فلسفة هوسرل الفينومينولوجية: علم كلّي للمعرفة الانسانية؟!

 تكوين

كثرت المذاهب الفلسفية بين القرنين التاسع عشر والعشرين لتتقاطع حيناً، ولتتعارض جزئياً أو كلّياً حيناً آخر. وكانت الفينومينولوجيا من أبرز هذه المذاهب التي تناثرت بداياتها خلال مراحل تاريخية مختلفة، إلى أن تبيّن كيانها الفعليّ مع مؤسّسها إدموند هوسرل الذي حاول التغلّب على الانقسام بين الذات والموضوع، عبر منهجٍ خاص مبنيّ على الظواهر، وفي مواجهة الفلسفة الوضعية وعلم النفس التجريبيّ.

ومع وهبه الفينومينولوجيا طابعها المنهجي، فقد أضحت فلسفةً ذات إطار فكري وتاريخي، أورثها للعديد من المفكّرين والفلاسفة بعده. فهل نجحت فلسفته الفينومينولوجية في أن تكون “علماً كلّياً دقيقاً” للمعرفة الانسانية كما أرادها؟ هذا ما سوف نتلمّسه من خلال عرضنا بدايات هذا المذهب الفكريّ، والتوقّف بالتفصيل عند فلسفة هوسرل، ثمّ عند المتأثّرين به في الغرب وعند العرب.

أولاً: تعريف الفينومينولوجيا

  يتكوّن هذا المصطلح من قسمَين: Phénomène أي الظاهرة، و Logos أي العلم. إذاً هو العلم الذي يدرس الظواهر، وتحديداً ظواهر الوعي، في الزمان وفي المكان. ونقصد بالوعي التجربة الواعية للفرد كما يتمّ اختبارها من وجهة نظره الذاتية.

والفينومينولوجيا علم يختلف عن دراسة أسباب الظواهر “وقوانينها المجرّدة الثابتة، أو عن البحث في الحقائق المتعالية المقابلة لها، أو عن النقد المعياري لمشروعيّتها.”]1[ . وبحسب الفيلسوف الفرنسي لالاند André Lalande (1876-1963)، فإنّ كلمة “فينومينولوجيا” “لم تدخل اللغة الفلسفية الفرنسية إلاّ حديثاً، وبعدما اقتصر استعمالها على ترجماتٍ وتحليلاتٍ من لغاتٍ أخرى. وإنّما منذ العام 1920، غالباً ما أصبح يستخدمها الكتّاب في تطبيقها على مفاهيمهم، التي قد تكون متناقضة بعض الأحيان.”]2[

وقد تدلّ الفينومينولوجيا على توصيف المعطيات النفسية، إن هي درست الظواهر النفسية والشعورية للفرد. وهنا تبرز مرحلتان: “الأولى ملاحظة المعطيات النفسية ووصفها وصفاً دقيقاً مستقلاً عن كلّ تصوّرٍ سابق… والثانية تحديد البُنى العامة للظواهر النفسية كالادراك، والتصوّر، والتخيّل…”]3[ أمّا إذا هي درست ظواهر الوجود عموماً، كان الهدف منها التعرّف على بنية الظاهرة والشروط العامة لحدوثها. ولهذا العلم أيضاً مرحلتان: “الأولى دراسة الظاهرة الواقعية دراسةً وصفيةً وتحليلية، والثانية تفسير تكوّن الظاهرة وبيان ماهيّتها.”]4[

الفينومينولوجيا الوجودية

أمّا الفينومينولوجيا الوجودية (Phénoménologie existentielle) فهي العلم الذي يشتمل “على وصف ما يحيط بالمرء من شروطٍ واقعية تحدّد موقفه، وهو مقابل لعلم الظواهر المتعالي.”]5[ وهي، كما عرّفها المفكّر اللبناني مشير عون (1964-) فلسفة “تبحث في علاقة الوعي بالظواهر المتجلّية أمام نظر الانسان.”]6[

ثانياً: البدايات

لو حفرنا عميقاً في تاريخ الفلسفة الاغريقية، لوجدنا أنّ مصطلح “الفينومينولوجيا” كان حاضراً بقوّة، تحت مسمّياتٍ أخرى، في مذهب الشكوكية أو الرَيبيّة (Le Scepticisme)، ولا سيّما عند كلّ من بيرون Pyrrhon (نحو 365-275 ق.م.)، وأرسيزلاس Arcésilas (نحو 316-241 ق.م.).

فالأول رأى أنه لا يمكننا معرفة طبائع الأشياء لأنّ الحواس هي وسيلتنا الوحيدة للمعرفة، والحواس تشير إلى ما تبدو عليه الأشياء، لا كما هي في طبيعتها. ونحن لا نملك وسيلةً أخرى للمعرفة لنجعلها معياراً للصواب من الخطأ. وما دمنا لا نعرف شيئاً، فينبغي أن نعلّق الحكم بوجود شيء، سوى حالاتنا الشعورية المباشرة عن تلك الأشياء. وقد شدّد بيرون على وجوب التمييز بين الظواهر وأسبابها التي تبقى غامضةً بالنسبة إلينا، من هنا كان إعراضه عن كلّ ما ينتمي إلى عالم الغيبيات لاستحالة إيجاد أدلّة للاثبات.

وكان للثاني، أرسيزلاس، مؤسّس الأكاديمية الجديدة، الاتّجاه الفكري ذاته. فقد أكّد، في مواجهة الدوغماتية الرواقية، أن لا دلالة للحقيقة، وأنه يجب تعليق الحكم (La suspension du jugement) في مسائل الاعتقاد في شكلّ كلّي.

وقد ظلّت هذه القطيعة ذات البعد الابستمولوجي بين الظواهر وبواعثها هامدةً كفكرةٍ فلسفيةٍ بالغة الأهمية، إلى أن بدأ زمن الحداثة، حيث عاد طيف الشكوكيين الاغريق ليظهر من جديد، بحلّةٍ تحليليةٍ أكثر تفصيلاً ودقة.

فكان الفيلسوف وعالِم الفلك والرياضيات السويسري-الألماني لامبرت Johann Heinrich Lambert (1728-1777) أوّل من استخدم مصطلح “الفينومينولوجيا” في كتابه “الأورغانون الجديد” (Neues Organon)، من الفقرة 95 وحتى الفقرة 97، وذلك تحديداً العام 1764، لدراسة كيفية ظهور الأشياء في عقل البشر، إضافةً إلى الخصائص الوهمية للادراك الانساني، ما حداه إلى توصيف علم الظواهر ب “نظرية التوهّم”، بعدما درس قواعد التمييز بين المظهَرَين الذاتي والموضوعي.

أمّا في فكر الفيلسوف الألماني كنط Emmanuel Kant (1724-1804)، فينتهي التحليل المتعالي (Transcendantal) بالتمييز بين الظاهرة (Phénomène)، والنومن (Noumène). وللظاهرة عنده معنى خاص، فهي تُطلق على موضوع كلّ تجربةٍ ممكنة تحدث في الزمان وفي المكان، حيث ما يحدّد العلاقات هي المقولات العقلية. فالظاهرة في تفكّره “مقابلة للمادة المحضة من جهة، وللشيء بذاته من جهةٍ أخرى.”]7[ وأمّا النومن، فهو الشيء في ذاته، هو الحقيقة المطلقة التي لا تُدرك بالتجربة والادراك الحسّي، بل بالحدس العقلي. وقد وضع كنط هذا المصطلح ليقول “إنّ هذه الحقيقة المطلقة التي تجاوز نطاق التجربة، لا تُدرك بالعقل النظري، لأنّ قوانين هذا العقل لا تحيط بالمطلق، ولا تُدرك إلاّ الظواهر.”]8[ ففي مجال الايمان بالله، على سبيل المثال، ربط كنط هذا الايمان بالضمير، وليس بالبرهان العقلي المستمدّ من ظواهر الطبيعة. وتبقى الفينومينولوجيا لديه دراسةً للحركة من منظور المراقب، كما جاء في كتابه “المبادئ الميتافيزيقية الأولى للعلم الطبيعي” (Premiers principes métaphysiques de la science de la nature) العام 1786.

من جهةٍ أخرى، إعتبر الفيلسوف الألماني هيجل Georg Wilhelm Hegel (1770-1831) الفينومينولوجيا عبارة عن “تحوّل وعي الذات حتى الوصول إلى المعرفة المطلقة.”]9[ هي تقوم إذاً على تحليل المراحل التي يمرّ فيها الشعور في “انتقاله من المعرفة الحسّية إلى معرفة الذات حتى يبلغ درجة العلم المطلق.”]10[ العلم الذي هو في ذاته ظاهرة من ظواهر الوعي. هذا ما شرحه هيجل في كتابه “فينومينولوجيا الروح” (Phénoménologie de l’esprit) العام 1807، حيث وصف كافة أبعاد التجربة الانسانية: من الوعي والمعرفة والادراك، إلى الثقافة والتاريخ والدين والأخلاق. وقد حاول هيجل الركون إلى مصطلحاتٍ جديدة للابتعاد عن تلك التي استخدمها كنط، فكان المنهج الديالكتيكي الذي يتكوّن من تناقضاتٍ، يكون الخروج منها بعمليةٍ توليفية. وهو هذا المنهج الذي كان له تأثيره لاحقاً على هوسرل وسارتر Jean-Paul Sartre (1905-1980)، ولا سيّما ماركس Karl Marx (1818-1883) الذي حوّله من المثالية إلى المادية.

ثالثاً: المؤسّس: إدموند هوسرل Edmund Husserl (1859-1938)

  1. نبذة عن حياته

فيلسوف ألماني، ولد في موراويا في تشيكوسلوفاكيا (التي تنقسم اليوم إلى دولتَين: جمهورية التشيك، وجمهورية سلوفاكيا). كان من أصلٍ يهودي، لكنه اعتنق المسيحية البروتستانتية العام 1887.

درس الرياضيات والفلسفة والفلك والفيزياء. العام 1883، حصل على الدكتوراه في الرياضيات بعد مساهمته في حساب المتغيّرات.]11[  العام 1884، واظب على متابعة محاضرات الفيلسوف وعالِم النفس النمساوي الألماني برنتانو Franz Brentano (1838-1917) حول مسائل الفلسفة وعلم النفس الفلسفي، وتأثّر به كثيراً وصار ملهماً له في العديد من أفكارة الآنية واللاحقة. درّس في جامعة هال بين العامَين 1887 و 1901، ثمّ في جامعتيّ جوتنجن وفرايورج بين العامَين 1906 و 1916، إلى أن تقاعد العام 1929.

هوسرل هو مؤسّس الفينومينولوجيا التي اعتمدها سعياً وراء فهمٍ أكثر عمقاً لوجود الانسان والعالم. من أبرز مؤلّفاته: “فلسفة علم الحساب” (1891)، “بحوث منطقية” (1900-1901)، “الفلسفة علماً دقيقاً (1911)، “أفكار: مقدّمة عامّة لفلسفة ظاهرية خالصة” (1913)، “المنطق الصوري المتعالي” (1929)، “تأمّلات ديكارتية” (1932)، “أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية” (1936)، “التجربة والحكم” (1939).

  1. فلسفته

  قبل الفينومينولوجيا، إنقسمت فلسفة هوسرل إلى ثلاث مراحل: علم الحساب، وعلم المنطق، وعلم النفس. وفي رأيه أنّ الفلسفة لا تقوم إلاّ في علمٍ مثاليّ كالرياضيات، وهي منهج جديد للبحث عن الحقيقة.

  • فكرة الفينومينولوجيا

  تشير كلمة “فينومينولوجيا”، بحسب هوسرل، إلى علمٍ، إلى مجموعةٍ من المجالات العلمية، لكنها تدلّ في الوقت ذاته، وقبل كلّ شيء، على منهجٍ وموقفٍ فكري. الموقف الفكري هو تحديداً فلسفي، وكذلك الأمر بالنسبة للمنهج.”]12[ وقد أتى تعريفه هذا في كتابه: “فكرة الفينومينولوجيا” (L’idée de la phénoménologie)، الذي يشتمل على خمسة دروسٍ أساسية، هي مقدّمة لدراساتٍ فينومينولوجية عينية، تتعلّق عموماً بما سمّاه هوسرل “التقوّم” وعلاقته بالموضوعات الحسّية المرتبطة بالزمان والمكان. وكان يهدف، من خلال هذه الدروس، إلى تحديدٍ منهجيّ للمعرفة الفلسفية بحسب وقائع الوعي، وإلى تأسيس قاعدة فلسفية صلبة للفينومينولوجيا العينية، أي لمجالات “التقوّم” الفينومينولوجي، إضافةً إلى ضبط المفاهيم الفينومينولوجية العامة التي سنتطرّق إليها لاحقاً.

الدرس الأول: بعدما ميّز هوسرل في دروسه السابقة بين العِلمَين: الطبيعي والفلسفي، فقد أشار إلى أنّ “مصدر الأول هو موقف الفكر الطبيعي، وأنّ مصدر الثاني هو موقف الفكر الفلسفي.”]13[ إلى ذلك، فقد انبرى إلى دراسة العلاقة بين المعرفة والموضوع، وإلى عرض الاشكاليات المتأتّية من هذه العلاقة. فإمكانية المعرفة في الفكر الطبيعي أمر محسوم وبيّن، أمّا في ما يخصّ المعرفة المتعالية، فالأمر مختلف لأنّ المعرفة لا يمكن أن تعتمد على علمٍ معطى في شكلٍ مسبق حول مسائل منعقدة على التعالي، فأجرى مقارنةً بين الأصمّ الذي يعلم بوجود نغماتٍ وإيقاعات، لكنه لا يستطيع مطلقاً إدراك تكوّن الأعمال الموسيقية، لأنها شيء لا يمكن أن يتمثّل لادراكه. إلى ذلك، فقد اعتبر أنّ أيّ علمٍ، في مجال البحث الطبيعي، يمكن أن يُبنى على علمٍ آخر، كما يمكن أن يوفّر له نموذجاً منهجياً. “غير أنّ الفلسفة تقع ضمن بعدٍ مستحدث كلّيانياً، وهي في حاجةٍ إلى نقاط انطلاقٍ أيضاً مستحدثة كلّها”]14[. وينسحب الاستحداث كصفةٍ كذلك على المنهج الذي ينبغي أن يميّزها عن أيّ علمٍ طبيعي.

الدرس الثاني: طرح هوسرل في بداية هذا الدرس السؤال حول “”نقد المعرفة”، والهدف من هذا النقد، محدّداً إيّاه بتفكّرٍ علميّ للمعرفة وإقامتها بحسب ماهيّتها.”]15[ إنّ المعرفة، في شكلٍ عام، مشكلة، وهي تحتاج إلى توضيح. ونحن، إن تمّ منعنا من اعتماد أيّ وجودٍ كمعطى سابق، بسبب الغموض المتعلّق بنقد المعرفة، والذي قد لا يتيح لنا فهم معنى وجود “في ذاته”، مع أنه “معروف في المعرفة”، “ينبغي علينا حينئذٍ أن ندلّ على وجودٍ، وأن نضطر إلى الانعطاء الكامل والوثوق تجاهه، بقدر ما يُعطى تحديداً على نحوٍ تامّ الوضوح، ذاك الوضوح الذي يسمح لكلّ مسألةٍ بإيجاد الاجابة الفورية.”]16[  إلى ذلك، تناول هوسرل منهج الشكّ الديكارتي، وشدّد على وجوب تعليق الحكم والامتناع عن كلّ حكمٍ وجوديّ سابق، ثمّ بحث في غموض المعرفة الطبيعية المفارقة، مميّزاً بين مفهوميّ المحايثة والمفارقة، وصولاً إلى مبدأ الردّ المعرفيّ.

الدرس الثالث: هنا ركّز هوسرل على حاجة الانسان إلى يقينٍ يتلمّسه في “الردّ النظري المعرفي” الذي سيطر فيه في طبيعته المنهجية عياناً. ومن الضروري “أن نحذر الخلط الكبير بين الظاهرة المحضة على معنى الفينومينولوجيا، والظاهرة النفسية، موضوع العلم الطبيعي النفسي.”]17[ وأضاف، من جهةٍ أخرى، أنّ كلّ معيش نفسي يتوافق، على سبيل الردّ الفينومينولوجي، مع معيشٍ محض، “إنّما يكشف عن ماهيته المحايثة المأخوذة في شكلٍ فرديّ بوصفها معطى مطلقاً”]18[. وبالتالي، كلّ وجود غير محايث، ولا تتضمّنه الظاهرة.. هو معطّل ومعلّق. وكلّ معيش نفسي، في إطار الردّ الفينومينولوجي، إنّما هي المحايثة التي تكشف ماهيّته كونها معنى مطلقاً. والمهم الوصول إلى اعتبار المعرفة الفينومينولوجية معرفةً بالماهية.

الدرس الرابع: “إن نحن وقفنا على مجرّد فينومينولوجيا المعرفة، فإنّ الأمر سيكون متعلّقاً عندئذٍ ب “ماهية المعرفة”… إنّ الأمر لا يخصّ فقط ما هو محايث بالفعل، وإنّما أيضاً ما هو محايث بمعناه القصديّ.”]19[ وقد تناول هوسرل هنا المنهج الفلسفي للتحليل الماهوي. وعلى قدر ما يكون المنهج الفلسفي منتسباً في الأساس إلى معنى نقد المعرفة، فهو غير منفصل عموماً عن عملية نقد العقل. وأنهى الدرس الرابع بقوله إنه من الوهم أن نعتقد أنّ البحث الحدسي يتحرّك داخل دائرة الادراك الباطن. فهناك ضروب كثيرة للموضوع مصحوبة بضروبٍ كثيرةٍ أيضاً للمعطى. ويمكن أن يكون انعطاء الموجود في الادراك الباطن، وكذلك انعطاء الموجود في العلم الطبيعي، إنّما لا يمثّلان إلاّ واحداً من ضروب هذه المعطيات، “فيما تبقى الأخرى، وإن تمّ اعتبارها غير موجودة، معطيات أيضاً، ولا يمكن أن تكون هناك مقابلات لها، ولا أن تتميّز عنها بديهياً إلاّ لكونها كذلك.”]20[

الدرس الخامس: “إن نحن أنجزنا يقينية الفكر، كما قال هوسرل، ثمّ الخطوة التي تليها والمتعلّقة بالحضور البديهي الكلّي…، فهذه الخطوة ينبغي أن تقودنا إلى ما هو أبعد. فحين أدرك لوناً… وأحصل على الظاهرة المحضة للون، أكون أنجزت التجريد المحض، وحصلت على الماهية الفينومينولوجية للون عموماً.”]21[ وقد قابل بين الوجود والماهية، مع الاشارة إلى وجوب التمييز بين نحوَين من الوجود يتّضحان بضربَين من الانعطاء بالنفس عند مجرّد تخيّل اللون. “فإنّ الوجود الذي يجعل اللون واقعاً فعلياً في الزمان لا يُسأل عنه.”]22[ وخلص، في نهاية هذا الدرس الأخير من كتابه، إلى أنه ينبغي تبيّن أن المسألة ذات الأهمية القصوى، إنّما تكمن في إعطاء المعنى النهائي من خلال المعرفة. “كما يجب أن نتبع الهيئات الأساسية للمعرفة بمسارٍ حدسيّ، وكذلك كلّ الهيئات الرئيسة للموضوعات التي تبلغ عندها، كلّياً أو جزئياً، مرتبة الانعطاء، بقصد تحديد معنى كلّ الهيئات المطلوب إيضاحها.”]23[ 

 

من جهةٍ أخرى، قسّم هوسرل الظواهر إلى نوعَين:

  • ظواهر طبيعية: وهي الأشياء الخارجية التي يتمّ إدراكها حسّياً، لتستحيل موضوعاً معرفياً عقلياً.
  • ظواهر عقلية: وهي الأحداث العقلية والنفسية الداخلية التي تظهر في شعور الانسان، ويمكن حدسها بواسطة الاستبطان.

إذاً، في عالم الحسّ، حوادث خاضعة للتبدّل، هي الظواهر التي يحوّلها العقل الانساني إلى ماهيّاتٍ يقينية، من خلال ما يسمّيه هوسرل “الردّ الفينومينولوجي”.

  • أبرز المفاهيم الفينومينولوجية في فلسفة هوسرل

تنطوي فلسفة هوسرل على عددٍ من المفاهيم المركزية التي تُعتبر عناصر لتحليلاته الفينومينولوجية، أبرزها:

  • المحايثة (Immanence): هي كلمة ذات أصلٍ لاتيني إستخدمها الفيلسوف الاغريقي أرسطو Aristote (384-322 ق.م.)، ثمّ برزت في الفلسفة السكولاتية في العصور الوسطى. وفي فكر هوسرل، هي صفة فينومينولوجية أولى للوعي. وهناك لُوَينة (Nuance) بين المحايثة الفعلية الموجودة في التصوّر النفسي أو الطبيعي للمعرفة، والمحايثة الخالصة وهي التي تهب الوجود المطلق والواثق.
  • المفارقة أو التعالي (Transcendance): هي النقيض الواضح للمحايثة. وقصد بها هوسرل الترفّع أو الارتداد من العالم المادي المحسوس، إلى عالم الشعور الداخلي المحض، لنبلغ الجوهر، فتتكوّن الظاهرة فينومينولوجياً.
  • الانعطاء أو المعطى (Le donné): وهنا يظهر الجمع بين فعل الانعطاء نفسه، وبين المعطى أي “ما يكون حاضراً في الذهن قبل تناوله بالمعالجة.”]24[ ويذكر هوسرل الانعطاء في الوعي ذاته، أي في مجال المحايثة الخالصة.
  • الايبوخية أو تعليق الحكم (Epoché): هو مصطلح إغريقي قديم يعني التوقّف عن الحكم أي تعليقه، ووضع العالم مكانياً وزمانياً بين قوسَين. فلا موقف إثبات ولا موقف نفي إزاء الوجود، بل تعليق كلّ الأحكام المسبقة الطبيعية والتاريخية والفلسفية والوجودية، وإخضاعها لفحصٍ نقديّ صارم بحسب نظام الوعي وقوانينه. ويبلغ الأنا المتفلسف بفضل تعليق الحكم “إمكانية بداهة متحرّرة شخصية بصدد الهدف والمنهج. إنّ إرادته تعطّل التقليد، وبذلك تكون له إمكانية نقد وحسم جذريّ ومتحرّر.”]25[ ومع الايبوخية، كتعبيرٍ عن موقف الوجود البشري الطبيعي، تتحرّر رؤية الفيلسوف، بحسب هوسرل، تحرّراً تامّاً “من قيد العطاء المسبق للعالم.”]26[ وينقسم تعليق الحكم في فكر هوسرل إلى قسمَين: التعليق التاريخي: حيث يجري استبعاد مؤقّت لكلّ ما اكتسبه الانسان من نظريات ومعارف بخبرته الواقعية. والتعليق الوجودي: حيث يضع الانسان العالم بكلّ ما يحتويه بين قوسَين كما سبق أن ذكرنا، معلّقاً الحكم مؤقّتاً، ومتّجهاً إلى إدراكٍ مباشر لماهيّته.
  • الماهية (Essence ou Quiddité): ترتبط الماهية في فكر هوسرل بعلم المنطق. ولهذا فإنّ تحديده الفينومينولوجيا بإبعادها عن علم النفس يؤكّد أنّ الظواهر المعطاة ماهوياً مبنيّة على حدسٍ أصليّ وليس حسّياً. إضافةً إلى أنّ الوجود الفردي كظاهرة لا يمكن أن يستحيل معطى تجريبياً إلاّ بإمكانيةٍ ماهوية. فالماهية تُدرك وتُفهم بدون الرجوع إلى أحكامٍ مسبقة. ويكون موضوع الفينومينولوجيا إذاً الماهية، أي المضمون العقلي المثالي للظواهر الذي يدرك إدراكاً مباشراً.
  • التجربة (Expérience): إعتبر هوسرل أنّ الفلسفة التي تلعب دوراً رئيساً في تطوّر الحياة الانسانية، إنما هي تسمو بالتجربة المجدولة على الحكمة. فالتجربة من حيث هي مَلَكة شخصية مشروطة في جوهرها بالأسلوب “الذي بمقتضاه تدع الشخصية نفسها تتأثّر بأفعال تجربتها… وكذلك بتجارب الآخرين بحسب موقفها الخاص منها: قبولاً أو رفضاً.”]27[ وتتناول التجربة في الأساس مجالَين: الأول مجال التجربة الخارجية المرتبطة بقصدية الوعي، والثاني مجال الخبرة الفينومينولوجية حيث يسيطر الوعي المحض. من هذا المنطلق، تحدّث هوسرل عن الأمر المجرّب، وذاك الداخل في التجربة والقابل للتجريب المحايث.
  • الردّ (Réduction): بالنسبة إلى هوسرل، الردّ هو المنهج الفلسفي الوحيد الصحيح في مجال الفلسفة. هو تحوّل من الحياة الطبيعية السابقة على الفكر إلى حياة الوعي الناظرة في ذاتها وماهيّتها نظرةّ تأملية. وهذا المنهج شديد الأهمية تبعاً لمميّزاته وأدواره، فهو منهج جذريّ للتساؤل والنقد والتأمّل الفلسفي. وهو، إلى ذلك، يحرّر كلّ فيلسوفٍ يتبنّاه، كما هو الطريقة المثلى لبلوغ حقيقة الوجود المحايث للشعور. إذاً، يسمح الردّ بتحقيق عملية إدراك العلم كظاهرة، ليس في واقعه الفعلي، بل في واقعه المحايث للشعور. وهو يشمل مرحلتَين: الأولى هي الردّ الفينومينولوجي المتعالي حيث يوضع كلّ العالم الطبيعي بين قوسَين، ويُعلّق الحكم مؤقّتاً (كما ذكرنا في الايبوخية)، لكي نتفلّت من الانغماس فيه، ونتمكّن بعد ذلك من التوجّه إلى الشعور الداخلي. وأمّا الثانية فهي الردّ الصوري الماهوي حيث نقوم بإدراك الصور العقلية وماهيات الأشياء، كما تظهر حيّةً وحقيقيةً في الشعور، لتتحقّق فعلياً المعرفة اليقينية الثابتة للحقائق الممكنة. إذاً، يكون الردّ أو الاستبعاد الفينومينولوجي، في شكلٍ عام، محاولةً لتطهير الوعي من كلّ من الواقعية الموضوعية وتلك الذاتية، بهدف تحرير الأنا من كلّ مصلحةٍ ضيّقة، لتظهر الذات المتعالية الواعية بذاتها.
  • التأسيس (Constitution): قصد هوسرل بمفهوم “التأسيس” إعطاء معنى. فهو ليس عملية إنتاج موضوع ما في العالم، بل العملية التي يتكوّن من خلالها معنى موضوع ما في سياق التجربة. فالتأسيس الهوسرلي هو إعادة تأسيس للوجود الملموس للموضوع، وعودة إلى كلّ ما تمّ نسيانه في الموقف الطبيعي الذي يركّز على الموضوع.
  • الحدس (Intuition): لم يعنِ هوسرل بالحدس العملية التي تستند إلى قدراتٍ خاصة. وكما أننا نحدس، بواسطة إدراكنا الحسّي، الأجسام الخارجية الموجودة فعلياً، فإنّ في إمكاننا كذلك أن نحدس قوانين منطقية أو ماهيات رياضية. فالحدس الفينومينولوجي هو رؤية عقلية للموضوعات والماهيات، وهو شكل عام لعملية الوعي للأحكام والأفكار والدلالات. وهنا يمكننا التحدّث عن الشعور الكلّي الخالص، الشعور في صورته الماهوية وشفافيّته وأفعاله القصدية، الذي يرمي إلى إدراك الأشياء ذاتها كما تظهر في الشعور. وقد اكتشف هوسرل، عبر تحليلاته، أنّ ما يُسمّى كلّياً ليس عملية تجريدية للعقل، وهو حاضر في الخبرة الحسّية ذاتها. هذا الحضور الكلّي في الخبرة الحسّية هو ما سمّاه هوسرل “الحدس المقولي” (Intuition catégoriale)، فميّزه بذلك عن الحدس الحسّي (Intuition sensuelle) الذي يقتصر دوره على تلقّي الانطباعات الحسّية.
  • القصدية (Intentionnalité): هي إحدى أبرز أركان الفينومينولوجيا. هي الطابع المتّصل أساساً بالشعور، وهي السبيل الأمثل للتمييز بين النفسي والفيزيائي، وهي التي تعطي الموضوع المدرَك معناه الوحيد. وقد يكون هذا الموضوع مادياً، أو عقلياً، أو متعلّقاً بالتذكّر أو التخيّل. وينقسم الشعور، في ارتباطه بالقصدية عند هوسرل، إلى نوعَين: شعور محايد وشعور واضع. الأول هو شعور لم يبدأ بعد عملية التحليل القصدي المتبادل بين الموضوع والفعل. أمّا الثاني، فهو الذي يبدأ فعلاً هذه العملية القصدية “لمختلف الظواهر المعرفية (التذكّر… التخيّل… الرغبات) بغرض اكتشاف العلاقة بين فعل القصد وموضوعه.”]28[ إذاً، طبّق هوسرل مصطلح “القصدية” على قصدٍ نظريّ أو عمليّ حرّ ومفهوم عموماً، وبنى القصدية على أساس الوعي الذاتي، فقال إنّ الحكم هو وعي بالشيء، وإنّ الادراك الحسّي هو توجّه قصديّ نحو الشيء.
  • العالم المعيش (Le monde vécu): هو العالم الأول حيث تتشكّل الأرضية الأولى للانسان، ولممارساته الفعلية والممكنة، ولكلّ ما تنجزه الذات الانسانية. فأن نعيش يعني دائماً بحسب هوسرل “أن نعيش في يقينٍ من العالم، أن نعيش يقظين يعني أن نكون يقظين للعالم، أن نكون واعين دائماً وفعلياً بالعالم وبأنفسنا، بصفتنا نعيش في العالم، أن نعيش بالفعل يقين وجود العالم، أن ننجزه بالفعل.”]29[

بعد عرضنا كلّ هذه المبادئ، نودّ الاشارة إلى أنّ هناك شبه إجماعٍ بين الباحثين في فلسفة هوسرل على أنّ الفينومينولوجيا في تفكرّه هي تحديداً المنهج الفينومينولوجي الذي يهدف إلى اكتشاف ماهية الظواهر، وذلك عبر التأمّل الانعكاسي لخبرة الذات المتعلّقة بتلك الظواهر.

رابعاً: مفكّرون وفلاسفة من تلامذة هوسرل

  من تلامذة هوسرل الكثر، إخترنا اثنَين كانا، في رأينا، أكثر المتأثّرين المباشرين بفلسفته:

  1. رومان إنجاردن Romen Ingarden (1893-1970)

فيلسوف بولندي. إضافةً إلى تناوله موضوعيّ علم الجمال والأنطولوجيا، كان فينومينولوجياً واقعياً في وجه المثالية المتعالية لهوسرل. وفي الحقيقة، إعتبره هوسرل من أفضل طلاّبه بعدما درّسه الفلسفة في جامعة غوتينجن (Göttingen)، ورافقه إلى جامعة فرايبورغ (Freiburg)، وقد أنجز أطروحته للدكتوراه تحت إشرافه، وكانت تحت عنوان: “الوجدان والعقل عند هنري برغسون”. كما أنه أوكل إليه مهمّة وضع مقدّمة لكتابه “تأمّلات ديكارتية” في نسخته الأولى الألمانية.

رأى إنجاردن في الفينومينولوجيا مشروعاً فلسفياً متميّزاً، وحاول تطبيقها على الأعمال الأدبية، ولا سيّما في كتابه: “الخبرة بالعمل الفنّي الأدبي” العام 1968. وقد عمد إلى تعديل بعض المفاهيم الهوسرلية بما يتناسب مع رؤيته الفينومينولوجية الخاصة. وأبرز هذه المفاهيم إثنان: التعالي، والقصدية. في ما يخصّ المفهوم الأول، فقد نقله إنجاردن من عالم الفلسفة إلى عالم الأدب، مشيراً إلى انطوائه على بُنيَتَين: واحدة “ثابتة ويسمّيها نمطية وهي أساس الفهم، وأخرى متغيّرة يسمّيها مادّية وهي تشكّل الأساس الأسلوبي للعمل الأدبي. فالمعنى هو حصيلة للتفاعل بين بنية العمل الأدبي وفعل الفهم.”]30[ أمّا في ما يتعلّق بالمفهوم الثاني، وبعدما حاول هوسرل من خلال “القصدية” حلّ النزاع القائم بين الفلسفتَين المثالية والمادية، فقد رأى إنجاردن هنا وجوب إدخال تعديل محدّد، “إذ اعتبر أنّ الموضوع القصدي ينطبق على العمل الأدبي الفني وحده، وليس على الموضوعات الأخرى كالموضوع الطبيعي.”]31[

هكذا نجح إنجاردن في إظهار نظرية التلقّي في فلسفته الفينومينولوجية، وربطها بعملية صياغة العمل الأدبي. وترافق ذلك كلّه مع محاولاتٍ لنقد المثالية في الفينومينولوجيا الهوسرلية، ولا سيّما في كتاب إنجاردن “جدل حول وجود العالم”، وهو كتاب فلسفيّ مهمّ أسّس فيه لاتّجاهات علم الجمال والميتافيزيقيا والأنطولوجيا. وقد ميّز في الكتاب بين أربع لحظاتٍ وجودية: الاستقلال الذاتي والتشريع الخارجي المتّسمان بالوجودية، الأصالة والاشتقاق، التميّز والترابط، والاستقلال والاعتماد.

إقرأ أيضاً: الهُويَّة والهرمنيوطيقا

إلى ذلك، فقد سعى وراء أنطولوجيا فينومينولوجية للفنّ، حيث ميّز، في تحليله العمل الفنّي، بين أربع طبقات: العلامات الخاصّة باللغة، المعاني، الموضوعات الممثّلة، والمظاهر الاجمالية لتلك الموضوعات. وفي الحقيقة، مفهومان إثنان متلازمان يبرزان في علم الجمال الفينومينولوجي لديه: الأول هو مفهوم العمل الفنّي الأدبي، والثاني مفهوم الموضوع الجميل، وقد بحثهما فينومينولوجياً، وعلى مستوييّ النظرية والمنهجية، في كتابَيه: ” العمل الفنّي الأدبي” و “المعرفة بالعمل الفنّي الأدبي”. والعمل الفنّي الأدبي هو موضوع قصديّ خالص، ويتعلّق وجوده حصرياً بقصدٍ خالص. “ولذلك فإنّ حالته في الوجود، حسب تعبير إنجاردن، لها شبه بالموضوع الواقعي، فهي من قبيل “التبعية في الوجود” وبنيته وفقاً لما يمثّله جوهرها، توجد على وجه الاجمال في صورة بناءٍ مرتّب في عددٍ من المستويات، ومشيّد بعددٍ من الطبقات المتغايرة”]32[ المتمايزة عن بعضها البعض. وتجدر الاشارة إلى أنّ هذه الطبقات التي تكوّن العمل الأدبي إنّما تتميّز “بكونها متعدّدة الأصوات في جوهر وجودها، ومختلفة في دائرة ارتباطها، ولكن في إطار وحدة الكلّ الذي من خلاله تكتسب قيمتها ووظيفتها الفنّية والدلالية والجمالية.”]33[ وفي المحصّلة، فقد بنى إنجاردن معطياته كلّها على تحليل عناصر بناء العمل الفنّي الأدبي.

  1. مارتن هايدغر Martin Heidegger (1889-1976)

فيلسوف ألماني. درس في جامعة فرايبورغ تحت إشراف هوسرل، ثمّ أصبح أستاذاً فيها العام 1928. إطّلع هايدغر على مؤلّفات أستاذه، وتعمّق في منهجه الفينومينولوجي، لكنه استبدل مفهوم “التعالي” الهوسرلي بطريقةٍ تستبعد الوعي، ليحلّ محلّه ما سمّاه “الابصار الفينومينولوجي” الذي يسمح لظواهر الوجود بأن تتظهّر بواسطة اللغة.

إلى ذلك، فقد استخدم هايدغر مصطلح “التقويض الفينومينولوجي” حيث تكون المقاربة البحثية للفينومينولوجيا أكثر مباشرة. ويمكن القول إنّ هايدغر حقّق، في الفينومينولوجيا، وإلى حدّ بعيد، تحرّره من الفلسفة السكولاتية والترنسندنتالية، لكنّ “التراجع عن امتياز الذاتية بمعنى الانسانية، هو الذي استتبع انفصاله عن الفينومينولوجيا مع اهتمامها الأساس بالمعطى كما هو معطى.”]34[ كما أنه حاول أن يهب الفهم والتأويل طابعاً عملياً، أساسه أنه ينظر إلى الانسان بصفته الكائن الذي ينجز وجوده، هذ الوجود الذي كان أساسياً في فلسفة هايدغر. من هنا، رأى وجوب الابتعاد عن المفاهيم الميتافيزيقية الترنسندنتالية الموغلة في نسيان الوجود عند هوسرل. وتعمّق الاختلاف أكثر بين الفيلسوفَين عند صدور كتاب هايدغر “الوجود والزمن” (Etre et Temps) العام 1926، ولا سيّما في بدايته، حيث استخدم هايدغر المنهج الفينومينولوجي في تحليله الموجود الانساني لأنّ البحث في “الوجود والزمن”، إنّما ينشأ على قاعدة أسئلة فينومينولوجية. في هذا الاطار، كان طرحه الدازاين (Dasein) الملقى في عالمه الخاص دونما اختيارٍ منه. وقد سجّل هوسرل ملاحظاته بدقةٍ حول هذا الكتاب. إلاّ انّ هايدغر، وعلى رغم التباين الفكري مع هوسرل، إعترف بأنّ فينومينولوجيا هذا الأخير إنّما فتحت أفقاً جديداً في الميدان الفلسفي.

إذاً رفض هايدغر الانخراط في الفينومينولوجيا الهوسرلية، داعياً إلى فينومينولوجيا تأويلية، ولجأ إلى اللغة نظراً إلى دورها المفصلي في فهم الوجود، علماً أنّ لغته تبطن أكثر مما تُظهر، كما أنها تمتاز بخاصيّة الاختراق، على حدّ ما اعتبرت المنظّرة السياسية والفيلسوفة العَلمانية الألمانية الأميركية حنة أرندت Hannah Arendt (1906-1975)، فيغوص من خلالها إلى أعماق الكينونة الراكدة، وهي العامل الذي يُنير تفكيره في الوجود الانساني.

وفي الخلاصة، يمكن التأكيد على أنّ هايدغر لم يأخذ بالفينومينولوجيا باعتبارها مضموناً فكرياً، بل رأى فيها نهجاً يساعد على طرح المسائل الفلسفية وتحليلها، فجاءت صياغته الفينومينولوجية بمثابة تأويلٍ ذاتيّ للحياة.

خامساً: فلاسفة الفينومينولوجيا بعد هوسرل

بعد غياب هوسرل، بقيت نظرياته الفلسفية حاضرةً وحيّة لدى العديد من الفلاسفة الذين تناولوها بتحليلاتهم القيّمة وتقييمهم الموضوعيّ.

  1. ماكس شيلر Max Scheler (1874-1928)

   فيلسوف وعالِم اجتماع ألماني. درس في جامعة يينا (Jena) بين العامَين 1900 و 1906، حيث التقى هوسرل. عُرف بفلسفته للقيم، وكلن مديراً للبحث العلمي الاجتماعي، وأستاذاً للفلسفة في جامعة كولونيا بدءاً من العام 1919.

وكان للمنهج الفينومينولوجي تأثيره الكبير في تحليلاته النفسية والوجدانية للانسان الذي اعتبره ذاتاً حقيقية، مؤكّداً على جانب العاطفة والانفعال لديه. وقد عمد إلى تحليل مجموعة من الظواهر الروحية مثل الاستشعار المتابع، والاستشعار النافذ، والحبّ والكراهية، والزهد والتوبة، والاهتمام… رامياً إلى وضع فينومينولوجيا أخلاقية للعواطف متّصلة بالقيم. فكانت حركته ذات طابع إصلاحي هدفها “تصحيح الثنائيات التي خلّفتها العقلانية الغربية، كثنائية العقل والواقع، أو الذات والموضوع، أو الأنا والآخر… ومحاولة التوفيق بينها.”]35[

من هنا كانت فلسفة شيلر للقيم التي وضعها ضمن تراتبيةٍ هرمية، ناظراً إلى الأخلاق وفق تجربتَين: الأولى رمزية، وتمثّل التجربة اليومية العادية، والثانية وجدانية مباشرة. وجاء تعداده القيم على النحو الآتي: قيم الشخصية وقيم الأشياء، قيم الذات وقيم الغير، قيم الفعل وردّ الفعل، قيم السلوك والقصد والحال، قيم الأساس والشكل والعلاقة، القيم الفردية والأخرى الجماعية، القيم بذاتها والقيم بالتبعية. وهو صنّفها من الأدنى إلى الأعلى بحسب نسبة ارتباطها بالمادة، فكانت المعايير كالتالي: ثبات القيمة (حيث أعطى الحبّ مثلاً على ذلك، بالتمييز بين الحبّ الزائل القائم على المصلحة، والحبّ الحقيقي الذي يمتاز بالديمومة)، ثمّ ما هو ملائم من القيم أو غير ملائم، إضافةً إلى قابلية القيمة للقسمة، ودرجة القناعة وعمقها، والنسبية والمطلقية.

إلى ذلك، سعى شيلر إلى مناهضة التأليه الانساني المفرط “مجتهداً في ترميم صورة الروح في الثقافة الانسانية وغرسها في تربة الميتافيزيقيا المتسامية. لذلك استحضر فكر الإنسية الحديثة، لا سيّما إنسية كنط، ليبيّن أنّ الروح غير النفس، وأنّ القيم ليست مقترنة باختبارات الانسان التاريخية، بل تتجاوز الذات الفردية في تطلّبها الكوني الشامل.”]36[

وأخيراً، من فينومينولوجيته وأنتروبولوجيته وميتافيزيقيته، أخرج شيلر توصيفاً فينومينولوجياً إستثنائياً للأخلاق والقيم. وعلى رغم معارضته هوسرل حول موضوعاتٍ عدّة، إلاّ أنه لطالما أبدى تقديره للمنهج الهوسرلي ضمن التراث الفلسفي في الحضارة الأوروبية.

  1. ألفرد شوتز Alfred Schutz (1899-1959)

  فيلسوف وعالِم اجتماع نمساوي الأصل، أميركي الجنسية. إنطبعت فلسفة شوتز بالفينومينولوجيا وبمنهجية علم الاجتماع، فسعى وراء إنشاء بنية فلسفية للعلوم الاجتماعية، وكان المناصر الأبرز لعلم الاجتماع الفينومينولوجي.

إطّلع، في شكلٍ دقيق، على أعمال هوسرل وتأثّر به، كما بكلّ من الفيلسوف وعالِم النفس الأميركي جيمس William James (1842-1910)، وبالفيلسوف الفرنسي برغسون Henri Bergson (1859-1941)، وبالمفكّر والفيلسوف النمساوي فون ميزس Ludwig von Mises (1881-1973). ودرس التكرار العام للظواهر لأنه اعتبر الحياة اليومية ذات أهمية كبيرة، ما يستدعي تحليلها. كما درس أيضاً أعمال عالِم الاجتماع الألماني فيبر Max Weber (1864-1920)، بهدف تطوير علم الاجتماع التفسيري. وقد حاول شوتز، في إطار تفكّره الفينومينولوجي، دمج الفلسفة المنعقدة على الحدس مع علم الاجتماع، وإعطاء حيّز مهمّ للذاتية الداخلية للاتّجاه الطبيعي، ما جعل لكتاباته تأثيرها المباشر على المناهج البحثية في العلوم الاجتماعية.

وفي مقابل الفينومينولوجيا المتعالية للوعي في فكر هوسرل، عمل شوتزعلى فينومينولوجيا دنيوية للمجتمع. وفي حين أقام هوسرل بنيةً للوعي القصدي، فقد أقام شوتز بنيةً صورية لما سمّاه “عالم الحياة”. وفي كتابه “فينومينولوجيا العالم الاجتماعي” العام 1932، ميّز شوتز بين أربعة أبعادٍ لعالم الحياة: “عالم المعاصرين، وعالم الأسلاف، والمجايلين، والخلف المستقبليين. وبالنسبة إليه، يمكن أن يكون “عالم معاصرينا” بشكلٍ أساسيّ غير شخصيّ ومجهول الهوية؛ ويميّزه شوتز عن العالم الذي نعيش فيه من خلال “المواجهات وجهاً لوجه”. نحن ننتمي إلى الآخرين، قبل أن نتمكّن من فصل أنفسنا كأفراد.”]37[

وشدّد على حضور الآخر في المجتمع، وما يستتبع ذلك من نقاشٍ وتبادل آراء، وحتى تبادل مشاعر قد تكون حبّاً أو كرهاً، إعجاباً أو استعلاء. وما يكوّنه الأفراد بعضهم عن بعض، إنّما ينتظم في ما سمّاه شوتز “سياقات المعنى”. وبناءً على هذه الفكرة، طرح شوتز مفهوم “النمذجة”، حيث يلج مداراً أوسع للتعرّف على تصنيفات الآخر في حياته المجتمعية، ما يشمل: طريقة العيش، العلاقة مع العائلة والزملاء والأصدقاء، والأهداف الثقافية. ومن خلال “نمذجة” سلوك الانسان، يمكن دراسة تأثيرات المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، وذلك عبر عنصر اللغة الذي يعزّز فرص التفاعل.

إذاً، إعتبر شوتز أنّ هناك حقيقة واحدة: “الحياة اليومية للأفراد وللجماعات”، والمدخل إل هذه الحقيقة هو مدخل فينومينولوجي خالص، حيث الفرد هو العنصر الأساس في سياق الفعل الاجتماعي.

  1. موريس مرلو بونتي Maurice Merleau-Ponty (1908-1961)

فيلسوف فرنسي. تأثّر بفينومينولوجيا هوسرل، ووضع كتابه “فينومينولوجيا الادراك” (La phénoménologie de la perception) حيث عرض لمشروعه الفلسفي، واعتبر فكر الفيلسوف عموماً طريقةً لتظهير رؤيته العالم.

وافق مرلو بونتي هوسرل في مسألة قصور الكوجيتو الديكارتي، إلاّ أنه عارضه في مفهوم “الردّ الفينومينولوجي” الذي كوّن ركيزةً أساسيةً في فكر هوسرل. فرأى مرلو بونتي أنّ أهمية هذا الردّ، إنّما تكمن في بلوغ أكبر قدرٍ من الموضوعية، وأعاب على هوسرل “اعتبار أنه يمكننا استخدام الردّ الفينومينولوجي بصفةٍ مطلقة. وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقّق أبداً.”]38[  كذلك فإنّ هذا الردّ الفينومينولوجي تحوّل مع مرلو بونتي، من صيغةٍ تتّسم بالمثالية إلى صيغةٍ لفلسفةٍ وجودية واضحة المعالم. فلم تكن فينومينولوجيا مرلو بونتي إذاً تكراراً لأفكار هوسرل، بل كانت تأثّراً مجدولاً على محاولةٍ تحليليةٍ نقديةٍ موضوعية. فهو رفض جميع الفلسفات الكلاسيكية، وثار في وجه التقليد الفلسفي القديم، معتبراً هذا الرفض وهذه الثورة أمرَين ضروريين لإثبات وحدتنا الوجودية. كما أنه أعطى أهميةً لمفهوم “الجسد” في فلسفته الفينومينولوجية، فميّز بين “الجسد الموضوعي” (Corps objectif) و “الجسد الفينومينولوجي” (Corps phénoménal)، مؤكّداً أنّ “تحليل الجسد هو المؤسّس لكلّ الحياة غير الواعية للشعور.”]39[  فقال بأسبقية الجسد وبتجربته داخل العالم، الأمر الذي يؤسّس “للادراك الفينومينولوجي”. وهذه دعوة إلى إعادة بناء علم الجمال ذاته، “فالماهية والوجود، والخيالي والواقعي، والمرئي واللامرئي، كلّ هذه المقولات يزعزعها فنّ الرسم.”]40[

الإنسان ومفهوم الشخص البشري بين الفلسفة والدين

وفي رأي مرلو بونتي أنّ هوسرل بحث في المعرفة، وهايدغر بحث في الوجود، أمّا هو فارتأى عدم الخضوع لهذه النزعة العقيدية، وكان له مبحث آخر خاص به: فنحن دوماً إزاء “وحدةٍ تركيبية” هي وحدة الوعي المؤدّية إلى وحدة الموضوع، وهي ليست من معطيات التجربة المعاشة، بل هي حصيلة عملٍ تحليليّ دؤوب.

ما كان يشغل مرلو بونتي حقيقةً، ليس الارادة والتجربة فحسب، بل كان أكثر اهتماماً بالحرية التي “تريد الحرية”]41[  والتي عمل على إدخالها في الأوضاع والبواعث الخاصة بالوعي المجسّد وباللاوعي. وكان في آرائه إستحداثياً، فصحيح أنّ الفينومينولوجيا تدرس الماهيات، نعم هي تدرس ماهية الوعي وماهية الادراك. “ولكنّ الفينومينولوجيا هي أيضاً فلسفة تردّ الماهيّات إلى الواقع.”]42[  وقد رأى أنه من الخطأ التمييز بين فعل التفكير وموضوع التفكير، كما فعل هوسرل، وينبغي في اعتقاده أن تكون التجربة المعاشة في المجتمع ومع الآخر أساس تفكيرنا. كما أنه من الخطأ عند هوسرل كذلك إبعاد الذاتية عن وجود الذوات الأخرى. هنا قال مرلو بونتي: “الذاتية هي حضور مباشر في الوجود، وهي أيضاً في اتّصالٍ مع العالم، لا بل هي أقرب ما تكون إلى ذاتها، لأنه لا شيء يقدر على فصلها عن ذاتها.”]43[  من هنا كان رفضه الطابع الهوسرلي المثالي المنفصل عن الواقع في مسألة “القصدية”. فما يهمّ مرلو بونتي بالفعل، في هذا الاطار، هو العالم الواقعي حيث الظواهر الحقيقية. لذلك فقد تقصّد تحويل البحث الفينومينولوجي من الماهية إلى الواقع، وربط الوعي بالواقع المدرك، لأنّ على الادراك أن يكون متّصلاً بالذات المدركة وبالموضوع المدرك سويّةً، بحيث لا تكون أولوية لأحد الطرفَين على الآخر. والادراك الحسّي هو انخراط في العالم من خلال الجسد، الجسد المتّجه نحو العالم. فالانسان “ليس وعياً يقابله العالم، بل هو وعي متجسّد ووجود في هذا العالم.”]44[

وبذلك تتحوّل الفينومينولوجيا “من وصف ظواهر الوعي، إلى وصف ظواهر العالم الواقعي، من خلال التوجّه إلى الوجود في العالم الذي هو وجود متجسّد، ليصبح الجسد موضوع تأمّلات الفينومينولوجيا، بعدما بقي مهمّشاً لمدّةٍ طويلة منذ أفلاطون مروراً بعهد الكنيسة وديكارت وصولاً إلى هوسرل.”]45[

إلى ذلك، كان طرح مرلو بونتي للصمت في الفلسفة الفينومينولوجية. ففي الصمت الأصليّ للوعي “يمكن أن يظهر لنا، ليس فقط ما تقوله الكلمات، وإنّما ما تقوله الأشياء كذلك.”]46[ الأمر الذي يوحي بأنّ مرلو بونتي حاول جاهداً تجاوز الموروثات الفينومينولوجية إلى فينومينولوجيا مميّزة وخاصّة به.

  1. إيمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas (1906-1995)

فيلسوف فرنسي من أصلٍ يهودي. منذ انطلاقته الأولى في عالم الفلسفة، قام فكر ليفيناس على أسسٍ فينومينولوجية، لجهة كونه من أوائل الطلاّب الفرنسيين الذين تتلمذوا على يد المؤسّس هوسرل. وقد ترجم له كتاب “تأمّلات ديكارتية” (Méditations cartésiennes)، وأنجز أطروحته للدكتوراه حول أبرز المفاهيم الهوسرلية الرئيسة، وكانت تحت عنوان “نظرية الحدس في فينومينولوجيا هوسرل” (Théorie de l’intuition dans la phénoménologie de Husserl). ومن أعماله الأساسية أيضاً “لنكتشف الوجود مع هوسرل وهايدغر” (En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger). وطرح ليفيناس الأسئلة الفينومينولوجية في نصوصٍ كثيرة، إلاّ أنه بدأ بعرض فكره الخاص في كتابه “من الوجود إلى الموجود” (De l’existence à l’existant).

إعتبر ليفيناس أنّ مفهوم “التعالي” في الفينومينولوجيا إنّما هو ظاهرة متّصلة بمنطق المحايثة الهوسرلية، كونه منطقاً منعقداً على مَلَكّة المعرفة الواعية. ورأى أنّ معرفة الموضوع هي غاية قصدية الوعي المتعالي، وهو ليس تعالياً حقيقياً، بل هو نوع من ارتداد الذاتية إلى ذاتها، ما يجعلها “تسقط في النفسانوية (Le psychologisme) التي تسعى إلى مجاوزتها كلّ مرّة.”]47[

وفي كتابه “نظرية الحدس في فينومينولوجيا هوسرل”، تمحّص جيداً في الأبحاث الهوسرلية حول الحدس الادراكي، وخاصيّة القصدية، وتصورّ الوعي والعالم المعيش… وسواها من المفاهيم. وقال: “كلّ إدراكٍ فهو إدراك لشيء مدرك، وكلّ رغبةٍ فهي رغبة في شيء مرغوب، وكلّ حكمٍ فهو حكم ب “حالٍ ما” نقول فيها شيئاً، إلى غير ذلك. وعمّا قريب، فنحن سوف نبرز الفائدة الفلسفية لتلك الخاصية للوعي، وأيّ قلبٍ عميقٍ هي تأتي به لمقولة الوعي نفسها.”]48[

وقد تبنّى ليفيناس رؤيةً فينومينولوجيةً خاصة به، لا تتوقّف عند حدود الموجود، بل تحاول التمركز في نقطة الأخلاق الخالصة والنزعة الانسانية. فكان تأكيده على الجانب الحيّ في الانسان إمتداداً تطوّرياً لفينومينولوجيا هوسرل عبر “إعطائها بعداً أخلاقياً ومساحةً لتقبّل الغير بعيداً عن سجن الانسانية في وهم الذات.”]49[  هذا الغير أو الآخر، ربطه ليفيناس بالميتافيزيقيا الأخلاقية للكتاب المقدّس وللتقاليد الاجتماعية، مشدّداً على انّ الآخر أعلى من الذات ومتقدّم عليها. فكان بحقّ صاحب “إتيكيا الغيرية”. فالآخر ليس نتيجة تأمّلاتٍ أو تمثّلاتٍ ترنسندنتالية، وليس موضوعاً لمعرفةٍ موضوعية كما أراده هوسرل. الآخر هو الأنا التي تفكّر وتتأمّل، وإنّ لقاء الأنا مع الآخر لا يتبدّى في نظامٍ أنطولوجيّ بل في نظامٍ أخلاقيّ. ولتأكيده هذه الفكرة، أعطى ليفيناس مثلاً عن قتل الآخر، لأنّ عدم إمكانية القتل ليست واقعية بل أخلاقية، وشدّد على رؤية وجه الآخر لأنّ النظر الأخلاقي إنّما يُقاس في الوجه. هكذا، يصبح الانسان قادراً على احترام غيرية الآخر بدون إغراقه في هويّة الأنا.

إلى ذلك، ثمّن ليفيناس محاولات هايدغر التي جدّدت، ليس المنهج الفينومينولوجي الهوسرلي فحسب، بل دخلت عمق مضامين الفلسفة ذاتها، وجعلت من الفينومينولوجيا أنطولوجيا في تحليلاته الوجودية. إلاّ أنه، وفي تقييمه الفكر الهايدغري، شدّد مجدّداً على اعتباره الأخلاق “فلسفةً أولى”، تفتح الهوامش للوجود الانساني بكلّ ما يشتمل عليه من تمايزاتٍ واستثناءات.

وكانت غاية ليفيناس تكمن أخيراً في محاولة إنقاذ الفينومينولوجيا من الرواسب الاغريقية المرتكزة على اللوغوس (Logos)، ثمّ اعتماد منهج ممكن لفكرة التعالي “بما هو تعالي الآخر أو اللانهاية الذي لا يقبل الاختزال ضمن منظومة، ولا يروم الارتداد إلى كلّية شموليّة مغلقة.”]50[ 

  1. جان-بول سارتر Jean-Paul Sartre (1905-1980)

  فيلسوف وروائي وناقد أدبي وناشط سياسي فرنسي. في ظلّ الأجواء الفرنسية التي كانت عابقةً، خلال القرن العشرين، بتأثيرات المذاهب الفلسفية المختلفة، إطّلع سارتر على الفينومينولوجيا الهوسرلية، بعدما شدّه خصوصاً مفهوم “القصدية” في فكر هوسرل، إضافةً إلى عبارته المعروفة “كلّ وعيٍ هو وعي بشيءٍ ما”، حتى انه اختار في كتابه “الوجود والعدم” (L’être el le néant) عنواناً فرعياً “محاولة لأنطولوجيا فينومينولوجية” (Essai d’ontologie phénoménologique). واعتبر سارتر الفينومينولوجيا فلسفة واقعية، والقصدية الكامنة فيها كفيلة بالانقاذ من الغرق في أعماق الوعي. (وكان قد كتب مقاله الشهير عن “القصدية” العام 1934، قبل أن يتمّ نشره العام 1939).

في الواقع، صحيح أنّ ليفيناس أدخل الفينومينولوجيا إلى فرنسا، إلاّ انّ سارتر كان، وبشهادة مرلو بونتي ذاته، من عرّف بالفينومينولوجيا الهوسرلية والهايدغرية أيضاً في الأوساط الفكرية الفرنسية. وقد أراد أن يُخرج التفكّر الفلسفي الفرنسي من العباءة الديكارتية والكنطية، ومن التأرجح بين الواقعية والمثالية، فتعمّق في ما كتبه كلّ من ليفيناس وهوسرل، وتكوّن لديه إحساس، لا بل ثقة، بقدرة الفينومينولوجيا على التعامل مع قضايا الواقع المعاش، على رغم اعترافه بالكمّ من الغموض المسيطر في مؤلّفات هوسرل.

وكان اعتراف سارتر الشهير: “لقد أخذني هوسرل، وأصبحت أرى كلّ شيءٍ من خلال فلسفته.”]51[  وربّما كان التأثير الأول المباشر لهوسرل في كتاب سارتر “التخيّل” (L’imagination). فبعد اطّلاعه المعمّق على غالبية مؤلّفات هوسرل، إتّخذ سارتر من المنهج الفينومينولوجي إحدى قواعد فلسفته. وفي هذا الكتاب، إعتبر سارتر الصورة نمطاً من أنماط الوعي، فهي أيضاً وعي بشيءٍ ما، كما أدخل الوصف الفينومينولوجي على بنية الصورة ذاتها. وفي كتابه “المتخيّل” (L’imaginaire)، إعتبر سارتر الخيال أحد أبنية الشعور الجوهرية، والشرط الرئيس لوجوده، مضيفاً أنّ للصورة دوراً مهماً في الحياة النفسية، ووظيفة رمزية أو تمثيلية. وفي دراسته “التخيّل” و “المتخيّل”، إعتمد سارتر منطلقاً فينومينولوجياً واضحاً، فميّز بين المفهومَين المذكورَين وبين الادراك الحسّي، مؤكّداً اختلاف القصد في الحالتَين، ففي حالة التخيّل يتناول الوعي موضوعه بوصفه غائباً، أمّا في حالة الادراك فيكون الموضوع حاضراً. كما أكّد، في السياق نفسه، أنّ الانفعال، كما الوعي، هو انفعال بشيءٍ ما، وللآخر دور في هذا الانفعال عبر أنواعٍ عدّة من الأحاسيس كالحبّ والكراهية والخجل والخوف…

إلاّ انّ هذا الولاء الكلّي للفينومينولوجيا الهوسرلية لم يدم بالفعل طويلاً. فبرز الموقف السارتري النقدي، وكان إعلانه اتّساع الهوّة بينه وبين هوسرل شيئاً فشيئاً، “لأنّ فلسفته كانت تسير نحو المثالية، الأمر الذي لم يعد في إمكاني تقبّله.”]52[  كما قال سارتر. وقد أخذ عليه “عدم معرفته بالطابع الجوهري للقصدية التي تتحدّد في انّ القصدية ليست حتمية نفسية بسيطة، ولكنها هي التي تحدّد وجود الوعي.”]53[ وفي مكانٍ ما، نعته بالانغماس في المثالية الكنطية، وبإفراغ الوعي من محتواه خدمةً للتعالي.

لماذا نَدْرس الفلسفة في “كلية الآداب ويدرسها الألمان في “كلية الفلسفة“؟

وتجدر الاشارة إلى أنّ سارتر خصّص فصلاً كاملاً في “الوجود والعدم” لتقييم المنهج الفينومينولوجي. ورفض النظريتَين المثالية والتجريبية للأنا، مطلقاّ نظريته القائلة بالأنا الموجود في العالم ومع الآخر. كما وصف تحليل هوسرل الظواهر مجرّد وصفٍ للمظهر، فيما كان هذا التحليل لديه نوعاً من الجمع بين النسبيّ والمطلق، أي بين الوجود والظاهرة. هذا الوجود الذي كان أساسياً في فلسفة سارترالوجودية لم يكن صفةً ولا مجرّد معنى للموضوع، والموضوع “لا يحجب الوجود، لكنه لا يكشف عنه، إنه لا يحجبه لأنه من العبث أن نبعد بعض صفات الموجود من أجل وجدان الوجود خلفه، ولا يكشف عنه، لأنه من العبث أن نتوجّه إلى الموضوع بغية إدراك وجوده.”]54[   وقد انصبّ اهتمام سارتر، في فينومينولوجيته الوجودية، على القول بالوجود بشقّيه: في ذاته، ولذاته، وبفكرة الاتّحاد بين الوعي وموضوعاته.

يمكن الاستنتاج أخيراً أنّ سارتر كان منبهراً بدايةً وبحقٍ بفلسفة هوسرل، إلاّ أنّ هذا لم يمنعه من ممارسة حقّه النقديّ في شأن بعض نظرياته وأفكاره. وعلى رغم ذلك، رأى بعض النقّاد أنّ سارتر إستمرّ هوسرلياً أكثر من هوسرل نفسه.

  1. بول ريكور Paul Ricœur (1913-2005)

  فيلسوف وعالِم إنسانيات وناقد إجتماعي وسياسي فرنسي. تُرجمت مؤلّفاته ونوقشت عبر العالم نظراً لأهميتها وشموليتها. قدّم أطروحته للدكتوراه العام 1950 حول “فلسفة الارادة” وكانت موسومةً بالفكر الفينومينولوجي. وكان للقائه بالفيلسوف الفرنسي الوجودي مارسيل Gabriel Marcel (1889-1973) في جامعة السوربون الأثر الكبير على حياته كفيلسوفٍ وكصديقٍ مدى الحياة.

كان أحد ممثّلي التيّار التأويلي أو الهرمنيوطيقا (Herméneutique)، كما كان مهتمّاً بالبنيوية (Structuralisme) التي تفسّر عناصر الثقافة الانسانية عن طريق علاقتها مع نظامٍ أوسع معيّن. تميّز ريكور بانفتاحه على الفكر التحليلي الألماني، والبراغماتي الأنكلوسكسوني، والتأمّلي الفرنسي. وعُرف ب “فيلسوف الحوار”، وكان يرمي إلى بناء فلسفةٍ تتيح لذاكرة الانسان عدم نسيان الماضي، بدون أن تقفل الباب أمام خاصيّة العفو. وكان يسعى، في مذهبه التأويلي، إلى اكتشاف المعنى الكامن خلف ما هو ظاهر، وإلى السعي وراء فهمٍ أفضل للذات والآخر والعالم. وكان يقول إنه ليس قريباً من نفسه، لكنه دائماً في علاقةٍ تأويلية، كما كان على قناعةٍ بأنه لا يوجد تحليل بنيوي من دون عقلٍ تأويليّ لتحليل المعنى.

وقد عمد ريكور في كتابه “في مدرسة الفينومينولوجيا” (A l’école de la phénoménologie)، ومنذ بداية تفكّره الفلسفي، إلى تحليل فلسفة هوسرل وتقييمها، وإلى إبراز مكامن القوة في منهجه الفينومينولوجي عبر الاقرار بعدم اختزالية الانسان في مجرّد موضوعاتٍ للبحث والمعرفة. هذا إلى جانب تأثّره بهايدغر كذلك، ما سهّل عليه مهمّة الاسهام في تفعيل الحركة الفينومينولوجية منذ خمسينيات القرن العشرين، وهو الآتي من عالم الأنتروبولوجيا الفلسفية التي تركّز على أنّ معرفة الذات، إنّما تأتي من خلال العيش مع الآخر وعلاقتنا به. فيجب، في رأيه، أن نقول عن الذات ما يقوله الانجيل عن النفس: يجب إضاعتها من أجل إنقاذها. “يجب إضاعة الوعي من أجل العثور على الذات، وهو ما سمّاه “الكوجيتو المجروح”، أي الكوجيتو الذي يطرح نفسه، ولكن لا يمتلك نفسه.”]55[  إلى ذلك، فقد ترجم ريكور كتاب هوسرل “أفكار إرشادية من أجل فينومينولوجيا وفلسفة فينومينولوجية محضة” (Idées directrices pour une phénoménologie et une philosophie phénoménologique pure)، والمعروف أيضاً تحت عنوان “Ideen I “. ومع تبنّيه المنطلقات الفلسفية الفينومينولوجية، تصدّى للنزعة الوضعية التي كانت مسيطرة على ميادين عدّة في الدراسات الانسانية. وقد أراد ريكور، كما هوسرل، إعادة الاعتبار إلى الانسان كذاتٍ مفكّرة، وككائنٍ ينبغي أن يمتلك المعرفة والحرية، على حدّ اعتباره.

أضف أنّ ريكور ميّز بين الأخلاق الأرسطية، وأخلاق الواجب الكنطية، ليخرج بمفهومٍ للعدالة قائم على رفع الظلم وتطبيق الانصاف في شكلٍ فعليّ وفاعل. وعلى رغم إقراره بأنّ الذات ليست كينونة ثابتة ومصدراً للوعي، إلاّ أنه أبى التقليل من دورها تجنّباً للمخاطر الأخلاقية والسياسية. فالانسان “بذاته” مسؤول تجاه نفسه وتجاه الآخر. وكان يعتريه نوع من القلق حول مسألة الأخلاق على المستويات الشخصية والاجتماعية والسياسية، ما انعكس حكماً على كتاباته في شأن العدالة والسلام في العالم.

 

سادساً: تأثير الفينومينولوجيا الهوسرلية في الفكر العربي المعاصر

كان للفينومينولوجيا أثرها لدى العديد من المفكّرين العرب المعاصرين، نذكر من أبرزهم اثنَين:

  1. حسن حنفي (1935-2021)

  مفكّر وفيلسوف مصريّ. حصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون، برسالتَين قام بترجمتهما إلى العربية ونشرهما العام 2006 تحت عنوان “تأويل الظاهريات” و “ظاهريات التأويل”.

أراد حنفي دراسة المنهج الفينومينولوجي بهدفيةٍ إصلاحيةٍ وسط أزمات اغتراب الانسان وتهميش شخصه وقدراته، لا سيّما في العالم العربي، وفي ظلّ الاهتمام العربي الخجول بالفلسفة الفينومينولوجية. ووضع دراستَين في هذا الاطار في مجلّة “قضايا معاصرة”: “الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية” و “فينومينولوجيا الدين عند هوسرل”. كما تناول فكرة “الله” في فلسفة هوسرل، فاستنتج أنّ الله لديه “موضوع حضاريّ… كتطوّر وكفاية واكتمال.”]56[ وبنى نظريته على الوعي بأبعاده الثلاثة: التاريخي، والنظري، والعملي، باعتبار أنّ الوعي من الأركان الأساسية للمنهج الفينومينولوجي.

وتمرّ فينومينولوجيا الدين، في فكر حنفي، بستّ مراحل: “اللغة من أجل إعطاء الأسماء، التجربة الحيّة من أجل إدخال الكلمات فيها، ردّ مضمون التجربة من أجل رؤية ما يظهر منها وينكشف عنها، إيضاح الرؤية، فهم ما يتجلّى وما ينكشف، الشهادة مجابهةً مع الواقع.”]57[  وقد استنتج أنّ هذه الفينومينولوجيا هي التي بحركتها، تساعد في التفلّت من عقيدية اللاهوت، ومن النزعة التاريخية التي يعتمد عليها هذا اللاهوت، كما تخضع النصوص المقدّسة لبحوثٍ لغويةٍ محكمة، فهي إذاً الأقدر على تناول المسائل الدينية.

من جهةٍ أخرى، كان حنفي يهدف، في فينومينولوجيّته، وعبر إدخال بعض التعديلات على المذهب، جعله أكثر قبولاً في العالم العربي والاسلامي، مع إقراره الواضح بتداخل الثقافتَين الغربية والعربية في أذهان العرب جميعاً، حتى وإن ادّعى البعض عدم التأثّر بالغرب، أو سعيه إلى ذلك، في ما يخصّ الفينومينولوجيا أو سواها من التيّارات الفلسفية. وكانت الفينومينولوجيا، في فكر حنفي، إلى ذلك، نوعاً من الحلّ لمعالجة أزمة التراث العربي، علماً أنه كان يعتبر “أنّ العامل الأساسي في استمرار التراث في حضارةٍ من الحضارات، إنّما هو العامل النفسي، وليس العامل المعرفي الصرف، وليس العامل الاجتماعي.”]58[  فأراد أن يجدّد الوعي بالواقع، وأن يؤسّس لعلمٍ جديدٍ يصف به هذا الواقع، كماضٍ يتحرّك، ويصف به الماضي كحاضرٍ معيش، بغية التقاط تجانسٍ في الزمان ووحدة التاريخ، وبغية التوصّل إلى بناء فهمٍ فينومينولوجيّ جديد لمفاهيم الله والانسان والعقل والتاريخ. هكذا أعلن حنفي عن خطّه الفينومينولوجي، مركّزاً على عامليّ الوعي والشعور، وأراده منهجاً طبيعياً وتلقائياً. وتحدّث عن منهج “تحليل الخبرات” الموجود في كلّ الحضارات، حيث العالم المدرك المعطى في الشعور، وحيث النصوص الشعرية والدينية تصف التجارب الحيّة للشعراء والأنبياء، وحيث “الأحزان والأفراح والانكسارات والانتصارات.”]59[

كان حسن حنفي، ولا سيّما في تحليلاته الفينومينولوجية، وعلى حدّ قول أحد تلامذته الكاتب والباحث المصري كريم الصيّاد (1981-) “من أكثر المفكّرين العرب المعاصرين إثارةً للجدل، إذ هو عَلمانيّ وإسلاميّ، ومثاليّ وماديّ، وظاهراتيّ وجدليّ، وتكوينيّ وبنيويّ، وقد حرص.. دائماً على ألاّ يقبل التصنيف، كما صرّح لنا في إحدى محاضراته بقسم الفلسفة بجامعة القاهرة.”]60[       

  1. إسماعيل راجي الفاروقي (1921-1986)

  مفكّر وباحث وفيلسوف فلسطيني. كان مهتمّاً بالمنهج الفينومينولوجي في دراسة الدين، إلاّ أنه أجرى تقييماً لإيجابيات هذا المنهج وسلبيّاته، واعتبره غير كافٍ لدراسة الظاهرة الدينية المحتاجة لما سمّاه “ما وراء الدين”. وهو كان، في الواقع، أوّل من طبّق هذا المنهج في دراساته حول الاسلام، ولا سيّما في مؤلّفه “أطلس الحضارة الاسلامية” حيث اتّبع الطريقة الفينومينولوجية في دراسة الاسلام في شكلٍ عام.

ففي رأيه، ينقسم الباحثون في الحضارة الاسلامية بين من يطرح المسألة من الناحية الجغرافية، ومن يطرحها من الناحية الزمنية. وهو فضّل على هذين الطريقَين طريقاً ثالثاً هو المنهج الفينومينولوجي. ويمكن معالجة هذه المثالب في الطريقة الفينومينولوجية التي تتطلّب من المراقب أن يترك الظواهر تتحدّث عن نفسها بدون أن يقحمها في إطارٍ فكريّ يقرّر سلفاً، كما يترك صورة الجوهر الذهنية تنسّق المعلومات أمام الفهم، فتعزّز صدقيّتها بها.

وقد استعان الفاروقي في تطبيقه فينومينولوجيا الدين على الحضارة الاسلامية خصوصاً بأفكار وأعمال الفيلسوف وعالِم اللاهوت والسياسيّ والأستاذ الجامعي وعالِم الآثار الهولندي فان دير ليو Gerard van der Leeuw (1890-1950)، في ما يتعلّق بموضوعات الفكر والتعبير.

فكان أن استعرض ديانة العرب قبل الاسلام، ثمّ اليهودية والمسيحية والاسلام من خلال مصطلحيّ “الجوهر والمظهر”، وتناول المظهر في الفكر والفعل والتعبير عبر الفنون والآداب والهندسة والعمارة.]61[

سابعاً: نظرة تقييمية في المنهج الفينومينولوجي الهوسرلي

  كانت الفلسفة، قبل هوسرل، في وضع تصارعٍ فكريّ حقيقيّ بين نزعةٍ وضعيةٍ تجريبيةٍ تنعقد على النسبية والموضوعية والعلموية، وبين نزعةٍ ذاتيةٍ لاعقلانيةٍ تفرض نفسها بدون حججٍ فلسفيةٍ حاسمة ودامغة.

وسط هذا الصراع الجدّي الذي شهده القرنان التاسع عشر والعشرون في أوروبا، ولدت الفينومينولوجيا الهوسرلية محقّقةً صدمةً إيجابيةً للبعض، وشبه سلبية للبعض الآخر الذي عزم، إمّا على رفضها، وإمّا على تعديلٍ نسبيّ فيها، في ظلّ أجواء كانت تنبئ بخطورة تحويل الانسان إلى مادةٍ للدراسات التجريبية.

وبما أنّ هوسرل سلك سبيل التأمّل العقليّ الذاتي القائم على الغوص في ثنايا التعالي، فقد أخذ بعض النقّاد عليه اعتماده هذه الذاتية لأنها، في رأيهم، تنطبق على ماهيّات أشياء بسيطة، وتتعثّر في دراسة ظواهر الحياة الاجتماعية الأكثر تعقيداً، لبعدها عن التحقّق العلميّ التجريبيّ.

إلاّ أنّ هوسرل بقي على اقتراحه وضع العالم بين قوسَين بهدف تحليل الظواهر الحقّة لشعورنا، لتكون الفينومينولوجيا الفلسفة الوحيدة الجذرية بحقّ. لقد أراد ابتكار نسق فلسفي جديد، يساعد العقل على الانعتاق من الأوهام وذيولها، لينفتح على مفاهيم مستحدثة وقابلة للتطبيق الفعليّ.

وهذا ما تلمّسه الوجوديون المتأثّرون بالفينومينولوجيا، فاعتبروا الوصف الفينومينولوجي الخطوة الفضلى في منهج هوسرل، رافضين مفهوم “الردّ” غير القابل للتحقّق في رأيهم. فتعليق الحكم، وبالتالي الابقاء على الأنا المتعالي فقط، هو أمر مستحيل علىى الانسان الذي يشكّل جزءاً من هذا العالم.

وتجدر الاشارة إلى أنّ بعض النقّاد العرب اعتبروا المنهج الفينومينولوجي وليد الحداثة الغربية، وغير قادر على تفسير الظواهر الدينية، يُضاف إلى ذلك صعوبة المصطلحات المستخدمة في هذا المنهج وغموضها الكامن في الكثير من الأحيان، الأمر الذي دفع حسن حنفي إلى القول إنّ “الفينومينولوجيا مثقلة بلغتها، غمضت مقاصدها، وقلّ رضوخها بسبب تعقّد مصطلحاتها، وطويت بداهة اختياراتها داخل جهاز اصطلاحيّ مثقل.”]62[  ومن الضروري، على حدّ تعبيره، ضبط قواعد المنهج الفينومينولوجي “وترتيبها ضمن نظامٍ واضح، من أجل إمكانية تطبيقها.”]63[

  في جميع الأحوال، يكفي في تقييم هوسرل تحديداً، ما قاله فيه الفيلسوف والأستاذ الجامعي الألماني لوفيث Karl Löwith (1897-1973) : “دخلتُ صالة الدرس، ففوجئتُ بأنّ هوسرل يواصل درسه بالطريقة نفسها، بل بنفس الهدوء الفلسفي القاتل، وكأنه كان يريد أن يُشعر من بقي من طلاّبه بأنه لا يوجد ما يمكن أن يُزعج البحث العلميّ، حتى ولو كان حرباً كونيةً مهلكة كالحرب العالمية الأولى.”]64[ 

هذا ما كان عليه هوسرل: رجل علمٍ حقيقي، متّسم بنوعٍ متميّز من الراديكالية الفكرية التي برزت في شكلٍ خاص في المحاضرة التاسعة والعشرين من كتابه “فلسفة أولى” (Philosophie première)، حيث أراد للفلسفة أن تكون بدايةً جديدةً لمنهجٍ جديد.

وفي اعتقادنا أنّ الدروس الخمسة التي أطلقها أضحت قواعد للفينومينولوجيا من بعده، وأنّ المفاهيم التي اعتمدها غدت مبادئ أساسية، شرع البعض من الفلاسفة في الغرف منها كما هي، فيما عمد البعض الآخر إلى غربلتها وصقلها بما يتناسب مع تيّاراتهم الفكرية.

 

خاتمة

  لم يكن سهلاً الطريق الذي تقصّد هوسرل سلوكه في منهجه الفينومينولوجي، فأغرق نفسه غرقاً إرادياً وإيجابياً في عالمٍ من المفاهيم والمصطلحات التي تستمرّ إلى اليوم موضع تقييمٍ نقديّ، يتراوح بين الايجابية والسلبية.

من المحايثة والمفارقة، إلى الانعطاء والايبوخية، إلى التجربة والردّ الفينومينولوجي، إلى الحدس والقصدية والعالم المعيش… نجدنا أمام وعيٍ مقصودٍ وموجّه في فلسفة هوسرل، يدفعنا إلى ختام دراستنا بطرح السؤال ببساطةٍ مطلقة: هل تمكّنت الفينومينولوجيا عموماً، ومنهجية هوسرل الفينومينولوجية في شكلٍ خاص، من أن تكون “علماً كلّياً” للمعرفة الانسانية كما أرادها، وأن تضعنا على الدرب الفلسفي الأمثل المنعقد على الصدقيّة العلمية والجرأة المعرفية، بلوغاً إلى تحديد هويّتنا الانسانية التائهة اليوم للأسف على أرض الواقع الموسوم باللاانسانية؟!

 

المراجع:

]1[ – جميل صليبا، المعجم الفلسفي، بالألفاظ العربية والفرنسية والانكليزية واللاتينية، الجزء الثاني، بيروت، لبنان، دار الكتاب اللبناني، 1982، ص. 35.

]2[ –  André Lalande, Vocabulaire technique et critique de la philosophie, Paris, P.U.F., 1986, p. 769.

]3[ – جميل صليبا، المعجم الفلسفي، مرجع مذكور، ص. 35.

]4[ – المرجع نفسه.

]5[ – المرجع نفسه، ص. 36.

]6[ – مشير باسيل عون، “الفلسفة والحياة اليومية”، آفاق فلسفية، Philosophical Horizons ، 30 أيار 2021.

]7[ – جميل صليبا، المعجم الفلسفي، مرجع مذكور، ص. 30.

]8[ – المرجع نفسه، ص. 513.

]9[ – Peter Kunzmann, Franz-Peter Burkard…, Atlas de la philosophie, Librairie générale française, Paris, 1993, p. 155.

]10[ – جميل صليبا، المعجم الفلسفي، مرجع مذكور، ص. 36.

]11[ – Joseph J. Kockelmans, “Biographical Note” per Edmund Husserl, at 17-20, in his edited Phenomenology. The philosophy of Edmund Husserl and its interpretation, 1967.

]12[ – Edmund Husserl, L’idée de la phénoménologie, Traduit de l’allemand par Alexandre Lowit, troisième éd., Cll. Epiméthée, P.U.F., Paris, 1984, p. 41.

]13[ – Ibid, p. 37.

]14[ – Ibid, p. 46.

]15[ – Ibid, p. 51.

]16[ – Ibid, p. 52.

]17[ – Ibid, p. 68.

]18[ – Ibid, p. 69.

]19[ – Ibid, p. 79.

]20[ – Ibid, p. 89.

]21[ – Ibid, p. 92.

]22[ – Ibid, p. 95.

]23[ – Ibid, p. 102.

]24[ – جميل صليبا، المعجم الفلسفي، مرجع مذكور، ص. 394.

]25[ – المرجع نفسه، ص. 241.

]26[ – إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجية الترنسندنتالية، ترجمة إسماعيل المصدق، بيروت، المنظمّة العربية للترجمة، 2008، ص. 614.

]27[ – إدموند هوسرل، الفلسفة علماً دقيقاً، ترجمة محمود رجب، القاهرة، المركز القومي للترجمة، الطبعة الثانية، 2009، ص. 86.

]28[ – أوس حسن، الفينومينولوجيا عند هوسرل، middle-east-online.com ، 27 آذار 2021.

]29[ – إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجية الترنسندنتالية، مرجع مذكور، ص. 229.

]30[ – بشرى موسى صالح، نظرية التلقّي، أصول وتطبيقات، المركز الثقافي العربي، المغرب، الطبعة الأولى، 2001، ص. 35.

]31[ – ناظم عودة خضر، الأصول المعرفية لنظرية التلقّي، دار الشروق، الأردن، الطبعة الأولى، 1997، ص. 81.

]32[ – محمد المعطي القرقوري، رومان إنجاردن والاستطيقا الفينومينولوجية، أنفاس نت، 21 كانون الثاني، 2023.

]33[ – Roman Ingarden, L’œuvre d’art littéraire, Traduit par Philibert Secrétan, France, L’âge d’homme, 1983, 44.

]34[ – هربرت سبيغلبرغ، الفينومينولوجيا الهرمينوطيقية عند مارتن هايدغر، بحوث ودراسات، 30 يناير، 2023.

]35[ – منال محمد خليف، “فينومينولوجيا القيم المبتورة”، رؤية تحليلية لأفكار شيلر ونقده لكنط وهوسرل”، مجلّة الاستغراب، العدد 27، ربيع-صيف 2022.

]36[ – مشير باسيل عون، “ماكس شيلر وأزمة الانسان المعاصر”، آفاق فلسفية، Philosophical Horizons ، 5 تشرين الأول 2021.

]37[ – ديرموت موران، فينومينولوجيا العزلة: كيف يرى هوسرل وهايدغر حالتنا الاجتماعية، ترجمة سارة بنت مسلط البقمي، atharah.net ، 9 كانون الثاني 2021.

]38[ – لاتي حاج أحمد، دراسة حول فينومينولوجية هوسرل ومرلو بونتي، مجلّة دراسات إنسانية واجتماعية، emarefa.net، 16/06/2021.

]39[ – المرجع نفسه.

]40[ – Maurice Merleau-Ponty, L’œil et l’esprit, Paris, 1984, p. 35.

]41[ – Maurice Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception, Paris, Gallimard, 1945, p. 520.

]42[ – Ibid, p. 1.

]43[ – Maurice Merleau-Ponty, Le visible et l’invisible, Paris, Ed. Gallimard, 1964, p. 253.

]44[ – Maurice Merleau-Ponty, Sens et Non sens, Paris, Ed. Gallimard, 1966, p. 98.

]45[ – فينومينولوجيا موريس مرلو بونتي، Philo-ibnosina kénitra ، 20 تشرين الأول 2021.

]46[ – Maurice Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception, op.cit, p. x.

]47[ – عمر بدري، ليفيناس والتيّار الفينومينولوجي، Platform. Almanhal.com.

]48[ – Emmanuel Levinas, Théorie de l’intuition dans la phénoménologie de Husserl, Paris, Ed. Vrin, 2000, p. 16.

]49[ – د. غيضان السيّد علي، التجلّي المقدّس لوجه الآخر في فلسفة ليفيناس، مجلّة الآداب والعلوم الانسانية،fjhj journals. Esk.eg. 2018.

]50[ – عمر بدري، ليفيناس والتيّار الفينومينولوجي، مرجع مذكور.

]51[ – Jean-Paul Sartre, Les carnets de la drôle de guerre, Ed. Gallimard, 1983, p. 225.

]52[ – Ibid, p. 226.

]53[ – مجدي عبد الحافظ، دور الفينومينولوجيا في أنطولوجيا سارتر، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، www.mominoum.com، فبراير 2022.

]54[ – جان-بول سارتر والتأسيس الفينومينولوجي للأنطولوجيا، جامعة أبو بكر بلقايد، تلمسان، الجزائر، كلّية العلوم الاجتماعية والانسانية، asjp.cerist.dz ، (عن: جان-بول سارتر، الوجود والعدم، ص. 19).

]55[ – فتحي المسكيني، “هيجل “بالنسبة إلينا”: مدخل إلى كتاب فينومينولوجيا الروح، مجلّة “حكمة”، hekmah.org، 9 تشرين الثاني 2017.

]56[ – بدر الدين مصطفى أحمد، الظاهريات في فكر حسن حنفي، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، www. Mominoum.com، 29/06/2017.

]57[ – تهافت الفكر الفينومينولوجي، مركز الأبحاث العقائدية، لبنان، aqaed.net .

]58[ – كريم الصيّاد، المنظور النقدي في مشروع حسن حنفي، منصّة معنى الثقافية، mana.net، 10 مارس 2024.

]59[ – حسن حنفي، من النصّ إلى الواقع، تكوين النص، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، الجزء الأول، الطبعة الأولى، 2004، ص. 27.

]60[ – كريم الصيّاد، حسن حنفي واستراتيجية الطريق الثالث، مجلّة “سُبُل”، Subulmagazine.com، 30/10/2022.

]61[ – تهافت الفكر الفينومينولوجي، مرجع مذكور.

]62[ – المرجع نفسه.

]63[ – حسن حنفي، تأويل الظاهريات، دار النافذة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006.

]64[ – Karl Löwith, Mein Leben in Deitshland vor und nach, 1933, Ein Bericht, Stuttgart, 1986, p. 27.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete