تكوين
“وقيل لزاهد: ما حدّ الشّبع؟ قال: ما لم يَحُل بينك وبين صوم النّهار وقيام الليل.
وإذا شكا إليك جائعٌ عرفت صدقه لإحساسك به.”
(أبو حيّان التّوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، اللّيلة الواحدة والثّلاثون، ج3، ص22.).
العلم الحزين
تنسب إلى طوماس كارلايل Thomas Carlyle (1795-1881) تلك الصّفة الّتي أطلقها سنة 1849 على علم الاقتصاد، فلازمته كالكُنية، حتّى صار يعرف بـ”العلم الحزين”، «The dismal science»، «La science triste»، أي ذاك الاختصاص اليافع في ذلك الوقت الّذي يُعنى بالإنسان في علاقاته الاقتصاديّة وشروط وجوده المادّيّة. وهي صفة تقابل على نحو ضدّيّ صفة “العلم المرح” أو “المعرفة المرحة”، Le Gai savoir، تلك الّتي اتّخذها نيتشه Nietzsche، عنوانا لبعض كتبه. هذا “العلم الحزين” قد ابتدعه آدم سميث Adam Smith (1723- 1790). وهو فيلسوف ورجل اقتصاد يعتبره المؤرّخون أبا العلوم الاقتصاديّة، بفضل كتابه ” ثروة الأمم” الّذي فرغ من تأليفه سنة 1776، فأصبح يُعتبر منذ ذلك التّاريخ من كلاسيكيّات هذا العلم. ولعلّ مَأْتى الحزن مرتبط بتلك النّظرة القاتمة الّتي ما فتئت، وهي تشخّص الواقع الاقتصاديّ، ترسم صورة أشدّ قتامة من الواقع نفسه. فإن كان القارئ يتوقّع من كتاب ” ثروة الأمم” أن يعرض مؤلّفه نظريّة في الوفرة الاقتصاديّة فإنّه سيُفاجأ بأنّ مضامين الكتاب تتحدّث عن علم المصاعب الكأداء الّتي تجعل وضع الجموع والحشود من الجماهير المتزايدة هشّا. وقد صاغ ريكاردو المبادئ المفسّرة لهذا الوضع في قاعدة عُرفت فيما بعد بـ”قانون الأجر الطّبيعيّ“، وهي تعني إجمالا “الأجر الضّروريّ” الّذي يسمح للعمّال بصيانة طبقتهم وإعادة إنتاجها “دون زيادة ولا نقصان”. وبناء على ذلك، صار تغيّر المجتمع الّذي يديره على نحو ليبراليٍّ رأسماليٍّ المحظوظون من ملاّكي الأراضي ومقرضي الأموال وأصحاب المصانع عَسِرًا عسيرا إن لم يكن من باب المستحيلات. فهؤلاء جميعا يستغلّون آليات تثمير الثّروات وتنميتها بضرب من التّبادل اللاّمتكافئ في أسواق تبدو حرّة، مقابل الغالبيّة السّاحقة من المنكودين الذين لا أمل لهم في تغيير وضعهم، لأنّه وفق تصوّر العلم الحزين قد زُجّ بهم في وضعيّة البروليتاريا أو وضعيّة التّفقير الزّراعي paupérisation agraire. ولعلّه بسبب هذا التّصوّر اليائس، بدا الاقتصاد الوطني، بوصفه علما حزينا، مدرسة من القسوة الخالصة، لا يعلّم لمريديه سوى الاستسلام أمام القوانين المزعومة المتعلّقة بفقر الجماهير. فالنّظريّة اللّيبراليّة في القرن التّاسع عشر تعرّف الفقراء بأنّهم أولئك الّذين لا يُمكن مساعدتهم حتّى لو تضافرت كلّ إرادات العالم لخلاصهم.
ويبدو أنّ هذه النّظرة القاتمة المحافظة الّتي كانت تترجم في العمق الشّكل السّياسي للماليخوليا عند الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك قد ظلّت متحكّمة في النّظريّة الاقتصاديّة في القرن العشرين، وهو القرن الّذي وضع حدّا لفقر الجموع المادّي في المجتمعات الصّناعيّة. ورغم ذلك ظلّ الاعتقاد راسخا في أنّ الثّروة الاقتصاديّة لم تكن كافية لفكّ عقدة الفقر complexe de la pauvreté الّتي رزح تحت وطأتها النّوع البشريّ منذ نشأة الدّول العتيقة أو الضّاربة في القدم، بأنظمتها المختلفة دون ذكر حكومات النّبلاء ورجال الدّين. ومن زاوية النّظر هذه، قدّمت مدرسة فرنكفورت الأولى (أدورنو وهوركهايمر) في نظريّتها النّقديّة، الصّورة النّهائيّة النّقيّة من النّزعة السّياسيّة المحافظة. فقد ظلّت تغذّي ذاك الاعتقاد في أنّ كلّ مظاهر الغنى عند الجماهير لا يمكنها أن تُفضي إلاّ إلى بؤس بلَبوس جديد شبيه بالتّنوير aufklärung الّذي لم يكن مع الرّأسماليّة سوى شكل متغيّر من الزّيف والخديعة.
اقتصاد الوفرة ومجتمعات التّخمة
ورغم قتامة هذا التّصوّر، يظلّ القرن العشرين يمثّل “عصر التّطرّفات” The Age of Extremes. وهي العبارة البديعة الشّهيرة الّتي اتّخذها المؤرّخ البريطاني إيريك هوبزباوم Éric Hobsbawm عنوانا لكتابه المثير للجدل. ولعلّ أبرز تطرّف عرفه القرن الماضي هو أنّ مجرى الأحداث فيه قد اتّجه، بضغط مستمرّ من اليسار المعتدل، نحو إدماج الجماهير الواسعة في توزيع الثّروات والتّمتّع بها. ويمثّل هذا الأمر من زاوية تاريخيّة، حدثا فريدا. فالنّزعة الطّاغية آنذاك كانت تنحو نحو تخفيف وطأة الفقر بجعل الفقراء يستفيدون من الامتيازات الّتي كان يحتكرها سابقا الأغنياء. وهي امتيازات يمكن حصرها في النّقاط التّالية: 1البحث العلميّ الّذي ما فتئ يتقدّم ويتطوّر، و2الاختراعات التّقنيّة الّتي استمرّ تشجيعها، و3الانجذاب المتزايد لشكل الحياة في المؤسّسة، و4اتّساع النّظام الصّحّي القائم على دولة الرّفاهة l’État-providence السّاهرة على مصالح مواطنيها، و5إدماج جمهور عريض متزايد ما فتئ يشارك في دورة الاستهلاك الاقتصاديّ والثّقافيّ، و6صيانة حصانة الأفراد المهنيّة والقانونيّة بواسطة قانون الشّغل الّذي صيغ لحماية حقوق المرأة العاملة في كلّ مجالات الشّغل، و7تشييد نظام تأمين واسع الانتشار. ومن أبرز نتائج هذه الإصلاحات، وقد طالت أسباب العيش وشروطها على امتداد عقود في الدّول الّتي عرفت التّحديث la modernisation، أنّ الأمل في العيش وطول الأعمار قد ارتفع على نحو ملحوظ مقابل انخفاض حادّ في نسبة الولادات.
ورغم كلّ هذه المؤشّرات، ظلّ “مجتمع الوفرة” في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وأوروبا الغربيّة ظاهرة لم يتمكّن الفكر الاقتصادي في موفّى الخمسينيّات من القرن العشرين من تحديد مدى جدّتها وتحرّرها من فكرة النّدرة pénurie الّتي هيمنت طويلا على التّأويلات السّياسيّة للثّروات. فحلول الإنسان الغنيّ محلّ الإنسان الفقير هو حدث لم يجد عند أيّ فيلسوف سنة 1945 وقعا جعله ينكبّ على دراسة “اقتصاد السّوق” أو يعلّق على اقتحام الأدوات المنزليّة الكهربائيّة حياة العائلات وتغييرها لأساليب عيشها، أو يقيّم أهميّة هذه الأشياء في الاستعمال اليوميّ. فلو اعتنت الفلسفة بهذه المظاهر الجديدة من الحياة اليوميّة لاضطرّت إلى إعادة تعريف تلك المفاهيم الموروثة من أوروبا القديمة من قبيل “طبيعة” و”واقع” و”حرّيّة” و”وجود”. بل لم يكن أيّ فيلسوف من فلاسفة تلك الفترة جاهزا ليتبيّن أنّ غالبيّة ألفاظ معجمه في المجال الاقتصادي قد أصبحت غير صالحة للاستعمال، إن لم تصبح منتمية إلى تاريخ العلم، لحظة ظهور الهواتف والمحرّكات والرّدارات والآلات الحاسبة في عالم الحياة. ويبدو أنّ تخييل fiction الخصاصة والنّدرة قد بدأ يتزعزع منذ أن بيّن هيغل أنّ روح العصر، أي الأزمنة الحديثة، قد قطع أواصره مع العالم القديم الّذي كان يمثّل أساس وجوده. فبعض القرائن قد بدأت تعلن تهافت أركانه وتزعزعها، كالخفّة la légèreté والطّيش la frivolité والمل l’ennui والبذخ la luxure، وكلّها ظواهر جديدة اقتحمت الوجود البرجوازيّ آنذاك على نحو فظّ. ولكنّها صارت اليوم من مكوّنات عصرنا هذا الموسوم بالوفرة المفرطة في الإنتاج، والإفراط الشّديد في الاستهلاك. فإن كانت أروقة المغازات الكبيرة و”المولات” المتكاثرة مع الأيّام في كلّ العواصم تعرض في أروقتها بضائعها الشّديدة التّنوّع، باذلة للعيان دلائل الوفرة وعلاماتها المختلفة الّتي وسمت المجتمعات الصّناعيّة منذ منتصف القرن العشرين، فإنّ ظهور “الإنسان البدين” وانتشار الشّحوم في الأجسام مثّل ظاهرة فريدة من الاستهلاك المفرط انتشرت في مجتمعات الاستهلاك الّتي تعيش في النّصف الشّمالي الغربي من كوكب الأرض، حيث يعيش أفرادها عصر الوفرة والملذّات الباذخة والثّروات المتنامية على نحو سريع ومستمرّ exponentielle، والسّعادة الّتي تشترى بأبخس الأثمان. فعواصم أوروبا القديمة وتوائمها في العالم الجديد تتصرّف كأمّ قلقة ما فتئت تلقم أبناءها المتخمين بسمنتهم أطايب الأطعمة والحلويّات في كلّ مناسبة. لكأنّ الشّعار الّذي يدفع المستهلكين إلى التّزاحم على رفوف السّوبر ماركت والوقوف في طوابير على أبوابها هو “كُلْ أو مُتْ”. ولكن عندما يؤدّي الأكل إلى الموت بسبب التّخمة الدّائمة يصبح مطلب الخلاص من الامتلاء والخواء والفراغ أمنية ترنو إلى التّحرّر من إكراهات قبول ما يعرض من اللّذائذ المختلفة. وهي أمنية أولئك الّذين يتلقّون علاجا دائما ويشعرون بأنّ خلاصهم هو في المقاومة بالحرمان أو بتعلّم “تقنيات الجوع”. بل لم يعد غريبا ذاك المشهد الّذي نجد فيه متاجر اللّحوم مزوّدة بمغازات تحوي المنتوجات الطّبيعيّة النّافعة في الحمية، ولا عروض الإشهار الّتي تروّج للأدوية الّتي تزيل كلّ ما يتسبّب في انتفاخات البطن وعسر الهضم، ولا نصائح مجلاّت “الموضة” الّتي عوّضت دور الكنائس بدعوتها إلى تخصيص أيّام للصّيام. حتّى أنّ صلاة المسيحيّ الّتي كانت تُبتهل للحصول على الخبز اليوميّ “أعطنا خبزنا كفاف يومنا” (إنجيل متّى، 6: 11) قد أصبحت تُرتّل في أجنحة البضائع حيث تعرض جنّة الاستهلاك لحوما فقيرة من الكوليسترول، وعلكا chewing-gum بلا سكّر، وحليبا غير دسم، وجبنا مخفّفا، وجعة بلا كحول، وقهوة خالية من “الكافيين” caféine. فقيمة الأغذية صارت تحدّد بخلوّها من بعض العناصر أو انخفاض نسبة وجودها فيها. فهذه المواصفات الجديدة الّتي صارت تعتمد في ترويج البضائع تدلّ على أنّ الزّهد اليوم قد عاد في أثواب الاستهلاك لا في أردية التّعبّد وأزياء التّديّن الحديثة.
ذاكرة الجوع
إنّ الإقبال الشّديد على الحميات، هذه المحاكاة السّاخرة للنّزعات الزّهديّة الموجّهة نحو اللّذّة، هي نتاج فقدان للذّاكرة الجماعيّة عندما تمكّن التّصنيع بنسقه الحثيث من القضاء المبرم على شبح كان حاضرا في حياة أسلافنا وتجاربهم، وهو الجوع. فقد نُسي حرفيّا ماذا كان يعنيه الجوع بسبب انتصار الثّورة الصّناعيّة. وهو انتصار تمثّل في تحرّر الوضع الإنسانيّ من الحضارات الزّراعيّة المتقدّمة. ويبدو أنّ كلّ الأسباب الّتي أدّت إلى هذا الانقلاب الّذي لا سابق له قد نسيت شيئا فشيئا، حتّى أنّ الصّورة الفردوسيّة الّتي رسمها الرّومنطيقيّون عن الطّبيعة قد خلت من قرصات الجوع الّتي يعرفها المزارعون حين تجدب الحقول وتتناقص المحاصيل. ويبدو أنّ هذا النّسيان قد طال فقط العالم الغربيّ والبلدان المصنّعة. فإذا استثنينا أولئك الّذين عانوا من ويلات الحرب العالميّة الثّانية وما قاسوه من المسَاغِب عندما ينعدم الطّعام، أو مجاعات بلدان إفريقيا في أثيوبيا والرّأس الأخضر والصّومال بسبب الجفاف والمالاوي، أو مجاعات السّودان المتكرّرة خاصّة في جنوبه، فإنّ الاكتفاء بالكفاف من الطّعام أو ما يسدّ الرّمق لا يساوي شيئا أمام ضراوة الجوع. فشتّان بين طعام موجود وإن قلّ وندر وطعام غير موجود. فعندما يخبرنا مؤرّخ الثّقافة الإيطالي بيارو كمبوريزي Piero Camporesi في كتابه “الخبز المتوحّش” بأنّ الجوع هو القاعدة وليس الاستثناء في مدن إيطاليا في بدايات القرن السّابع عشر فلأنّ حوادث الموت جوعا قد صارت حدثا يوميّا معتادا. ففي مدينة بادو Padoue سنة 1529 لاحظ القسّ جيوفاني باتيستا ساقني Giovan Battista Segni البولونيّ أنّ النّاس كانوا يكتشفون كلّ صباح خمسة وعشرين جثّة أو ثلاثين من الموتى جوعا ملقاة في مزابل الشّوارع. وهو يعلّق على فظاعة ما رأى بأن “ليس للفقراء مظهر بشريّ”. ونجد في العهود الوسيطة أحداثا مشابهة. ففي رحلة عبد اللّطيف البغدادي إلى مصر المعروفة بـ”كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر” ينقل هذا العالم الطّبيب في الفصل الثّاني من المقالة الثّانية من كتابه وقائع المجاعة الّتي اجتاحت مصر بسبب نقصان مياه النّيل وزيادة الأسعار المجحفة وهجرة النّاس إلى المدن كالشّام والمغرب والحجاز واليمن ودخولهم أفواجا أفواجا إلى القاهرة. وقد أفضت تلك المجاعة إلى دمار الفضاء العموميّ، وتحوّل عقد المدينة الاجتماعي إلى قانون غاب يفترس فيه النّاس بعضهم بعضا، الكبير يأكل الصّغير، والقويّ يلتهم الضّعيف. يقول في وصف ما جرى: “ودخلت سنة سبع (يقصد سنة597) مفترسة أسباب الحياة، وقد يئس النّاس من زيادة النّيل، وارتفعت الأسعار وأقحطت البلاد وأشعر أهلها البلاء وهرجوا من خوف الجوع […] واشتدّ بالفقراء الجوع حتّى أكلوا الميتات والجيف والكلاب والبعر والأرواث، ثمّ تعدّوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني آدم، فكثيرا ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويّون أو مطبوخون، فيأمر صاحب الشّرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل.” (رحلة عبد اللّطيف البغدادي، ص132). وفي عهود قريبة، عادت إلى الظّهور في الصّين من جديد عادة قديمة معروفة باسم “يي شي إر شي“، وتعني بالحرف الواحد تبادل الأطفال لكي يؤكلوا. وقد أحييت هذه العادة في المجاعات الّتي اجتاحت الصّين الشّعبيّة بين عامي 1959-1962 أيّام حكم ماو تسي تونغ حيث مات جوعا ما بين ثلاثين وأربعين مليون نسمة (روبين ميريديث، الفيل والتّنّين، صعود الهند والصّين، ودلالة ذلك لنا جميعا، ترجمة شوقي جلال، عالم المعرفة، الكويت، العدد359، 2009، ص29.).
الزّهديّات الجديدة
وعلى خلفيّة هذا النّسيان، نشأت الزّهديّات الجديدة الّتي صادف ظهورها انتصار العصر الصّناعيّ على الثّقافة الزّراعيّة. وهو انتصار قد اقترن عند نيتشه بـ”موت الإله” الّذي لم يعد الإنسان المسيحيّ في حاجة إلى أن يتسوّل منه خبزه اليوميّ. فقد حلّ محلّه الزّاهد الطّهريّ (أو الطّهرانيّ puritanisme المسيحيّ البروتستاني)، وهو رجل الأعمال المثابر المجنّد لخدمة الرّأسماليّة وانتشارها، لمّا تمكّن من قلب المثل الزّهديّة وتجريدها من خلفيتها الدّينيّة القديمة، فعَلْمَنَهَا sécularisation وطوّعها لخدمة المصالح وجني الأرباح إلى أقصى حدّ. وحتّى وعد الله القديم قد استغني عنه لمّا صار الوعد بالتّطوّر المستمرّ هو ذاته العهد المسيحيّ الجديد. آية ذلك أنّ جون ويزلي John Wesley (1703-1793) مؤسّس الميثوديّة (أو المنهاجية) Méthodisme (وهي طائفة مسيحيّة بروتستانيّة ظهرت في القرن الثامن عشر في المملكة وانتشرت في بريطانيا لاحقا من خلال الأنشطة التّبشيرية في المستعمرات البريطانية وفي الولايات المتّحدة الأمريكيّة. وكانت موجّهة بشكل أساسيّ للعمال والفلاحين والعبيد) كان يقول “ينبغي أن نحثّ المسيحيّين على أن يربحوا ما أمكنهم الرّبح، وأن يدّخروا ما أمكنهم الادّخار، وهو ما يعني بصريح العبارة أن يصبحوا أغنياء.” (ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانيّة وروح الرّأسماليّة). وبفضل الإطار الجديد الطّهريّ للعمل والأشغال في الحياة اليوميّة تهافت سلطان الجوع. فالزّهد الطّهرانيّ لا يحيل البتّة على الطّعام، وإنّما على العمر والحياة ومدّتها والجنسانيّة. ذلك أنّ “الزّمن هو المال”، «Time is money»، «Le temps, c’est de l’argent» عند بنيامين فرنكلين Benjamin Franklin، ولذلك وجب أن يقتصد في فراش الزّوجيّة، وفي كلّ أمكنة اللّهو وتبذير الأموال. فالزّهد الحديث قد ترعرع في القرون الثّلاثة الأخيرة، فهو خليط من العمل المفرط والحركيّة والقلق وضغط الوقت والوحدة والاكتئاب والتّمييز بين الجنسين sexisme وكراهية الأطفال والعزوبيّة العاجزة.
ولعلّ هذه الملامح الحديثة مختلفة اختلافا جذريّا عن الزّهديّات القديمة. فمرجعها الأساسيّ هو الجوع. نلمح ذلك في تلك النّتف الّتي نقلها أبو حيّان التّوحيدي في بعض ليالي الإمتاع والمؤانسة. نسوق منها ما يلي: “قيل لحاتم الأصمّ: بم رزقت الحكمة؟ قال: بخلاوة البطن، وسخاوة النّفس، ومكابدة اللّيل. وقال شقيق البلخي: العبادة حرفة، وحانوتها الخلوة، وآلتها الجوع. قال لقمان: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.” (الإمتاع والمؤانسة، اللّيلة الثّالثة والثّلاثون، ج3، ص85.).
وفي زمن الاضطرابات والقلاقل، يقصّ التّوحيدي ما يقاسيه الصّوفيّة من ألم الجوع. يقول: “قال: وكنّا جماعةً غرباء نأوي إلى دويرة الصّوفية لا نبرحها، فتارةً نقرأ، وتارةً نصلّي، وتارةً ننام، وتارةً نهذي، والجوع يعمل عمله.” (الإمتاع والمؤانسة، اللّيلة الرّابعة والثّلاثون، ج3، ص97.).
وإن كانت “خلاوة البطن” شرط بلوغ الحكمة وامتلاء المعدة يقعد الأعضاء عن العبادة أصبح الجوع آلة العبادة، وتمرينا من التّمارين الرّوحانيّة من خواصّها الأساسيّة هي “الإشاحة عن (العالم اليوميّ)”. هذا التّمرين الرّوحي بالجوع قد بلغ شكله النّهائي في قصّة فرانز كافكا “فنّان الجوع” باعتباره أنموذجا، وإن كان تخييليّا، من الزّهّاد الّذين انتزعت منهم الهالة الرّوحانيّة، فصاروا زهّادا مجرّدين من الرّوحانيّة déspiritualisation des ascètes. تبدأ القصّة بالتّقرير التّالي: “خَفَتَ في العقود الأخيرة الاهتمام بفنّان الجوع، في حين أنّه في السّابق استحقّ مثل هذا النّوع من الفنّ تنظيم عروض كبيرة على نفقة المنظّمين خاصّة. هذا الأمر أصبح اليوم مستحيلا.” (فرانز كافكا، “فنّان الجوع”، ضمن الأعمال الكاملة، المجلّد الثّاني، ص71).
لا يشبه فنّان الجوع الزّاهد القديم وإن كان كلاهما قد اختار الصّيام. وهو ليس نظاما فنّيّا كأيّ نظام فنّيّ آخر، بل هو الزّهد الميتافيزيقيّ بامتياز. فصوم الزّهّاد هو شكل القدرة على تحمّل ألم الافتقار. فالتّغلّب عليه لا يتمتّع به إلاّ أولئك الّذين يحرّك نفوسهم شوق آخر هو جوعهم المقدّس إلى الله أو “واجب الوجود” عند الفلاسفة المسلمين. فالأصل في الأشياء هو أنّ المتحكّم في قانون الجسم هو الجسم ذاته الّذي تفرض ضرورةُ بقائه العنايةَ به بالغذاء والملبس والمسكن… غير أنّ التّمرين بالجوع أو بغيره من التّمارين الرّوحيّة هو جعل الجسم تحت طائلة النّفس وتصرّفها، أي جعله يفقد بالمران “جسميّته”، حتّى تضمحلّ سطوته على النّفس إلى الحدّ الأقصى الّذي يمنع البدن من التّلف. ففي تمارين حيّ بن يقظان الرّوحانيّة كان محرّك النّفس هو الشّوق إلى واجب الوجود، أي إلى موجود محض غير متجسّم، فبات التّمرين محكوما بقانون الشّوق الّذي يفرض على الجسم أن يساير النّفس بالتّخلّي عن بشريّته، والتّخلّص من العنصر البشريّ الّذي فيه، بمحاكاة العنصر الإلهي غير البشريّ. ولتحقيق ذلك، أي التّشبّه بـ”الموجود الشّريف الواجب الوجود“، “رأى أنّ الصّواب كان له لو أمكن أن يمتنع عن الغذاء جملة واحدة، لكنّه لمّا لم يمكنه ذلك، ورأى أنّه إن امتنع عنه آل ذلك إلى فساد جسمه، فيكون ذلك اعتراضًا على فاعله أشدّ من الأوّل، إذ هو أَشْرَفُ من تلك الأشياء الأُخر التي يكون فسادُها سببًا لبقائه[…]”. فالتزم شروطا “في جنس ما يغتذي به. وأمّا المقدار فرأى أن يكون بحسب ما يسد خَلَّةَ الجوع ولا يزيد عليها. وأمّا الزّمان الّذي بين كلّ عودتين، فرأى أنّه إذا أخذ حاجته من الغذاء، أن يقيم عليه ولا يتعرّض لسواه، حتّى يلحقه ضعف يقطع به بعض الأعمال الّتي تجب عليه…” (حيّ بن يقظان، م.ن، ص225-226). وقد دفعه ذاك الشّوق إلى التّمرّن والاعتمال، أي تليين الجسم حتّى يتّبع بعض القواعد. من ذلك “أنّه يجب عليه أن يسعى في تحصيل صفاته لنفسه من أيّ وجه أمكن، وأن يتخلّق بأخلاقه ويقتديَ بأفعاله، ويَجِدَّ في تنفيذ إرادته، ويُسلّم الأمر له، ويَرضى بجميع حكمه، رِضى من قلبه، ظاهرًا وباطنًا، بحيث يُسَرُّ به وإن كان مؤلماً لجسمه وضارًّا به ومتلفًا لبدنه بالجملة.” (حيّ بن يقظان، م.ن، ص232.).
تبيّن لنا تجربة الزّهد في حيّ بن يقظان عند ابن طفيل أنّ العضو الّذي أهمله الإنسان الحديث وهو المعدة كان موضوع عناية روحانيّة لا يجد فيه الصّوفيّ أو الزّاهد المتعبّد أو القدّيس حرجا في الحديث عنه والتّفكير فيه. فرقابة المعدة هي متابعة أحوال فراغها وامتلائها، لأنّ شرور الدّنيا وخسارة الآخرة تبدأ بالشّبع. “فكيف نحمي قلوبنا إذا كان الفم والمعدة منفتحان”، يقول أوائل الزّهّاد المسيحيّين في الصّحراء. وهو ما دفع الفيلسوف النّمساوي طوماس ماكو Thomas Macho إلى اعتبار أنّ المسيحيّة شأنها شأن اليهوديّة، ويمكن إضافة الإسلام إليهما، هي دين الصّحراء في الشّرق الأوسط، دين الحياة الزّراعيّة، دين جوع قربانها المقدّس هو لحم المسيح ودمه “مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ”، (إنجيل يوحنّا، 54:6)، قد أفلحت في تحويل ألم الجوع إلى طاقات روحانيّة. وليس الزّاهد سوى كائن المفارقة الّذي حوّل حاجة الجسد الشّديدة إلى الامتلاء بتحويل فراغه إلى شوق يطلب الجنّة بما هي نفي لكلّ حاجة “وحكى لنا أبو سليمان قال: وصف لنا بعض النصارى الجنة فقال: ليس فيها أكلٌ ولا شربٌ ولا نكاح. فسمع ذلك بعض المتكلّمين فقال: ما تصف إلاّ الحزن والأسف والبلاء.” (الإمتاع والمؤانسة، اللّيلة السّابعة والثّلاثون، ج3، ص192.).
لقد اعتبر فنّ الجوع المعاصر مرضا اسمه العلمي «Anorexia nervosa» أو فقدان الشّهيّة l’anorexie. ويعتبره الأطبّاء مرضا جديدا، أو “مرض الموضة”. وهو لا يصيب في الغالب إلاّ البنات بنسب مثيرة للفزع. ويقال إنّ هذا المرض لم يُصَبْ به أحد في البلدان النّامية. ويعتبر بعض المعالجين أنّ فقدان الشّهيّة l’anorexie هو مرض الحضارة، أي مرض الأغنياء كالأزمة القلبيّة.
ومهما يكن الأمر تظلّ الدّوافع الزّهديّة أو التّعبّديّة عند الزّهاد المعاصرين غامضة لم تكتشف بعد. يؤكّد ذلك أنّ “فنّان الجوع” في قصّة كافكا كان يجرّب، بفنّ الجوع الّذي هجره النّاس، هجران الدّين l’abandon de la religion ليحاول مزاولة دين الهجران la religion de l’abandon، ذاك الّذي زاوله المهاتما غاندي بإضرابات الجوع لبلوغ أهداف سياسية أو سيمون فايل تلك الفيلسوفة الفرنسيّة المناضلة الفوضويّة الّتي اختارت منفاها في بريطانيا وماتت في سنّ الرّابعة والثّلاثين بالسّلّ والامتناع عن الطّعام.