تمكين
تهتمّ السير بذكر تفاصيل الميلاد والنشأة والصحبة، وتظهر مشاعر الغضب والضجر والفرح واليأس والقلق والحبّ والكراهية والحياء والخجل في كثير ممّا يسطره كتّابها. نشعر بصدق كاتب هذه السيرة أو مبالغته في سرد بعض الوقائع. ما نشعر به هو ذاتيّ في المقام الأوّل كسرد كاتب السيرة. يمكننا التقاط خيط من قصّة أو حدث أو كلمة أو بيت شعر أو إشارة، نستدلّ بها على ما وصلنا من معانٍ، لكن ليس مطلوبًا من الكاتب برهان صدق على ما قاله ومضى بعيدًا عن عالم السرد والبرهان.
ما هي افكار الصوفية؟
ثمّة وجوه شبه بين الصوفيّ والأديب والمؤرّخ وأستاذ الفنّ والمحقّق، كلّ منهم قد قرّر أن يكتب سيرته بعد رحلة عيش وتجربة. السيرة مسيرة ورحلة لا تعدّ بالسنوات والأيام واللحظات. قد تتحقق الرحلة بمشاهدها في ليلة، يُعرج بصاحبها في عوالم غير محدودة. وقد تتحقّق الرحلة في عام أو سبعين عامًا.
عالم الصوفيّ الذي ندخل إليه أوسع من عالم غيره، إذا يحاول في رحلته الطويلة أن يزيل السدود والفواصل والحدود. يرحل في مدارات لا تحصى. يصف ما يراه بالنور أو بالكشف أو الشهود أو الرؤيا أو الواقعة ويشحن قصّته بالصور والرموز التي تُفتح لبعض قارئيها، ويستعصي فهمها على آخرين.
إذا كان صاحب الصوفيّ في سفره الله، ومراده الله، فلا يعني ذلك خلو رحلة الكتابة من الأغيار، فيذكر الصوفيّ شيخًا من مشايخه التقاه وأحسن الحديث معه في “علّيين” أو في “سدرة المنتهى” أو في عرش لا يُجسّد كما هو عرش ربّه.. يسوق على لسان صاحبه مشهدًا.. ويجري على لسان غيره سؤالا عن صحّة المشاهد والرؤى. وتتنزّل الآيات أو يعاد قراءتها بلسان ذاكر وقلب حاضر. فترى برهانًا يُساق لمؤمن من خلال آية. أو قصّة.
هذا المشهد قد يكون أضغاث أحلام أو هرطقة مجنون أو حلم صبي عند من لم يعتد مطالعة نصوص الصوفيّة. يضع كاتب “السيرة الذاتية الصوفيّة” في حسبانه هذا المتلقي الواعي “المنكر” فيذكّره أنّ خطابه لمن آمن بالدين واعتقد في الوحي. ففي التنزيل أنّ إبراهيم النبيّ همّ بذبح ابنه مصدّقا لرؤياه.. ويأتي الصوفيّ بقميص يوسف ليُلقيه على وجه من أنكر الرؤى، ويخبره أنّ كلّ نبيّ من الأنبياء له صِلة بالمنامات والرؤى، فإمّا أن يكون قد رأى رؤيا أو كان موضع رؤيا، أو جمع بينهما كما في حال النبيّ محمّد، تحقّقت رؤيا أمّه آمنة بميلاده، ورأى من الرؤى ما أسعد أصحابه، وأقرّ في التشريع ما رأوه كما هو معروف من قصّة الأذان عند كلّ سامع.
ما هي الصوفيه ونشأتها وطرقها؟
ليس صحيحًا أنّ الصوفيّ لا يشرك أحدًا في لحظته. بل إنّ حكيه المراد منه الإشراك والبوح. ربّما لا يحكي بعد مشاهداته إلّا طرفًا زهيدًا مما رأى. لكنّه بمجرّد التصريح والإعلان تبدأ لحظة إشراكه. والإشراك يعقبه الجدل!
في السيرة صورة من صور التألّه “تألّهوا إلى ربّكم”. كما قال نجم الدين كُبرى أو “تخلّقوا بأخلاق الله” كما قال المصطفى. تصدر في التألّه عبارات خاصّة مثل (أوقفني- أشهدني- أجلسني- ألبسني- ولّاني- قرّبني- كنتُ صاحب الحجاب- كنتُ الشفيع- كنتُ صاحب السيف أو صاحب القلم). كلّ ما يصدر يحتمل القبول والرفض. حتّى أنّ أصحاب الصوفيّ في دولة الباطن يرفضون ويقبلون، ويمنحون للقاصّ الرتب، هذا وتد أو بدل، وذاك قطب أو قطب الأقطاب، هذا مجدّد أو هذا حُرم الأدب.
العالمُ أوسع من كلّ ما ترى. يريد الصوفيُّ أن يرسّخ لك هذه القاعدة. ليس كلّ العالم ما تراه بعينك، يقول لك ذلك بلسان عربيّ أو أعجميّ. فينطق بالفارسيّة ويتمتم بسُريانيّة خاصّة. يرسم لك أشكالًا ودوائر. يضع نقطة وخطًا طوليًا أو ينزل من الأفق على رأس الشكل بحرف جديد. فلا يحسن قراءته من عاصره.
طقوس الصوفية
ربّما احتاج حرفُ الصوفيّ أربعين عامًا حتّى يتجسّد كلمة حيّة، فتوقظ قلبًا من سُباته أو لحظة غيبة يهرق فيها قطرة من دمه من أجل إفاقته، كفعل النسوة اللاتي شاهدن جمالًا وحكمة ونبوة اجتمعوا في جسد واحد.
في حكاية الصوفيّ شيء من القلق، تظهر أسماء الأنبياء والملائكة والأولياء. هؤلاء شهوده في حضرته مع ربّه. لا يظهر هؤلاء لنا في اليقظة. ونعجب من الحديث عنهم، فهم غائبون. كيف نصدّق اليوم أنّ فلانًا صافحته الملائكة؟ أو شيّعوا جسد شيخه؟ أو أنّ فلانًا رأى نبيًّا من الأنبياء في اليقظة. طبيعيّ أن يكون ذلك محلّ تكذيب وسخرية! ليس لتصديقك أو كفرك محلّ هنا! فما يرويه الصوفيّ قد رُوي مثله مائة ألف مرّة من قدّيس ووليّ.
في كتابة الصوفيّ لسيرته شيء ساحر وممتع إذ تطوّف معه بقاعًا لم تألفها ويصعب عليك رسمها بغير رموزه. تندهش مما يفعله الصوفيّ. كيف استقام له المعنى وانصاع له القلم فكتب؟ ما هذه الجرأة؟ كيف يمتلك هذا الإيمان؟ ألا يخشى مما ينذرنا به الشيخ والعالم وسلطان المسجد في باب التأدّب مع الله؟ كيف يستحضر كلمات الله توراة وإنجيلًا وقرآنًا وتمتمات وصورًا؟ هل يظلّ بعد حكيه هذا مواطنًا في دولة الإسلام؟ أم أنّه كفر بما استقرّ عند غيره ورسخ؟ كيف يكتب الصوفيّ سيرته؟ هل يكتبها بفرح أو بألم؟!
يكتبُ الصوفيّ سيرته بفرح وأُنس، يسمع فيها ويرى، يمزح ويضحك! يبسط أحوال همّته ويروّح عن سرّه وسكونه من حمل وارداته، يفعل ذلك بعد أن نضج واحترق. ويصلح مثالًا للتعبير عن هذه السيرة ما فعله روزبهان البقليّ في كتابه كشف الأسرار. نذكر فيما يلي مقاطع مختارة من هذا الكتاب تعبّر عن بداياته ومعراجه الروحيّ.
- اشتهيتُ خدمةَ الصوفيّة. فحلقتُ رأسي، وكان لي شعرٌ حسنٌ جميلٌ. فدخلتُ بين الصوفية واشتغلتُ بخدمتهم. وأخذتُ في المجاهدات والرياضات وتعلّمتُ القرآن وحفظتُه. وكنتُ في أكثر الأوقات بين الصوفيّة في الوجد والحالات. وما وقعَ لي من المكاشفات الغيبيّة شيءٌ، حتّى كنت يومًا على سطح الرباط مراقبًا عالم الغيب. فرأيتُ النبيّ صلوات الله عليه وأبا بكر وعمر وعثمان وعليّا رضي الله عنهم مرّوا بين يديّ، وهذا أوّل مكاشفاتي.
- لم يكن لي شيخ في ذلك الزمان، وتردّدتُ في بلدي لطلب شيخ ناصح من أهل النّجاة، حتّى وفّقني الله تعالى بصحبة شيخ. وكان هو أيضًا في بدو أمره. ففتحَ اللهُ تعالى في صحبته على قلبي أبوابَ الملكوت وتواترات المكاشفات والحالات في صحبته، ببغية العلوم الغيبيّة والغرائب الدينيّة. حتّى كثرت المواجيد والكشوفات التي لا يُحصى عددها.
- دخلتُ في الحضرة ليلةً، ورأيتُ الحقَّ بنعت الكبرياء والعظمة، ورأيتُ في الحضرة آدم ونوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ونبيّنا محمّد عليهم السَّلام. فبلغتُ إلى محلّ الدنوّ وكانوا يغارون عليّ فألطفني بأشياء، لو سمع جميع العالمين من ذلك كلمة، لماتوا حسرة في حجب الغيب وأستار الملك والملكوت. حتّى خرجت من العالم والعالمين، فرأيتُ نفسي تحت الثرى بين هواء من النور. وظهر لي الحقُّ هناك جلّ جلاله.
فقلتُ: إلهي، طلبتُك فوق كلّ فوق، ورأيتُ في هذا العالم تحت الثرى. ففعلَ شيئًا ما علمت ذلك. فرأيتُ العرشَ إلى تحت الثرى بين يديه كخردلة في فلاة. وقال: أنا أقلّبُ العالم وما فيه. ولا يضرّني شيء من الحدثان. وأنا منزّهٌ عن أوهام الزائغين وإشارة المشبّهين. تعالى الله عن كلّ مكان. وأمثال تلك المكاشفات على قواعد أحوال العارفين وقدر حواصلهم.
إقرأ أيضاً: إطلالة على الدّرس الصوفيّ في مصر
- رأيتُ في عالم الغيب عالمًا منوّرًا من نور ساطع. ورأيتُ الحقَّ سبحانه بلباس الجلال والجمال والبهاء. وسقاني من بحار الوداد، وشرّفني بمقام الأنس، وأراني عالم القدس. فلمّا درت في هواء القدم وقفتُ على باب العزّة، فرأيتُ جميع الأنبياء حاضرين. فرأيتُ موسى وبيده التوراة، وعيسى وبيده الإنجيل، وداود وبيده الزبور، ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم وبيده القرآن. فأطعمني موسى التوراة، وأطعمني عيسى الإنجيل، وأطعمني داود الزبور، وأطعمني محمّد صلّى الله عليه وسلّم القرآن. وأشربني آدم الأسماء الحسنى والاسم الأعظم. فعلمتُ ما علمتُ من العلوم الخاصّة الربّانيّة الّتي استأثر الحقّ أنبياءه عليهم السلام وأولياءه بها.
- ورأيتُه تعالى مرارًا بوصف الجلال والجمال. ومعه الملائكة مثل النسوان الحسان. لهنّ ذوائب لو طال منها واحد، لسقط رأسها على الأرض. وقلتُ: إلهي، كيف تقبض روحي؟ فقال: آتيك من بطنان الأزل وأقبض روحك بيدي، أذهب به إلى مقام العنديّة، وأسقيك من شراب الدنو، وأظهر لك جمالي وجلالي إلى الأبد، كما تريد بلا حجاب. ورأيتُ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السَّلام لباس النور بجمال لا أطيق أن أصفه. ورأيتُ منكرًا ونكيرًا مثل شابين حسنين جميلين، يضربان الرباب على رأس قبري، ويقولان: نحن عشقان بك. ندخل في قبرك بهذا الوصف. فسقط عنّي الخوف.
- رأيتُ وقتَ السّحر كأنّ العالم مملوء من الحقّ. وكنت في غيبة وحضور، كأنّي أراه وكأنّي لم أره. فجاء، وهيّجني إلى الرّقص. فرقصتُ معه. وبقيت في الوقت والحال إلى الصّحوة. وكنتُ قبل ذلك في مقام الشوق والهيجان. وكنتُ مهتمًّا لأجل همّ. فخاطبني في نصيحتي، وقال: على ما اهتممت لأجله لا تهتمّ. فإنّه كان في كلّ شيء. تعالى الله أن تخطر حقيقة وجوده على قلب أحد من خلقه.
يا أخي، هذا وأمثال ذلك لا يعرفه إلّا ربّانيّ صمدانيّ جلاليّ قدسيّ ملكوتيّ جبروتيّ. قال تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ) [آل عمران: 7]. لأنّ المتشابهات خوالص لباب العشق. ومن لم يعشق بجمال القدم لم يعرف منكريات الصفات في أفعاله. تعالى الله عن إشارة كلّ مشبّه ومعطّل.
اقرأ ايضاً: العشق الصوفي ورحلة البحث عن المعنى