تكوين
غالباً ما تُقدّم علاقة الابن بالأب – بخاصة في الأدب والتحليل النفسي – بوصفها علاقة متوترة، تقوم على الصراع والتنافس بل إن فرويد انتقل بها إلى مستوى نظريّ مؤسِّس يقوم على نظرية “قتل الأب”. سأحاول في هذه الدراسة تقديم مقاربة رمزية لفكرة “قتل الأب” أو “قتل الرب” فالأبُ ربٌّ بأحد المعاني وبالرمزية الدينية كثيراً ما يتحد الأب/بالرب ألأم يصرخ المسيح على الصليب بالرب الذي هجره عندها “أبي أبي لماذا تخليت عني؟”
منذ التراجيديا الإغريقية (على الأقل) مروراً بالأدب الحديث ثم المعاصر تكشف لنا العديد من الأعمال الأدبية – في المسرح والرواية بخاصة – عن حالة ندية (إن لم تكن إقصائية) تحكم غالباً علاقة الإبن بأبيه أو المخلوق بخالقه. من بين تلك الأعمال الأدبية المُلهمة في هذا الموضوع يمكن لنا الاستشهاد بالمسرحية التراجيدية أوديب ملكاً لسوفكليس و هاملت لشكسبير و فرانكنشتاين لماري شيلي و الأخوة كارمازوف لدوستويوفسكي أو كذلك سر الصبر لجوستن غاردر من بين عناوين أدبية أخرى كثيرة يمكن استحضارها. لا شك أن الأدب قد قدّم للتحليل النفسي كنزاً من الرموز سمحت لفرويد (قارئ الأدب النهم) بصياغة العديد من أفكاره ونظرياته، والتي كان أشهرها ربما “عقدة أوديب” التي ولدت من قراءته الخلاقة للمسرحية التراجيدية لسوفوكليس أوديب ملكاً والتي صاغت علاقة الأبن بأبيه بعلاقة إقصاء تصل حد قتل الأب كما سيؤطرها في الطوطم والتابو على شكل حكاية تخيلية لمجتمع بدائي وحشي يتحد فيه الأبناء الذكور لقتل الأب المسيطر.
نظرية قتل الأب
لكن قبل تفكيك نصوص بعض هذه الأعمال، أود قبلاً التساؤل عن إمكانية إسقاط نظرية “قتل الأب” parricide على تاريخ الأديان. في صياغته لنظريته تلك أراد فرويد أن يجعل من حدث قتل الأب فعلاً مؤسساً لنشوء الحضارة، ولتاريخ الإنسان ما بعد البدائي وقد حاول البعض إسقاط ذلك على الأديان، لكن هل هناك حقاً في مصادر الأديان – سواء تعلق الأمر بالأساطير أو بما تُسمى ﺑ “النصوص المقدسة” – حكاية واحدة على الأقل يتجلى فيها قتل الأب بحيث يمكن البناء عليها وإعادة كتابة تاريخ الأديان بوصفه قتل للأب أو قتلاً للرب؟ عند هذا التساؤل سيقفز إلى الذهن مباشرةً قصة قتل الأخ فحكاية قتل قابيل لهابيل قصة حاضرة بكل ثقلها الرمزيّ في سفر التكوين من التوراة وكذلك في القرآن، لكنك لن تجد حكاية واحدة في كل تلك النصوص عن قتل الأب. هناك إذن fratricide لكن ليس parricide هناك إذن قتل للأخ (النظير والند)، لكن ما سبب غياب “قتل الأب” عن الأديان وكيف يمكن لنا تفسير مثل هذا الغياب، في سياقٍ نصيٍّ حافل، كما نعرف، بالصراعات العنيفة والحروب الشرسة بين الأبناء والآباء سواء أكان صراعاً بين الآلهة فيما بينها أو بين البشر فيما بينهم أو بين البشر والآلهة؟
لأجيب عن هذه الأسئلة سأبدأ بامتحان نظرية “قتل الأب” في المثيولوجيا الإغريقية حيث سأفكك، من بين المصادر العديدة التي ظهرت فيها أساطير الآلهة، نص ملحمة ثيوغونيا Θεογονία / Theogonía الشهيرة للشاعر هزيود (القرن السابع قبل الميلاد). لا شك أن الإلياذة و الأوذيسة لهوميروس تمثلان مرجعية لا غنى عنها لمعرفة شؤون الآلهة الإغريقية لكن، تظل ثيوغونيا[1] أكثر تخصصاُ وتأسيساً لما يمكن أن نسميه جينيالوجيا الآلهة منذ عملية الخلق الأولى مع أم الآلهة جيا Géa (الأرض) مروراً بتفاصيل ميلاد بقية الآلهة وعلاقاتهم فيما بينهم من صراعات ومؤامرات وتحالفات وخصومات وزيجات ومكائد وغيرة الخ. تقدم هذه الملحمة الشعرية إذن مادة دسمة فيما يخص موضوعنا حول قتل الأب/الرب في صراعات الآلهة الأبناء مع آبائهم الآلهة على السلطة هناك على مسرح السماء، حين “كان يسود العماء إذن”[2] وحيث سنشهد ميدان ولادات وحروب الآلهة، “عِرق الخالدين” كما يدعوهم هزيود[3].
أورانوس في مواجهة كرونوس
في ملحمته تلك يُقدِّم لنا هزيود سيرورة نشأة الوجود حيث خلقت (الأرضُ) جيا Géa الكونَ kósmos متضمناً السماء التي ستُسمى أورانوس والتي ستتخذها الأرض زوجاً لها. معاً ستنجب الأرضُ والسماء أو أورانوس وجيا عدة أطفال/آلهة، لكن أبرزهم سيكون أصغرهم الذي سيأتي “أخيراً، بعد الجميع، الماكر كرونوس.”[4] يخبرنا هزيود أن كرونوس كان – من بين جميع أخوته وأخواته – “الأكثر رُعباً والذي كان يكره أبيه منذ يوم ولادته.”[5] وفقاً لهذا المقطع يتجلى الكره والحقد تجاه الأب بوصفه حقداً مؤسساً لتلك العلاقة، حقداً دون أصل، فهو الأصل لأنه يسبق الولادة أو يولد معها. وبمعنى آخر إن كراهية الإبن للأب هنا هي سببٌ وليست نتيجة فهي لا تنتظر لتصبح رد فعل لاحق تسوغه على نحوٍ رجعيّ تصرفات أبٍ عنيف وهمجيّ وظالم على سبيل المثال. إنه كما لو كان حقدٌ غريزيّ أو فطريّ يسبق الشخصية ويتحكم بها على نحو قبليّ. ومع أنه كذلك في حالة كرونوس إلا أن “الأفعال المذمومة”[6] لأبيه الخالق له ستمنح لهذا الحقد الفطريّ مبرراته وتسوغه فأورانوس كان “ما أن يولد أطفاله بالكاد حتى يخفيهم عن الضوء في أعماق الأرض…”[7] لكن فعله الدنيء هذا تجاه أطفاله لن يمر دون انتقام وعقاب ليس فقط من قبل أبنائه الذين سجنهم وأخفاهم وأساء معاملتهم، وإنما أيضاً من قبل أمهم جيا التي نمى عندها أيضاً شيء من الحقد الكامن تجاه زوجها أورانوس، إله السماء نتيجة ما فعل بأبنائهما. لكي تنقذ أبناءها وتُسقط سيادة زوجها الهمجي ستعكف بالسر على صناعة منجل عظيم حاد النصل وحين تنجزه ستجمع أبناءها الآلهة الصغار وتلقي عليهم هذا الخطاب المحفز على الثأر: ” يا أطفالي، أنتم يا من ولدتم من أبٍ مُنحرف، لو صدقتموني، فإننا سننتقم من إهاناته فهو من ابتدأ بتحريضكم بآثامه.”[8]
لكن الخوف سيكبل جميع أبنائها من الآلهة الذكور والإناث. وحده أصغرهم كرونوس، المسكون بحقدٍ غريزيّ تجاه أبيه هو من سيتجرأ ويتنطع لمهمة الإنتقام تلك. يروي لنا هزيود تلك المرحلة التحضيرية السابقة على عملية الإنتقام من الأب بالعبارات التالية: “لكن الخشية ستقيدهم جميعاً ولن يرفع أحدٌ منهم صوته، وحده العظيم والحذر كرونوس يثق بنفسه ويستجيب لوالدته المبجلة بهذه الكلمات: أقبل يا أمي هذه المهمة وسوف أنجزها. لا أكترث لهذا الأب الشنيع، فهو من ابتدأ باقتراف أفعال آثمة بحقنا.” [9]
مستعيناً بالمنجل “ذي الأسنان المشحوذة” الذي صنعته الأم جيا، سيقوم كرونوس وبضربة قوية بقطع قضيب والده أروانوس في اللحظة التي “ينزل بها [أباه] مع الليل ليضاجع جيا منتشراً بكل أجزائه ليحضتنها. عندها يندفع كرونوس من مخبأه ويمسك به باليد اليسرى، ويهوي بالمنجل العظيم الطويل المسنون القاطع بيده اليمنى ويبتره له ويرمي ذلك الجلِد المُخزي بعيداً وراءه.”[10] بخسارته لقضيبه، رمز الذكورة والفحولة والخصوبة، يفقد الأب سلطته ويصبح من بعدها عاجزاً غير مؤهل للزعامة فيخسر عرشه كملك للآلهة، ذلك العرش الذي سيستولي عليه من بعده الذكر المهمين والمنتصر، ابنه كرونوس الذي هزم أباه واحتل مكانه المقدس مشبعاً بذلك حقده العتيق على الأب.
كرونوس في مواجهة زيزس
بيد أن تحدي الآلهة يستجلب غضبها وعقابها. فرغم هزيمته وخسارته لسلطته في رئاسة الألهة، فإن أورانوس إله السماء “الغاضب من أطفاله، من أولئك الذين أنجبهم، سيطلق عليهم اسم التيتان مُعبراً بهذا الاسم عن أفعالهم المُدانة ومهدداً إياهم بعقاب قادم.” [11]وسيخص من بين جميع أبنائه ولده كرونوس بحقد خاص لأنه أهانه وأسقط عرشه واحتل مكانه سيداً على الآلهة. سيعلم هذا الابن الملعون من أبيه أورانوس نفسه وأمه جيا ما ينتظره من عقاب الذي سيخبرانه به بالكلمات التالية: “مكتوب عليه أن يرزح، رغم قوته، تحت حكم أحد أولاده وأن يخضع لأوامر زيوس.” [12]
كان كرونوس قد أتخذ من أخته الإلهة رهيا Rhéa زوجةً له وأنجب منها عدة أطفال/آلهة هم هِستيا و ديميتر وهاديس و بوسيدون ثم أصغرهم، من يولد بعدهم جميعاً زيوس الذي سيصبح “الأقوى، والأكثر سطوة بين الآلهة.” [13]لكن ولكونه مسكوناً بهاجس اللعنة ولكي “يمنع أي من الماجدين المنحدرين من السماء أن يستولي على صولجانه”[14]، سيحاول كرونوس إبطال مفعول العقاب بابتلاع أبنائه وبناته من الآلهة الذين أنجبهم واحداً بعد الآخر بعد ولادة كل منهم مباشرةً. [15] لكن إن كان هناك ما تعلمنا إياه الأساطير الإغريقية فهو استحالة الفرار من القدر الحتميّ والنافذ ولا يشكل الآلهة أستثناء في ذلك وبالتالي لن يشذ كرونوس إذن عن هذه القاعدة وسيلاقي في النهاية مصيره المحتوم.
وهنا ومرةً أخرى تولِّد الهمجية الذكورية التي تتجلى في ممارسات الأب الوحشية ضد أبنائه غضب الأم وقلقها. فكما وقع لجيا حينما حرّضت أبناها على الانتقام من أبيهم الظالم، سيقع لرهيا الغاضبة من كرونوس و”فريسة الألم” حيث ستحاول تلك الأم إيجاد حلٍ لإستعادة أبنائها الذين ابتلعهم أباهم ووستفكر في طريقة لإنقاذ الجنين الذي في أحشائها، زيوس. يروي لنا هزيود في ثيوجينا كيف لجأت رهيا هذه الأم/الإلهة إلى طلب نصيحة كل من أورانوس وجيا جدّيّ أطفالها ووالدا كرونوس لتمنع هذا الأخير من التهام مولودها القادم وكيف وافقا على مساعدتها لإنقاذ ابنها الآتي زيوس من مصير إخوته وأخواته السابقين عليه بإخفائها بعيداً عن قبضة والده المتوحش. فما أن وضعت مولودها حتى أودعت رهيا زيوس عند جدته جيا التي أخفته “في غارٍ عميق تحت الغابة الكثيفة لجبل إيجة.”[16] يمكن لنا وضع اليد في هذا المقطع من قصيدة هزيود على ذلك التضامن الأنثويّ بين الآلهة المؤنثة وتحالفها ضد العنف المتفلت للآلهة الذكور. كانت جيا هي من خلقت أورانوس وهي من أنجبت كرونوس وهي من ثارت ضد التصرفات الرهيبة والمرعبة لهذين الإلهين اللذين ليسا في النهاية سوى زوجها وابنها، لكن المستعدان لإرتكاب كل الفظائع للإسئثار بالسلطة دون شريك بما في ذلك سجن الأبناء وإخفائهم. من الصحيح أن أورانوس قد وافق على التآمر مع جيا ورهيا ضد ابنه كرونوس، لكن لا شك أن ما دفعه إلى ذلك ليس الخجل أو الشعور بالعار لتصرفات ابنه، فهو لم يكن أفضل أو أكثر رحمةً بأبنائه منه، لكنها الرغبة بالإنتقام الأبوية من ابنٍ أهان والده وأخذ مكانه. بقية الأسطورة تقول لنا أن رهيا قد لجأت إلى الخديعة لتحتال على زوجها حيث لفّت حجراً هائلاً بقطعة قماش ضخمة وأعطته لكرونوس على أنه المولود الجديد. ابتلع هذا الأخير الخدعة والحجر ظاناً منه أنه تخلّص بذلك من آخر أبنائه.
هكذا نجا زيوس من مصير أخوته الأكبر وسيتمكن ذلك الإله الفتيّ “سيِّد الصاعقة”[17] والذي “لن يعرف لا الإخفاق ولا القلق”[18] من إخضاع أبيه “بقوة جسده، ويجرده من شرفه، ويحكم الخالدين بدلاً منه.”[19] يخبرنا هزيود قصة سقوط حكم كرونوس كما يلي: “حينما سيحين الوقت سيتفاجئ بحيل جيا، وسيُهزم بقوة ذراعيّ ونصائح ابنه، وسيعيد الماكر كرونوس النور إلى الآلهة التي ولدت من دمه والتي كان قد التهمها.” [20]بطريقةٍ أو بأخرى إذن[21]، نجح زيوس في النهاية، في إجبار كرونوس على إخراج أخوته وأخوته من أحشائه مما جعلهم مدينين له بحريتهم ونصبوه بذلك سيداً عليهم. بفضل معونة أخويه، على الأخص، هاديس وبوسيدون اللذين سيمنحهما صلاحيات كبيرة في الأولمب ويحكما معه وتحت سيطرته العالم، ينجح زيوس وأخوته في إنهاء حكم التيتان ليبدأ معهم عهد الكرونيدس Cronides [22].
زيوس
يمثل هذا العهد الجديد من وجهة نظريّ الممر الذي يقودنا من الأسطورة إلى الدين دون أن يعني ذلك تخلص الدين بالكامل من الأسطورة أو قطعه معها فهو يحتاجها ولا يمكن أن يتأسس أصلاً إلا عليها. وبمعنى آخر دون التنكر لعلاقة الأبوة بين الأسطوريّ والدينيّ إلا أن الدين، من وجهة نظري، قد بدأ بالتمايز عن الأسطورة في اللحظة التي دخل فيها البشر المشهد كممثلين أساسيين مثلهم مثل الآلهة لا كمجرد كومبارس. ما أريد قوله هنا أن البشر كانوا قبل عهد الكرونيدس غائبين أو شبه غائبين عن المشهد الأسطوري المقصور على الآلهة. من الصحيح أنهم كانوا موجودين قبل قدوم زيوس وأخوته وسكنهم الأولمب بدل السماء، كما كان عليه الأمر أثناء حُكم أورانوس لكن حضورهم ظل حينها غير مرئي، شبه خفيّ دون أن يكون لهم دور يقومون به. لقد كانوا غائبين في الديكور ومختفين في خلفية الشمهد الذي تحتله الآلهة وصراعاتها. مع قدوم الكرونيدس بعد التيتان لم يعد حضور البشر يتعلق فقط بعملية خلق الآلهة لبشر كالأغنام المسالمة التي تعيش في الجنة تحت رعاية الآلهة، وإنما بعلاقة جديدة، علاقة أبوة: آباء/أبناء بحيث صار يمكن أن يولد بعض البشر من الآلهة مباشرة بعلاقة اتحاد بعد أن كان ذلك مقصوراً على كل عالم لوحده: فيلود الآلهة من الآلهة فقط ويولد البشر من البشر فحسب. في تلك اللحظة التي يصفها لنا هزيود بالقول: “أصبح فيها زيوس أباً للآلهة وللبشر“[23] ولد الدين من الأسطورة. عندها راح البشر يختلطون بعالم الآلهة وصارت الألهة تهتم لشؤونهم الأرضية فولد الدين يومها من رحم الأسطورة وحقق شيئاً من الاستقلال النسبي عنها. وفقاً لهذه الأطروحة لا يوجد دينٌ دون بشر في حين قد يغيبون بالكامل عن الأسطورة المشغولة بعالم السماء والآلهة التي تسكنها. على خلاف الأسطورة يحتاج الدين إلى العالمين معاً: البشريّ الأرضي والإلهي السماوي، وتأثير كل واحد منهما بالآخر باستمرار. فقط حينما سكنت الآلهة الأرض ولد الدين من تفاعل البشر مع الآلهة ولا يهم هنا من خلق الآخر أولاً: البشر أم الآلهة. مع اختلاط الآلهة بالبشر لم يعد لدينا نوعين (عرقين سيقول هزيود) مختلفين ومنفصلين إلهي خالص وبشري نقي أو نوع خالد وآخر فاني حيث سنشهد نوعاَ ثالثاً بين البشريّ والألهيّ أو بين الفاني والخالد، “عِرقٌ” سينتج من حالات اتحاد أحد أبناء هذين العالمين بأحد أبناء العالم الآخر: بين الآلهة والبشر سيولد أنصاف الآلهة أو semideus.
لكن قبل أن أنتقل من المثيولوجيا إلى الدين أو من السؤال عن قتل الرب إلى السؤال عن قتل الأب، أود لفت النظر هنا إلى أن لا كرونوس قتل أباه ولا زيوس فعل ذلك رغم أننا رأينا كيف أن الأسطورة التي نقلها لنا هزيود في ملحمته ثيوجينا قد كشفت لنا كيف كان صراع الأبناء مع الآباء صراعاً وحشياً، دون حدود، تعربد فيه الذكورة المتعطشة للسلطة وتشترك فيه كل وسائل الإقصاء من عنف وخيانة وتآمر وحقد وإذلال ووحشية. ومع ذلك كله ورغم كل ذلك الصراع بين الأب و الابن perfide père/fils إلا أنه لم ينتهِ في أية مرة إلى قتل الابن لأبيه. [24] لم يذهب كرونوس على سبيل المثال حد قتل أبيه أورانوس مع أنه قد ولد بحقد فطريٍّ كابده تجاهه حتى انتقم منه. من الصحيح أنه قد أهان والده وخالقه أمام جميع الآلهة بقطع قضيبه وخصيتيه محيلاً إياه بذلك عاجزاً وهذا قد يكون أقسى من الموت، لكنه لم يقتله. كما أن زيوس الذي هاجم أباه وأهانه وأسقط عرشه وأحتل مكانته وسيادته كملك على الآلهة لم يقتل أباه هو أيضاً. مع أن سياق أسطورة هذين الإلهين وبقية الآلهة لا يسمح لنا بتصور أي نوع من أنواع الشفقة الكامنة أو الخفية التي يمكن أن تكون قد منعت هذا الابن أو ذاك من قتل الأب. كما لا يمكن لنا تصور أنهما أحجما عن قتل الأب خشية عقوبة أو لعنة أقسى من لعنة إهانة الأب وإذلاله وأخذ مكانه وإحالته عاجزاً. ما الذي منعهما إذن من قتل الأب/الرب في كل مرة؟ لأنه وببساطة لا كرونوس ولا زيوس ولا أي إله أو أحد آخر قادر على قتل إله خالد عصيٍّ على الموت.
سأحول هنا تقديم مزيدٍ من الحجج والنقاشات التي قد تبرر مثل هذه النتيجة المثيرة وربما المستفزة والتي تقول بوضوح: ﺑ “استحالة قتل الرب”. إذا لم يكن هنك وجود للقتل في عالم الآلهة فهذا لأنهم خالدون immortels im-mortels , immortal أو deathless. وكيف يمكن قتل من هو خالد؟! ولكي يكون الكائن خالداً (إذا ما كان هناك خلود لشيء)، يجب أن يكون بلا جسد، أي لا جسديّ بالمطلق. ليس قضيب أورانوس المقطوع إذن إلا مفهوم محض، رمز خالص، فكرة مجرّدة، فكرة أو شكل eîdos مؤسِّس بالمعنى الأفلاطوني للكلمة. لنتذكر أن نظرية الأشكال أو ما اعتدنا على ترجمته إلى العربية ﺑ “عالم المُثل” عند أفلاطون هو عالم الأفكار المُطلَقة الخالدة على عكس “العالم الحسيّ” الخاضع للتحول والتغير والتبدل والتحلل أي ﻟ “الكون والفساد” لو استعرت كلمات أرسطو. إذن لكي يكون خالداً يُمنع على الرب التجسُّد والمادة القابلة للفساد والانحلال أي القابلة للموت والفناء. الجسد أو المادة في الإله ولو ﺑ “مثقال ذرة” تمنعه أن يكون خالداً فالإله الخالد يكون خاليّ تماماً من المادة أو الجسد. وهنا تكمن المفارقة فلكي يكون مُطلقاً على الإله أن يظل محدوداً: فبعدم امتلاكه للجسد يُحرم الأله من الموت على عكس الإنسان مثلاً أو على عكس أنصاف الآلهة أيضاً الذين، يحظون بإمكانية الموت المحرومة منه الآلهة وهذا لوحده مأساة. وإذا كان الإله محصوراً بفعل الخير وعاجزاً عن اقتراف الشر كما تدّعي بعض العقائد أو تذهب إليه بعض الفلسفات فإنه في هذه الحالة أيضاً أفقر وأقل حريّة من الإنسان الذي يتمتع بالقدرة على فعل الخير والشر معاً بينما تظل خيارات الرب محدودة ومقيّدة فالرب مثلاً لا يستطيع الموت حتى ولو أراد ذلك وفي هذا تراجيديا.
على خلاف الآلهة المُطلقة الخالدة، ينجو أنصاف الآلهة الذين يولدون من اتحاد الآلهة بالبشر من هذا المصير كما هو حال آخيل أو جلجامش أو المسيح على سبيل المثال لا الحصر. فعلى النقيض من الآلهة يكفي البشر أو أنصاف الآلهة أن يكون لهم جزء ولو بسيط من الجسد الماديّ حتى يصبحوا من الفانين المعرضين للموت. إن الجزء المادي فيهم مهما كان صغيراً مثل الخلية أو الجُزيء أو أي نسيج عضويّ مهما كان ضئيلاً أو تافهاً حتى ينتمي نصف الإله إلى عالم البشر الفانين. في حالة آخيل مثلاً كان كعبه الذي لم يلمس ماء النهر المُقدّس الخاص بالآلهة حتى تحول إلى نقطة ضعفه القاتلة التي انتهت بموته مع أن بقية جسده كله كان قد تأله وغدا عصياً على أن يمر الموت من خلاله. وفي حالة المسيح فإن تلك الطبيعة المُضطربة بين الإله وابن الإله الإنسان المُختلف عليها دينياً هي ما أتاحت إمكانية موته على الصليب. بهذا المعنى يتغلب الجانب الإنساني دائماً مهما كان محدوداً وضئيلاً على الجانب الإلهي مهما كان مُسيطراً وكبيراً.
المراجع:
[1] بدأً من اسمها Theogonía المُركّب من كلمتين theós (θεός) والذي يحيل إلى الإله و gennáō (γεννάω) الذي يشير إلى فعل الإنجاب تكشف لنا قصيدة هزيود عن نفسها بوصفها نشيد ملحميٌّ إذن حول أصل الآلهة وسلالاتها. في الحقيقة وجدتُ ترجمة عربية لقصيدة هزيود بعنوان أنساب الآلهة بترجمة صالح الأشمر، منشورات دار الجمل، 2015. بعد اطلاع سريع عليها وجدت أن ترجمة الأستاذ الأشمر المقدمة إلى العربية جيدة عموماً ولكنها ليست مترجمة عن اليونانية القديمة مباشرة وإنما هي ترجمة عن ترجمة إذ هي ترجمة لإحدى الترجمات الفرنسية الأخيرة لقصيدة هزيود قام بها وقدّم لها المترجم Jean-Louis Backes وصدرت عن دار غاليمار. بعد مراجعة الترجمة العربية، فضلتُ شخصياً ترجمت الاستشهادات بنفسي عن ترجمة فرنسية أخرى أقدم من ترجمة باكِس لكنها، تظل، بالنسبة لي شخصياً، أقرب إلى الروح الهزيودية وإلى تراجيديا الإغريق بخاصة أن مترجمها هو هنري باتان Henri Patin أحد رجالات الأدب الفرنسيين وأحد المختصين بالأدب الإغريقي والحائز على جوائز أدبية عدة واحدة منها من الأكاديمية الفرنسية التي صدرت عنها ترجمته التي سأعتمدها هنا.
[2] Hésiode, La Théogonie, trad. Henri Patin, CreateSpace Independent Publishing Platform, 2016, p. 8.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن السماء كانت موطن الآلهة الجبابرة Titans قبل قدوم الجيل الثاني من الآلهة التي تُسمى Cronides وهي من ستستوطن دجل الأولمب وهي : هسيتا، ديميتر، هاديس، بوسيدون و زيوس.
[3] La Théogonie, p. 6.
[4] Ibid., p. 9.
[5] Ibid.
[6] Ibid.
[7] Ibid., p. 10.
[8] Ibid.
هكذا ستنتقم الأرض التي تمثِّلها الآلهة جيا من السماء التي يمثلها الإله أورانوس. إنه انتقام الأرض من السماء إذن، لكنه أيضاً انتقام الأنوثة الأرضية الثائرة من وحشية ذكورية السماء.
[9] Ibid.
[10] Ibid.
[11] Ibid. p. 17.
لنلاحظ هنا كيف أن عملية “الإنقلاب” على حكم الأب تتكرر هنا وكما أسقط كرونوس سلطة أبيه أورانوس سيُسقط زيوس سلطة هذا الأخير في صراع ملحميّ بين الإبن وأبيه، المخلوق وخالقه.
[13] Ibid., p. 7.
[14] Ibid., p. 17.
[15] على خلاف ما نراه في اللوحة المعنونة ﺑ “ساتورن ملتهماً ابنه” للرسام الهولندي بيتر باول روبينس أو ما يصوره غويا في لوحته المعروفة ﺑ “ساتورن مُلتهماً أحد أبنائه” واللتان تظهران عملية الإلتهام هنا بوصفها تقطيعاً للأوصال أو نهشاً للابن مع دماء تسيل منه فإن اسطورة كرونوس (ساتورن في اللوحتين) كما ينقلها لنا هزيود تظهر لنا عملية ابتلاع كاملة لأبنائه قطعة واحدة دون تقطيع أو فرم أو جرح.
[16] Ibid., p. 9.
[17] Ibid., p. 6.
[18] Ibid., p. 9.
[19] Ibid.
[20] Ibid., p. 18.
[21] حول كيفية إجبار كرونوس على تقيؤ أبنائه تظل ثيوجينا غامضة ومقتضبة في حين أن مصادر أخرى تقول أنه تم الاحتيال على كرونوس بجعله يشرب شراباً مقيئاً جعله يتقيأ أبنائه واحداً تلو الآخر. انظر على سبيل المثال حول هذه النقطة:
Apollodore, Bibliothèque, Livre I. trad. Paul Schubert, Editions de l’Aire, 2008.
[22] تتقاطع أسطورتا كرونوس و زيوس التي يقدمهما لنا هزيود في الثيوجينا في ثلاث نقاط على الأقل برأيي: 1 – يأتي ترتيب كل من كرونوس و زيوس كآخر المواليد من الأخوة في عائلة كلٍ منهما، 2- هما من سيتوليا عملية الانتقام من الأب وإسقاطه عن عرشه وانتزاع سلطته، 3- الأم هي دائاً من تقف في صف أبنائها المَضهدين من قِبَل الأب وتساعدهم على التخلص منه.
[23] Ibid., p. 19.
[24] تظل إمكانية تعميم غياب قتل الأب بين الآلهة انطلاقاً من أسطورتي كرونوس وزيوس في ثيوجينا هزيود خطأً وارداً، إلا أن جهودي في البحث في العديد من المصادر الأسطورية والمراجع التي تتحدث عن المثيولوجيا اليونانية للعثور على حالة قتل للأب واحدة تثبت العكس لم تؤد إلى نتيجة.