باشا لتولي وزارة «المعارف» في آخر وزارة وفدية (1950-1952)، اشترط أن تكون أول قراراته «مجانية التعليم الثانوي»، وبينما يقسم اليمين باحترام الدستور، يقول له الملك: أهلًا طه حسين رجل المتاعب، فيجيبه طه حسين: المتاعب يا مولاي لا تطلب لذاتها، ولكن يجيئها الإنسان في طريقه إلى الحق! بحسب ما يروي عنه أستاذنا الدكتور كمال مغيث.
كان رحمه الله يؤمن بأن الكتابة هي العمل، وأن “كل كاتب وكل فنان لا يستطيع التقدم إلا بالإخلاص، شأنه شأن بطل دانتي يحمل المصباح معلقًا إلى ظهره ليضيء طريق الذين يتبعونه”.. إنه كما يصفه بصِدْق الناقد والأكاديمي القدير الدكتور حسين حمودة، فيما كتبه عنه يقول:
“في كل ما كتب، وما أدَّى، وما قام به من أدوار متعددة، دافع طه حسين عن قيم واحدة. نقرأ كتاباته المتنوعة، التي خاضت مجالات شتى، من النقد الأدبي إلى التاريخ، ومن السرديات والمرويات إلى المقالات الصحفية، ومن الشعر إلى الترجمة، ومن السياسة إلى الاجتماع، فنجد القيم نفسها ماثلة بوضوح. ونسمع أحاديثه، ونسمع عن أحاديثه، فتطل علينا القيم نفسها قائمة بجلاء، ونتأمل مواقفه في المناصب التي شغلها، والمهام التي اضطلع بها، فنشهد القيم نفسها حاضرة بقوة، وكأنَّ طه حسين، النهر الهادر المتدفق في أرض لم تكن ممهدة، كان وظلَّ هو نفسه دائمًا، وكأن مياه نهره قد وصلت، هي ذاتها، بصفائها وعرامتها نفسيهما، إلى كل روافد هذا النهر وإلى كل جداوله”.
إن قيمة طه حسين الكبرى، في ظني، أنه استطاع في لحظة مبكرة، في السنوات الأولى من القرن العشرين إدراك لب الأزمة التي يعانيها مجتمعنا؛ مجتمع يحيا مشكلات عالم قديم في زمن حديث، أدرك طه حسين أننا ندق على أبواب العالم الحديث، ظاهريا، ونحن محملون حتى النخاع بقضايا وهموم عالم مضى وانتهى..
لقد مثلت حياة طه حسين (1889-1973) سعيا دؤوبا ومتجددا لتجاوز التخلف، وتأصيل قيم التقدم على أساس من الانتماء الثقافي والتفاعل الحضاري. كانت حياته منذ مولده وطفولته المبكرة زاخرة بالتحديات، وكان التغلب عليها نموذجًا ومثالًا لكل الأجيال.
كانت حياته بطولها وعرضها (واستيعابها لمجتمعها في ميزان المجتمعات الإنسانية داخل ثالوث: ماضٍ- حاضر- مستقبل)، ماثلة في فضاء خياله في كل ما يكتب إملاءً، فلقد حلَّ خياله محل البصر، فصار فقدان البصر «بصيرة» نافذة ومستشرفة. نعم، إن «المعذبون في الأرض» أنجبوا طه حسين الكاتب والمفكر.
– 5 –
المراحل التكوينية في سيرة طه حسين
(العلمية والفكرية والثقافية)
يكاد يُجمع أبرز من سجلوا سيرة العميد، ومسيرة حياته الحافلة، على كل المستويات، على تقسيم رحلته الإنسانية والفكرية في هذه الدنيا إلى خمس مراحل كبرى؛ يمكن توصيفها بالتالي:
- المرحلة الأولى: النشأة والتكوين (1889-1910) منذ الميلاد إلى الخروج من الأزهر.
- المرحلة الثانية: الاختمار والعبور من “الجامعة” إلى “السوربون” (1910-1919)
- المرحلة الثالثة: العودة من فرنسا “أستاذًا” وصولًا إلى “العمادة” (1920-1930)
- المرحلة الرابعة: (1930-1952) من العمادة إلى الوزارة.. المفكر سياسيا
- المرحلة الخامسة والأخيرة: (1952-1973) مفكرًا ومجددًا ومصلحًا
(أ)
ولا أظن أن هناك خيرًا من «الأيام»، في جزئها الأول بالأخص، كي تصور السنوات الأولى في حياة هذا الشاب الذي سيقدر له أن يكون المبشر بنهضة هذه الثقافة التي انتمى إليها ونشأ في ظلها، وأن يكون داعية تقدمها وتطورها، منذ ميلاده في 15 نوفمبر من العام 1889 وحتى التحاقه بالأزهر عام 1902.
كانت فترة التكوين الأولى في حياة طه حسين، في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، والعقد الأول من القرن العشرين (1889-1910) هي فترة التعرف الأول على العالم سماعًا بعد أن فقد البصر، وقضي عليه أن يعيش “مكفوفا” لنهاية عمره، فعوضه الله ذاكرة حافظة، وآذانا لاقطة، ونهما لا يشبع في المعرفة والاستقصاء وتعمق البحث والاكتشاف.
وكان على هذا الفتى “الأعمى” أن يقاوم الجهل أولًا بحفظ القرآن الكريم في القرية التي غادرها ليكون برفقة أخيه، مجاورًا في الأزهر، ليتعلم علوم الدين التي هي أليق بمن هو مثله من الذين يعيشون مستعينين بغيرهم. وبدأت بذرة الحرية تتوقد داخل الفتى الأزهري الذي كان يجد عُسرًا في تقبُّل ما لا يقتنع به.
وفي هذه المرحلة سينتقد طه حسين خرافات القرية وتوسلهم بالأولياء، وقد كان ما زال طفلا صغيرا لم يشب عن الطوق بعد، وكان ذلك إرهاصا بما ستجره عليه نزعته النقدية العالية من مشكلات في الأزهر وفي الحياة الفكرية والسياسية عموما.
كانت الفترة (1902-1910)، تسبق الفترة التي أطلق عليها لويس عوض (الاختمار العظيم الذي تفجر فيما بعد في ثورة 1919) وهي من أخطر فترات حياته، فهي الفترة التي التحق فيها الفتى طه حسين بالأزهر عام 1902، وهو في الثالثة عشرة من عمره، حتى خرج منه أو أُخرج منه نهائيا في عام 1910، ليلتحق بالجامعة الأهلية المنشأة حديثًا منذ العام 1908.
في هذه السنوات الثماني التي وصفها طه حسين وصفا دقيقًا ورائعًا في الجزء الأول من «الأيام»؛ وصفًا يجمع دماء الرثاء في العيون، ويرسم ابتسام السخرية على الشفاه، جمع طه حسين ذخيرته الأولى من الأدب العربي الذي قيِّض له بعد حين أن يكون أستاذه الأكبر وعميده الذي لا يُطاول منذ القرن الرابع الهجري؛ أي منذ ألف عام!
ولن تمر السنوات الثماني دون أن يجهر طه حسين بانتقاد جمود الأزهر وعلومه التقليدية التي توقفت عند القرون الأولى وهو فتى، وإن كان من حُسن حظه، أن الأزهر الذي دخله في مطالع القرن العشرين كان به بعض أصداء النزعة “العقلانية” التي أشاعها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1849-1905)، وكانت هذه النزعة لا تزال قادرة على مخايلة عقول أزهرية شابة نزَّاعة إلى الحرية والتمرد الذي سرعان ما انتقلت عدواه إلى الأزهري الصغير طه حسين. وقد عاصر “الفتى” طه حسين أواخر أيام الشيخ الإمام محمد عبده قبل موته في 1905، وكان قد مسَّه لهيب -كذلك- من فكر قاسم أمين المصلح الاجتماعي المنادي بتحرير المرأة الذي أتم رسالته نحو عام 1900.
ومن يومها تعلم الفتى الصغير أن الأسئلة مفاتيح العلم، وأن العقل لا بد أن يقوم بتمحيص كل ما يَرِد عليه، وأن علامة هذه الحرية أن يضع كل ما يُطرح عليه موضع المساءلة. و”العقل النقدي” هو تسمية أخرى للعقل الحر، كما أن “العقلانية” هي النزعة الملازمة للحرية، تتبادل معها الوضع والمكانة، كما تتبادل معها التأثر والتأثير.
وقد انبثقت النواة الأولى لهذه الحرية التي عرفها الفتى الأزهري من أصداء ما تركه الإمام الجليل الشيخ محمد عبده (1849-1905) [3] في الأزهر، وكان الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي يكبر طه حسين بأربع سنوات تقريبًا (1885-1947) هو الذي نقل تأثير محمد عبده إلى الفتى القادم من مغاغة، ومعه أخوه الشيخ علي عبد الرازق (1888- 1966) الذي كان يكبر طه حسين بسنة واحدة.
وبقدر ما كان هذان الاثنان سبيلَ طه حسين إلى الانخراط في تيار الشباب الأزهري “الإصلاحي” (إذا جاز التعبير) الذي تعلم حرية الفكر من الإمام محمد عبده، وتأصلت في نفسه محبة الأدب، كان آل عبد الرازق، هم رعاة طه حسين الذين ظلوا الأقرب إليه، والأكثر حنوًّا عليه، ورعاية له إلى أن أصبح على ما أصبح عليه من شُهرةٍ ومكانة.
وهكذا ظهرت على طه حسين ما يسميه لويس عوض بدايات ذلك “التمرد الفكري، والقلق الروحي، والثورة الأدبية” والفنية التي جعلت منه مُحطِّم أوثان أهل زماننا، وكانت هذه فترة صدامه الأول مع المؤسسة الفكرية الروحية والأدبية والاجتماعية والسياسية الذي جعله ينشق على بيته الكبير -الأزهر- ويطلب العلم الجديد، والمنهج الجديد، والقيم الجديدة في تلك الجامعة الجديدة التي استقطبت مثقفي عصره، الجامعة الأهلية (1908) التي ستصبح نواة الجامعة المصرية (1925) التي غدَت فيما بعد جامعة القاهرة.
لكن الحدث الأهم والأبرز والأعمق في حياة الشيخ الكفيف آنذاك، أو ما يسميه عبد الرشيد الصادق محمودي “أخطر نقطة تحول في حياة طه حسين بأسرها”، وهو تعرفه على الرجل الذي سيساعده على العبور من متون الأزهر وشيوخه وعواميده وحلقاته إلى “محاضرات” الجامعة الوليدة، وقاعاتها وأفندياتها و”مناهجها” في البحث.
فخلال تلك الفترة، تعرف طه حسين على أحمد لطفي السيد (1872-1963) رئيس تحرير «الجريدة»، والذي استحق لقب «أبو الليبرالية المصرية» صاحب مذهب «الحرِّيين» الذي اختاره علامة على الفكر الليبرالي الذي تبنَّاه ودعا إليه.
وفي رحاب أحمد لطفي السيد، وجد الفتى القادم من مغاغة ما قارب بينه ومذهب “الحريين”، فصار واحدًا منهم، ينتسب إلى الفكر الليبرالي انتساب العارف الفاهم، ويتصل بكباره الذين عرَّفه عليهم أحمد لطفي السيد ليكون واحدًا من شباب الليبراليين الذين التقوا في مجلة «الجريدة» التي نشروا فيها مقالاتهم الباكرة.
وبقدر ما تتسع دوائر معارف الفتى القادم من مغاغة بدوائر الأفندية الذين أخذ يشاركهم اعتناق «مذهب الحريين»، وتتوثق علاقاته بأنشطتهم الثقافية المدنية، التي وجد فيها مراحه العقلي، أخذ يضيق به الفكر الجامد لمشايخه بالأزهر، وذلك بالقدر الذي أخذ فكره “الليبرالي” الغض يضيق بهم، خصوصًا بعد أن عرف طريقه إلى الجامعة التي افتُتحت في ديسمبر 1908، وأصبحت منبعًا جديدًا للفكر المدني الحر الذي وصل طه حسين بالأفندية فكرًا قبل أن يكون واحدًا منهم بالملبس.
وبدأ غضب المشايخ من أساتذته يتزايد عليه، ورغم وساطات أحمد لطفي السيد، فإن الهوة اتسعت، والمسافة بين العقليات تباعدت. وكان لا بد أن يحدث الصدام، وأن يتفق كبار المشايخ على حرمان الفتى المتمرد من شهادة العالمية التي أسقطوه في امتحانها، كي يجعلوا منه عِبْرة لغيره من الذين يمكن أن يسيروا على دربه، أو يتمردوا تمرده.
في هذه الأجواء الصاخبة، إذن، كان طه حسين يختتم مرحلته التكوينية الأولى، التي انقسمت إلى جزئين: الأول منذ ميلاده (1889) وحتى مغادرته القرية ليتعلم بالأزهر (1902). والثاني؛ منذ دخوله الأزهر (1902) حتى خروجه منه نهائيا (1910).
وكان أصحاب التأثير الأكبر عليه في تلك الفترة؛ هم الشيخ محمد عبده، وقاسم أمين، وأحمد لطفي السيد. وعلى وجه القطع كان هؤلاء الثلاثة يعلمونه أشياء مما لم يكن المرء يتعلمه من العلوم النقلية التقليدية في الأزهر في ذاك الزمان.
(ب)
ثم يدخل طه حسين مرحلته التكوينية الثانية في العقد الثاني من القرن العشرين (1910-1920)، وكانت هذه في الواقع مرحلة “التخصص الدقيق”، و”العلم العالي”، أو المرحلة التي يصفها عبد الرشيد الصادق محمودي في أطروحته (طه حسين من الأزهر إلى السوربون) بأنها المرحلة التي تكون فيها طه حسين “ككاتب ذي مشروع”.
وانقسمت هذه المرحلة إلى قسمين: فترة الدراسة بالجامعة (1908-1914)، وفترة الدراسة بفرنسا والحصول على الدكتوراه من هناك (1914-1919).
وقد بدأت هذه المرحلة بدخوله الجامعة الأهلية (القديمة)، حيث درس على يد المستشرقين الأجانب؛ من أساتذة تاريخ الأدب، والفلسفة، والتاريخ، وعلم الاجتماع، واتصل اتصالًا مباشرًا بالعقلية الأوروبية، وبالفكر الأوروبي، فتعلم من الأوروبيين “مناهج البحث الحديث”، وكيفية طرح الأسئلة وطرق الإجابة عنها.
ومن هنا تفتح عقل طه حسين الشاب على علومٍ وفلسفاتٍ لم يكن له بها سابق عهد أو اتصال، ومناهج في البحث والتفكير غير ما كان يلقَّن في دراسته التقليدية. فكان ذلك كله مصدر ما كان يسميه لويس عوض بـ “كل هذا القلق النفسي والصراع الفكري والاحتجاج الجدلي الذي نجد صوته جهيرًا في «الأيام»، وهكذا ترسبت في ذهن الشاب الناشئ الثائر أفكار “الثقافة” و”التجديد” و”المعاصرة” و”التحديث” وفكرة “الأدب للحياة”، وغير ذلك من الأفكار التي سيعمل على تطويرها فيما بعد.
وكان على الفتى القادم من مغاغة أن يستبدل بمشايخ أعمدة المسجد الأزهري أفندية مدرجات الجامعة الوليدة، وأن يسمع من أساتذتها الذين رسخت مكانتهم في المعارف والعلوم الحديثة، ومن المستشرقين الذين علَّموه الأدب العربي، بطريقةٍ لم يكن له بها عهد، مثلما فعل أستاذه المستشرق الإيطالي (كارلو ناللينو)؛ أستاذه في الأدب العربي، والإيطالي كذلك (ديفيد سانتلانا)، الذي أسمعه ما كان جديدًا عليه في الفلسفة الإسلامية، بوجه عام، والفقه الإسلامي بوجه خاص.
سأعرض نموذجًا واحدًا فقط لبعض النقد الذي وجهه طه حسين لما كان سائدًا آنذاك من طرق تعليم، ودعوته إلى اكتساب الطرق والمناهج الجديدة، ففي مقدمته لكتاب أستاذه المستشرق الإيطالي الكبير (كارلو ناللينو) عن تاريخ الأدب العربي، وبأسلوبه التحليلي، يقارن طه حسين بين طرائق التعليم التي كانت سائدة آنذاك في الأزهر، من قراءة عمياء، وتلقين آلي واجترار للقديم، وبين ما تلقاه في الجامعة على يد الأساتذة الأوروبيين، يقول:
«ويجب أن يتصور القراء من الشباب المعاصرين حياة أولئك الشيوخ الشباب من طلاب الأزهر في أول القرن، فإذا كان المساء جلسوا إلى أساتذتهم أولئك من الأوروبيين، فسمعوا منهم أحاديث لا عهد لهم بمثلها تُلقى عليهم باللغة العربية الفصحى مع شيء من التواء الألسنة بهذه اللغة، فتقع تلك الأحاديث من آذانهم موقع الغرابة، ومن قلوبهم مواقع الماء من ذي الغلة الصادي، فإذا خلوا إلى أنفسهم بعد ذلك وازنوا بين ما يسمعون وما يرون أول النهار، وما يسمعون وما يرون آخر النهار. وكانوا يسألون أنفسهم كيف أتيح لهؤلاء الأوروبيين ما أتيح لهم من العلم بأسرار اللغة العربية ودقائق آدابها، وكيف لم يُتح هذا النوع من العلم لشيوخهم أولئك الأجلاء»[4].
إن الذي لم يستطع أن يستوعبه المحافظون وقتها من أنصار القديم والانكفاء على الذات (وحتى الآن!) فكرة «المنهج»، أو لوازم «البحث العلمي» المعاصر. فكرة أن تُعيد تأمل وفحص الطريقة التي تفكِّر وتنظر بها للأمور والقضايا الكبرى، وتتأمل العالم المحيط بك من جوانبه المتعددة، أن تكون قادرًا على امتلاك “النظرة النقدية” اللازمة للمراجعة والفحص وطرح السؤال، ورغم بساطة الفكرة بل حتى بَدْهَيتها ما زالت تلك أزمتنا الكبرى حتى اللحظة!
وهكذا وجد العقل الحر للفتى القادم من مغاغة مراحَه الذي ساعده على الانطلاق والتحرر من قيود أزهريته، وظهر استعداده للتفوق والنبوغ، ففرغ من علوم الدرجة الجامعية الأولى، وبدا تأثر طه حسين الأول والمباشر بهذه الطرق الجديدة في درس الظواهر الأدبية، واعتماده فكرة «المنهج» الذي يُؤطِّر الظاهرة محل الدراسة، ويحدد قواعد وخطوات منطقية محددة تجيب عن أسئلة مطروحة، في مرحلة الدكتوراه التي أنجز فيها أطروحته عن أبي العلاء المعرِّي الشاعر الفيلسوف الذي يعد ظاهرة استثنائية في تاريخ الأدب العربي، سواء بفكره الذي لم تقيده القيود، أو بمعرفته اللغوية التي لا تحدها حدود.
وكان واضحًا تمامًا أن عوامل عديدة قد قاربت ما بين “الشاعر” الذي عاش ما بين القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، والفتى الأعمى الذي أنهى أطروحته عن أبي العلاء المعري سنة 1914، وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وقد ناقشها على مرأى ومسمع من الأساتذة والجمهور في الخامس من مايو 1914، ونال بها مؤلفها شهادة العَالمِية «الدكتوراه»، ولقب «دكتور في الآداب».
ونشر طه حسين أطروحته بعنوان «ذكرى أبي العلاء»[5]، بعد أن قدَّم لها بمقدمة أعدها بمثابة “وثيقة” تاريخية ومنهجية ونقدية في فترة باكرة من نشأة الجامعة المصرية، وقد كان طه حسين واعيا بذلك تمامًا للدرجة التي يصرح بإعلان ذلك بوضوح وجلاء:
«خصلة أخرى حببت إليَّ نشر هذا الكتاب، وهي أنه يؤرخ حياة الجامعة المصرية، فهو أول كتاب قدِّم إليها، وهو أول كتاب امتحن بين يدي الجمهور، وهو أول كتاب نال صاحبه إجازة علمية منها، ولست أبحث عما يكون لهذه الأولية من القيمة، وإنما أكتفي بهذه الأولية نفسها مغريًا بنشر الكتاب وتخليده وإذاعته بين الناس، ولست أتخذ لهذا الكتاب من أوليته فخرًا، وإنما أتخذ له منها معذرة إن كان فيه بعض النقص؛ لأنه فاتحة سيتلوها إن شاء الله من غيرها ما هو أكمل منها وأوفى»[6].
إقرأ أيضاً: طه حسين وكافكا عند مفترق الطريق نحو النور
وفي الكتاب نقرأ صفحات ناصعة جريئة من الفكر الحر المسئول؛ كانت أولى بوادر “العقلانية النقدية” في درس الظواهر الأدبية في الثقافة العربية المعاصرة، يقول مؤلفه في التمهيد:
«ليس الغرض من هذا الكتاب أن نصف حياة أبي العلاء وحده، وإنما نُريد أن ندرس حياة النفس الإسلامية في عصره، فلم يكن لحكيم المعرة أن ينفرِدَ بإظهار آثاره المادية أو المعنوية، وإنَّما الرَّجل وما له من آثار وأطوار نتيجة لازمة وثمرة ناضجة لطائفةٍ من العلل، اشتركت في تأليف مزاجه وتصوير نفسه، من غير أن يكون له عليها سيطرةٌ أو سلطانٌ»[7].
وهو يرسم في هذا “التمهيد” حدود النظرية الفكرية التي يتبعها في دراسته ونقده، ويبحث في طبيعة هذه “العلل” التي أشار إليها، فيقول:
«من هذه العلل: الماديُّ والمعنوي، ومنها ما ليس للإنسان به صلةٌ، وما بينه وبين الإنسان اتصالٌ؛ فاعتدال الجوِّ وصفاؤه، ورقة الماء وعذوبته، وخصب الأرض وجمال الرُّبى، ونقاء الشمس وبهاؤه، كل هذه علل مادية تشترك مع غيرها في تكوين الرجل وتنشئ نفسه، بل وفي إلهامه ما يعن له من الخواطر والآراء، وكذلك ظلم الحكومة وجورها، وجهل الأمة وجمودها، وشدة الآداب الموروثة وخشونتها، كل هذه أو نقائضها تعمل في تكوين الإنسان عمل تلك العلل السابقة، والخطأ كل الخطأ أن ننظر إلى الإنسان نظرنا إلى الشيء المستقل عمَّا قبله وما بعده: ذلك الذي لا يتصل بشيءٍ مما حوله، ولا يتأثر بشيء مما سبقه أو أحاط به، ذلك خطأ؛ لأنَّ الكائن المستقل هذا الاستقلال لا عهد له بهذا العالم، إنَّما يأتلف هذا العالم من أشياء يتصل بعضها ببعض، ويؤثر بعضها في بعض.
ومن هنا لم يكن بين أحكام العقل أصدق من القضية القائلة: بأنَّ المُصادفة محال، وأن ليس في هذا العالم شيءٌ إلا وهو نتيجةٌ من جهة، وعلَّةٌ من جهة أخرى: نتيجة لعلَّةٍ سبقته، ومُقدِّمة لأثرٍ يتلوه. ولولا ذلك لما اتصلت أجزاء العالم، ولما كان بين قديمها وحديثها سبب، وَلَمَا شملتها أحكامٌ عامة، وَلَمَا كان بينها من التشابه والتقارب قليلٌ ولا كثير، وليس للمؤرخ المُجِيد عملٌ إلا البحث عن هذه العلل، والكشف عمَّا بينها من صلة أو نسبة، فعمله في الحقيقة وصفي لا وضعي؛ أي إنَّه يدل على شيء قد كان، من غير أن يخترع شيئًا لم يكن، وكذلك شأن المُشتغلين بالعلوم النَّظرية والتَّجريبية، لهم فضيلة الاستكشاف، فأمَّا فضيلة الإيجاد فليس إليهم منها شيء، فلم يكن من الرياضيين من أوجد المثلث، ولا من اخترع نسبةً بين عددين؛ ولم يكن من أصحاب الطبيعة والكيمياء من اخترع قانون الثقل، أو ابتدع عنصرًا من العناصر، إنَّما حقائق العلم في أنفسها قديمة ثابتة واجبة، فأمَّا الحادث العارض، فعلم الإنسان بها واهتداؤه إليها، سواءٌ في ذلك حقائق اللغة والأدب، وأصول الفلسفة والحكمة»[8].
ويخلص طه حسين -من ذلك كله- إلى أنه يتخذ مذهبًا طبيعيًّا ونفسيًّا في التحليل والدراسة، فيقول:
«حقائق العلم في نفسها ثابتة واجبة، فأما الحادث العارض فعلم الإنسان بها، واهتداؤه إليها سواء في ذلك حقائق اللغة والأدب، وأصول الفلسفة والحكمة. وإذا صح هذا كله فأبو العلاء ثمرة من ثمرات عصره، قد عمل على إنضاجها الزمان والمكان، والحال السياسية والاجتماعية والحال الاقتصادية، ولسنا نحتاج إلى أن نذكر الدين، فإنه أظهر أثرًا من أن نشير إليه، ولو أن الدليل المنطقي لم ينتهِ بنا إلى هذه النتيجة لكانت حال أبي العلاء نفسه منتهية بنا إليها، فإن الرجل لم يترك طائفة من الطوائف في عصره إلا أعطاها وأخذ منها، كما سنرى في هذا الكتاب، فقد هاجم اليهود والنصارى، وناظر البوذيين والمجوس، واعترض على المسلمين، وحاور الفلاسفة والمتكلمين، وذمَّ الصوفية، ونعى على الباطنية، وقدح في الأمراء والملوك، وشنع على الفقهاء وأصحاب النسك، ولم يعف التجار والصناع من العذل واللوم، ولم يخل الأعراب وأهل البادية من التفنيد والتثريب، وهو في كل ذلك يرضى قليلًا ويسخط كثيرًا، ويطير من الملل والضيق، ومن السأم وحرج الصدر ما يمثل الحياة العامة في أيامه، بشعة شديدة الظلام»[9].
والمؤرخ الذي لا يؤمن بالمذاهب الحديثة، ولا يصطنع في البحث طرائقه الطريفة، ولا يرضى أن يعترف بما بين أجزاء العالم من الاتصال المحتوم، ولا أن يُسلم بأنَّ الشيء الواحد على صغره وضآلته «إنَّما هو الصورة لما أوجده من العلل، ولا يطمئن إلى أنَّ الحركة التَّاريخية جبريةٌ ليس للاختيار فيها مكان، المؤرخ القديم الذي يرفض هذا كله ولا يميل إليه، ملزمٌ مع ذلك أنْ يبحث عن حياة الأمة الإسلامية، إذا بحث عن حياة أبي العلاء؛ فإنَّه إنْ لم يفعل ذلك، استحال عليه أن يفهم الرجل، أو يهتدي من أمره إلى شيء»[10].
وعلى ذلك، فإن «الحادثة التاريخية والقصيدة الشعرية، والخطبة يجيدها الخطيب، والرسالة ينمقها الكاتب الأديب، كل أولئك نسيج من العلل الاجتماعية والكونية، يخضع للبحث والتحليل، خضوع المادة لعمل الكمياء»[11].
هذه هي كلمات العميد بنصها وحرفها التي سجلها سنة 1914، وهي مع منهجه النقدي وبصيرته الاجتماعية ما زالت رائدة، وما زالت تقدمية، وما زالت مناقشته لفكر أبي العلاء الفلسفي والديني مناقشة حُرَّة جريئة، إنه وهو المستطيع بغيره مثل أبي العلاء كان داعية رافعًا للعقل وللفكر الحُر:
يرتجي الناس أن يقوم إمام ناطـــق فــي الكتــيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيرًا في صبحه والمساء
(ج)
وقررت الجامعة مكافأة طه حسين بإرساله إلى بعثة في فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه الكبرى. وذهب الفتى الأزهري الذي كان قد تعلّم من الفرنسية ما يعينه على تدبير أموره في فرنسا. وعلى متن الباخرة التي أقلته إلى جامعة مونبلييه، خلع زيّه الأزهري، واستبدل لبس الأفندية بلبس المشايخ.
وعاش طه حسين في رحاب جامعة مونبلييه أشهُرًا، يستمع إلى محاضرات أساتذتها، فيرى عالمًا غير العالم، ومناهج غير المناهج، وطرق تفكير مناقضة لما خلَّفه وراءه، سواء في الجامعة أو الأزهر.. فالحرية التي كان يقدِّسها الجميع في مونبلييه، فكرًا وعملًا علميًّا أو سياسيًّا أو اجتماعيًّا أصبحت واقعًا يُعايش، وتقاليد جديدة تفرض نفسها على الفكر وتتأصل فيه. ولكن اشتعال الحرب العالمية الأولى أعاده إلى القاهرة بأوامر من الجامعة التي كانت تعاني من أزمة مالية.
ولكن ما كسبه طه حسين من بعض الخبرة في مونبلييه، خصوصًا بعد أن استمع إلى ما استطاع إليه سبيلًا من محاضرات الأدب، جعل له رأيًّا في تدريس الأدب العربي في الجامعة المصرية. وهو الأمر الذي دفعه إلى كتابة مقالاتٍ قاسية عن تخلّف تدريس الأدب العربي في الجامعة، وضرورة تطوير طريقة الدرس الأزهرية المتخلّفة التي كانت تسيطر على نهج أستاذه القديم الشيخ محمد المهدي، فغضب الرجل ورأى فيما كتبه طه حسين إهانة له وتطاولًا عليه.
وقدَّم فيه الشيخ المهدي شكوى كادت تطيح بالبعثة التي كان عليه أن يُكملها، لكن أنقذه بعض أحرار الفكر الذين كانوا على علاقة طيبة بالسلطان حسين كامل الذي أمر بعودته إلى البعثة، فعاد طه حسين إلى جامعة باريس هذه المرة، كي يحصل على درجة الدكتوراه من السوربون.
وفي رحاب الجامعة العريقة، سيتقن طه حسين الفرنسية، ويتعلم شيئاً من اليونانية واللاتينية إلى جانب دراساته العربية، ويدرس الاتجاهات العلمية الحديثة (في زمنه) في علم الاجتماع، والتاريخ اليوناني، والروماني، والتاريخ الحديث، والفلسفة. وفي تلك الفترة، سيتعرف على سوزان بريسو الفرنسية التي ساعدته على الاطلاع أكثر فأكثر بالفرنسية واللاتينية؛ فتمكّن من الثقافة الفرنسية التي أصبح كأنه أحد أبنائها، وأحد الذين يتفاعلون مع متغيرات مَشاهدها في مرحلة ما قبل الحرب وما بعدها. يعلق لويس عوض على ظهور سوزان بريسو في حياة طه حسين خلال تلك الفترة:
“كان لها أكبر الأثر في حياته؛ لأنها أحاطت حياته اليومية بجو من النظام والصحة والدقة والتركيز والتوازن والاهتمام بالشكل مع المحافظة على الجوهر، مما أعانه كثيرًا على أداء رسالته، وجعلت من ضعف هذا الرجل الضرير قوة، فحمته من الفضوليين ومن السفهاء وأبرأته من عقدة العميان أو عقدهم وعلمته المواجهة الاجتماعية، فلم يكن كل ذلك بالأمر القليل”[12].
وفي هذه المرحلة الثانية، سينجذب طه حسين بقوة قوية إلى رائد الفكر الاجتماعي والتاريخي في تراثنا العربي، ابن خلدون، لتكون أطروحته الثانية للدكتوراه المقدمة إلى السوربون عن «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية»[13]، كما انجذب من قبل إلى الشاعر المتفلسف العربي الذي شاطره نعمة التفلسف، ونقمة العمى، وهو أبو العلاء المعري.
قدم طه حسين رسالته تلك إلى جامعة مونبيليه الفرنسية عام 1917، تحت إشراف عالم الاجتماع الفرنسي الشهير إميل دوركايم، وترجمها من الفرنسية إلى العربية المحامي محمد عبد الله عنان عام 1925. وبالإضافة إلى درجة الدكتوراه هذه، حصل طه حسين على دبلوم الدراسات العليا في القانون الروماني، والنجاح فيه بدرجة الامتياز.
يقول لويس عوض عن تلك الفترة:
وفي فرنسا أحب طه حسين اليونان. وكان (هوميروس) مثله ضريراً فأحبه حباً عميقاً. وكان (تيرسياس) نبياً ضريراً فأحبه حباً عميقاً. وكان (أوديب) ملكاً مخلوعاً ضريراً فأحبه حباً عميقاً.
ولكن حب طه حسين لليونان تجاوز حبه لكل هذه الشخوص العمياء التي كانت تذكره بمأساته، وتلهمه كيف يقهر مأساته. فقد كانت له مع اليونان قصة، فقدم وترجم لقراء العربية في العشرينيات وفي الثلاثينيات وفي الأربعينيات، نماذج رائعة من روائع الأدب اليوناني، والفكر اليوناني، والتراجيديات اليونانية، والفلسفة اليونانية.
ويمكن أن نقول إن مرحلة التكوين الثانية بالنسبة لطه حسين قد انتهت بعودته من أوروبا عام 1918 حاملاً درجة الدكتوراه الفرنسية، وببداية اشتغاله مدرسًا للأدب العربي في الجامعة الأهلية التي أوفدته ليتم علومه في فرنسا. وقد كان أهم ما حصله طه حسين من بعثته الفرنسية أربعة أمور؛ يحددها لويس عويض فيما يلي:
1) منهج أو مناهج البحث الأكاديمي.
2) اكتشاف اليونان أدباً وفلسفة وتاريخاً واكتشاف “الإنسان” من خلال اليونان.
3) اكتشاف “وحدة الإنسان” من خلال وحدة الحضارات الراقية والقيم الراقية.
4) تعميق إيمانه بأقانيم العقل، والحرية، وحقوق الإنسان، تلك الأقانيم التي كان قد أخذها من قبل عن محمد عبده، وقاسم أمين، ولطفي السيد، ولكنها كانت مجرد ترف من ترف المثقفين الثوار، فلما لمس طه حسين بنفسه أثر هذه الأقانيم في الحضارة الأوروبية الحديثة بصفة عامة، وفي الحضارة الفرنسية الحديثة بصفة خاصة، اتخذت هذه المبادئ الشكلية الهيكلية في وجدانه مضمونًا ثوريًّا فكريًّا واجتماعيًّا معًا[14].
(د)
وعاد طه حسين من فرنسا، وبدأ يستقر بعونٍ من أصدقائه من آل عبد الرازق، وتولى تدريس مادة التاريخ القديم بالجامعة، وحضر محاضرته الأولى عبد الخالق ثروت باشا في قسم التاريخ، وكانت المحاضرة نفسها حدثًا كبيرا ومدويا تحدثت عنه الحياة الثقافية في مصر كلها، لكن مع سنة 1925 تحوَّلت الجامعة المصرية من “جامعة أهلية” إلى “جامعة حكومية”، ويعمل فيها أستاذًا للأدب العربي.
وهكذا، دخل طه حسين مرحلته الثالثة العارمة في العشرينيات من القرن العشرين (1920-1930) التي لم تكن مرحلة “تكوين”، بل كانت مرحلة “نضوج”، وإنتاج أفكار “تجديدية” كبرى. ولم يكن نضوجه العلمي أو نضوجه الفكري أهم ما فيه، وإنما كانت أهم سمات هذه المرحلة هي “نضوجه الوجداني” أيضًا، كما يستخلص ذلك لويس عوض. أو بعبارته الجامعة “لقد عرف طه حسين أن له رسالة، وأن عليه تكليفًا هما قيادة المثقفين المصريين والعرب عامة في اتجاه العقلانية، والحرية الفكرية، وبناء قاعدة من المثقفين عريضة وراسخة يمكن أن تقود مصر والرأي العام”[15].
في السياق ستندلع ثورة 1919 لتخلق واقعا جديدًا على كل المستويات. فماذا فعل طه حسين في مواجهة ثورة 1919؟
لم تكن هناك في البداية مشكلات لأن الثوار كانوا على كل مستوى، على مستوى النبلاء وعلى مستوى الطبقات المتوسطة، وعلى مستوى الطبقات الشعبية، قد اتحدت كلمتهم في 13 نوفمبر 1918 على تحرير مصر من يد الإنجليز. اتحدت كلمة زعماء البلاد من متطرفين، ومعتدلين، وبين بين، الحزب الوطني، وحزب الأمة، وما بينهما، على مطالبة الإنجليز باستقلال مصر، ومطالبة السلطان فؤاد بالدستور.
ولكن سرعان ما تكشف أن ثوار 1919 يتكلمون لغة واحدة لها معان متعددة؛ أغلبية ساحقة بشعبيتها وثوريتها مع سعد زغلول تطالب بالاستقلال الكامل، وبدستور ديمقراطي ينقل السلطة السياسية كاملة إلى أيدي الجماهير، وأقلية ثورية بمالها وعلمها مثل عدلي يكن ترضى بحلول وسط مع الإنجليز ومع العرش.
ووسط هذه الملحمة الكبرى بين “العقل” و”العاطفة” انضم طه حسين إلى فريق “العقلاء” (بتعبير لويس عوض)، وكان يكتب آنذاك في جريدة “السياسة” لسان حال (الأحرار الدستوريين)، يكتب هجرَ القول في سعد زغلول.
وحين كانت مصر تبحث عن دستورها فوجدته في دستور سنة 1923 الذي كان يمثل أضعف الإيمان الديمقراطي، ترجم طه حسين «الدستور الأثيني» لزينوفون ليعرف المصريين أخطار الديمقراطية المطلقة أو الديمقراطية المباشرة. ولم يكن مصادفة أن أحمد لطفي السيد أيضًا توافر في العشرينيات على ترجمة كتاب «السياسة» لأرسطو ليحذر الناس بتجربة القدماء من أخطار ديمقراطية الرعاع، حيث لا قانون إلا “إرادة الجماهير”، أو حيث “صوت الشعب هو صوت الله”، كما يقال في بعض المذاهب السياسية.
وقد كان طه حسين في ذلك منسجمًا تمامًا مع نفسه، ومتناقضًا معها في وقتٍ واحد؛ كان منسجمًا مع نفسه لأنه كان عقلانياً ومثقفاً وعضواً في طبقة الصفوة الممتازة، فانحاز للعقلانيين وللمثقفين وللصفوة المؤهلة لقيادة البلاد بحكم عقلها وثقافتها، ولا شك أن فضل الأرستقراطية المصرية عليه ورعايتها إياه حتى يكتمل نضوجه العلمي والأدبي والثقافي، كان لهما أثر كبير في انضوائه تحت لواء “الأحرار الدستوريين”.
ومهما يكن من شيء فقد انحاز طه حسين في ثورة 1919 إلى عدلي يكن وحزب العقلاء والمعتدلين الذين رأوا في تحرير الجماهير قبل ترقيتها وتنويرها خطراً على الحرية نفسها.
(هـ)
ونأتي إلى أهم ما تمخضت عنه تلك المرحلة الفارقة في حياة طه حسين، في مجال البحث العلمي، وتأصيل فكرة “المنهج”. فقد استحدث طه حسين ثورة كبرى في العشرينيات، أولًا بكتابه الرائد «حديث الأربعاء»، وثانيًا بكتابه «في الشعر الجاهلي» (1926)، وذلك بتطبيق مناهج البحث التي تعلمها من «العقلانية» الفرنسية منذ (ديكارت)، وعلى أفكار «الوضعية» من (فيكو) إلى (أوجست كونت).
فبدأ كلَّ بحث من بحوثه بنقد المُسلَّمات “النقلية” حتى تثبتها الأدلة العقلية، وطالب بأن يكون بناء اليقين على الاستنتاج والاستقراء معًا، ولم يعد يكتفي بمنطق: (أنا أسمع إذن أنا موجود)، واستعاض عنه بمنطق: (أنا أفكر، إذن أنا موجود). فقد تعلَّم طه حسين في باريس، ومن فلسفة (ديكارت) على وجه التحديد، أن الأصل في وعي الوجود هو “وعي الفرد” الذي يدرك وجوده باستخدام “عقله”؛ بوصفه الأصل في عقلنة الوعي بالحضور في الوجود، وفي التاريخ، وبالتاريخ، في الوقت نفسه. وهكذا فتح مبدأ «الكوجيتو» الديكارتي نوعَ العقلانية التي التزم بها طه حسين التزامه بالحرية.
وهو الأمر الذي جعله يدرك، على نحو غير مباشر، أنه لا يمكن أن يكون دارسًا كبيرًا للأدب أو النقد أو حتى أديبًا إلا إذا كان قارئًا أصيلًا في الفلسفة، عارفًا معرفة وثيقة بالفلسفة العقلانية، التي تقود الإنسان إلى معرفة الحقيقة بعيدًا عن العَنعَنات التي قد لا تعني شيئًا مؤكدًا في نهاية الأمر[16].
وكان طه حسين، في ذلك الوقت، قد أخذ يكتب في جريدة «السياسة الأسبوعية» التي تولَّى رئاسة تحريرها صديقه الدكتور محمد حسين هيكل، الذي جعل منه مشرفًا على صفحات “الأدب” في الجريدة التي كانت الصوت الناطق لحزب (الأحرار الدستوريين) الذي انضم حماة طه حسين القدامى إليه (آل عبد الرازق).
وأخذ طه حسين يسهم في هذه الجريدة بمقالاتٍ في الأدب والنقد، بدأها بتطبيق المنهج العقلي الذي تعلَّمه في فرنسا. وكانت هذه “العقلانية” تعني الاحتكام إلى العقل، والاعتماد على الاستنتاج المنطقي مصدرًا للمعرفة والتفسير. وهذا النوع من الاستنتاج يعني، ببساطة، وضع الأفكار والمبادئ والأقوال موضع المُساءلة، بعيدًا عن كل ما يمكن أن ينحرف بِخُطى الاستنتاج المنطقي، سواء من أهواء دينية أو اجتماعية أو سياسية، فما قَبِله العقل في فعل المساءلة، دون حاجة إلى تأويل فهو صحيح، وإن لم يكن كذلك فمن الصعب أن يقبله العقل أو يرضى به.
وكانت «العقلانية»، بهذا المعنى، يتوافق فيها الحديث الديكارتي مع القديم “الاعتزالي” الذي كان يبشِّر به الأستاذ الإمام محمد عبده في الأزهر، وحمله عنه تلامذته الذين انحاز إليهم طه حسين الأزهري ضد مشايخه الذين كانوا على خلاف مع اعتزالية محمد عبده في ذلك الوقت.
ولذلك لم يجد طه حسين تناقضًا بين ما فهمه من آراء ديكارت الفلسفية، ومن أفكار الإمام محمد عبده، فمزجهما معًا في منهجه الذي أخذ يضع به كل المسلَّمات القديمة في تاريخ الأدب موضع الشك أو المساءلة.
وكانت النتيجة مقالاته التي نشرها في جريدة «السياسة الأسبوعية» التي بدأها بالشك في صورة العصر العباسي الذي جعل منه المؤرخون، في ذلك الوقت، عصرًا من المجون واللهو والعبث وصل إلى ذروته في أيام هارون الرشيد، مع أن المؤرخين القدامى كانوا يصفون هارون الرشيد نفسه بأنه كان يذهب إلى الحج في عام، ثم يذهب إلى الغزو في عام ثانٍ، وذلك على نحو لا يمكن أن يقبله العقل الذي لن يصدق كل ما كتبوه عن مجون الرشيد وجواريه أو وقائع مجالسه التي تصفها «ألف ليلة وليلة». وبالتالي، رفض طه حسين هذه الصورة الشائعة عن العصر العباسي، مؤكدًا أنها صورة زائفة.
وسيدشن طه حسين أولى معاركه في التاريخ الأدبي الحديث، بمحاولة إثبات أن طائفة كبيرة من الشعر العربي المنسوب إلى قيس بن الملوح، أو مجنون بني عامر الشهير بمجنون ليلى، شعر منحول، فقد استقصى طه حسين هذا الشعر إلى مصادر أخرى من غير زمن المجنون، ومن غير قبيلته.
وقد انتقل طه حسين من الشك في صورة العصر العباسي إلى الشك في شعر الغَزليِّين في العصر الأموي، فأخذ يشك في وجود أمثال مجنون ليلى أو قيس بن الملوح، حتى في حقيقة الغزل العُذري أو أسماء الحبيبات التي اقترنت بهن أسماء شعراء الغزل العُذري العفيف في مستهل الدولة الأموية. وستكون حصيلة كل هذه المقالات كتابه الرائع «حديث الأربعاء» في جزأيه الأول والثاني.
ويعلق لويس عوض على نتاج طه حسين في تلك المرحلة بأن “بعض أحكام طه حسين أو استنتاجاته، آنذاك، قد تكون غير دقيقة أو حماسية بشكلٍ زائد عن الحد، ومع ذلك فإن أخطر وأهم ما جاء به طه حسين وطبقه، وواجه به الناس بشجاعة وجسارة، هو أن الدليل النقلي وحده لا يكفي، وأن عنعنة القدماء عن القدماء أو المحدثين عن القدماء لا تكفي، بل ينبغي أن يمتحن كل شيء بالدليل العقلي وبالدليل الاستقرائي”[17].
وهكذا أعاد طه حسين فتح باب الاجتهاد في البحث الأدبي والفكري والتاريخي من بعد أن أقفل هذا الباب لما يزيد على ألف عام.
ومن أجل هذه الدعوة الجريئة، لقي طه حسين عنتًا شديدًا عام 1926 حين أصدر في مارس، من العام ذاته، كتابه «في الشعر الجاهلي»، الذي صعَّد فيه ذروة منهج الشك؛ مؤكدًا أنه لا يقبل إلا ما يهديه إليه عقله بعد تمحيص الأقاويل عن طريق الاستنتاج المنطقي، والوصول إلى نتيجة يقبلها العقل مطمئنًّا إلى صوابها. فانتهى إلى أن أغلب ما في الشعر الجاهلي إنما هو شعر مُنتحل ولا سبيل إلى التصديق به أو التسليم بوجوده على هذا النحو قبل مجيء الإسلام. فهو شعر منتحل وضعه الرواة لأسبابٍ متعددة فصَّلها طه حسين في هذا الكتاب، الذي أقام الدنيا ولم يُقعدها.
وأثير أمر الكتاب في البرلمان، وطالب المحافظون بمحاكمته وطرده من الجامعة وإعلان كُفْره وزندقته. وكان عدلي يكن رئيسًا للوزراء، فهدَّد بالاستقالة إذا طُرد طه حسين من الجامعة، وكان سعد زغلول رئيسًا لمجلس النواب، فأرغم النائب الوفدي عبد الحميد البنان على سحب استجوابه المقدم للبرلمان لإحراج الحكومة وقهر المثقفين. واكتفتِ النيابة العامة بمنع تداول «في الشعر الجاهلي» في الأسواق من باب التهدئة العامة، وليس لأنها وجدت في الكتاب ما يدين، بل على العكس من ذلك، أشادت النيابة العامة بضرورة كفالة حرية البحث العلمي.
وقد كانت أزمة طه حسين الأولى امتحانًا جيدًا للديمقراطية المصرية، ففيها تضافرت السلطات الثلاث: السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والسلطة القضائية، على حماية الجامعة والجامعيين، والفكر والمفكرين، من عدوان المتزمتين. واصطلحت السلطات الثلاث ليس فقط على كفالة حرية البحث العلمي، ولكن كذلك على كفالة «حق الخطأ» في سبيل البحث العلمي. ويعلق لويس عوض على هذا الحدث الكبير قائلا:
“ولست أحسب أن مجلس الوزراء المصري، أو البرلمان المصري، أو القضاء المصري كانت تؤرِّقهم بصفة خاصة مشاكل الشعر الجاهلي أو غير الجاهلي، وإنما تكافل هؤلاء جميعًا على حماية عقل مصر وثقافتها من إرهاب المتزمتين الذين لا يكتفون بالمحاجة الحرة وبالجدل بالتي هي أحسن، بل يلجأون إلى محاولة قمع الفكر والثقافة بأدوات السلطة”[18].
(و)
أما مرحلة طه حسين الرابعة، التي امتدت بين سنة 1930 وحتى 1952 فهي الحقبة التي شهدت بروز طه حسين أستاذًا جليلًا مهيبًا، ومسؤولًا جامعيا مرموقا، وعميدًا لكلية الآداب، وصانع مؤسسات علمية وبشرية ومشرفا على طلابه وطالباته في الدراسات العليا، وتختتم هذه المرحلة المتوهجة الثرية بتوليه وزارة المعارف العمومية في حكومة الوفد الأخيرة (1950-1952).
انتخب طه حسين عميدًا للآداب سنة 1930، ثم أُخرج من الجامعة في عهد صدقي سنة 1932، ثم أعيد إلى الجامعة سنة 1936، ثم انتخب عميدًا مرة ثانية سنة 1938، ثم عين مستشارًا فنيًا لوزارة المعارف، ثم مديرًا لجامعة الإسكندرية في وزارة الوفد سنة 1942، ثم أحيل إلى التقاعد سنة 1944، ثم عاد وزيرًا للمعارف في وزارة الوفد الأخيرة سنة 1950.
وقد كان أبرز ما في هذه المرحلة من أزمات ومعارك في حياة طه حسين (أزمة استقلال الجامعات) فلم يكن طه حسين من الذين يجلسون في هدوء ودعة مؤثرين السلامة، منتظرين أن تغير الحكومات من قوانينها المقيدة للحريات، أو يفارق الجمهور تعصبه، الذي اعتاد عليه، أو الذي علَّمته إياه الجماعات الدينية المتشددة، إنما كان يدرك أن الحرية تُنتزع انتزاعًا؛ لأنها ليست هِبَة من سُلطة أو جماعة، وإنما هي حق لا يمكن اكتسابه إلا بممارسته وتأكيده بالعمل الجَسور والمبادرة الخلاقة والمبادئ الشجاعة.
وقد فعل هو ذلك، كما فعل غيره من رواد الفكر والإبداع الذين لم يكفُّوا عن انتزاع هذه الحرية من أنياب الاستبداد والتعصب والقمع.
ولا يزال دافعهم إلى ذلك “أن الحرية التي يطلبونها، ويطلبها معهم طه حسين، لن تُنال لأننا نتمنَّاها، وإنما تُنال يوم يأخذها من يسعى إليها بنفسه، لا ينتظر أن تمنحه إياها سُلطة ما، فقد أراد الله أن تكون هذه الحرية حقًّا للثقافة والمثقفين، ما ظلوا يحلمون بوطن متحضِّر يتمتع بالحرية في ظل الدستور والقانون”، بعبارة طه حسين نفسه.
وفي هذه المرحلة أيضًا، مضى طه حسين يفكر في حياتنا الثقافية والتعليمية ويشخص مشكلاتها وأزماتها ويبحث عن حلول لها، ووضع لذلك كله برنامجًا شاملا مفصلًا في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» الذي أصدره في سنة 1938. وكان قد ترك الجامعة ليعمل في وزارة المعارف (التربية والتعليم). وعُين مستشارًا فنيًّا لهذه الوزارة، ثم عُين مديرًا لجامعة الإسكندرية سنة 1942 فأتمَّ إنشاءها.
وفي أثناء ذلك يقبل على الدرس والكتابة، فنراه بعد أن أعاد نشر كتابه القديم عن أبي العلاء باسم «تجديد ذكرى أبي العلاء» ينشر عنه بحثًا جديدًا باسم «مع أبي العلاء في سجنه»، يصور فيه جوانب نفسية وفلسفية دقيقة لهذا العقل الكبير، وأفرده بعد ذلك بكتيبٍ سماه «صوت أبي العلاء» نثر فيه بعض أشعاره. واتجه إلى الرواية، فنشر «أحلام شهرزاد»، و«شجرة البؤس»، و«دعاء الكروان»، وهو فيها جميعًا يعبر عن مُثُله القومية والإنسانية.
وينشر في هذه الفترة مجموعة من مقالاته في النقد باسم «فصول في الأدب والنقد»، كما ينشر طائفة من نظراته التحليلية في القصص والمسرحيات الفرنسية بعنوان «صوت باريس» و«لحظات».
وتستقيل الوزارة الوفدية، ويخرج من الحكومة، فيحرر مجلة (الكاتب المصري) خلال الفترة من 1945 وحتى 1948، ويعمل على نهضة كبيرة في الترجمة، ويترجم «أوديب» لأندريه جيد. ويكتب في صحيفته مقالات أدبية مختلفة تتناول بعض الأدباء الغربيين، وبعض الدراسات في الأدب العربي، وينشر طائفة منها باسم «ألوان».
ويخرج طه حسين الجزء الأول من «الفتنة الكبرى» عن “عثمان”، يصور فيه فتنته وكل ما اقترن بها من مؤثرات ودوافع بشرية.
وفي سنة 1950 يتولى طه حسين وزارة المعارف في حكومة الوفد الأخيرة، فينادي بتكافؤ الفرص ويصيح بأن التعليم ضروري لكل أفراد الشعب ضرورة الغذاء والماء والهواء، ويفكه من عقال المصاريف، ويجعله مجانًا للشعب كله.
(ز)
ثم تأتي المرحلة الخامسة والأخيرة في حياة طه حسين (1952-1973)، المرحلة التي سيتحول فيها إلى “رمز” من رموز الفكر والأدب والثقافة ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي كله، وتكلل جبينه أكاليل الغار والتكريم والدكتوراه الفخرية من كل مكان في العالم طيلة هذه السنوات، من أوروبا وأمريكا وآسيا، ومن العالم العربي من محيطه إلى خليجه، وتحظى زياراته التي توصف بـ “تاريخية” بكل معاني الكلمة بأرفع استقبال رسمي وشعبي، ويعامل معاملة الملوك والزعماء ورؤساء الدول، وزياراته إلى المغرب وتونس والسعودية مشهودة ومسجلة في كتب كاملة.
وفي سنة 1959 يُمنح جائزة الدولة التقديرية في الآداب تنويهًا بجهوده الأدبية، وكفاحه الفكري والثقافي، ويحصد المزيد من الجوائز المرموقة، وينال الأوسمة العالية، ويتكرس اسم طه حسين باعتباره داعية النهضة والتجديد والتحديث والإصلاح ويتولى رئاسة مجمع اللغة العربية خلفا لأستاذه أحمد لطفي السيد (1961) ويظل رئيسًا له حتى وفاته في أكتوبر من العام 1973.
وفي أثناء ذلك، يخرج كتاب «الوعد الحق» مصورًا فيها ظهور الإسلام، وداعيًا إلى مثله العليا في العدالة الاجتماعية والتحرر الاجتماعي، والأخوة الإنسانية. ويملي الجزء الثاني من «الفتنة الكبرى» بعنوان «عليّ وبنوه»، وكتابًا ثانيًا عن أبي بكر وعمر بعنوان «الشيخان»، وينشر كتابه «مرآة الإسلام»، كما ينشر مجاميع من مقالاته في الحياة والأدب والنقد.
وبعد …
فهذه هي موجز رحلة طه حسين حتى وفاته سنة 1973، وهي رحلة كانت حافلة بالكفاح؛ إذ نراه يكافح المحافظين في الدين والأدب والسياسة، ويكافح من أجل تغذية أمته بالمثل الأدبية والفكرية والإنسانية عند اليونان وعند الغربيين وفي كل الثقافات الإنسانية، ويختط طرقًا جديدة في أبحاثه الأدبية وفي عالم القصة، يسعفه في ذلك استعداد أدبي أصيل، وهو استعداد شهد له به عالمه العربي ووطنه المصري، فمنح في سنة 1959 جائزة الدولة التقديرية في الآداب تنويهًا بجهوده الأدبية، وشهد له به كل خبير وكل عالم ومثقف وأستاذ وناقد في العالم الغربي، فمنح درجة الدكتوراه الفخرية من جامعات أوروبية عديدة ومختلفة[19].
إن الاحتفاء بـ«عميد الأدب العربي» طه حسين دائم التجدد، وإن اختلفت الأسباب، واختلف التوظيف. فلم يكن طه حسين صاحب كتاب «في الشعر الجاهلي» فقط الذي هزَّ العقول، وملأ الدنيا، وشغل الناس، بل إنه أيضًا صاحب الأعمال التأسيسية التي ما زالت تحظى برونقها وثِقَلها وقيمتها المعرفية حتى وقتنا هذا؛ فهو صاحب المؤلفات البارزة في أدبنا العربي الحديث، مثل: «حديث الأربعاء»، و«تجديد ذكرى أبي العلاء»، و«مع المتنبي». وهو صاحب الإسلاميات الرائعة «الوعد الحق»، و«على هامش السيرة»، و«الشيخان»، و«مرآة الإسلام»، و«الفتنة الكبرى». وهو -قبل ذلك وبعده- صاحب الرؤية المعروفة لـ«مستقبل الثقافة في مصر».. ومصر في أشد الحاجة إلى من يبحثون عن مستقبلها، ويعملون لهذا المستقبل.
ملحوظة:
استند صاحب هذه الورقة إلى عشرات الكتب والمراجع لطه حسين وعنه، وحوله، لكنه يخص من بينها (عند إعداد هذه الورقة تحديدًا) المراجعَ التالية:
– «طه حسين مائة عام من النهوض العربي (في الذكرى المئوية لمولده)»، إشراف عبد المنعم تليمة، دار الفكر للدراسات، القاهرة، 1989.
– «طه حسين (دراسة ومختارات ووثائق)»، احتفال كلية الآداب بذكرى طه حسين الـ 25، إعداد د. محمود فهمي حجازي، جامعة القاهرة، 1998.
– لويس عوض، مقال منشور في جريدة (الأهرام) المصرية، بتاريخ 2 نوفمبر 1973. وهو تلخيص ممتاز للفصلين الرائعين اللذين كتبهما لويس عوض عن أستاذه طه حسين في كتابه عن «الحرية ونقد الحرية»، والفصلان هما “طه حسين عميدا”، و”طه حسين وزيرا”. هذا فضلًا عما كتبه عن طه حسين في مواضع متعددة من سيرته الذاتية الجريئة «أوراق العمر ـ التكوين»؛ الصادرة عن مكتبة مدبولي بالقاهرة، 1987.
– جابر عصفور، مقال بعنوان (فكر طه حسين)، جريدة (الأهرام) المصرية، بتاريخ 16 نوفمبر 2018، [العدد 48192]. وجابر عصفور خص طه حسين بواحد من أهم وأكبر كتبه على الإطلاق، وهو كتاب «المرايا المتجاورة ـ دراسة في نقد طه حسين»، والذي صدرت طبعته الأولى عام 1978، ثم صدرت في طبعات عدة تالية، كان آخرها الطبعة الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2022.
المراجع:
[1]– راجع ما كان يسمى برسائل الأصالة والمعاصرة؛ التي كان يصدرها منظر جماعات التيار الديني أنور الجندي، واحدة منها كانت بعنوان «أكذوبتان في تاريخ الأدب العربي»، والمقصود بالأكذوبتين هنا أحمد لطفي السيد، وطه حسين!! وبالمناسبة فإن هذه الرسالة التي تطفح بالأكاذيب والتأويلات المتعسفة المنحرفة لأفكار الرائدين، هي أحد المصادر المعتمدة في أوساط التيار الديني عن طه حسين وأحمد لطفي السيد!!
[2]– كتبت كثيرًا، وفي مناسبات عدة خلال الفترة (2015-2020) عن السياق التاريخي والثقافي والأكاديمي الذي مارس فيه طه حسين هذه الأدوار العظيمة (خاصة خلال الفترة 1944-1954)، وقد صدر كتاب مهم يتقصى تفصيلًا هذه الأدوار بعنوان «النهضوي الأخير: طه حسين وبناء المؤسسات في مصر» للباحث بجامعة كارلتن الكندية حسام أحمد، وترجمه إلى العربية موسى الحالول، وصدر عن مشروع كلمة للترجمة، التابع لمركز أبوظبي للغة العربية، 2023.
[3]– منذ العام 1859 كان الأستاذ الإمام محمد عبده يروح ويغدو في صحن الأزهر، وفي دار الإفتاء، داعياً لتجديد الأزهر بتطوير علومه ومناهجه، وبتجديد شباب الإسلام بتصفيته من جمود المتعصبين، وبتأكيد “عقلانيته” وتمشيه مع العلوم العصرية، وقد دخل في ذلك معارك مريرة مع أئمة علماء الدين المحافظين في عصره، ومع الخديو عباس حلمي الثاني الذي كان يستخدم أئمة علماء الدين المحافظين لتوطيد حكمه الأوتوقراطي، ولنهب الأوقاف الخيرية والأهلية، ولتعميق تبعية مصر لتركيا باسم حماية الإسلام والخلافة العثمانية، وباسم مقاومة الاحتلال البريطاني. راجع لكاتب هذه السطور فصل الإمام المصلح المجدد محمد عبده في كتاب «سيرة الضمير المصري ـ علامات في تاريخ الفكر المصري الحديث»؛ دار الرواق للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، القاهرة، 2022.
[4]– كارلو ألفونسو ناللينو: تاريخ الآداب العربية، تقديم طه حسين، دار المعارف، القاهرة، 1955، ص 13.
[5]– نشر للمرة الأولى عام 1915، ثم أعاد طه حسين نشره بعد أن أضاف إلى العنوان كلمة “تجديد” فأصبح الكتاب «تجديد ذكرى أبي العلاء»، وطُبع عشرات الطبعات، وما زال يطبع، ويجد قارئًا في كل أرجاء الوطن العربي، وعنه توالت الطبعات حتى طبعته الأخيرة التي صدرت عن دار المعارف بالقاهرة في 2019.
[6]– طه حسين: تجديد ذكرى أبي العلاء، دار المعارف، الطبعة العاشرة، القاهرة، 2019، ص 12.
[7]– المرجع نفسه، ص 15.
[8]– المرجع نفسه، ص 15، 16.
[9]– المرجع نفسه، ص 16.
[10]– المرجع نفسه، ص 16، 17.
[11]– المرجع نفسه، ص 19.
[12]– لويس عوض، مقال منشور في جريدة (الأهرام) المصرية، بتاريخ 2 نوفمبر 1973.
[13]– طه حسين: «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية ـ تحليل ونقد»، وضعه بالفرنسية طه حسين، ونقله إلى العربية محمد عبد الله عنان، مكتبة الأسرة، سلسلة المئويات، القاهرة، 2006.
[14]– لويس عوض، المقال المشار إليه نفسه.
[15]– لويس عوض، المرجع نفسه.
[16]– لويس عوض، المرجع نفسه.
[17]– لويس عوض، المرجع نفسه.
[18]– المرجع نفسه.
[19]– راجع: «الأدب العربي المعاصر في مصر»؛ د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، ص282-284.