تكوين
تنقل لنا إحدى الحكايا القديمة أنّ رَجُلَيْن كانا يضربان في الأرض نحو أحد البلدان، وفي الطّريق مرّا بنهر على ضفّته امرأة لا تحسن السّباحة. وطلبت هذه المرأة بكلّ لطف من رَجُلَي الدّين أن يرافقها أحدهم إلى ضفّة النّهر الأخرى. وكان ذلك فعلا إذ حملها أحدهما على ظهره نحو الضّفّة الأخرى وسارت سبيلها. وبعد نصف ساعة من المشي، التفت الرّجل الّذي حمل المرأة إلى صاحبه وقال له: “ليس من عادتك أن تكون صامتا طيلة هذا الوقت، ماذا أصابك؟”، فأجابه رجل الدّين الثّاني: “أنا مغتاظ منك. ألا تستحي من حملك هذه المرأة على ظهرك وأنت رجل الدّين؟”. نظر إليه الآخر نظرة طويلة وقال: “أنا حملت هذه المرأة مدّة دقيقة واحدة كي تشقّ النّهر. أمّا أنت فما زلت تحملها في ذهنك إلى الآن”.
ما هو مفهوم المسؤولية؟
وروحانيّة هامّة هي مسألة الذّات والموضوع والعلاقة بينهما. ومفاد هذه المسألة أنّ بعض النّاس في رفضهم للنّظر في ذواتهم يُسقطون ما فيها على الموضوع. وبعبارة أخرى، فإنّ بعض النّاس في رفضهم للتّفاعل مع الدّاخليّ الجوّانيّ يسقطون على الخارج شيئا من مشاعرهم وجزءا من سلوكهم. ففي الحكاية المذكورة مثلا، نجد أحد رجلي الدّين يُسقط على صديقه إعجابه بالمرأة المعترَضة صدفة في الطّريق، في ح ين أنّ هذا الإعجاب منبعه ذات رجل الدّين المعاتِب في الحكاية. وبدل أن يعترف رجل الدّين لنفسه بهذا الإعجاب وبما نتج عنه من إحساس بالذّنب، فإنّه يسقط شعوره على رجل الدّين الآخر ويحوّله هو إلى مذنب. ونجد الآليّة نفسها تُعتمد عندما يُسقط بعض الرّجال على النّساء تحرّشهم بهنّ. فكثيرا ما سمعنا أو قرأنا لبعض النّاس يعتبرون أنّ سبب التّحرّش الشّائع في بعض البلدان، لباسُ النّساء أو زينتهنّ أو هيأتهنّ في حين أنّ اللباس والزّينة والهيئة ليست إلاّ مواضيع خارجيّة لا يمكن أن تفسّر في ذاتها الإزعاج أو التّحرّش. والدّليل على ذلك أنّ نفس اللباس والزّينة والهيئة قد توجد في بلدان وسياقات أخرى دون أن تنتج إزعاجا ولا تحرّشا.إنّ الإعجاب منبعه الذّات وكذا الشّوق إلى أيّ شيء منبعه الذّات، والسّلوك منبعه الذّات وليس للموضوع فيه أيّ دور مباشر أو حتميّ.
ونجد نفس ضروب إسقاط الذّاتيّ على الموضوع في بعض حالات العنف بين البشر. فمن ذلك أنّ بعض من يعنّفون سواهم يعمدون أحيانا إلى ضرب من العبارات شهير من نوع: “لقد حملني الآخر على ذلك” أو “أنت من دفعتني إلى شتمك أو إلى ضربك” إلخ…إنّ اللجوء إلى هذه العبارات يحمل نوعا من التّبرير الّذي يتهرّب به صاحب أيّ فعل سلبيّ من فعله. ومن هنا نفهم أنّ مشكل “إسقاط الذّات على الموضوع” هو دالّ خر لمدلول “التّهرّب من المسؤوليّة”.
ما هي أهمية المسؤولية؟
يعدّ حجر الزّاوية في الأديان عموما وفي الإسلام خصوصا، بل لعلّه الأساس الأنطولوجيّ لخلق البشر. يقول الله تعالى: “إنّا عرضنا الأمانة على السّماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنّه كان ظلوما جهولا” (الأحزاب33، 72).ويحيل قبول الأمانة وفق جلّ المفسّرين على قبول المسؤوليّة أو ما يعبّر عنه بلغة الفقه على قبول التّكليف بالالتزام بأداء حقوق الله تعالىوحقوق العباد. وأبرز مظاهر هذه المسؤوليّة هي مسؤوليّة العمل الّذي يقوم به الإنسان، فليس للإنسان إلاّ ما سعى وأنّ سعيه سوف يُرى.
من الثّابت أنّ الإنسان خطّاء بالطّبع،
ومن الثّابت أنّ كلّ نفس أُلهمت الفجور والتّقوى، ولكنّنا نعتقد أنّ تحمّل مسؤوليّة الخطإ وجه أساسيّ من وجوه حمل الأمانة. وإنّك إذ تنظر في القرآن، تجد أن آدم ويونس وموسى مثلا، عليهم السّلام جميعا، تحمّلوا مسؤوليّة أفعالهم وطلبوا المغفرة من الله تعالى. فآدم وزوجه بعد أن خالفا أوامر الله تعالى، واقتربا من الشّجرة المحرّمة:” قالا ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين” (الأعراف7، 23)، ويونس عليه السّلام بعد أن ترك قومه قبل أن يؤذن له، قال وهو في بطن الحوت: ” لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين” (الأنبياء21، 87)، وموسى عليه السّلام بعد أن طلب رؤية الله تعالى وخرّ مغشيّا عليه، قال إذ أفاق: ” سبحانك تبتُ إليك وأنا أوّل المؤمنين” (الأعراف7 ،143)”.
وفي مقابل ذلك يعرض القرآن حال من لا يعترف بخطئه ويحاول إسقاطه على الآخر، وإن يكن هذا الآخر هو الشّيطان نفسه. يقول الله تعالى: ” وقال الشّيطان لمّا قضي الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم…” (إبراهيم14، 22). إنّ هذه الآية تبيّن أنّ لوم الآخر(أو الموضوع) مهما يكن لا معنى له، فالإنسان (أو الذّات) وحده مسؤول عن خطئه.واستنادا إلى ما سبق، فإنّنا نتصوّر أنّ نفي الخطإ وإسقاطه على الآخر لا يؤدّيان إلاّ إلى طمأنة وهميّة للأنا يتبعها تكرار للأخطاء لامتناه ولا مسؤول.وربّما كانت مواجهة النّفس بشجاعة هي الخطوة الأولى الّتي على المرء اتّخاذها من أجل المرور من الخطإ إلى الصّواب، وربّما كان الإقرار بالخطإ وقبوله والاعتراف به هو خير سبيل لتجاوزه والانفتاح نحو آت أفضل.
د-ألفة يوسف