تكوين
في العام 2013 قرأتُ رواية بابا سارتر للروائي العراقي “علي بدر”. يومها تعرفتُ على مُبدع مُميَّز، فقد ابتكر شخصيةً لا يمكن إجراء تعدادٍ جديد لسكان العالَم دون إضافة اسم عبد الرحمن أو فيلسوف الصدرية إلى قوائم أولئك السُّكَّان[1].
فيلسوف الصدرية
فعبد الرحمن أو “فيلسوف الصدرية” اسم جديد في السجلات المدنية لسُكَّان كوكب الأرض، في ميزة فارقة للنصّ الذي يسعى إلى مُزاحمة العالَم والتفوّق عليه لحظة الكتابة، فإذا انتصر عليه، لحظتي القراءة والتأويل، صار نصاً خالداً. وهذا ما عاينته –مرة أخرى- ساعة قرأتُ الرواية مرةً ثانية عام 2023، فالبطل في النصّ اجتراح عبقري قلَّ نظيره في الأدب عموماً. إنه يأخذ صفته الاعتبارية وموجوديته في العالم من النص وليس من الواقع؛ أي أنَّ فيلسوف الصدرية لن يُعرف بالصيغة التي تواجد عليها في العالَم، إلا في نص (بابا سارتر)، لذا حال النص إلى عالَمٍ بديلٍ وُلد فيه فيلسوف الصدرية ولادة معرفية على يد الروائي “علي بدر”، الذي تجاوز ولادته البيولوجية التي يمكن أن تكون قد حدثت في الواقع الحقيقي، وحاكاها الروائي في روايته، لكنه منح تلك الذَّات البدائية، المهوشة، المنسية صفاتاً شكلّت شخصيتها الاعتبارية، بطريقة لا يمكن التعرُّف عليها بتلك الشاكلة إلا في رواية بابا سارتر، بما يجعل ولادة تلك الشخصية في النص تتفوق على ولادتها في العالم الحقيقي، وتلك ميزة كبرى للنصوص الاستثنائية، المُبدعة، الخلَّاقة.
من هو اول فيلسوف مصري؟
في أذهان مُجايليه كان عبد الرحمن أو فيلسوف الصدرية أول فيلسوف مصري كما يصف الراوي، “شخصية فذة، فريدة من نوعها”[2] “فقد كان يلذ للأفندية في زمنه أن يروا شابًا بغداديًا له القدرة على الرد على أعظم فلاسفة الغرب ومفكريه، ومن ضمنهم سارتر، كان يلذ لهم أن يجدوه منزويًا، يطيل التأمل والتفكير بالوجود وبعبثيته وعدمه، كان يلذ لهم أن يتحدث الفيلسوف بلغة غريبة، صعبة، معقدة عن الوجود لذاته والوجود من أجل ذاته”[3].
لكنه في الحقيقة كان شخصية فارغة معرفياً، سطحية، مُدَّعيَّة، لا تُجيد من الفلسفة إلا قشورها وظاهرها، رغم أنها، أعني شخصية عبد الرحمن بطل الرواية، سافرت إلى باريس لدراسة الفلسفة، والتخصّص في المذهب الوجودي الذي انتشر بقوة في تلك الفترة، وبلغ ذروته المعرفية على يد الفيلسوف الفرنسي “جان بول سارتر”. كل الذي خرج به من هذه الرحلة العبثية أنه حلَّ، على طريقة المُتصوفة، في شخصية “جان بول سارتر” أو العكس، دون أن يلتقي بالفيلسوف الباريسي إلا في الخيال، ما دعا علي بدر إلى تسميته بـ (بابا سارتر) كتسميةٍ ساخرة تفضح مسيرته المعرفية كاملة، بما هي مسيرة فارغة تماماً. لكن المفارقة العنيفة أنَّ هذه المعرفة الفارغة وجدت لها مكاناً في المجتمع البغدادي في ستينيات القرن العشرين، فالفيلسوف السَّطحي وجد أناساً أكثر سطحية منه، لذا شعر بقيمةٍ كبيرة للهراء الذي كان يُمرِّره على مَنْ هُم أجهل منه؛ تماماً كالبطل الموهوم الذي يتواجد في مجتمع كُلّه جبناء، فيعتبرون أفعاله معجزات!
بإزاء هذه الشخصية المُبتكرة، ثمة سؤالان مركزيان:
كيف تشكلت هذه الشخصية في النصِّ الروائي، ولماذا؟
ثمة راوٍ داخل رواية بابا سارتر، كُلِّفَ مرتين بكتابة سيرة فيلسوف الصدرية:
في بداية الرواية كان الراوي قد التقى بكل من “نونو بهار” و”حنا يوسف”، وعرضا عليه كتابة سيرة الفيلسوف العراقي.
“تعرف.. الفيسلوف صناعة، نعم… صدقني! صناعة” [قال حنا يوسف]
“من يصنعه؟” قلت
“نحن” قال الدجالان كلاهما [يقصد نونو بهار وحنا يوسف]
“أنت ستكتب سيرة هذا الرجل ونحن نقوم بتغطية نفقات جمع المعلومات، والوثائق، ومن ثم سندفع لك” قال حنا، ثم أكملت نونو بهار:
“سنعطيك اليوم وثائق أولية، وبعض الدلائل الجغرافية، ستكون نقاط انطلاقك..”[4]
بعد ذلك التقى الراوي بشخصية إسماعيل حدوب أو التاجر صادق زاده، الذي كلّفه بكتابة سيرة الفيلسوف العراقي من جديد، لا سيما أنه –أي صادق زاده- المُمول الحقيقي لكتابة السيرة:
“أنت تعمل مع صادق زاده لا مع حنا يوسف” [تقول نونو بهار]
وأنتِ؟ قلتُ، وأنا لا أستطيع إخفاء دهشتي.
مع صادق طبعًا! ماذا تظن؟ إنه الوحيد الذي يمول المشروع، هل تظن أن حنا المفلس، هو الذي يصرف علينا”[5]
فالشخصية المركزية التي أصرَّت على كتابة سيرة فيلسوف الصدرية هو “إسماعيل حدوب”، الذي أصبح اسمه فيما بعد، لا سيما بعد أن أصابه الغنى والثراء، التاجر “صادق زاده”.
قصة بابا سارتر
السؤال: من هو إسماعيل حدوب، ولماذا ناضل لكتابة سيرة الفيلسوف؟
ثمة سيرتان في رواية بابا سارتر: واحدة مركزية، رئيسية لفيلسوف الصدرية عبد الرحمن. وأخرى هامشية، موازية لإسماعيل حدوب أو التاجر صادق زاده. لكن المفارقة العنيفة أن “إسماعيل حدوب” عندما قرأ المسودة النهائية للسيرة، رغم أنه المُموّل لكتابتها، حاول جاهداً أن لا يتم نشرها، لأنها كشفت عن شخصيته الحقيقية. فأثناء كتابة سيرة فيلسوف الصدرية تطرَّقَ الراوي إلى عدد من الشخصيات التي تقاطعت حيواتها مع حيواته، وقد كانت شخصية “إسماعيل حدوب” أو التاجر صادق زاده هي الشخصية الأبرز بين تلك الشخصيات، ما جعل الرواي يُفرد لها ما يقارب 50 صفحة في متن الرواية: من النشأة إلى إنجاز سيرة فيلسوف الصدرية. ففي منتصف الخمسينيات [القرن العشرين] “ظهر إسماعيل في بغداد كبائع للصور الخلاعية. لم يجد إسماعيل أول أيامه ما يأكله، أو ما يشربه، ولم يجد مكانًا ينام فيه، كان إسماعيل يأكل كل ما يقع في يده، ولا يقع في يده إلا ما تخلفه مطابخ القصور العالية من افضلات والأزبال، ويشرب ما يجده متخلفًا في زجاجات العرق المرمية قرب البارات، وينام حيث يتيسر له مكان للنوم، ويعمل ما يتاح بيده من عمل” بائعًا للصور الخلاعية، عتالًا أمام الفنادق الرثة، قزازًا في سوق الجام، كناسًا في البلدية، او خادمًا في منازل البكوات والجلبية. وكان لديه ميل غريزي إلى طلب المتعة، واللهو، والتشرد، والتسكع، والنشل في المحطات”[6]
وهكذا نشأ إسماعيل حدوب في بيئة تلهث لهاثاً محموماً وعنيفاً وراء لقمة العيش، ما جعله شخصاً شرساً، ولا علاقة له بأي ثقافة، وفقاً لمعناها اللغوي على أقل تقدير، لا من قريب أو بعيد. مارس العديد من الأعمال من ضمنها بائعاً للصور الخلاعية التي كان يتردد على أماكن عدة لبيعها من ضمنها محلة الصدرية، التي كان فيها زبون سخي هو التاجر شاؤول، الذي سيُشكّل نقطة تحوّل في حياة إسماعيل حدوب. “ظهر إسماعيل في محلة الصدرية يومًا كبائع للصور الخلاعية. ولم يكن يأتي كل يوم إلى محلة الصدرية في واقع الأمر إلا لزبون واحد مدمن على هذه الصور، إذ لم يكن هناك من يدفع مالًا أكثر مما يدفعه شاؤول… لقد تردد إسماعيل طويلًا على متجر شاؤول تلك الأيام، وكان قد جلس طويلًا في متجره، وأخذ منه مالًا كثيرًا لقاء الصور الخلاعية التي كان إسماعيل يجلبها معه…”[7]
التاجر شاؤول كان يبحث عن عامل في متجره بعد أن طرد عامله القديم، فوقع اختياره على إسماعيل حدوب، الذي أخذ يصغي، بعد ان نظّفه مُعلّمه وكساه وآواه، يوما إثر يوم لأستاذه الجديد المسكون بمفاهيم كبرى عن الحياة. وكان أول درس لقنه شاؤول لإسماعيل هو تحليل حالة الفقر التي عاشها إسماعيل. فقد أشار إلى أن فقره “فقر تاريخي، لم يأتِ من إسماعيل ذاته، أو من عائلته، إنما من التاريخ”[8]
تجربة إسماعيل الحسيّة المحضة جعلته يعتقد أن التاريخ شخص يمكن مصارعته وقتله:
“صعق إسماعيل حين سمع بالتاريخ، وقال له بعد أن سحب سكينه من بطنه:
“دليني على تاريخ وإني أخليلك مصارينه بالكاع”
ابتسم له شاؤول وقال له:
“علينا أن نصلح التاريخ لا أن نقتله”[9]
مع هذا التحوُّل الاقتصادي انتقل إسماعيل حدوب نقلة كبيرة في حياته الشخصية، على مستوى المأكل والمشرب والنظافة والمعيش اليومي وحتى الاهتمامات الفكرية، لكنه بقي وفياً في أعماقه، لجانبه الحسي الذي تربَّى عليه في الأزقة والحواري، وسيظهر هذا بشكلٍ جلي ساعة تعرُّفه على فيلسوف الصدرية الذي انغمس وإياه في تجربة حسية في الحانات والبارات والملاهي الليلية، كتطبيقٍ عملي للمذهب الوجودي كما فهمه فيلسوف الصدرية عبد الرحمن!
ففي بيت التاجر شاؤول تعرَّف إسماعيل حدوب على عدد من الشخصيات الأدبية والفكرية التي كانت تجتمع أيام الخميس والجمع في بيت شاؤول، وتُناقش عدداً من القضايا الأدبية والفكرية، وتتحدث في أمور خطيرة حسب وصف الراوي. “كان إسماعيل يصغي وحسب، وهم يتحدثون بحماسة وقوة كبيرتين في السياسة والأحزاب والآداب والصحافة، كان يفهم من هذا الكلام جوهره: أن هنالك ظلمًا كبيرًا في هذا العالم، ولم ينقذ هذا العالم إلا هؤلاء الناس بعبقريتهم وأهميتهم”[10]
بالتقادم انسحب إسماعيل حدوب من حياة التاجر شاؤول –بعد أن طبع حياته بطابع الوفرة والرخاء- إلى حياة فيلسوف الصدرية عبد الرحمن الذي جسَّد له مفهومه الأخير عن الحياة، بصفتها تُعاش ولا تُقال. “فعبد الرحمن، وعلى خلاف شاؤول، كان يتحدث عن الحياة بشكل عملي، كان يتحدث عنها بدقة، وبأناقة، وبشيء من الدعابة، بكثير من النكتة، كان يتحدث بشيء من المزاح وبخفة الدم، وكل هذه الأشياء كانت تنقص شاؤول وتنقص ثقافته، وكانت فلسفة عبد الرحمن أكثر جاذبية من فلسفة شاؤول، ذلك لأن الوجودية واضحة في هذا الأمر أكثر من ماركسية شاؤول، مثلا:
حينما يقول عبد الرحمن: عدمية، هذا يعني أنه سيسكر.
وحين يقول: حرية، فهذا يعني أنه سينام مع امرأة.
وحين يقول: التزام، فهذا يعني موعدًا في البار أو في الملهى. هكذا قال إسماعيل لأحد أصدقائه الجدد في مكتبة كورونيت”[11]
في كتابه (الوجودية مذهب إنساني) كتب “جان بول سارتر”:
“إن معظم من يستخدمون هذه اللفظة –الوجودية- قد يختلط عليهم الأمر، ويستعصي عليهم أن يشرحوا معناها لو طلب إليهم ذلك، والناس قد صارت الموضة عندهم أن يصفوا هذا الرسام، أو ذاك الموسيقي بأنه وجودي. وهناك من يسمى نفسه وجوديا، كهذا الصحفي الذي يوقع في مجلة كلاريتيه باسم الوجودي، حتى تفلطحت الكلمة اليوم، ولم يعد لها شكل ولا معنى”[12]
بابا سارتر أو فيلسوف الصدرية عبد الرحمن نموذج مأساوي، كما تصف رواية بابا سارتر، لتمثّل المثقف العربي للمذهب الوجودي أواسط القرن العشرين. لذا وجد إسماعيل حدوب في هذا النموذج المأساوي، المُفلطح، حالة معيارية يُمكن أن يُمرِّر من خلالها أفكاره المُشوَّهة والسَّطحية والفارغة من أي بُعد معرفي، مع إمكان الحصول على الحظوة والوجاهة. وسيصل هذا التشوُّه مداه الأقصى ساعة طلب إسماعيل حدوب من الرواي كتابة سيرة (بنيوي الوزيرية)، الذي يمثله في بغداد ستينيات القرن العشرين إسماعيل حدوب ذاته! في دلالة قصوى على تفسّخ المجال الثقافي العراقي وتهافته وتداعي منظوماته، التي يُشرف عليها أشخاص ليسوا فارغين تماماً فحسب، بل وانتهازيين أيضاً.
هذا الفراغ المعرفي المُخيف الذي تجسَّد في شخصية فيلسوف الصدرية عبد الرحمن، إضافة إلى حالة الانتهازية التي جسَّدها إسماعيل حدوب أو التاجر صادق زاده، عبَّر عنها إسماعيل حدوب في مقالة عن الوجودية أفضل تعبير، إذ كتب بلغة مُفككة على مستوى المباني، ومُتداعية على مستوى المعاني:
“الوجودية ما هي الوجودية، هي في الواقع غثيان وجودي غثيان من ذلك النوع الذي علمنا إياها أستاذ الغثيانات الوجودية الراعة –سارتر- الذي كتب رواية الغثيان بشهر واحد كما أكد لنا فيلسوف الصدرية، وقد رآه في فرنسا بأم عينه ولا سيما أنه متزوج من ابنة خالته”[13]
وحقيقة، كان هذا الهراء الذي كتبه إسماعيل حدوب منسجم تماماً مع ما يعرفه أستاذه عبد الرحمن أو فيلسوف الصدرية عن الوجودية. وفي المشهد الأول من مشاهد تأريخ حياة فيلسوف الصدرية، وصفه الراوي وصفاً كاريكاتيرياً ليدلّ على حالة الخواء التي كان يعيشها عبد الرحمن السارتري!
“بعد أن دقت الساعة الكبيرة الكائنة في سوق الصدرية دقاتها السبع، وعلى صراخ الباعة المتجولين في السوق، وعلى أصوات باعة الخضار والدجاج والفواكه الطازجة، وعلى صراخ القصابين، والخبازين، والحلوانية، وعراك الشحاذين المتجمهرين عند رأس السوق، استيقظ عبد الرحمن من نومه وهو يشعر بالغثيان”[14]
فكل ما عرفه عن المذهب الوجودي هو الغثيان! الذي استوحاه من اسم رواية (الغثيان)[15] لجان بول سارتر. ففي نهاية الخمسينيات، “عاد عبد الرحمن من باريس إلى بغداد بلا شهادة الدكتوراة في الفلسفة الوجودية الفرنسية، فقد فشل في دراسته للفلسفة، إنما عاد بزوجة شقراء- كعادة العراقيين الذين يذهبون إلى بلاد العلم ينهلوا من العلم، ولكنهم بعد سنوات يتركون العلم لأهل العلم، والشهادة لبلادها، ويجيئون بدلا عنها بامرأة شقراء جميلة. (فإن لم يكن بالعلم فبمصاهرة أهل العلم، على الأقل) هكذا قال نوري السعيد يومًا وهو يخفف من عذاب أحد العراقيين الذي أرسل ابنه ليدرس الطب، إلا أن الولد عاد بعد أقل من سنة بامرأة جميلة بدلًا عنها”[16]
إلا أن هذا الإخفاق لم يمنعه من تقمُّص المظهر الخارجي من شخصية جان بول سارتر، وتقليدها، مع استحضار حالة غثيانية لفظية تجاه كل ما هو موجود في الحياة، كتعبيرٍ حقيقي عن تمثّل الوجودية السارترية في أبهى معانيها. فالنوم –وفقاً لتعاليم الفيلسوف الصدري- غثيان، والصحو غثيان، والمشي غثيان والتوقف غثيان… “كل شيء كان يشعره بلا جدوى الوجود وعبثيته، كل شيء كان يصيبه بالغثيان. الجنس المحموم مع هذه الخادمة يصيبه بالغثيان، لحمة الستيك الطرية التي يأكلها بشراهة وهو يعب وراؤها النبيذ الأحمر تصيبه بالغثيان، السجائر الفاخرة التي يدخنها بشراهة تصيبه بالغثيان، التجوالات في حدائق بولونيا، المتع الغريبة السهلة في الحي اللاتيني، السينما الخلاعية في السان ميشيل، الأحذية اللماعة، الكرافاتات الحرير، العطور اللاذعة كلها تصيبه بالغثيان”[17]
هذا الفراغ المعرفي سُدَّت فراغاته برطانةٍ لفظية رأى فيها المجتمع البغدادي ستينيات القرن العشرين فتحاً فلسفياً. فبإزاء الحالة الكاريكاتيرية للفيلسوف الفارغ، صوَّرَ الراوي حالة الفراغ التي كان عليها المجتمع الذي عاش فيه الفيلسوف ما جعله يُسوّق بطولته الفارغة في مجتمع يُبحث فيه عن مُخلَّص ولو على هيئة فزَّاعة!
“عاد عبد الرحمن من باريس إلى بغداد أوائل الستينيات عودة أبدية، عاد مع زوجته الفرنسية إلى بلاده معللًا النفس بحياة فلسفية دون شهادة في الفلسفة، فاستقبله المثقفون بعاصفة من التصفيق، والتشجيع فأطلق عبارته الشهيرة (ما معنى الشهادة في عالم لا معنى له) فصرخ أحد الجالسين في وجهه مثل مجنون:
هل كان سارتر فيلسوفاً بشهادته أم بفلسفته؟
كان ذلك في عصر يوم من أيام الصيف اللاهب من عام عوده من باريس، كان ذلك اليوم في مقهى البرازيلية، أمام سلمان الصافي وعباس فلسفة فقلبوا الكراسي بجنون أمامه، وصرخوا، وهاجوا، وماجوا أمام هذه العبارة الفلسفية المدهشة، لقد تعتهم الفيلسوف بهيئته، لقد أسكرهم بملامحه الفلسفية”[18]
بإزاء هذه التشوُّهات الحاصلة في بنية المشهد الثقافي (العراقي/ العربي) أرادَ إسماعيل حدوب أو التاجر صادق زاده –كما الكثير من النماذج المُشابهة له- أن يحظى بمكانةٍ مُتقدمة في الوسط الثقافي، فلجأ إلى تلفيق التاريخ بواسطة المال. أي أنه لجأ إلى المُساهمة في صناعة المشهد الثقافي وإعادة صياغته صياغة جديدة تُلائم وضعه الجديد كتاجرٍ مُثقَّف، مُتنوِّر، مع ممارسة التُقية والإخفاء مع تاريخه القديم أو المطمور. وقد وظَّف المال في سبيل ذلك، فأتى براوٍ اعتقد أنه سيصل إلى ذلك التاريخ الناصع دون عناء، لذا لم يكن بحاجةٍ إلى إرشاده فتركه وشأنه. لكن في مسودة النسخة النهائية من سيرة فيلسوف الصدرية كان الرواي قد توصَّل إلى التاريخ الحقيقي للشخصية المركزية عبد الرحمن، والشخصيات الأخرى التي تقاطعت حيواتها مع حيوات تلك الشخصية؛ بما فيها شخصية إسماعيل حدوب أو التاجر صادق زاده. لذا عمد إلى الطلب هذه المرة ومن الراوي أن يكتب سيرة (بنيوي الوزيرية)، بعد أن كُشفت حقيقته. ففي المرة الأولى التي طلب فيها من الراوي أن يكتب سيرة الفيلسوف لم يكن الغرض الأصلي لتمويل تلك المهمة هي كتابة سيرة فيلسوف الصدرية عبد الرحمن، بقدر ما كانت رغبة مُبطّنة بتظهير تاريخ إسماعيل حدوب وتطهيره، وتجسيد هذا الطهر في شخصية التاجر صادق زاده حصراً، الصديق الحميم لفيلسوف الصدرية. لكن الراوي اكتشف الزيف المعرفي للفيلسوف، والتاريخ الحقيقي للتاجر صادق زاده. ما جعل الأخير هذه المرة أن يطلب من الرواي أن يكتب سيرة (بنيوي الوزيرية) الذي تمثّله وأراد أن يتقمص فيه دور “ميشيل فوكو” رائد المدرسة البنيوية!
“جاء ميشيل” قالت [يقصد نونو بهار]، ونهضت فنهضت أنا أيضا. لقد صدمت.
كان ميشيل هو إسماعيل حدوب أو صادق زاده، إلا أنه حلق شعره بالموسى تمامًا وارتدى نظارة طبية ذات إطار فضي تشبه نظارة ميشيل فوكو. طوله الفارع، نحافته وقميصه ورأسه الأقرع وعيناه الثعلبيتان.. تقودك مباشرة إلى الصورة المعلقة على الجدار.
صافحني بطريقة فلسفية، وتصنع نظرة متفحصة، ثم جلس. وضع يدًا على فمه مثل ميشيل فوكو ورفع يده الأخرى ليضعها على كتف الكرسي الذي تجلس عليه نونو، ووراءه مباشرة كانت صورة ميشيل فوكو معلقة على الجدار. كان يبتسم على الدوام، وهو ينظرني بنظرات فاحصة، قالت نونو لتكسر دهشتي:
“ميشيل لديه مشروع كبير، ومثمر، أنت ستربح الدولارات وهو سيخدم الثقافة العربية”
“ما هذا المشروع؟” قلت، وقد تحشرج صوتي.
“مشروع كتاب” قالت
حرك رأسه الأقرع نحوي، كان يشبه قطة تتحرك أمام لحمة أرجوانية، إلا أن عصبيته قد تلاشت تمامًا، وتحدث بطلاقته ليذكرني بتفوقه الفكري
“لقد قرأت ميشيل فوكو، لم يعد سارتر مفيدًا للثقافة العربية، العبث والغثيان لم يستطيعا حل مشاكلنا، علينا أن نتبع خطة جديدة، البنيوية هي التي ستحل مشاكلنا، فأريد كتابة مؤلف يقوم بهذا الشيء، ما رأيك؟”
كنت أشعر بالضيق ولذا قلت باهتمام فاتر:
لم أفهم، من سيكتب الكتاب؟”
“أنت” قال بتململ وقد اصطبغ وجهه باللون القرمزي، فتدخلت نونو مباشرة، وبكلفة قليلة لكي لا تبدو أقل إحسانًا من الآخرين
“أنت ستقبض المال، وميشيل سيضع اسمه على الغلاف”
“سيضع اسم ميشيل فوكو على الغلاف” قلت، وكانت نبرة الاستهزاء واضحة
“لا، لا. سيضع اسمه الجديد: بنيوي الوزيرية، بعدما مات وجودي الصدرية، علينا أن نخترع فيلسوفًا لبغداد، وما هذا الفيلسوف إلا بنيوي الوزيرية”[19]
في المرة الأولى التي طُلب فيها من الراوي أن يكتب سيرة “فيلسوف الصدرية”، وافق، لأنه لا يعرف طبيعة الشخصية التي يبحث عنها.
وفي المرة الثانية التي طُلب فيها منه أن يكتب سيرة “بنيوي الوزيرية” هرب، لأنه عرف أن الشخصية المركزية التي حرّكت عمليات الكتابة برمتها شخصية انتهازية، ولا علاقة لها بالعمل الثقافي، إلا أنها تملك المال الذي تُريد عبره صناعة تاريخ ناصع، مُشرق، وطاهر، وعلى درجة عالية من الوعي المعرفي، وحتى وإن كل أصله كله زيف.
في المرة الأولى تعرَّض الراوي إلى نوعٍ من الخِداع، تزامن مع حاجته للمال، لكنه استطاع أن يكشف إلى أي مدى عاش العالَم العربي –مُجسداً في المجتمع البغدادي- حالة من الزِّيف المعرفي التي شوّهت روحه، فجعلته نهباً لأحكام –على ذاته وعلى الآخرين- مُجتزأة وفارغة وممسوخة.
وفي المرة الثانية، ومع امتلاكه للوعي الكافي الذي وفرته له تجربة الكتابة الأولى، هرب من هذا الاستحقاق العبثي، في محاولةٍ ليكون للفعل الكتابي دور تنويري في إدارة الشأن المعرفي من الدَّاخل، لناحية ضبط تشوهاته الحاصلة بفعل تعاضد الفارغين معرفياً مع الانتهازيين اقتصادياً.
وبالفعل، فبقدر ما كشفت رواية (بابا سارتر) عن تهافت المشهد الثقافي العربي، مُجسداً في المجتمع البغدادي ستينيات القرن العشرين، بقدر ما شكلّت خط دفاع مُتطور ضد الابتذال والامتهان والانتهاز والفراغ الذي تجسّد في ذلك المشهد، ويمكن أن يتكرر في أي لحظة، إذا لم نتوافر على أناس صادقين على المستوى المعرفي، وشرفاء على المستوى الاقتصادي.
بابا سارتر أو فيلسوف الصدرية عبد الرحمن، تجسيدٌ خالد لحالة التشوُّه المعرفي. وإسماعيل حدوب أو التاجر صادق زاده، تجسيد خالد للانتهازي الذي يملك المال. والراوي تجسيد خالد[20] للضمير المعرفي والأخلاقي الذي يقف –غير مَالِك إلا لعقله الإبداعي وأدواته الكتابية- في وجه الابتذال والامتهان والزيف المعرفي من جهة، والانتهاز المالي من جهة ثانية.
المراجع:
[1] مثل –في الأدب العربي- شخصية الجبلاوي التي أبدعها الروائي المصري “نجيب محفوظ” في روايته أولاد حارتنا، أو شخصية يحيى التي أبدعتها الروائية الأردنية “سميحة خريس” في روايتها يحيى. وكشخصية –في الأدب العالمي- راسكولنكوف التي أبدعها الروائي الروسي “فيدور دوستويفسكي” في رواية الجريمة والعقاب، أو شخصية غرينوي التي أبدعها الروائي الألماني “باتريك زوسكيند” في رواية (العطر: قصة قاتل)، أو شخصية سامسا التي أبدعها الروائي التشيكي “فرانز كافكا” في رواية المسخ، أو شخصية “إيغوشي” التي أبدعها الروائي الياباني “ياسوناري كاواباتا” في روايته (الجميلات النائمات)، أو شخصية “جان فالجان” التي أبدعها الروائي الفرنسي “فكتور هوغو” في روايته (البؤساء)، وغيرها العديد من النماذج الإبداعية التي صارت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا الواقعية.
[2] علي بدر، بابا سارتر، ص 30
[3] السابق، ص 47
[4] علي بدر، بابا سارتر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط3، 2009
[5] المرجع السابق، ص 33
[6] علي بدر، بابا سارتر، مرجع سابق، ص ص 68- 69
[7] السابق، ص 72
[8] السابق، ص 74
[9] السابق، ص 74
[10] السابق، ص 79
[11] السابق، ص ص 88- 89
[12] جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني، ترجمة عبد المنعم الحفني، الدار المصرية للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، ط1، 1964، ص 10.
[13] علي بدر، بابا سارتر، مرجع سابق، ص 102
[14] السابق، ص 35
[15] ترجم الرواية للغة العربية سهيل إدريس، وصدرت في عدة طبعات عن دار الآداب في بيروت
[16] بابا سارتر، مرجع سابق، ص 38
[17] السابق، ص 41
[18] السابق، ص 42
[19] علي بدر، بابا سارتر، مرجع سابق، ص ص 235- 237
[20] نظراً لحالة الوعي التي يمتلكها الرواي، أي راوٍ على الإطلاق، لتصويب الأخطاء التي تطال عملية الوعي برمّتها.