في الإقتداء والخصيصة المعرفية للتفكير الإقتدائي

تكوين

إن إثارةَ موضوعِ الإقتداء أمرٌ فرضه الواقعُ الثقافي العربي،وأمعنت في الحث على استحضاره والنظرِ فيه، تجلياتُه في ميادين الحياة المختلفة،وأعراضُه المنبئةُ بتلف يتآكل شروطَ التفكيرِ  المبدع والخلاق.

الاقتداءُ واحدٌ من المفاهيم المفتاحيةِ في الثقافة العربية والإسلامية،يتداخلُ فيه الثقافيُّ، الأخلاقيُّ والمعرفي، تداخلاً يجعلُ منه مادةً مفيدة للبحث في البِنية التي تحكم نظامَ التفكيرِ الإقتدائي  وكيفيةَ اشتغاله و في نوعية الثقافة التي تنتجها هذه البنية وفي سلوكيات الأفراد والجماعات التي تشبّعت منها،واعتادت التفكيرَ بواسطتها في شؤون الحياة كافة.

الاقتداء لغوياً

يعني الإقتداءُ الاتِّباعَ والتشبّهَ،والتقليدَ والإعتبارَ والتأسّي،والاحتذاءَ،والمماثلةَ، كلُّها مصطلحاتٌ تنتسب في نهايةِ التحليل، إلى حقلٍ  دلالي واحد،يقطع،مع حقلٍ دلالي  مضادٍ،يعودُ في مادته إلى الإختلافِ والابتكارِ والإبداع والاختراع والمعارضة والإستنباط.وإذا كان الضدُّ بالضد ينجلي حدُّه وتستبينُ صفاتُه،فإن مضاداتِ الإقتداء تسهم في تعيين خصيصتِه المعرفية،و في تحديد مباني الفكرِ الإقتدائي المنعقدِ على المشابهة المنتجةِ لثقافةٍ معلولةٍ في انتشارها وهيمنتها  لحضوره الفاعلِ في يومياتِ الإنسان العربي.

يحتل الاقتداء مساحة واسعة في تاريخ الثقافة الدينية عموماً،والمؤلفاتُ والمراجعُ الداعيةُ إلى الإقتداء بالأنبياءِ والرسل والقديسين والأولياء والسلف الصالح والتشبهِ بهم في تجاربهم وسيَرِهم وسلوكهم،واعتبارِ القيم التي آمنوا بها و دافعوا عنها،لا تحصى،في المكتبات وعلى مواقع التواصل المتخصصة،في نشر المعارف الدينية والدعوة إلى التشبّعِ منها والاقتداءِ برموزها.ثقافةُ الاقتداءِ هذه،التي ترعرعت في المجال الديني، ما لبثت أن انسحبت على جميعِ نواحي الحياة،فشاعت في الجماعاتِ،وسكنتْ عقولَ الأفرادِ وتحكّمت بتفكيرهم،حتى وصلت ببعضهم إلى حدِّ الإطمئنان إلى النهج الإقتدائي ، مسلكاً آمناً يغني عن الاجتهادِ المثمر وعن إعمالِ العقل وتفعيل باعه في النظر إلى المسائل والقضايا التي يواجهونها في حياتهم.

شكّل الإقتداء بالسائد في ساحتي العلم والعمل قاعدة عامة في مجتمعاتنا العربية،فالنسج على منوال الرائج واستسهال القياس على نماذج نتّخذها مرجعيات نعود إليها في تفكيرنا أو سلوكنا أو متطلبات يومياتنا،بات من المسلمات الثقافية عند الغالبية من الناس،يركنون إليها،حذراً وخوفاً من الاختلاف،المرذول في عين الجماعة وفي سلوكها النابذ مع المختلفين و الخارجين على ثقافة الإحتذاء والتأسّي.

١-في الخروج على سيادة المفهوم

يحفظ لنا تاريخ الخروج على السائد من القيم والأعراف والمبادئ،نماذج شاهدة على كلفة التمايز  والافتراق،تبدأ بالصعلوك في الجاهلية،والمرتدّ،والكافر والمبتدع في الأدبيات الدينية، والعميل والخائن والمنشقّ،مع الأيديولوجيات الشمولية  الحديثة، ويخبرنا التاريخ أيضاً،ما جرى لهذه النماذج على المستويين،المادي و المعنوي،من اضطهاد وتنكيل وتهميش وتصفية.كان هؤلاء”الخوارج”في الحقيقة ضحايا حرية الرأي والتعبير كما نقول اليوم،دفعوا أثماناً مؤلمة دفاعاً عن حقهم في الاختلاف،في أن يكونوا غيرَ ما هوكائن،تجرّؤوا على التقاليد الإجتماعية والقراءة الدينية الأحادية والعصبيات العقائدية،رفضوا الإقتداء بما يخالف قناعاتهم، وآثروا الانتصار لذواتهم الحرة والعاقلة.

في كتابه”سياسة الاختلاف la politique de la différence”يشير شارل تايلور إلى أنه”،قبل نهاية القرن السابع عشر لم يكن أحدٌ يفكّر بأن التمايزاتِ بين البشر تحمل مدلولاً معنوياً وشخصياً،ويضيف،إن هناك طريقة خاصة لكي أكون كائناً بشرياً،ألا وهي طريقتي أنا،إنني مدعو إلى أن أعيش حياتي بهذه الطريقة وليس بتقليد شخص آخر”وينتهي في تحليله إلى إطلاق مبدأ الفرادةle principe d’originalitéالذي يجب أن يرافقَ تكوين المجتمعات الديمقراطية ويؤطّرَ سياساتِها وبرامجَها التنموية،وفي السياق نفسه تشدّد ماريgaille في كتابها”المواطنlecitoyen”على أن كل واحد منا إنما هو فريد من نوعه ولديه أمور ما ليقولها،ليس بمقدور أي شخص آخر أن يعلنها.في مجتمع ديمقراطي،على الحكومة،وهي تعترف بالمساواة بين المواطنين، أن تعطي الجميع الفرص عينها لتنمية الذات الحقيقية.

إقرأ أيضاً: بين معرفة الحقيقة والمعرفة عنها

لا شك أن الاقتداء يتحرك في المسار المعاكس،يشتغل من خلال نظام معرفي،تقتصر فيه فاعلية العقل على المقايسة،في هذا السياق تحدث بعض الأنتروبولوجيين والنسقيين عن التناظر والتناظر المتسلسل أو المقايسة،وهي عند كثير من الباحثين من الأدوات الاستدلالية التي توظف في مجالات علمية وتربوية ولسانية،لأنها تسمح بإيجاد علاقة بين الكائنات والمخلوقات والمصنوعات والأفكار والأفعال،وتحاكي من جهة بنيتها الصورية القياس الفقهي،فأركان الإقتداء تماثل أركان القياس(المقيس والمقيس عليه ووجه القياس) شكلا ووظيفة،فالمقتدي والمقتدى به ووجه الإقتداء أركان ثلاثة،ينتج عن تفاعلها فعل الإقتداء.على هذا الأساس،يشكل الاقتداء من حيث آلية اشتغاله نهجاً راسخاً في أذهان النخب الملتزمة ووعي الأكثرية من العامة،غالباً ما يعودون اليه بشكل آلي وبطريقة عفوية،في اتخاذ قراراتهم اليومية المتعلقة بمستجدات الحياة،وما تتطلّبه من مواقف،وما تستدعيه من سياسات.

من الواضح والجلي،أن هيمنة النهج الإقتدائي على التفكير والممارسة في مجتمعاتنا،هو واقع معرفي ثابت وأصيل في تاريخ الشعوب والمجتمعات عموماً،وخلفيته تكمن في أن التاريخ يروي لنا في حقباته المتداعية،كيف أن الإنسان الفرد لا يستطيع أن يبدأ مسيرته في الحياة من لاشيء،وعليه،فإن الحاجة إلى أنموذج أو قدوة، تفرض نفسها،لكن السؤال ما هي حدود الاستنارة أو التشبه بهذا الأنموذج أو تلك القدوة؟وهل يصل المقتدي إلى تبعية كاملة تؤدي به إلى تهميش عقله بالعزوف عن التفكّر  فيما يحثّه على التأسي بالمقتدى به؟هل يكون الاقتداء في أحد معانيه تقزيماً للذات،يصل إلى حدّ إلغاء دورها في صوغ علاقة متكافئة مع الآخر؟

أسئلة تفرض نفسها عند البحث في ماهية الإقتداء وشروط تحقّقه بين المقتدي والمقتدى به،والإجابة عنها تقودنا إلى النظر  في نوعية الرابطة بين الطرفين،أو في  التعليل الذي قام عليه اقتداء  المقتدي بالمقتدى به،لأن الإنسان،مهما بدا مهمشاً لعقله عند اتخاذ قراراته وحسم خياراته،يبقى على حدّ من العاقلية توجبها عليه إنسانيته،أو من التبرير العقلاني تمليها عليه مصلحته،وفي كلا الحالين،ثمة عقل يشتغل بانضباط تحت سقف المتقدّم من المقدمات-القدوات،سواء كانت رسالات دينية،أوتجاربَ حياتية أونصوصاً أو أفكاراً،وعلى هذا الأساس يمكن النظر  إلى اتّباع المؤمنين للأديان السماوية،واطمئنانهم  إلى تعاليمها،واعتقادهم بسموّ  القيم الإنسانية الجامعة التي تبشّر بها،وجهاً من وجوه الإقتداء الحاصل لعلة ميتافيزيقية، تعني نتائجها،لجميع البشر،استقراراً وأماناً في الدنيا وخلاصاً مثاباً في الآخرة.

إقرأ أيضاً: الفيلسوف واللاهوتي: من القلق المعرفي إلى الخوف من المعرفة

هذا النوع من الإقتداء المعلّل بعمومية المصلحة، يفصله عند البعض خيط رفيع عن التقليد الذي عرّفه كل من ابن خلفون٦١١هـ)والجرجاني(٨١٦هـ)بأنه قبول قول القائل بدون دليل أو تعليل*،يندرج تحته أنواع أخرى،تنحسر معها هذه العمومية،بفعل انحسار شمولية المقدمات،واقتصار مداها على فئات معينة وجماعات محددة وأفراد لكل منهم قدوته،فتبرز في هذا السياق أنواع من الاقتداء المعلّل بمصالح تتدرّج،هبوطاً أو صعوداً، مع حجم المعنيين بها،فترانا،على سبيل المثال،في ميدان الفكر الفلسفي العربي،أمام اقتداء المشائين بأرسطو واستفادتهم من علومه في المنطق والفلسفة،وسلوكهم نهجه في التفلسف،إذ رأوا في ما قاموا به، واقعاً في مصلحة تطوير العقل العربي وتقريبه من الفلسفة بما هي العلم بالكلّي،أو اتّباع علمانيي عصر النهضة، أفكار الحداثة الغربية وقيمها ورموزها،وذلك على خلفية تجديد الفكر العربي وتحديثه،أودعوة الاصلاحيين النهضويين،للعودة إلى صدر الاسلام والاقتداء برموزه،من أجل إصلاح ما أفسده الخروج على الاسلام الصحيح.

٢-في نقد الفكر الإقتدائي

وقد أثار هذا النهج الإتباعي موجة من النقد عند عدد من المشتغلين بالفلسفة،إذ عبّروا بخلفياتهم الثقافية والأيديولوجية المختلفة،عن موقف رافض لهذا التوجّه،أذكر من هؤلاء المفكرين، وعلى سبيل المثال، ناصيف نصار واضع كتاب طريق الإستقلال الفلسفي،وطه عبد الرحمن،صاحب كتاب الحق العربي بالاختلاف الفلسفي،ومحمد عابد الجابري الذي انتقد في أكثر من كتاب له،لاسيما في كتاب الفكر العربي المعاصر،هذه الإتباعية عند الفلاسفة المشائين وعند مفكري عصر النهضة،هؤلاء الثلاثة وغيرهم كُثُر،اعتبروا الفكر الاتباعي فكر اً دخيلاً،غريباً عن المجتمع العربي،لم يولد من تجاربه،أو من تجارب الذات العربية الواعية لتاريخها،ولذلك هو عاجز عن معالجة المشكلات التي يعيشها هذا المجتمع. ناهيك عن وجه آخر من الاقتداء،يمثله المنضوون في الأحزاب العقائدية والتيارات السياسية،يتبعون قادة هذه الأحزاب والتيارات،ويتبنون الأفكار التي ينادون بها،والمشاريع السياسية التي يروجون لها ويعملون على تحقيقها،دون أن يخلُوَ هذا الإقتداء من مصلحة ترتد إليهم،أفراداً أوجماعات، يراها المقتدون في قدواتهم،أشخاصاً كانوا أو مشاريع سياسية أومذاهب عقائدية.

لا شك أن هذه الأشكال من الإقتداء والمقايسة والتقليد والاحتذاء،والتي يمكن أن ينضافَ إليها اقتداءُ الأفراد والجماعات بأنماط حضارية مختلفة وأساليبَ حياةٍ يومية جديدة،يَرَوْن إليها واقعةً في مجال تطلّعاتهم ورؤاهم و مدى أهدافهم،يفتح البابَ على نوع من العقلية النفعية،التي ينطوي عليها الإقتداءُ كمبدأ يقوم على التواصل النفعي،والمردودِ المشتهى للذوات الفردية والجماعية.

-الإقتداء والمصلحة

يطول الكلام على تجليات الإقتداء في مجتمعاتنا،يتبدّى في مختلف جوانب الحياة التي يتحرّك فيها الأفرادُ والجماعاتُ،والمشتركُ بينها،صدورُها عن نظام معرفي واحدٍ،أصلُ التعليل فيه المصلحة، مأخوذةً بمعناها العام الذي يغطي كلَّ مردودٍ إيجابي أو نفعٍ مرتجى، مادياً كان أو معنوياً، يتحققُ للمقتدي،والمصلحةُ،في أحد معانيها المخصوصة، مسلكٌ من مسالك التعليل،له مساحته الواسعة في المشهد الثقافي العربي والإسلامي،يكفي أن أشير على سبيل المثال،إلى الإستصلاح في الفقه المالكي،وهو عبارة عن مسلك تشريعي،يستعان به في الحكم على وقائع مستجدة،لم تجرِ عليها أحكام الشرع،والتعليل بالمصلحة،موضوع خلافي،بين من يقول بالأخذ بها عقلاً،واعتبارها أصلاً من أصول التشريع،ومن يقول أن الاستصلاح أصل موهوم،لأن التوسل به عقلاً دون الإستناد إلى أصل شرعي أي اتّباع المصالح التي ذكرها الشرع**،ينتج حكماً فاسداً لا يُعتدّ به،وإذا كان مستنده الشرع،فحكمه شرعي،والاعتداد به واجب،والأحرى في هذه الحال  أن يسمى قياساً.(راجع:الغزالي،مستصفى في علم الأصول…(فصل:الأصول الموهومة)،ومهما يكن من أمر،فالمصلحة تلبس عموماً لبوس المنفعة باعتبارها،في غالبية الأحيان، ضالة المقتدي وعلة الاقتداء،والمصلحة بهذا المعنى تربط تقويم الأفعال بالمنافع التي يجنيها المقتدي جرّاء اقتدائه، ويعرّفها بنتام(1748-1832)Jérémy Benthamبأنها”القدرة الكافية في غرض معيَّن على إنتاج ربح أو نفع أو إمتياز أو لذة أو خير أو سعادة”،وهذه كلّها تكاد تكون مترادفة وتشكّل الوجه الإيجابي للمنفعة،أما الوجه السلبي النافع في سلبيته،فيحدّده بنتام “بأنه القدرة الكائنة في غرض ما على منع حصول خسارة أو سوء أو ألم أو حزن لذلك الذي نأخذ مصلحته بعين الإعتبار”(الموسوعة العربية،مادة”منفعة”).

وعليه،

لا يخرج الإقتداءُ في مجمل دواعيه ومباعثه عن المصلحة بما هي تحرٍّ عن المنفعة  بدلالاتها المعلَنة في تعريف بنتام،فالمراقبُ النبيه لسلوك الأفراد والجماعاتِ،والمعاينُ لاصطفافاتهم وراء قدواتهم في الدين والسياسة والإجتماع والثقافة،يستطيعُ أن يستشعرَ آثارَ مصلحةٍ ما،ماديةٍ أو معنوية،يسعون إليها،أو هي متوفّرةٌ،يحرصون على حمايتها وضمان استمراريتها،والتفكيرُ الإقتدائي،في ما ينتجه من ثقافة تبريريةٍ قوامُها عقلنةُ أفعالِ الاقتداء،يسهم في تسويق الإقتداءِ باعتباره نهجاً يَحْسُن انتهاجُه في الحياة.وإذا كان  الاقتداءُ واحداً من المسالكِ الراجحةِ في سلوك البشر،فإنه في الوقت نفسه،تعبير عن عقل حذر،يسكنه الخوف من التفكير خارج السائد والمهيمن،ويرتاح إلى البقاء في عهدة المتقدّم من المبادئ والأفكار والسياسات،يستلهم نماذجها و رموزها ويقتدي بنهوجهم في النظر إلى مستجدات الحياة وفي مقاربة ما تثيره من قضايا والإجابة عمّا تطرحه من تساؤلات.

٣-بين الإقتداء والإختلاف

يترجّح عند الكثيرين القول أن الإقتداء هو  نقيض الإختلاف أو أنهما مفهومان متباعدان جملة وتفصيلاً وفي جميع الظروف والأحوال،وهو قول يبدو للوهلة الأولى معقولاً،لكن النظر في التقلّب السياقي الذي يرافق نشاط كلّ منهما يُشعِر الناظر  بأن في هذا الإطلاق، شيء من الاستعجال والتسرّع، لأن التجارب تعلّمنا أن الإقتداء قد يمر بالاختلاف عَرضاً،كأن يتخذ الإنسان الذي يعيش في مجتمع معين قدوة تختلف كل الاختلاف عما هو سائد من القدوات المعبرة عن ثقافة ذلك المجتمع الذي أنتجها،كذلك الأمر في الاختلاف،فقد يمرّ بالاقتداء عرضاً كأن يعمدَ صاحبُ الاختلاف إلى التشبّه بنماذج أو قدوات تبرر اختلافَه عن السائد،وبالتالي فإن مثلَ هذا التقاطع يجعلُ الإطلاقَ في غير محلّه،والأحكامُ الناشئةُ عنه،تبقى موضعَ ارتيابٍ وتشكيك،وفيها ما يشي بتجاوزٍ لنسبيةٍ معينة،تفرضها الشروطُ المحيطةُ بالفعل أو التي أسهمت في إنتاجه.قد يقولُ قائلٌ،أن الإقتداءَ بالقدوة المختلفةِ لا يُخرِجُه عن كونه اقتداءاً،هذا قولٌ صحيح من جهة كونه اقتداءاً،لكنه مختلفٌ من جهة اختلافِ الإضافةِ،لأن القدوةَ المختلفةَ تُثمر اقتداءاً مختلفاً،والأمرُ جائز في الإختلاف،عندما يقتدي المختلفُ بما أو بمن يجدُ فيه تمكيناً لاختلافه وحجةً على صحة خياره.هذا اختلافٌ فيه قدر من الاقتداء وذاك اقتداء فيه  قدر من الاختلاف،فلا اقتداءَ يخلو من اختلاف ما ولا اختلافَ يخلو من اقتداء ما،كلاهما مسلكان إجرائياًن لفكر” براغماتي”يتقلّب بين أصابع الحياة،يخضع لامتحاناتها ويتلقى إملاءاتِها،بالحيلة الهادفة والفطنة المرِنة،من أجل الفوز بمأرب يترصده أومصلحة ينتظر فرصة اقتناصها.

ما أريد أن أخلص  إليه في ختام هذه المقالة، هو أن الإقتداءَ خيارٌ معقول يلجأ إليه إنسانٌ، يتوخى تحقيقَ أكبر قدر من المصلحة بأقلِ قدرٍ من الاجتهاد والتفكير، طريقٌ،غالباً ما يسلكه الحريصون على مصالحهم، لأنهم،يجدون فيه ما يخفف عنهم أعباء المجاهدةويحدّ من وطأة المسؤولية عليهم ويُشعرهم بالأمان والحماية و يوفّر لهم من المنافع والخدمات،ما لا يَرَوْن تأمينها ممكناً في خيارات أخرى.

لكن،مع ذلك،فإن المجتمعات المتطلّعة إلى التجدّد، لا تنهض وتتقدّم إذا بقي التفكير فيها منحصراً بالإقتداء،والتقليد،انحصاراً صارماً و متعسفاً،يقتصر دورُه على استنساخ تجاربِ الآخرين و استهلاكِ ما يستحسنه عندهم،مستعفياً من واجبه في المبادرة،والإقدامِ،طالماً أن هناك من يبادرُ عنه ويفكرُ عنه و يبدعُ عنه…ومَن ومَن …إلى سائر الأفعال المعربة عن حضور الذات المبتكر والخلاق. (Kant,qu’est-ce que les lumières).

إن التحررَ من سلطة الإقتداءِ والإتّباعِ،لا يتحققُ قبلَ إنجازِ بديلٍ معرفي ينهضُ ويتقوّى بقيام مؤسساتٍ تربوية وجامعية تستوفي شروطَ التدريسِ المنافسِ ومتطلباتِه،واستحداثِ برامجَ تعليميةٍ مواكبةٍ لمسيرة التعليم في الببئاتِ الأكاديمية المتقدمةِ في العالم،تعزّز حضورَ العقلانية، عند المعلمين و المتعلمين،وتنمي فيهم الحسَّ النقدي،ونهجَ المساءلة ، فنكون إذّاك أمامَ منظومةٍ تعليمية مستشرفةٍ تبني للحاضر بعيون المستقبل،يمكن التعويلُ عليها في إنتاج  ثقافةٍ مجتمعيةٍ ناشطة ومتجددة، تحفظ للذاتِ الفردية مزيتَها وللذات الجماعيةِ،هويتَها وحضورَها  الفاعل في ميادين المعرفة،وتحقّقُ لها شراكةً دامغةً في مسيرة بناء الحضارةِ الإنسانية الجامعة.

————————-

الحواشي:

*_جاء في لسان العرب:قَلَدَ الماء في الحوض…يقلده قلداً،جمعه فيه، والقلد جمع الماء في الشيء…فجمع الأمور وضمّ بعضها إلى بعض هو التقليد…،

-قدا.القدْوُ:أصل البناء الذي يتشعّب منه تصريف الاقتداء،يقال:قُدوة وقِدوة لما يُقتدى به.ابن سيده:القُدوة والقِدوة ما تسنّنت به…وأقدى إذا استوى في طريق الدين…

ويقول الفقيه بن خلفون٦٠٠هـ،”حقيقة التقليد قبول قول القائل من غير دليل ولا برهان”

-يرد في تعريفات الجرجاني٨١٦هـ،التقليد عبارة عن اتّباع الانسان غيره فيما يقول ويفعل معتقداً للحقيقة فيه من غير نظر وتأمّل في الدليل،كأن هذا المتّبِع جعل قول الغير أوفعله قلادة في عنقه”

**_المصالح الشرعية الخمس”حفظ النفس،حفظ العقل،حفظ النسل،حفظ الدين،حفظ المال”

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete