فلسفة بناء الكِيان اللبناني في فكر ميشال شيحا

تكوين 

ميشال شيحا صاحب فلسفةٍ خاصة وفكرٌ حكيم، ورؤيةٌ استباقية وطنية، وأخلاقٍ سياسيةٍ عالية. دبلوماسيٍ عريق ومثقَف لم تبهره المناصب ولم يكترث يومًا للألقاب. كان دقيق الملاحظة، يمتلك قدرةً منطقيةً على التحاور الخلاَق والإقناع. آمن بالحرية المتعانقة مع الرُوحانية، وحلم بوطن السلام والمحبة والتلاقي بين الأديان. عُرف “بأب الفكرة اللبنانوية (Le libanisme)، فقال فيه الرئيس اللبناني شارل حلو (1913-2001) إنَ شيحا هو “الاسم الآخر للبنان“.

بعد نبذة موجزة عن سيرته الذاتية سوف نتناول آراءه فيما يخصُ الرُوحانيات والزمنيات والطائفية، وتحذيره من الخطر اليهودي، وبعد ذلك سنعمد إلى محاولةٍ تقييميةٍ لتفكُره السياسي.

أولًا: حياته (1891-1954)

  مفكِر لبنانيٌ وسياسيٌ، كاتب وشاعر وإعلاميٌ متميز. ولد في بلدة بمكين في قضاء عاليه (جبل لبنان) من عائلةٍ تنحدر من أصولٍ كلدانية عراقية. تلقى دروسه الجامعية في جامعة القديس يوسف في بيروت. سافر كثيرًا وخصوصًا إلى إنكلترا، حيث تلقى تدريباتٍ في دارٍ تجاري في مانشستر. عام 1915، وبسبب الاضطهاد العثماني ذهب إلى القاهرة، حيث درس الحقوق. وبعد تفكك الامبراطورية العثمانية عام 1918، عاد إلى لبنان وعمل في إدارة “مصرف فرعون وشيحا الذي أسسه والده عام 1876. أجرى محادثاتٍ مع الجنرال الفرنسي غورو Henri Gouraud (1867-1946)، وكان من نتائجها إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920. عام 1925، انتُخب نائبًا في البرلمان اللبناني عن مقعد بيروت للأقليات ضد أيوب ثابت (1874-1947) الذي تولى رئاسة الجمهورية في فترة الانتداب الفرنسي عام 1943. وبعد توقفه عن نشاطه البرلماني ثابر على تأدية مهماتٍ متصلةٍ بالشأن العام، فأسهم في إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الفاتيكان وفي إنشاء بورصة بيروت.

عام 1926، شارك إلى جانب بترو طراد (1886-1947) الذي كان رئيسًا للبنان في فترة الانتداب الفرنسي، وإلى جانب السياسي اللبناني عمر الداعوق (1875-1949) ضمن لجنةٍ ثلاثية أُوكلت إليها مهمة وضع مسودة الدستور اللبناني، فعد أحد أبرز بُناة الكيان اللبناني. وأتت إسهاماته  في وضع الدستور اللبناني بعدما “قام في شبابه ببعض الدراسة الحرة في بريطانيا، حيث نما في نفسه إعجاب كبير بمرونة الدستور البريطاني غير المكتوب الذي أدهشته فعاليته، مع كونه مستمدًا برمته من العرف(1).

جمع في ثقافته العلم والفلسفة والشعر، وخط مقالاتٍ (لا سيما في صحيفة Le jour بالفرنسية عام 1937). كتب بأسلوبٍ واضح ومباشر ومختصر، مع بلاغةٍ في الوصف والسرد، وحاول في غالبية مقالاته، وبطريقةٍ إبداعيةٍ، إبراز الشخصية اللبنانية وتميزها في كافة المستويات، وكان متأثرًا خصوصًا بكتابات الفيلسوف وعالِم الرياضيات الفرنسي باسكال Blaise Pascal (1623-1662).

من أبرز أعماله: الخواطر I وII، أفكار حول المتوسط، لبنان في شخصيته وحضوره، فلسطين، السياسة الداخلية، أقوال أحدية، منزل الحقول، في الاقتصاد اللبناني.

ثانيًا: الروحانيات والزمنيات

  “الروح ضرورية للشعوب من أجل الصمود أمام تقلبات الزمن”(2).

  إن إعطاء أهمية كبرى للروح في حياة الانسان أمر بديهي لمفكرٍ مؤمنٍ بالله ومدرك دور الدين في توجيه حياة الشعوب ومصائرها، فالروحانيات وفق تفكره مبدأ أساس، لأنها تكون قاعدةً لتساؤلات البشر بخصوص  الوجود، وملجأ يلوذون إليه في شكلٍ دائم. وقد سأل: هل من عقلٍ يفوق عقل الانسان؟ هل من حياةٍ تفوق حياته؟ هل من قوةٍ عاقلة تسيطر عليه؟ هل من قيامةٍ بعد الموت؟ “هذا هو إذًا ميدان الروح، والحرارة الصوفية التي يجدها الانسان فيه أقوى من أشعة الشمس(3). وبما أن الفرد لا يزال إلى اليوم على جهله بين ما حلله الله وما حرمه، فإن تدخل الروحانيات يغدو أمرًا ملحًا، كي تتحول إلى نظامٍ وحمايةٍ له، غير أن مصدر الروحانيات واحد، مع أنها تملك مراتبها وتنوع وجوهها، لذا ينبغي عدم تقسيمها. صحيح أن مظاهرها عديدة، وأن علمي النفس والتاريخ يناقشان هذه المظاهر، إلا أنها تبقى واحدة، “هي عبادة الله في وجه من يرفض الله، هي النور أمام الظلمة، هي الخلود والرجاء في مواجهة الفراغ”(4). كما هي الملجأ المركزي في مواجهة التيارات المادية، خصوصًا عندما تكون القيم الروحانية مرتكزة على القيم الأخلاقية. وفي تمييزٍ بين الروحانية والمادية، قال:

“تتحدث الأولى عن البر والتضحية والتجرد والأمل والمحبة الأزلية، وعن القيم الجوهرية، وذلك في جميع اللغات. أما الأخرى، فتتحدث عن المساواة الاقتصادية والمطالبات القصوى وصراع الطبقات والحرب الاجتماعية وعن تسوية كل شيء بكل الوسائل تطلعًا إلى المستقبل… وذلك باستبعاد القيامة وعدالة الله”(5).

أما لبنان فرآه ملتقى صراع القيم الروحانية والمشروعات ذات الطابع الزمني، إلا أن حضور الروحانيات فيه أكثر قوةً وفاعلية، لم ينفصل فيه اللبناني عن الإله السماوي، وما يزال يعمل للإبقاء على روح التسامح التي بنَت لبنان منذ القدم وهي تساعد في تقويته اليوم.

من هذا المنطلق، ولأن الرُوحانيات تسعى في  مواجهة الماديات، فعليها إذًا أن تُجسِد دورها كاملًا، وهذا لا يحصل في حال فصل الأمور الروحية عن الشئون الزمنية، لذا فقد عارض شيحا هذا الفصل بشدة، لأنه يعني في رأيه، فصل حاجات الجسد عن حاجات الرُوح، والرُوح والجسد

“يترافقان دومًا في الحياة، والذين ينكرون الرُوح يجعلون الحياة أكثر قساوةً، ومراحلها الأخيرة أكثر مرارةً”(6).

أضف إلى ذلك أن الأنظمة السياسية التي تجهل الرُوحانيات، إنما تتميز أخلاقياتها بالسطحية والتصنع، ولذلك هي أنظمة عابرة لا تدوم، فالزمنيات تمر بحالات صراعٍ وتقلبات في جميع ميادينها، وتقف السياسات عاجزةً عن حل المشكلات الزمنية حين لا تعطي الرُوحانيات حقها. وآسف لحال الذين يقعون أسرى الأمور الزمنية، فيفقدون إيمانهم، ودعا بإلحاحٍ إلى احترام الروح الإنسانية وإلى مساندة العائلة اللبنانية، لجعلها أكثر قدرةً على توعية أبنائها في شأن المفهوميْن وخطورة الفصل بينهما.

وأشار شيحا إلى أنه لا يُنكر مطلقًا أهمية السياسة والاجتماع والاقتصاد، إلا أنه أراد أن يحفظ للرُوحانيات مكانتها، لا سيما في زمنٍ لم يعد العلم فيه يُثلج القلب ويروي تساؤلاته، خصوصًا الميتافيزيقية منها. ففي كل مكانٍ تميل الرُوحانيات إلى الرغبة في أن تُزهر ثانيةً، متخطيةً الأوهام الزائلة، ومن

“جميع الأفق وجميع زوايا العالم، وجميع العواصم الغارقة في الضوضاء، يرتفع نداء إلى الرب”(7).

يبدو جليًا إذًا أن فكرة الوحدة المثالية بين المسائل الرُوحانية والزمنية تولدت في فكر شيحا عن اقتناعٍ كلي لديه باستحالة الانفصال عن الجوهر الذي تجسده قيم الرُوح في زمن سيطرة المادة.

ثالثًا: رأيه في الطائفية

  “لماذا نريد أن نغير بعنفٍ ما صنعته العصور؟ أية غرابةٍ فكريةٍ تدعي تغليب الفكرة العَلمانية على الوضع الأكثر شموليةً وإنسانيةً للفكر؟”(8)

انطلاقا من هذا الاعتراض الذي سجله شيحا ضد الفكر العَلماني، وانطلاقًا من عده الطائفية، الوضعُ الانساني الأشمل، فقد حاول تحليل الوضع الطائفي في لبنان مُشددًا على أهمية التعايش بين الطوائف وعلى دور الطائفية في المجلس النيابي.

  1. الوضع الطائفي في لبنان

  يتكون لبنان في رأي شيحا من “أقلياتٍ طائفيةٍ متشاركة“، وتتعدى الطائفية في تعريفها الارتباط الضيق بطائفةٍ دينية، هي في لبنان ضمان تمثيلٍ سياسي واجتماعي للأقليات الطائفية اللبنانية، يقوم في الأساس على العدالة، وربط الفكرة الطائفية بالمفهوم الحضاري للبنان، مفترضا أن كل طائفة تمثل شكلا  من أشكال الحضارة، لذلك يُقال “الحضارة المسيحية” و “الحضارة الإسلامية” وما يجمع بينهما هو روح الأخوة وفضيلتا الأمل والإحسان، ما يجعل الوضع الطائفي في لبنان شرعيًا وطبيعيًا، كما أبرز أهمية الموقع الجغرافي المتوسطي للبنان الذي يجعل من أرضه مسرحًا تتواجه وتتفاعل اللغات والطقوس والعادات والأعراق وأنماط التفكير المختلفة فيه، لبنان البلد الملجأ، بلد الهجرة، بلد العمل الانساني الخلاق، بلد الحرية التي يعيش بها ويموت من دونها، إلا أن هذا اللبنان يضم مواطنين بلغوا مرحلة التطور عن طريق العلم، وآخرين ما يزالوا قابعين في الجهل، ففيه إذًا كل المجموعة البشرية: “من الانسان “الخارج من محوره” كما يسميه الطبيب والعالِم بالفلسفة الفرنسي كاريل  Alexis Carrel (1873-1944)، إلى الانسان الذي ما يزال على “بدائيته”. وقد تلاقت هذه الذهنيات المتنوعة والعادات المختلفة والمستويات المتباينة في لبنان، فوزعت هذه الكتلة البشرية إلى مجموعاتٍ رئيسة تحمل طابعًا طائفيًا، وتحول وطننا من بلد الفئات الاجتماعية المتنوعة إلى الأرض الموعودة للأقليات الحائرة، وإلى “فسيفساء دينية لا مثيل لها على وجه الأرض(9). فغدا بلد التسوية الطائفية بجمعه كل الطوائف اللبنانية داخل الطائفة اللبنانية، على أن يتنبه مواطنوه دومًا إلى المطامع المتربصة بهم، فيواجهونها بحكمةٍ ووعيٍ عالييْن.

إقرأ المزيد: نقد الأيديولوجيا الشيوعية في النشأة والمآلات: الحزب الشيوعي اللبناني نموذجًا

وشبه شيحا لبنان بسويسرا، بلد الحريات والاقتصاد والديمقراطية. ففي سويسرا كما في لبنان، تتلاقى “الأعراق واللغات والأديان(10)، بيد أن الفارق بينهما هو أن الشعب السويسري مُتحد، وواعٍ بأن السلام هو الذي يوحده، فيما الشعب اللبناني غارق للأسف في المصالح الطائفية التي تباعد بين أبنائه.

وفي اختصار الوضع الطائفي في لبنان، في رأي شيحا، “هو عامل مركب، أي عنفٍ لا يغير فيه شيئًا، الزمن وحده هو الذي يبدله أو لا يبدله”(11).

  1. التعايش الطائفي

  استكمالا لشرح الوضع الطائفي في لبنان، طرح شيحا مسألة التعايش الضروري والخلاق بين الطوائف والمذاهب اللبنانية. فلبنان هو “المحاولة الجميلة والنبيلة للتعايش الهادئ بين الأديان والعادات والأعراق(12)، والأمر الأول الذي جمع بين اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم كان في رأي شيحا، مرورهم بحالاتٍ متشابهة عبر التاريخ اللبناني، فقد كانوا مطارَدين وقلقين على حياتهم وحياة عائلاتهم ما اضطرهم إلى التخلي عن خيراتهم لإنقاذ أنفسهم، فعاشوا نتيجة تلك التجارب القاسية حالاتٍ إيمانيةٍ حقيقية أخضعوا من طريقها الزمنيات للرُوحانيات، وليس من مبرر كما اعتقد، لعدم تحقيق هذا التعايش،  فهناك تقارب فعلي يجمع بين المسيحيين والمسلمين. ففي شهر رمضان المبارك، يمجد الاسلام الرُوح تمامًا كما تفعل المسيحية في زمن الصوم. وتحدث في هذا السياق عن البهجة التي تعم النفوس عند المشاركة في جميع الأعياد الرسمية، “نحن نشارك، كما قال، في أعياد الإسلام فرحة مواطنينا المحمديين… ونشعر بالاكتفاء لإحساسنا بالسعادة تحيط بنا. تعدد المعتقدات لدينا يضاعف الأعياد الرسمية. وهذه طريقة فُضلى لمضاعفة العمل والسرور ضمن روح الأخوة”(13).

ويتلاقى المسيحيون والمسلمون كذلك في رفضهما التيارات المادية، وفي تعاونهما في سبيل إنقاذ لبنان من مخاطر تلك التيارات. والإسلام في نظره لا يقل قدرةً وإرادةً في خدمة الإنسانية عن القدرة والإرادة المسيحيتيْن. ولا بد أن يكون تعاونهما مثمرًا متخطيًا المستوى النظري إلى التطبيقي. من هذا المنطلق دعا شيحا المثقفين اللبنانيين إلى الإسهام في تقدم الفكر، فعليهم جميعًا “كائنًا ما كان معتقدهم، أن يتلاقوا أكثر لينكبوا معًا على الأفكار الكبرى والمؤلفات الكبرى لدى كل الدول وفي كل العصور… لماذا يوصد مفكرو الإسلام أبوابهم أمام عالمٍ أصبح بلوغه سهلًا…؟(14) وأثنى في هذا الإطار على محاولة رئيس الحكومة اللبناني رياض الصلح (1894-1951) ربط الحياة السياسية المُثلى في لبنان بالتئام الطوائف فوق أرضه، ما يدل على مشيئة الحياة المشتركة والتسامح الكبير والاحترام الكلي لحرية الضمير في الوطن.

وعزا هذا التعايش بين الطوائف إلى النظام الطائفي المتبع في لبنان، ورأى أن المسافة التي تفصل بين مواطنٍ شيوعي وآخر غير شيوعي، أوسع من المسافة بين سني وأرثوذكسي أو بين ماروني وشيعي. “فعلى رغم الأخطاء الكثيرة… هي الطائفية التي علمتنا التسامح، هي الجيرة المباشرة بين الطقوس والتقاليد الدينية، هي العادة القديمة للعيش المشترك، هي العشرة والاحترام والصداقة والمعرفة العميقة بين الناس التي قادتنا إلى هذا التوازن الذي نحياه(15).

  1. الطائفية في المجلس النيابي

عد شيحا مجلس النواب اللبناني عنصرًا أساسيًا في الحياة السياسية اللبنانية، وتحتاج الأقليات الطائفية التي تشترك فيه إلى تمثيلٍ جماعي يرمي إلى المحافظة على هذا الاشتراك، إلا أنه في المقابل حذر اللبنانيين من مخاطر الانشقاق ومآزق التشتت التي قد يتعرضون لها إذا لم تتمثل الطوائف جميعها داخل المجلس، كذلك دعا كل طائفةٍ إلى الانفتاح واتباع المثل العليا، توصلًا إلى إنجاح مهمة المجلس، ينبغي إذًا “أن يُحترم التمثيل الطائفي النسبي في شكلٍ دقيقٍ داخل المجلس النيابي”(16)، ويكفي الطوائف أن تحصل على هذا الضمان، فهل يجب بالضرورة لينال مواطن وظيفةً في الدولة أن يعتنق مذهب القديس يعقوب الأصغر Saint Jacques Le Mineur (توفي عام 62)، أو القديس مارون Saint Maron (توفي عام 410)، أو القديس يوحنا فم الذهب Saint Jean Chrysastome (نحو 340-407)؟ إن المجلس النيابي مؤسسة ضرورية في لبنان، لأنه بلد ديمقراطي، بلد الطوائف المتشاركة، هو “مكان التلاقي الضروري، ورمز إرادة التعايش، وشرط التوازن والوفاق(17)، فليس عدد النواب هو المهم، بل السلام، ولا سيما السلام الطائفي، أضف أن المجلس يعطينا فرصةً كبرى لحكم أنفسنا، والعمل لتخفيض عدد النواب لا يقلل مطلقًا من عدد الإقطاعيين، بل يوصد الباب في وجه العناصر الجديدة. وقال إن هناك قانونًا أساسيًا للحياة اللبنانية العامة، فكل ما تخسره المؤسسات السياسية في لبنان تكسبه الطائفية، فإن إضعاف المجلس أو الحكم أمر يؤدي إلى حلول مفهوم التجمع الطائفي محل المواطنة، “والخروج من المجلس يؤدي إلى دخول المعبد… ما يعني أن كل تراجعٍ في الحياة السياسية اللبنانية، يقابله تراجع في الحياة المدنية. فعندما يضعف التمثيل السياسي أو يختفي، يحل مكانه التمثيل الطائفي”(18).

إقرأ المزيد: أنطون سعادة: بين حلم القومية السورية والفكر التنويري المنشود

صحيح أن شيحا دافع علنًا عن النظام الطائفي، لكنه كان دومًا معارضًا شرسًا للفوضى الطائفية والاجتماعية. ونستنتج من كل ذلك أن شيحا حاول تفادي الوقوع في مأزق العصبية الطائفية، عبر دعوته اللبنانيين إلى إدراك أهمية تمثيلهم جميعًا وعلى اختلاف طوائفهم في المجلس النيابي، وكأنه رأى في هذا الأمر محاولةً لخلق تناغمٍ سياسي/اجتماعي بين شرائح المجتمع اللبناني، وللتشديد في الوقت ذاته على احترام التعددية الطائفية داخل المجلس، في جو توافقي سليم.

رابعًا: الخطر اليهودي

  إن مشروعًا سياسيًا هو الأغرب والأكثر خطورةً في العالم ينمو على حدودنا… من هنا حاول شيحا بعد تبنيه العقيدة الطائفية، أن يحذر المسيحيين والمسلمين من الخطر اليهودي الذي يهدد الديانتيْن في رأيه، واصفًا الأماكن التي شهدت على ولادة المسيحية والإسلام، وانبثقت منها آيات إيمانٍ للملايين من البشر، لا يجوز أن تصبح مختبرًا لإسرائيل ولا مركزًا لمؤامراتها ودسائسها. وقد انبرى إلى طرح القضية من منظور الحضارتيْن المسيحية والإسلامية، المهددتيْن بالزوال بسبب انعدام الوعي الكافي لدى الفئتيْن، “فبلاد الحضارة المسيحية، فيما هي سالكة، تُخِلُ بأسمى رسالةٍ لديها، وبلاد الاسلام، إن لانت قناتها، ضلَت السبيل وتعرضت للدخول في الظلام”(19).

ولفت إلى أن دولة إسرائيل سوف تهدد القدس إلى الأبد، لأن اليهود يطمحون عبر المرور بمراحل عدة إلى جعل القدس عاصمة وطنهم الأم وإلى استعادة أرض الأسباط الاثني عشر وإلى تجاوزها حتى الفرات، ليستتب لهم “مجددًا مُلك داود وسليمان(20)، وأضاف أن إسرائيل ربما مالت في حلمها أيضًا “إلى الاستيلاء على “الأور” L’Ur من أرض الكلدان، موطن إبراهيم”(21). هذه الضلالات كما سماها شيحا، إن تحققت فسوف تكون النتيجة كارثيةً على العرب الذين سوف يتعرضون للأسف للرضوخ والعبودية. فدولة إسرائيل ليست طائفيةً فقط، بل عرقية، والأمم التي تدعي الديمقراطية تدعم هذه العرقية اليهودية، ما جعله يشير إلى خللٍ في المنطق لدى هذه الأمم التي أعطت موافقتها على تقسيم فلسطين، وصوتت لأشد الدول عرقية وطائفيةً في العالم، ففلسطين جغرافيًا بلد صغير وذو كثافةٍ سكانية تجعل من المستحيل العمل لتقسيمه. إن قرار التقسيم هذا هو أضخم الأخطاء في السياسة المعاصرة، وسوف يسهم في زعزعة أسس العالم، وهذا ما يثبت رؤيوية شيحا، لأن ما يحدث اليوم في فلسطين يؤكد ذلك.

إلى ذلك حذر شيحا من الحرب الدينية التي تمثل نتيجةً حتميةً لإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين، لافتًا إلى خطر التعصب الذي تولده هذه القضية، ومضيفًا أنه ربما آن الأوان حقًا إلى وضع حد حاسم وجازم لجميع العرقيات والتعصبات في العالم كله، غربًا وشرقًا، ودعا العرب إلى الاحتراز في مواجهتهم خطر اليهود، وإلى رفض “أي مسوغٍ سياسي من شأنه أن يبعث مقاومة السامية حيةً من جديد”(22).

  إلا أنه وفي عودةٍ إلى نوعٍ من الواقعية، رأى شيحا الحل الأمثل في أن يتعايش العرب واليهود “سياسيًا، وأن يعملوا معًا لإنماء بلدهم، بديل أن يضيفوا مدماكًا إلى الجدار الفاصل بينهما...”(23) في هذه الحال تُتاح للسلام السياسي/الديني فرصة الازدهار، هو لم ينكر طبعًا صعوبة التعايش العربي/اليهودي، خصوصًا أن اليهود يتبعون شريعة موسى التي لم يشأ المجادلة في شأنها في المستوى الديني، بل كونها عاملًا سياسيًا واجتماعيًا، لكنه حذر على الدوام من سياستها الرامية إلى بناء دولةٍ دينيةٍ عرقيةٍ “يختلط فيها القانون المدني بالقانون الديني اختلاطا يكاد لا ينفصم”(24). وتوجه أخيرًا إلى اللبنانيين والسوريين بالقول:

“فعلى كل لبناني وكل سوري أن يتذكر بأننا من هذا المطمح وهذا السلطان في أمت جوار، وأن المغامرة اليهودية لن تؤتي توسعها المنشود إلا بمشيها على أجسامنا… ولربما ينبغي -والحال ما هي– أن نستعيد تلاوة ما جاء في التوراة، وأن نفكر على غير لامبالاة بنهاية العالم”(25)

وتبقى الصيغة الحضارية اللبنانية المرتكزة على التوافق والتفاعل، النقيض الأبرز للصيغ اليهودية العنصرية.

خامسًا: نظرة تقييمية

   لطالما رأى شيحا أننا في لبنان أذكياء، لكن ذكاءنا يفتقر إلى رُوحية التنظيم وإرادة المتابعة، كي تقترن قراراتنا في جميع مستويات حياتنا المجتمعية والسياسية، بأفعالٍ قيمة خدمةً للوطن، فأتت نظرياته مهما كانت درجة تقييمها إيجابًا أو سلبًا، في هذا السياق الفاعل.

أصر شيحا على عد لبنان “بلد الأقليات المتشاركة“، وأن الطائفية تجمع بين الطوائف اللبنانية ولا تفرق بينها، علمًا أن من أسباب الأزمات في لبنان واقعًا هو هذه التفرقة الحاصلة حكمًا للأسف، والمستمرة إلى اليوم في خضم الحروب والصراعات المحلية والاقليمية، وتجدر الاشارة إلى أن منتقدي النظام الطائفي عارضوه بقوة، ومنهم من بالغ فاتهمه بالتعاون مع السلطات الفرنسية علنًا، خصوصًا في وضع الدستور اللبناني الذي “اصطبغ بالصبغة الفرنسية الطائفية”(26) إلا أن الطائفية التي دعا إليها شيحا كانت نقيضًا للتعصب الأعمى الذي يولد الأحقاد والحروب، فقد أرادها عنوانَ انفتاحٍ عقلاني على الآخر. ومع ذلك لم يتوانَ عن التنبيه إلى ثغرات النظام الطائفي، لا سيما في توزع السلطات بين الموارنة والسنة، الأمر الذي تعترض عليه سائر الطوائف، ما حمله على وصف النظام اللبناني بنظام “الدكتاتورية المحجوبة”(27).

وقد رأى أن على كل سياسةٍ أن ترمي إلى تحقيق إصلاح الفرد وترقيته ذاتيًا وفي علاقاته المجتمعية، لكن بعضهم وصف سياسة شيحا بالطابع التقليدي “ليس لأنها سعت في إنكار ضرورة التغيرات الاجتماعية والسياسية، بل لأنها جعلتها منبثقةً من الوقائع والقيم”(28)،  إلا أن لا أحد ينكر أن تلك الوقائع والقيم هي التي دفعته إلى طرح القضية اللبنانية والدفاع عنها في جميع المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإلى عد لبنان جسرًا طبيعيًا بين العالميْن العربي والغربي.

إلى ذلك فقد شدد على فكرة لبنان الفينيقي في عديد من كتاباته، لكن تشديده على “الفينيقوية” جاء “انطباعيًا أكثر منه تاريخيًا”(29). فكان تأكيده الأكبر على “لبنانوية” لبنان، وهو القائل: “وطننا منزلنا، لا، بل منزلنا الأبوي”(30)، لكن غالبًا ما كان يتسم أسلوبه بالشاعرية والرومانسية، مثل قوله:

“… كما نتعلق بدارنا، كما ننتمي إلى منزل آبائنا… نحن مربوطون كما إلى وجه حبيب، بقطعة أرض، بمنظر، بمدينة، بضاحية، بالأفق…”(31).

وقد وسم شيحا هذه “اللبنانية” بالطائفية التي أرادها إيجابية وسلمية، دون التطرق إلى سلبيات النظام الطائفي، التي ما نزال نعيش تداعياتها إلى اليوم. وأيًا كان الحكم على مواقفه فقد عُدَ “أرفع مفكر سياسي”(32) عرفه لبنان في الزمن الحديث، ورأى فيه المفكر والسياسي اللبناني كمال جنبلاط (1917-1977) “شخصيةً كبيرة الثقافة وكثيرة الحيوية”(33)، كما وصفه الأديب والشاعر اللبناني بولس سلامة (1902-1979) بأنه “واحدٌ من أمراء الفكر”(34).

خاتمة

  ارتبط اسم ميشال شيحا بلبنان، “بلد الحلم والواقع” كما وصَفه، ذلك الوطن الذي كان ولا يزال إلى اليوم مهددًا، فكان لديه دومًا نزوع إلى تأكيد طبيعته المتوسطية وتاريخه الطويل والعريق.

كل ما كتبه في الروحانيات والطائفية والأخطار المحيطة بالوطن، اتسم بأسلوبٍ أدبي راقٍ، جمع الخيال إلى المنطق والحدس إلى العقلانية والمثالية إلى الواقعية، توصُلًا إلى تكوين رؤيةٍ فلسفيةٍ خاصة للكِيان اللبناني.

وكما مشى “بخطى الواثق الذي لا ينحني أبدًا(35)، كذلك أراد من لبنان أن يتلبس هذه الثقة، فلا ينحني مطلقًا، مهما اشتدت الأزمات. اعترف أن لبنان بلد صغير جدًا، لكن شعبه صغير؟ مطلقًا… هذه كانت رسالته إلى لبنان وإلى اللبنانيين!

 

المراجع

  • كمال الصليبي، بيت بمنازل كثيرة، الكيان اللبناني بين التصور والواقع، مؤسسة نوفل، الطبعة الأولى، بيروت، 1990، ص. 225.
  • Michel Chiha, Plain-chant, (propos dominicaux), éd. Du trident, Beyrouth, Réimpression 30 Mars 1980, p. 104.
  • Michel Chiha, Essais II, éd. Du trident, Beyrouth, Réimpression, 30 Mars 1980, p. 180.
  • Ibid, p. 181.
  • Michel Chiha, Visage et présence du Liban, 2º éd., Co. Ed., le trident, le cénacle libanais, Beyrouth, Liban, 1984, p. 68-69.
  • Michel Chiha, Politique intérieure, Publications de la fondation Michel Chiha, Ed. du trident, Réimpression, Beyrouth, 1980, p. 260.
  • Michel Chiha, Plain-chant, cit., p.89.
  • Michel Chiha, Politique intérieure, cit., p. 304-305.
  • Michel Chiha, Visage et présence du Liban, cit., p. 35.
  • Ibid, p. 44.
  • Michel Chiha, Politique intérieure, cit., p. 270.
  • Ibid., p.250.
  • , p. 203-204.
  • , p. 124-125
  • , p. 305.
  • , p. 80.
  • , p. 116.
  • , p. 264.
  • ميشال شيحا، فلسطين، ترجمة أنطوان غطاس كرم، منشورات مؤسسة ميشال شيحا، بيروت، 1960، ص. 119.
  • المرجع نفسه، ص. 251.
  • المرجع نفسه.
  • المرجع نفسه، ص. 190.
  • المرجع نفسه.
  • المرجع نفسه، ص. 143
  • المرجع نفسه، ص. 55.
  • حسان حلاق، التيارات السياسية في لبنان (1943-1952)، معهد الانماء العربي، الدراسات التاريخية، 1981، ص. 69.
  • Michel Chiha, Politique intérieure, cit., p. 233.
  • Jean Salem, Introduction à la pensée politique de Michel Chiha, Librairie Samir, Presses de l’imprimerie interpress, Beyrouth, 1970, p. 45.
  • كمال الصليبي، بيت بمنازل كثيرة، مرجع مذكور، ص. 224.
  • Michel Chiha, Visage et présence du Liban, cit., p. 112.
  • Michel Chiha, Présence du Liban, (conférence), conférences du Cénacle, VIIIº année, Nº 1, 15 Janvier, 1954, p. 6.
  • ميشال أسمر، بعد المحنة… وقبلها، منشورات “الندوة اللبنانية”، بيروت، 1959، ص. 110.
  • خليل أحمد خليل، كمال جنبلاط، ثورة الأمير الحديث، دار المطبوعات الشرقية، الطبعة الأولى، 1984، ص. 76.
  • عدد من المفكرين، “الندوة اللبنانية”، 1957، ص. 83.
  • شربل داغر، “ميشال شيحا: نزوع صريح إلى التخييل والتدبير واللفق والرتق”، صحيفة الحياة، لندن، 12 و 19 شباط/ فبراير 1995.

 

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete