لاحظ البعض من الفلاسفة والمفكّرين أنّ أكثر الكلمات دورانا على الألسنة هي أشدّ الكلمات غموضا واستعصاء على التّعريف. فلِفعل “كان” أو «Être» في اللّغات الهنديّة الأوروبيّة ما صَدَق (Extension) لا محدود، أمّا مفهومه (Intension – Compréhension) فيكاد يساوي الصّفر. ومعنى ذلك أنّه يحيل على كلّ شيء دون أن يدلّ على شيء. ويمكن أن نعلّل ذلك بأنّ تحديد الكلمات الّتي تستخدم للدّلالة على المفاهيم المجرّدة والمتصوّرات الذّهنيّة، مثل “الحرّيّة” و”القانون” و”الحكمة” إلخ… أمر عسير إذا كان موضوعها لا يقبل التّحديد والتّحقيق ما دامت خصائصه الذّاتيّة وسماته الدّاخليّة الّتي تكوّنُه غيرَ قادرة على تحديد ما صَدَقِها، وبالتّالي فهي لا تدرك إلاّ بتجسّمها في مراجع معلومة، دون اعتبار لطبيعة هذه المراجع حسّيّة كانت أو غير حسّيّة.
شبيه بفعل “كان” أو «Être» صنف الألفاظ الّتي ترتفع فيها الفوضى الدّلاليّة. ومثالها الأوفى في رأينا كلّ المصطلحات والمفاهيم المرتبطة بمنبعي الدّين (هنري برغسون). ففوضاها العظيمة تحملنا على الإقرار بعدم وجود تطابق ضروريّ بين “الدّين” ومفهومي المقدّس والاعتقاد. فجاك دريدا يفرّق في كتابه “الاعتقاد والمعرفة” (Foi et Savoir) بين منبعي الدّين: العقيدة والإيمان من ناحية، وقداسة الإلهيّ من ناحية أخرى. ويتساءل: ألا يكون الدّينيّ (والتّديّن) الّذي نربطه على نحو فضفاض بالمطهّر والسّالم والنّاجي والسّليم المعافى في تجربة الإلهيّ، وكذلك بالثّقة والائتمانيّ والأمانة والمتّكل عليه في تجربة الشّهادة، ألا يكون مطابقا لمفهوم الدّين؟
يجيبه مفكّر آخر وهو تلميذه ريجيس دوبريه في كتابه “النّار المقدّسة” (Le Feu sacré) على نحو غير مباشر بالتّفرقة الصّارمة بين منبعي الدّين من خلال المقابلة الّتي تمنع التّداخل أو التّطابق بين الدّيني Le religieux والرّوحانيّ Le spirituel والتباس حدّيهما. وقد صاغ دوبريه التّقابل بينهما تارة بعبارة مستفهمة “الحقيقة الدّينيّة والكذبة الرّوحيّة؟” تمثّل رجل الدّين، وطورا بعبارة متلاعبة “الحقيقة الرّوحيّة والكذبة الدّينيّة” تمثّل الإنسان الرّوحانيّ، معتبرا منذ البداية أنّ هذين اللّفظين (“الرّوحاني” و”الدّينيّ”) غير مترادفين. فهما مجالان من مجالات الواقع يتقاطعان دائما ولكنّهما لا يتطابقان أبدا. فالقرابة بينهما زائفة. فالتّجربة الرّوحانيّة تخصّ الذّات وحياتها الباطنيّة، وهي ما يطلق عليها “عمليّات الله في الرّوح” «opérations de Dieu en l’âme». وليس أدلّ على ذلك من الكتابات في موضوع الحياة الرّوحانيّة. فقد كتب أفضلها بضمير المتكلّم المفرد في أشكال مختلفة من الاعترافات واليوميّات والمذكّرات والسّير الذّاتيّة. فهي تكشف الحميم، وتبذل للرّؤية وتعرض على الأنظار اللاّمرئيّ، واصلة ذُرى الأعالي بأسفل السّافلين. فالرّوحانيّ يعمل على اتّحاد النّفس بالله وهذا موضوع اللاّهوت الصّوفي، وإعدادها لذاك الاتّحاد بتمارين روحانيّة «ascétiques». أمّا التّجربة الدّينيّة فهي موجّهة نحو الجماعة ومتّجهة إليها. فالدّينيّ يجتهد في جعل الفرد متّحدا بمحيطه العامر بالمعابد والمساجد والكنائس، وذلك بتوفير المدارس والكتاتيب للأولاد والقبور للأولياء. ويسهر على جعل “الرّبّ” l’Éternel زمانيّا في العالم مضيفا إلى إيمان القلوب تنسيق الأيّام بتقوية روابط الجماعة بواسطة العبادات والاحتفالات الّتي من شأنها أن تجعل كلّ واحد من الجماعات المختلفة يلاقي الآخر منها. وعلى خلاف العمل الدّيني، يقتلع الرّوحانيّ المرءَ من الفضاء اليوميّ الّذي يحتلّه الدّينيّ ويشغله. ذلك أنّه لا يوجد دين من الأديان دون وسم marquage الفضاء وتعليمه بالعلامات، حيث يمكن لبيوت الله و”موظّفيه” ومن كانوا في خدمته مسجّلين في مجال، ومنظّمين في الزّمن بواسطة روزنامة من الواجبات والأعياد. وباختصار يستعدّ الرّوحانيّ للموت، أمّا الدّينيّ فيعدّ الجنائز. ولا يقابل تأمّلات المتوحّد سوى العناية بطقوس القداس liturgie (ويعني هذا اللّفظ من النّاحية الإيتمولوجيّة: خدمة الكنيسة لعموم النّاس). فإن كان اتّباع السّنّة وآداب السّلوك في كلّ الأديان لا يُستغنى عنها فإنّ الرّوحانيّ في غنى عنها. ذلك أنّ تجربة الاتّحاد الإلهيّ عابرة لثقافات العالم، وعابرة للحدود transfrontières لا يقيّدها بلد ولا يحبسها مكان، لأنّها يمكن أن تجري في أيّ مكان. وليس للدّيني مثل هذا الانسياب. فهو مقيّد بالذّاكرة والأرض. فقادة النّاس هم صنيعة عقائدهم وبيارقهم وشيعتهم وأنصارهم. فشتّان بين أخلاق منفتحة وأخلاق منغلقة، وبين الرّوح المؤسِّسة l’âme instituante والأجسام المتألّفة corps constitués قلوبها، وبين النّاشز والمنبتّ الرّوحانيّ وهو في مهبّ رياح الرّوح القدس وبين رجل المؤسّسة وكاتب العدل والمحاسب والماسك بالسّجلّ العقّاريّ وقد كلّفوا بتسجيل الأجسام في الأرض. ففي كلّ الدّهور سيوجد دوما “إنسان [متّجه] نحو” «l’homme vers» (الأعالي) وإن كان لا يستقرّ، و”إنسان في [الدّاخل]” «l’homme dans»، وإن كان مضطربا. فالإنسان الرّوحاني وهو في حال التّوحّش ينفر من المُمَأْسَسِ، الّذي يجمّد اللاّنهائيّ l’Infini، ويرغب في السّياحة والحجّ خارج الأسوار، ووراء الحيطان بحثًا عن “كاريزما” دون المؤسّسة، ووحدة الرّوح دون هويّة الجماعة. أمّا الرّجل الدّيني فيصرف عنايته للوفادة والرّفادة لا للحجّ، ويتحمّل تبعات الوضع الإنساني في حالي الفعل والانفعال.
بيد أنّ كلّ هذه المتقابلات بين “الرّوحاني” و”الدّيني” لا ترمي إلى تأسيس تصنيفيّة متكوّنة من اختيارات منفتحة على قطبين أحدهما يطغى عليه الطّابع الإشراقيّ dominante illuminative، والآخر الطّابع العمليّ، وإنّما تنزيل المقدّس بينهما في سطح بينيّ interface، يمثّل الرّوحانيّ الواجهة الذّهنيّة، والدّينيّ الواجهة الطّبيعيّة. فالنّظر في الرّوح فقط يقود إلى الملائكيّة، والتّمعّن في أعضاء الجسم فحسب يقود إلى البراغماتيّة. وكما كان حامل الفكر هو الدّماغ فكذلك كان حامل العقل الرّوحانيّ هو الدّماغ الدّينيّ. فتداخلهما وانصهارهما ممكن في الشّخص نفسه، فيكون في الآن نفسه “مهندس الأرواح” و”مفتّش الشّرطة” وفاحص الضّمائر. والأمثلة على ذلك عديدة. فالقدّيس أوغسطين كان روحانيّا في “اعترافاته” ودينيّا في “مدينة الله“. ولكن للجمع بينهما وتوحيدهما وجب تمييزهما، فالمستقبل يتحدّد دائما بين الجانبين. أمّا التّداخل فيلحق الضّرر بهما معا، لأنّ كلّ واحد يتغذّى من الآخر. فالرّوحانيّة الّتي تفشل في تشييد “جوّانيّ” مشترك un «dedans» commun قد نذرت نفسها لموت بطيء، تماما كما يفعل جوّانيّ تشاركيّ عندما يحرم نفسه من كلّ إحالة “متّجهة نحو” «vers» السّماوات.
إنّ الملاحظة الأخيرة الّتي ختم بها دوبريه سلسلة المتقابلات في تصنيفيته تبيّن عسر التّلاقي والانسجام بين “الرّوحانيّ” و”الدّينيّ”. تشهد على ذلك المحاولات المتعدّدة في تاريخ الفلسفة العربيّة الإسلاميّة الّتي سعت إلى فصل المقال في “ما بين الحكمة والشّريعة من اتّصال” على غرار ابن رشد الّذي حاول التّوفيق بين الحكمة والشّريعة في قوله الشّهير: “[…] أعني أنّ الحكمة هي صاحبة الشّريعة والأخت الرّضيعة”. وفي هذا الاتّجاه ألّف إخوان الصّفاء رسائلهم. وقد وصف أبو حيّان التّوحيدي في [اللّيلة السّابعة عشرة] من كتاب الإمتاع والمؤانسة مشروعهم بهذه العبارة الموجزة “الشّريعة قد دنّست بالجهالات، واختلطت بالضّلالات؛ ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلاّ بالفلسفة، وذلك لأنّها حاويةٌ للحكمة الاعتقاديّة، والمصلحة الاجتهاديّة. وزعموا أنّه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشّريعة العربية فقد حصل الكمال”، أو تلك الّتي اتّجهت لبيان “ما بين الحكمة والشّريعة من انفصال” على غرار ابن طفيل وأبي سليمان المنطقيّ الّذي قيّم رسائل إخوان الصّفاء وانتقد محاولتهم في الجمع بين الدّين والفلسفة بهذه العبارات الحاسمة الّتي نقلها التّوحيدي في [اللّيلة السّابعة عشرة] من كتاب الإمتاع والمؤانسة بقوله: “وحملت عدّةً منها (أي رسائل إخوان الصّفاء) إلى شيخنا أبي سليمان المنطقي السّجستاني محمد بن بهرام وعرضتُها عليه ونظر فيها أيّامًا واختبرها طويلاً؛ ثم ردّها عليّ وقال: تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أجدوا، وحاموا وما وردوا، وغنوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشطوا ففلفلوا؛ ظنّوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يستطاع؛ ظنّوا أنّهم يمكنهم أن يدسّوا الفلسفة – الّتي هي علم النّجوم والأفلاك والمجسطي والمقادير وآثار الطبيعة، والموسيقى الّتي هي معرفة النغم والإيقاعات والنّقرات والأوزان، والمنطق الّذي هو اعتبار الأقوال بالإضافات والكميات والكيفيات – في الشريعة، وأن يضمّوا الشّريعة للفلسفة. وهذا مرامٌ دونه حدد؛ وقد توفّر على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحدَّ أنيابًا، وأحضر أسبابًا، وأعظم أقدارًا، وأرفع أخطارًا، وأوسع قوىً، وأوثق عرًى، فلم يتمّ لهم ما أرادوه، ولا بلغوا منه ما أمَّلوه؛ وحصلوا على لوثات قبيحةٍ، ولَطَخاتٍ فاضحة، وألقابٍ موحشة، وعواقبَ مخزية، وأوزارٍ مثقلة.”.
تبرز كلّ هذه الأمثلة التّطابق العسير أو التّقارب المستحيل بين الدّين والفلسفة أو بين الدّين والحكمة. فلفظ “الفلسفة” الّذي يعني “محبّة الحكمة” يحيل في التّقليد الفلسفي الإغريقيّ وحتّى الرّوماني القديم على تجربة روحانيّة مخصوصة صرف الفيلسوف الفرنسي بيار هادو Pierre Hadot معظم مؤلّفاته الفلسفيّة لكشف أسرارها. فالفلسفة ليست برنامجا معرفيّا يقتضي من الفيلسوف أن يكون محيطا أو متخصّصا في ميادين الفلسفة والعلم المختلفة، وإنّما هي في المقام الأوّل برنامج عمليّ. فبرنامج الفلسفات القديمة هو ضروب من “التّمارين” أطلق عليها بيار هادو عبارة “التّمارين الرّوحانيّة” Exercices spirituels. وهي تشمل في الفلسفة القديمة la philosophie antique كلّ “ممارسة ترمي إلى إجراء تغيّرٍ جذريّ في الكينونة”. ولذلك وجب أن لا نَقْصِر تلك التّمارين على مجالي الدّين أو اللاّهوت كما يمكن أن يوحي لفظ “روحانيّة” بذلك. فهي تشمل الفكر والخيال والإحساس والإرادة. فالعبارة رغم ما يكتنفها من لبس تؤكّد أنّ الأمر يتعلّق بتمارين تجنّد الرّوح برمّتها للقيام بها. فالفلسفة القديمة هي “تمرين روحانيّ لأنّها أسلوب حياة، وشكل حياة، واختيار في الحياة”. وهذا يجوّز اعتبارها كذلك تمارين “وجوديّة” لأنّ لها قيمة تستهدف طريقتنا في العيش، وأسلوب وجودنا في العالم. فهي جزء من هذا الاتّجاه الجديد في العالم، أي الاتّجاه الّذي يقتضي تحوّلا، بل انقلابا تامّا في الذّات نفسها. ولمّا كانت تقنيات التّحوّل في العالم القديم كثيرة، والفلسفة واحدة منها، كانت التّربية أبرزها. فهي تمرين روحانيّ ينجرّ عنه انقلاب في الكينونة، هذا إذا سلّمنا مع بيار هادو بأنّ “كلّ تربية هي انقلاب”. ويبدو أنّ مفهوم الانقلاب conversion محوريّ في تفكيره حتّى أنّه خصّه بمقالة حلّل فيها فيلولوجيّا معاني هذا اللّفظ في الاستعمالين الإغريقيّ والرّومانيّ. فلفظ «conversion» المنحدر من اللّفظ اللاّتيني «conversio» يعني “الارتداد” و”الرّجوع” «retournement» و”تغيير الاتّجاه” «changement de direction». فاللّفظ يُستعمل لتعيين كلّ معاني الرّجوع والتّحوير transposition. ويُوافق لفظ «conversio» اللاّتينيّ كلمتين إغريقيّتين مختلفتي الدّلالة. فهو من ناحية يوافق كلمة epistrophè الّتي تعني “تغيّرا في القِبْلة” «changement d’orientation»، وتتضمّن معنى العَوْد retour أو العودة إلى الأصل retour à l’origine، أو العودة إلى الذّات retour à soi. أمّا كلمة metanoia فتعني تغيّرا في التّفكير «changement de pensée» أو التّوبة «repentir»، كما تتضمّن فكرة التّحوّل mutation أو الإحياء renaissance. ففي مفهوم «conversion» تقابل داخليّ بين فكرة “العودة إلى الأصل” وفكرة الإحياء «renaissance». “فقطب [الوفاء – القطيعة fidélité-rupture] هذا قد وسم الضّمير الغربي منذ ظهور المسيحيّة.”.
دور الدين في الثقافة الصينية والثقافة العربية
في نفس الاتّجاه عمّق ميشال في بعض دروسه بالكولاج دي فرانس مفهوم الانقلاب معتبرا إيّاه أساسيّا لفهم مضمون الرّوحانيّة la spiritualité في التّقليد الفلسفي الإغريقيّ. فالدّرس الأوّل بتاريخ 6 جانفي 1982، السّاعة الأولى، المنشور في كتابه “هرمونيطيقا الذّات” (L’herméneutique du sujet) خصّص لمفهوم “الرّوحانيّة”، صفحات مكتنزة سطّر فيها برنامج الدّروس اللاّحقة على نحو مكّنه من الانتقال من مشكليّة “الذّاتيّة والحقيقة”، «Subjectivité et vérité» وهي موضوع السّنة السّابقة، إلى مشكليّة “هرمونيطيقا الذّات” الّتي تربط “انشغال الذّات” بمعرفة الذّات بنفسها على النّحو الّذي سطّرته العبارة المكتوبة في معبد دلفي: “اعرف نفسك بنفسك”. ويرتبط برنامج معرفة الذّات عنده بتقنيات محدّدة سمّاها “تقنيات الانقلاب” les techniques de «conversion». وهي تقنيات ترمي إلى تحويل واقع الإنسان الوحيد في العالم، لا بإرجاعه إلى جوهره الأصليّ، بل بتحوير هذا الواقع الموسوم بالافتقار والنّقصان تحويرا جذريا. فكانت صيغة الانقلاب بحكم ذلك من جنس انقلاب التّحوّل conversion-mutation كما حدّده هادو. وهو انقلاب يخصّ معرفة العالم بما فيه وبما يحيط بالإنسان. ولا يحدث هذا الانقلاب من تلقاء نفسه، وإنّما بتجربة تخوضها الذّات العارفة sujet de connaissance يجعلها تتحوّل وتتغيّر. وما يتغيّر فيها تحديدا هو ما يسمّيه الإغريق “الإيتوس”، أي “إيتوس الذّات” l’êthos du sujet. فتحريك الإيتوس أو إنتاجه بالمعرفة معناه تحوير طريقة وجود الفرد وتحويل كينونته. فالعمل الإيتوسيّ هو العمل الّذي ينشئ الإيتوس، ولا يكون إلاّ بضرب من المعرفة تمتلك “فنّ صناعة الإيتوس” «éthopoétique»، أي الفنّ الّذي يجعل معرفة العالم مجدية ونافعة لمعرفة الذّات وتهيئتها لتنقلب وتتحوّل. فالمعرفة في التّصوّر القديم، أي عند المدارس الإغريقيّة المختلفة، وفي التّقاليد الفكريّة الرّومانيّة من بعد، لم تكن كافية بمفردها لبلوغ الحقيقة. فهي تتطلّب من الذّات العارفة أن تتبدّل وتتغيّر، وتنتقل، وتغدو بوجه مّا من الوجوه كائنا آخر يحقّ له الحصول على سبل بلوغ الحقيقة الّتي لا تُبذل لطالبها إلاّ بثمن يضع كينونة الذّات موضع رهان. وهذا هو مضمون الرّوحانيّة la spiritualité وأسّها باقتضاب. فلا إمكان للحصول على الحقيقة أو بلوغها دون انقلاب الذّات أو تحوّلها. ويحصل الانقلاب إجمالا بحركة تقتلع الذّات من أساسها المكين اقتلاعا يفصلها عن وضعها الرّاهن. وهي حركة من شأنها أن تزعجها وتتركها على قلق واضطراب، أو أن تصعد بها إلى معاريج عالية، أو أن تضيئها بنور الحقيقة.
حركة الإيروس
يسمّي فوكو هذه الحركة “حركة الإيروس” (الحبّ)، «le mouvement de l’erôs (amour). ويضيف إليها حركة أخرى يتعيّن على الذّات القيام بها لتتحوّل حتّى يمكنها بلوغ الحقيقة. هذه الحركة هي عمل un travail، أو فعل تُجريه الذّات على نفسها، أي تقوم به بنفسها وتجرّبه على نفسها. وهو فعل تحويل للذّات ينجز شيئا فشيئا بضرب من الجهد والمجاهدة مدارها على الزّهد l’ascèse (askêsis). فالحبّ (أو العشق) والزّهد هما الشّكلان الكبيران البارزان للرّوحانيّة الغربيّة.
ومن أمثلة الفعل الّذي تجريه الذّات على نفسها لبلوغ الحكمة “الرّياضة” و”الارتياض”. وهما لفظان استعملهما ابن سينا في الشّاهد الّذي اقتطفه ابن طفيل في كتاب حيّ بن يقظان لبيان “جملة الأحوال الّتي نبّه عليها الشّيخ أبو عليّ (أي ابن سينا) حيث يقول: “ثمّ إذا بلغت به الإرادة والرّياضة حدّا مّا، عنت له خلسات من اطّلاع نور الحقّ لذيذة كأنّها بروق تومض إليه ثمّ تخمد عنه. ثمّ إنّه تكثر عليه هذه الغواشي إذا أمعن في الارتياض، ثمّ إنّه ليوغل في ذلك حتّى يغشاه في غير الارتياض. فكلّ لمح شيئا عرج منه إلى جناب القدس، فيذر من أمره أمرا، فيغشاه غاشٍ، فيكاد يرى الحقّ في كلّ شيء. ثمّ إنّه لتبلغ به الرّياضة مبلغا ينقلب له وقته سكينة، فيصير المخطوف مألوفا، والوميض شهابا بيّنا، وتحصل له معارفه مستقرّة كأنّها صحبة مستمرّة…” إلى ما وصفه من تدريج المراتب وانتهائها إلى النّيل بأن يصير سرّه مرآة مجلوّة، يحاذي بها شطر الحقّ.”.
ولعلّ أبرز موضوع تعرّض لأشكال مختلفة من الرّياضات الرّوحانيّة هو الجسد. فقد بدأت في تجربة حيّ بن يقظان كما صوّرها ابن طفيل بنفور بطله من جسد الظّبية لمّا فارقتها الرّوح “فصار عنده الجسد كلّه خسيساً لا قدر له” وانتهت بشوقه إلى الخلاص من بدنه و”أن يريحه الله عزّ وجلّ من كلّ بدنه“. فبين جسد الآخر الخسيس وجسده الّذي “هان عنده بالجملة” تعرّض الجسم بإطلاق لضروب من الطّرح أبرزها ما جرّبه “حيّ” بنفسه على جسده بواسطة “التّمرّن والاعتمال”. فاللّفظان يحيلان على تلك التّحويلات الّتي أجراها حيّ بن يقظان على جسده. وهي تلفت الانتباه إليها بأنّها تظهر في مراحل مختلفة من تجربته الرّوحيّة بصور متباينة ظهورا كان يكشف في كلّ مرّة أنّ الغاية من “التّمرّن والاعتمال” هي بلوغ الحقيقة. ولا سبيل إلى بلوغها إلاّ إذا أجرت الذّات التّحويلات الضّروريّة على نفسها. فهي بمثابة “الثّمن الّذي ينبغي دفعه” كما يقول فوكو، ليكون لها سبيل إلى الحقيقة. ولعلّ هذا الثّمن قد دفع بنفي الجسد والذّات والحياة نفيا صار كالمثال التّنسّكيّ، أو مثال التّنسّك الأعلى كما يسمّيه نيتشه الّذي تتبّع منطق نظامه الفكريّ في المسيحيّة والفلسفة خصوصا عند سقراط وكانط وشوبنهاور.
وعموما نعتبر هذه التّحويلات ضروبا مختلفة من “التّمارين الرّوحانيّة” موضوعها الذّات، إلاّ أنّ اَلْمَنْفَذَ إليها هو جسمها وبدنها وأديمها. فالوعي بالذّات وبوجودها لا يحصل إلاّ حين تدرك اختلافها الكلّي عن جسمها وروحها الحيوانيّ. وقد تجلّى هذا الإدراك على نحو متلازم في تجربة حيّ بن يقظان: كلّما احتدّ هذا الإحساس بهوان “الجسم” وخسّته وخفّت موازينه بزوال قيمته ارتفعت في الآن نفسه منزلة “النّفس” في “بورصة القيم”.
كلّ هذا يقودنا إلى الرّوحانيّة المعاصرة وصيغها المتنوّعة. فإن كان ينسب إلى أندريه مالروAndré Malraux خطأ وزورا العبارة التّالية “القرن الحادي والعشرين سيكون دينيّا أو لا يكون” فإنّه وإن أنكر ما نسب إليه لم يستبعد إمكان وقوعه على الصّعيد الكوكبيّ. فالقرن الواحد والعشرون يمكن أن يكون بأكمله موسوما بعودة الدّينيّ أو بحدث روحاني واسع النّطاق يرافق العولمة. وإن كان حدث 11 سبتمبر قد دشّن مطلع هذا القرن بعنفه الشّديد الّذي صاغه بيتر سلوترداك في كتابه “الغضب والزّمان” بعبارة “بنك الغضب العالميّ” ليصف احتياطي الغضب الهائل الّذي تمتلكه الحركات الدّينيّة المتطرّفة فإنّه رغم تلك البدايات المتفجّرة يمكن وسمه بعودة الرّوحاني وإن بشكل محتشم من خلال العودة إلى التّراث الفلسفي القديم وإعادة فحص الفكر اليوناني والرّوماني والمسيحيّ وقراءته بأنوار مختلفة تكشف بعده العلاجيّ ككتاب مارتا نوسباوم Martha Nussbaum “علاج الشّوق” (The Therapy of Desire) الّذي فحصت فيه النّظريّة والممارسة العمليّة في الإيطيقا الهلّينيّة، أو كتاب جون غرايش Jean Greisch، العيش بالتّفلسف، التّجربة الفلسفيّة، الرّياضات الرّوحيّة، وعلاجيات النّفس، الّذي نقله محمّد شوقي الزّين إلى العربيّة وصدّره بمقدّمة جيّدة بعنوان “العيش بالتّفلسف، الوجه الجديد للفلسفة”. وإن كان هذا الوجه الجديد ضاربا بجذوره في تاريخ الفلسفة القديمة، وجب أن نرهف السّمع لتلك الأصوات العربيّة الخافتة وهي تشقّ طريقها في الضّجيج الدّيني حتّى يعود الرّوحاني في أثواب معاصرة، ونعني لا محالة مقالات سعيد ناشيد تلك الّتي ضمّها كتابه “التّداوي بالفلسفة“، ومحاولات ألفة يوسف اللّجوجة خاصّة في كتابيها “شوق، قراءة روحانية في أركان الإسلام” و”وجه الله، ثلاثة سبل إلى الحقّ“. وهي كتابات لا ينبغي أن تقرأ بعين متديّنة متفقّهة بل بشوق من يطلب الحقّ أو الحقيقة بشجاعة.
اللوجوس/ كلمة الله: دراسة في التطور والدلالات في الفلسفة المسيحية… الجزء الثاني