في الهرمنيوطيقا الإسلامية: الجزء الأول…التفسير والتأويل والتفكيك

تكوين

-1-

تشتغل الهرمنيوطيقا – عموما – على النص المشكل، أو على الجانب الإشكالي من النص، طالما سنعتبر أن كل نص ينطوي بطبيعته على جانب إشكالي، من حيث هو بناء “لغوى”، أي خاضع لخصائص غامضة ومتطورة على الدوام. ينطبق ذلك على النص الديني مثلما ينطبق على النص الأدبي، أو النص القانوني، أو حتى على الكلام الاعتيادي الدارج، لكن الجانب الإشكالي يظهر بشكل أوضح في النص الديني، أولاً: لأنه نص مقدس صادر عن الوحي الإلهي، ويحتوي من ثم على مفاهيم “غيبية” وسلطة “ملزمة” ما يضع قيوداً إضافية على عملية الفهم، و يؤدى عادة إلى خلق وسيط (كهنوتي) ناقل للمعنى بين المتلقي ومصدر النص وثانيًا: لأنه نص تراثي، يرجع إلى لحظة تاريخية في الماضي هي لحظة التأسيس،أي ثمة على الدوام مسافة زمنية فاصلة بينه وبين لحظة الفهم، ما يكشف عن فروق ضرورية في اللغة،  والثقافة ومشاغل الواقع.

تعريف الهرمنيوطيقا

في أصوله اليونانية القديمة يبدو مصطلح Hermeneutics موصولاً بالمعنى الديني، فهو مشتق من الفعل Hermeneuein بمعنى التعبير والشرح والتأويل والترجمة التي تتعلق غالبًا بنص مقدس. ومنه الإسم Hermeneia الذي يشير إلى الإله المجنح Hermes، والإسم Hermelios الذى يشير إلى كاهنة معبد دلفي. واستخدم المصطلح في الشروح الخاصة بالنصوص الأدبية المركزية، مثل نصوص هوميروس التي صارت تتوفر عبر الأجيال على سلطة تثقيفية شبيهة بالسلطة الدينية ( على نحو ما، اعتبرت صادرة عن وحى إلهامي ).

وفي المراحل المتأخرة كان النص الديني هو الأرضية التي انطلقت منها مباحث الهرميوطيقا الحديثة. ظهر المصطلح لأول مرة سنة 1654 على يد “j.Danha uer” في كتابه ” التفسير المقدس، أو منهج شرح النصوص المقدسة ” وجرى تداوله في سياق الجدل البروتستانتي حول مبدأ “الكفاية الذاتية ” الذي يقول بقابلية الكتاب المقدس للتفسير بمعرفة الأفراد دون حاجة إلى وساطة الكهنوت. ثم اتسع نطاق المصطلح ليشير إلى آليات الفهم المشتركة في جميع أنواع الخطاب، بما في ذلك الخطاب الفلسفي والأدبي والقانوني والعلمي. واستقر استخدامه بهذا المعنى منذ القرن التاسع عشر بفضل دراسات شلاير ماخر التي قدمت تأسيساً علمياً “لنظرية عامة” في تفسير النص.

الاسلامية الهرمنيوطيقة

-2-

الثقافة الإسلامية هرمنيوطيقية بامتياز، بما هي ثقافة تقوم على كتاب تراثي، وهذه خاصية مشتركة في نسق التدين الإبراهيمي الذي استحداث منذ بداياته العبرية فكرة “الكتاب” وكرس مفهوم “النص” بوصفة منظومة خطاب ذات سلطة مقدسة ومتعدية في الزمان. ومع ذلك يمكن الحديث عن فوارق نسبية بين الثقافات الإبراهيمية الثلاث، تتعلق بعمق السلطة التي يتوفر عليها النص في المدونة الإسلامية وبحجم الدور الذي لا تزال تلعبه هذه المدونة حتى الآن داخل محيطها الثقافي. (يمثل النص مركز المدونة، وتمثل المدونة مركز الثقافة).

إسلامياً، تبلور مفهوم النص بمعناه الفني في مرحلة التدوين، وهي مرحلة التأسيس الثانية التي أعطت الإسلام شكلة النهائي كديانة كتابية منظمة: جرى اعتماد النسخة الرسمية من النص الأصلي ( القرآن)، وتم إنشاء “نص إضافي” تحت مسمى السنة ، مكون من روايات الآحاد المنسوبة إلى النبي، والتي صارت تتوفر على سلطة مرجعية مكافئة للقرآن، ونتيجة لذلك صارت الثقافة تتحول تدريجيًا من وضعية الشفاهة إلى وضعية النص المكتوب، الذي يلزم التعاطي معه كمرجعية نهائية مغلقة.

في البداية، جرى استخدام التفسير والتأويل كلفظين مترادفين، قبل أن تظهر التفرقة بينهما مع تفشى الكلام وظهور الفرق، ليكتسب التأويل معناه الاصطلاحي السلبي كموقف “تفسیري” خاص حيال النص، مقابل للموقف النقلي.

صار مصطلح “التفسير” يدل على طريقة التعامل “البسيطة” مع النص، كما تبناها فريق أهل الحديث، بطابعة الحرفي المستمد من البيئة الأولى. وهو الفريق الذي افتتح عملية التشكيل المبكرة للثقافة الإسلامية، وظل تأثيره حاضراً عبر مسارها الطويل، حتى بعد تطعيمها بالروح الوسطى التوفيقي الذي سيكرسه الشافعي والأشعري .

يتوجس التفسير من الإمعان في تقليب النص.

وهو يسعى عند مقاربته إلى غرض محدد هو “الكشف” عن دلالته، مفترضاً أن النص له حقيقة موضوعية بعينها، أي معنى صحيح واحد، والمطلوب هو فقط – تحصيل هذا المعنى كما هو، وليس الإسهام في إنتاجه أو الإضافة إليه كما يحدث عند ممارسة التأويل. لا يحتاج التفسير إلى شيء أكثر من القراءة، التي لا تحتاج – بدورها – إلى ما هو أكثر من قواعد اللغة. بالنسبة إلى العقل النقلي، الحد الأقصى المتصور لإشكالية النص يتمثل في ” الغموض ” الذي يكتنفه أحياناً، وهو ما يمكن حله من خلال الأدوات اللغوية. اللغة هنا تظهر كمعطى مرجعي نهائي (منطقي و مكتمل)، يكفي تماماً لكشف النص وتحقيق غرض الفهم، وبعبارة ابن خلدون في المقدمة، كان السلف في غنى عن التنظير للأصول كفن من الفنون المستحدثة ” لأن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد من الملكة اللسانية”.

في هذا الإطار نستطيع فهم الأسبقية الزمنية التي أحرزتها علوم اللغة منذ بداية عصر التدوين، وهيمنتها المتواصلة على بقية العلوم الإسلامية التي تكونت حول النص، كالتفسير، والحديث والكلام، والفقه، وحتى علم أصول الفقه، الذي استطاع تطوير آليات عقلية ذات قوام منطقي، لكنه ظل يعتمد على اللغة كأداة أساسية لاستنطاق النص، وظل في مجمله تفسيريًا وليس تأويليًا.

-3-

التأويل

قياساً بالموقف التفسيري المحافظ، يعبر التأويل عن موقف ذهني أكثر تطوراً حيال النص وحدوده الإشكالية، وهو موقف التيارات ” العقلية” الأكثر وعياً بالواقع مثل المعتزلة. بالنسبة إلى هذه التيارات، لا تنحصر مشاكل النص في حالة الغموض التي تؤخر أو تمنع الفهم، بل قد تحضر مع تحقق الفهم: يفترض التأويل حصول فهم ظاهري أو مبدئي لمعنى النص لكن هذا الفهم يجعل النص يواجه مشكل “مقبولية ” من طرف المخاطب لأنه: قد يعارض الواقع، أو يخالف العقل، أو ينطوي على تناقض ذاتي داخلي، أو على تناقض مع المضمون العام للنص الكلى. ويظهر ذلك في النموذج التأويلي المبكر الذي طرحه المعتزلة في مواجهة أهل الحديث حول آيات التشبيه بمعناها التجسيمي الحرفي؛ بحسب المعتزلة يتعارض التجسيم مع التنزيه الواجب لله بمقتضى العقل، وبمضمون النص الكلى.

المعنى المباشر للنص واضح، لكن المشكل يكمن في هذا المعنى ذاته. المخاطب هنا لا يستطيع قبول النص، لكنه أيضا لا يستطيع طرح النص بعيداً أو التعاطي معه كلغو، بسبب السلطة الإلزامية التي يتوفر عليها. ولذلك فهو يتدخل لتحويل دلالته بغرض استبقائه في دائرة الإلزام. ومن هذه الزاوية يظهر النص الديني بوصفه النص الأكثر امتلاكاً للسلطة، والأكثر احتياجاً للمقبولية (قياساً بالنص الأدبي، أو الكلام العادي، أو حتى بالنص القانوني الذي لا يستمد سلطته الملزمة من فكرة المقدس)، ومن ثم الأكثر احتياجًا للتأويل، خصوصاً مع مرور الزمن وتغير سياقات المخاطب.

ولذلك، فالذهن الإسلامي المعاصر، المشغول بأزمة النص، يربط مصطلح الهرمينوطيقا بالتأويل أكثر من التفسير، وفي العربية الراهنة جرى ترجمة المصطلح “Hermeneutics” إلى “التأويلية”، وليس إلى “التفسيرية” رغم أن المعاجم الانجليزية التي ينقل عنها تعرفه بـ interpretation”” وهي مفردة تشير إلى معنى التفسير والتأويل معاً، وتقدم معنى التفسير ” explane the meaning “على معنى التأويل )”make out or pring out the meaning”انظر:

(The Concise Oxford Dictionary of Current English 1991)

خصائص التأويل

الخاصية الأبرز في التأويل هو الدور الإيجابي الفاعل للمخاطب وسياقاته الثقافية المتغيرة في العملية النصية، خلافاً للتفسير الذي يفترض غياب هذا الدور، أو يسعى إلى تغييبه بحجة أن النص يعبر عن نفسه بنفسه من داخل بنتيه اللغوية، وأن علينا – لذلك – حجب ذواتنا الثقافية عنه كي نفهمه كما هو، وكي لا نقوله بما لم يقصد مبدعه الإلهي (في السياق الديني) أو البشرى (في النص الأدبي أو القانون أو الفلسفي).

المعنى المقصود هنا هو تصعيد الدور الذي تلعبه ظروف الواقع المعاصرة لعملية الفهم في إنتاج دلالة النص، أي مطالبة النص بالتكيف مع حاجات اجتماعية متغيرة على الدوام.

(يبدو هذا المطلب أكثر صعوبة بالنسبة إلى النص الديني، خصوصاً في شقه التشريعي الذي يفرض بسلطته المطلقة جملة من التكاليف المحددة).

في السياق الإسلامي المبكر، لم يكن هذا المطلب حاضراً، بمعنى أن الغرض من التأويل لم يكن حل مشكل تناقض بين النص وحاجات النظام الاجتماعي، فهذا المشكل لم يكن قد ظهر بعد في الواقع ولا في الوعى السلفي مثلما يحضر الآن في الواقع والوعي المعاصرين.

بامتداد عصر التدوين، يمكن الحديث عن تطور نسبى، أو بالأحرى عن “تموج” – اجتماعي/ ثقافي محدود، ناجم عن الحراك “السياسي” الواسع، لكن الهياكل الكلية للنظام الاجتماعي (الاقتصادية / العقلية) ظلت كما كانت في لحظة التأسيس، ومن ثم لم يسبب التطور تناقضاً حاداً مع النص. كان ظهور التأويل يعكس هذا التطور النسبي ويسعى لمواجهة حاجاته الناشئة، التي لم تكن حاضرة في مرحلة النص والتي صارت تتولد – الآن- على مستويات ثلاثة:

  • الحاجات اللاهوتية الجديدة: أعني المقولات المذهبية التي أفرزها الصراع على السلطة خصوصا بعد الفتنة الكبرى. المذهبية السياسية أدت إلى ظهور حاجات لاهوتية حادثة تفتقر إلى غطاء نصي صريح، لكنها تستطيع، مع ذلك، إسناد نفسها إلى النص التأسيسي بنوع من التأويل الواسع.

لم يكن النص التأسيسي مجهزاً لسد هذه الحاجات ما أدى إلى “خلق” طلب جديد على النص لإشباعها بغطاء شرعي.

وهكذا، بدأت عملية “التنصيص” الكبرى لروايات الآحاد، التي أسفرت عن ظهور الجيل الثاني من النص (الأحاديث النبوية السنية، وأحاديث العترة الشيعية )، وانفجرت موجة واسعة من “التأويل السياسي”.

بدأ ظهور هذه الموجة من خلال الفرق الشيعية، ثم انتقلت إلى فرق التيار العام ( السني). كان على التشيع بتياراته المتعددة تقديم أسس نصية لمقولاته اللاهوسياسية الجديدة التي لا تحظى بإسناد حرفي من قبل النص التأسيسي من نوع : الوصية، والعصمة، والغيبة، والرجعة، والمهدى، والتقية. وقد اعتمد في هذا التأسيس على كلتا الآليتين : التنصيص والتأويل.

وكان على التيار العام السنى مواجهة هذه المقولات برد فعل تنصيصي وتأويلي مقابل، عملياً، كان التيار السنى – الذي يمتلك السلطة- أقل احتياجاً إلى التأويل السياسي، فهو لم يعتمد بشكل أساسي في بناء نظرية السلطة على فكرة النص، بل على فكرة الإجماع، المدعمة بقوة الأمر الواقع، ولم يتوسع في تخليق مفاهيم سياسية غامضة بمقاييس المنطوق الحرفي للنص، لكنة تمادى – كمثيلة الشيعي- في عملية التنصيص السياسي.

ضغط التاريخ العربي الإسلامي على واقعنا المعاصر

2- الحاجات التشريعية الجديدة: التي نشأت بفعل التحول الاجتماعي النسبي، والتي نجمت خصوصا عن التمدد الجغرافي وعمليات الغزو       ( الفتوح ). هذه الحاجات شكلت نوعاً من التحدي الطفيف للنظرية الفقهية التي كانت بصدد التشكل، وقد أمكن احتواء هذا التحدي من داخل النظرية بتقنية القياس التي نظر لها الشافعي، والتي جعلت النص قادراً على التمدد خارج منطوقه الحرفي. عند هذه اللحظة كان القياس كافياً لتلبية الحاجات الاجتماعية التي لم تكن تختلف كثيراً عن سياقات النص المبكرة. (لاحقاً، ومع اتساع الفجوة مع زمن النص ستمثل الحاجات المتطورة تحدياً جدياً لنظرية أصول الفقه، وسيبدو القياس قاصراً عن مواجهة التحدي، مما سيدفع النظرية إلى استحداث آليات جديدة فوق شافعية، ستبلغ ذروتها مع الشاطبي في القرن الثامن).

رغم أن القياس الشافعي كان يهدف إلى تضييق مساحة الرأي لصالح التوجه النقلي، إلا أنه ينطوي في جوهره على نفس تأويلي مضمر: إعمال القياس يقتضي تحديد “العلة” المشتركة بين النص والواقعة الجديدة، كي يتسنى إلحاق الواقعة بحكم النص. وسواء كانت العلة مصرحة في النص أو غير مصرحة، (وهو الغالب)، سيتعرض النص لعملية تقليب واسعة من قبل المخاطب، هي في صميمها عملية تأويلية، الحديث عن العلة يعنى أن الواقع الخارجي يدخل في البنية الاستدلالية للنص، ومن هنا كان القياس تقنية غير مباشرة يستخدمها العقل الفقهي للالتفاف على مقولاته التي كبل نفسه بها، مثل مقولة أن النص قادر على استيعاب الواقع المتجدد بكل تفاصيله (لعب الشافعي دوراً مركزياً في تثبيت هذا المعنى). كان القياس يعني أن “التأويل” ضروري للحفاظ على سلطة النص (الحصرية والدائمة.

بوجه عام، كان القياس يعبر عن حاجة اللحظة الشافعية إلى موقف وسط، بين حرفية أهل الحديث الضيقة، وتأويلية أهل الرأي الواسعة. أي كان يسعى إلى “موقف “تأويلي” محسوب ومنضبط بالنص، وطوال هذه اللحظة الممتدة لقرون ظل القياس قادراً على مساعدة النظرية في استيعاب التطور المحدود على المستوى الفقهي التشريعي.

3- الحاجات الثقافية (الكلامية ) الجديدة : أشير إلى المشاغل العقلية والروحية التي يستفزها حضور “نص مكتوب ” حضور النص بسلطته المركزية يستدعى نشاطاً ذهينًا يدور حول مادة النص ويتجاوزها عادة على مستوى الموضوع. وهذه ظاهرة متكررة في سياقات التدين الكتابي، يمكن رصدها بدأ من “الجيل الثاني ” الذي يتوفر على مساحة للتأمل النظري. وفي الحالة الإسلامية يظهر هذا النشاط الذهني في نموذجين كبيرين من نماذج التفكير الديني : 1- علم الكلام،2 – التصوف، وكلاهها أفرز نسقاً “تأويلياً” خاصاً.

مع الكلام والتصوف ستشهد الثقافة الإسلامية حالة من “الانفجار” التأويلي، موازية ومجاورة للموقف السلفي الفقهي التقليدي الذي ينفر من التأويل.

المعتزلة

مع ظهور المعتزلة بدأ الكلام يتمايز كمادة معرفية جديدة تتعاطى مع المسألة الإلهية بمنهجية عقلية ( فوق نقلية )، ومن خلال المعتزلة تبلور “التأويل” كأداة منهجية تستهدف توجيه النص إلى نقطة التوافق مع العقل، جرى ذلك في سياق الجدل حول الصفات، و خصوصاً آيات التشبيه أو التجسيم الواردة في القرآن، والتي بدت من وجهة نظر المعتزلة، منافية للتنزيه الواجب لله.

أنساق تفكيرية ثلاثة

في السياق الإسلامي المبكر يمكن الوقوف أمام لحظات ثلاث متعاقبة، ومختلفة في التعاطي مع النص القرآني من حيث حضور التفكير العقلي والجرأة على ممارسة التأويل: 1- اللحظة السلفية. 2 – اللحظة الإعتزالية 3- اللحظة الأشعرية.

أولاً: اللحظة السلفية المبكرة:

تستغرق المرحلة السابقة على تبلور الكلام، وهي امتداد عفوي طبيعي لمرحلة التنزيل بخصائصها التفكيرية البسيطة، وفيها تكونت نواة الموقف “السلفي” كما تبناه أهل الحديث وخصوصاً الحنابلة. نحن حيال ترجمة حرفية نقلية للقرآن، الذي تحول الآن إلى مصحف، أي وثيقة مكتوبة تضم آيات التشبيه وآيات التنزيه في سياق قرائي واحد: في مرحلة التنزيل حيث كانت الآيات ترد منجمة، وبامتداد القرن الأول، لم يظهر لدى الصحابة وعي بالمشكل أصلاً، ولم تناقش المسألة على أي مستوى نظري. العقل السلفي، الذي صار يقرأ القرآن ككتاب مغلق، بدأ يتوفر على وعي نسبي بمشكل التشبيه، لكنه ظل يحاول تقليد حالة الصحابة كما هي بوصفها مرجعية معيارية. ومن هنا تكون موقف الوسط السلبي الامتناعي، الذي يتجنب تقليب الآيات تقليباً عقلياً، فسلم بها جميعاً من دون تأويل.

يشرح الشهرستاني هذا الموقف بقوله ” إن السلف من أهل الحديث، سلكوا طريق السلامة، فقالوا نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة، ولا نتعرض للتأويل، بعد أن نعلم قطعاً أن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من المخلوقات” انظر الملل الباب الثالث، المشبهة).

بتبني أهل الحديث لهذا الموقف، سيتحول إلى مبدأ نظري مقنن، وسيجرى ترويجه – ضمن ثقافة الإلزام السلفي. كحكم شرعي. اللحظات الفكرية لا تصبح سلفية إلا من وجهة نظر لحظة تالية، أي إلا بفعل تنظيري لاحق ، يمكن لنا أن تفهم الموقف السلبي في لحظة الصحابة العقلية بخصائصها الشفهية القريبة من التنزيل، والتي لم تمارس التأصيل النظري) فيما يصعب فهمه بعد تحوله في عصر التنظير، إلى مبدأ كلامي مؤبد کما صارت تروج له السلفية الحنبلية.

ثانيًا : اللحظة الاعتزالية :

كان ظهور المعتزلة يعبر عن حالة التحول إلى التفكير النظري: الذي يصاحب الانتقال إلى مرحلة التدوين. وبعفوية عقلية يسمح بها السياق التدويني المبكر (قبل تبلور السلفية كسلطة منظمة) تعامل المعتزلة مع النص المكتوب بآليات تفكير فوق لغوية، ستبدو جريئة بمقاييس أهل الحديث. بحكم النزوع العقلي الذي يميل إلى التجريد، ربط الموقف الاعتزالي بين مفهوم التوحيد وفكرة التنزيه المطلق لله، وتنبه إلى أن التشبيه يناقض التنزيه، ويلزم من ثم رفعه حفاظاً على التوحيد. وعي صريح بالمشكل الذي لا حل له إلا من خلال التأويل.

كان التأويل الاعتزالي يعنى قراءة النصوص التي يوحي ظاهرها بإضفاء الجسمية أو المادية أو الملامح البشرية على الله، بحيث تتوافق مع النصوص التنزيهية التي تؤكد أن الله ” ليس كمثله شيء” فالمسألة إذن هي إخضاع نص لحساب نص آخر يتمتع بسلطة موضوعية مرجعية أعلى.

لم يخرج التأويل الاعتزالي عن سقف النص التأسيسي الذي يحتوي بالفعل على مضامين تنزيهيه صريحة. ولكنه في المقابل عطل فاعلية جزء من هذا النص التأسيسي هو الآيات التشخيصية المباشرة. وهكذا تكون نتيجة التأويل تكوين صورة لله أكثر تجريدية مما هي عليه في مجمل النص التأسيسي.

بوجه عام، لم يصل الموقف الاعتزالي إلى التجريد الكامل، فهو لم يتصور الله باعتباره فكراً خالصاً، أو علة غائية مصمتة بالمعنى اليوناني الأرسطي، ولكنه “قلص” إلى حد ما من الخصائص الحية التشخيصية التي يحملها بالفعل التصوير القرآني لله. ومن هذه الزاوية يكشف التأويل عن فاعلية المخاطب في إنتاج دلالة للنص، قد لا تتطابق مع أهداف صاحب النص ذاته.

ثالثًا: اللحظة الأشعرية:

نتجت هذه اللحظة عن تفاقم الجدل بين الموقفين المتعارضين لأهل الحديث والمعتزلة، الذي وصل إلى ذروته في القرن الرابع، فهي لحظة ديالكتيك هيجلية بامتياز. تجمع الأشعرية بين نقلية أهل الحديث وعقلية المعتزلة، فهي تقوم على تسويق الرؤية الموضوعية السلفية بمنهجية “كلامية” دون أن تستخدم مصطلحات الاعتزال.

كانت الأشعرية بطابعها التوفيقي تعبر عن وسطية التيار العام بتكونية العامي الواسع والمتنوع. دافع الأشعري عن موقف أهل الحديث الذي يستصحب التجميع القرآني للتشبيه والتجريد معاً، لكنه استخدم في هذا الدفاع منهجية عقلية لا يحبها أهل الحديث. وقف الأشعري بالطبع على مشكل آيات التشبيه، لكنه لم يعدها متناقضة تناقضا كلياً مع التنزيه، ولذلك لم يعتمد في معالجتها على التأويل باعتباره تعطيلًا لفاعلية الصفات المنصوصة.

ضمن حملته الواسعة على المعتزلة، هاجم الأشعري (ت 324) فكرة التأويل، وأثبت كل الصفات الخبرية الواردة في النص عن الله على حقيقتها: ففي آية ” الرحمن على العرش استوى” (طه:5) لا يجوز تأويل الاستواء بالاستعلاء أو الهيمنة، بل الاستواء فعل أحدثه الله سماه استواء دون أن نعلم كيفيته. وفي آية “لما خلقت بيدي” (ص : 76) يجب إثبات اليدين على ظاهرها، لكننا لا تعلم الكيفية.

وفي السياق ذاته استخدم الأشعري فكرة “التشبيه الناقص”، فالتشبيه لا يكون مناقضًا للتنزيه إلا إذا كان كاملاً من جميع الوجوه. وعلى ذلك فالآيات التي توحي بالتجسيم، كوصف الله بالسمع والبصر والقدرة والعلم لا تعنى تشبيهه بخلقه من البشر، فإن “لله سبحانه وتعالى علمًا لا كالعلوم، وقدرة لا كالقدرة، وبصراً لا كالأبصار، وسمعاً لا كالأسماع “(انظر: ابن عساکر، تبيين كذب المفترى في ما نسب إلى الأشعري، بيروت 1404هـ، ط 3).

لاحقاً وبشكل تدريجي، ستزداد المساحة العقلية على حساب النقلية داخل الفكر الأشعري، الذي سينتهي إلى الإقرار الضمني بضرورة التأويل: الباقلاني المتوفى سنة (403) والأقرب زمنياً إلى الأشعري، سيرفض مثله تأويل الصفات الخبرية لله كالوجه والعين والجنب، لكنه سيقترب من المعتزلة نسبياً في بعض المسائل مثل نظرية الأحوال. (انظر: التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة، القاهرة 1974، وانظر أيضا الإنصاف في أسباب الخلاف ).

بين اللغة والدين والحاجة إلى التأويل

ومع الجويني المتوفى سنة (487) ستخف حدة الخصومة مع المعتزلة، وستظهر ميول أشعرية للتوافق مع التصوف. ليثبت الجويني – كالأشعري- ما يعرف بالصفات الذاتية الله ( عالم / قادر / حي )، لكنه يبدو قريباً من المعتزلة بخصوص الصفات الخبرية، حيث يشن هجوماً عنيفاً على المشبهة، ويذهب إلى تأويل هذه الصفات تأويلاً تنزيهياً، “يصبح عندنا حمل اليدين على القدرة ” ( الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، القاهرة 2009،ص 148).

ولدي الغزالي – الأكثر انفتاحاً على التصوف – تظهر ملامح المنهج التأويلي بشكل واضح (انظر: الاقتصاد في الاعتقاد، القطب الأول: في النظر في ذات الله تعالى، حيث ناقش عدم تحيز الله، ولا جسمانية الله، ولا عرضية الله، ولا جهوية الله”. وانظر بوجه خاص مناقشته في الدعوى الثامنة لآية ” الرحمن على العرش استوى” ).

أما الرازي المتوفى سنة (606) فيبدو أحيانًا أقرب إلى الاعتزال منه إلى الأشعرية في منهجه العقلي واستعاراته الفلسفية (انظر كتابه “أساس التقديس” حيث يذهب إلى تأويل “على العرش استوى” بأن ” المراد هو الاستيلاء والقهر ونفاذ القدر وجريان الأحكام الإلهية”.  وينطبق ذلك أيضاً على الإيجي في القرن الثامن.

بوجه عام، كان إشعاع المنهج التأويلي يفرض نفسه على العقل الإسلامي تحت ضغوط التطور الاجتماعي، وتفاقم الاحتكاك مع الثقافة اليونانية. ولم يفلت من هذا الإشعاع حتى الحنابلة الذي سيقبل قطاع منهم بصيغة ” جسم لا كالأجسام (في اضطرار الحنابلة إلى التأويل والقول بالمجاز، انظر على سبيل المثال: ابن الجوزى، دفع الشبه والتشبيه، ما لا بد فيه من التأويل 110. وانظر ابن كثير، البداية والنهاية، في ترجمته لأحمد بن حنبل، حيث ينقل عن أبي يعلى عن أحمد في قوله تعالى “أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة. (البقرة : 210) : المراد قدرته وأمره. وانظر أيضا البيهقي، مناقب أحمد، في المقابل، وكنموذج للإصرار على الموقف السلبي النقلي لدى بعض الحنابلة انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى 16 ،405،حيث يحاول دون جدوى نفي الروايات التأويلية الواردة عن أحمد.).

(في مشاغل الواقع الإسلامي المعاصر المأزوم تأويلياً،لا تمثل مسألة التشبيه قضية مركزية ضمن قضاياه التأويلية الملحة، حيث تظهر بشكل أكثر إلحاحًا قضايا التشريع العملي الاقتصادية والاجتماعية التي تمس حاجاته المادية المباشرة).

من التأويل إلى التفكيك

-4-

بظهور الهرمنيوطيقا الحديثة في القرن التاسع عشر، وسع شلاير ماخر إمكانيات التأويل كآلية منهجية عامة لفهم النصوص، لا تعتمد على قواعد اللغة فحسب، بل أيضا على قراءة الموقف النفسي لمؤلف النص وسياقاته الثقافية. (سبق للمعتزلة طرق هذا المبحث التفسيري، بالحديث عن اشتراط معرفة صفات وحالات قصد المتكلم: راجع مثلاً مناقشة القاضي عبد الجبار حول “الدلالة التصديقية”؛ مدلول الكلام هو مراد المتكلم، وليس ما ينطبع في ذهن المستمع.). لقد انتقل شلاير ماخر بالتأويلية خطوة واسعة خارج الإطار الفيلولوجي، لكنه لم يلتفت بشكل واضح إلى حضور المخاطب وسياقاته الثقافية المتغيرة.

في المراحل الملحقة – بداية من دلتاي، وخصوصاً مع هايدجر ،وجادامير، وبول ريكور – ستظهر هذه السياقات كضلع أساسي في العملية النصية، وشرط ضروري لإنتاج الدلالة. و بحسب جادامير: تغييب سياقات المخاطب ( المعاصرة ) ليس عملية غير مجدية فحسب، بل فرضية مستحيلة أصلاً. الفهم عملية جدلية بين الإنسان والشيء الذي يواجهه. معنى النص ( التراثي) يتحدد من خلال الأسئلة التي نوجهها إليه في الحاضر. صحيح أن الأحكام المسبقة ضرورية لعملية التأويل، وهي أساس قدرتها على فهم التاريخ، لأنه لا يمكن أن يكون ثمة فهم – علمي أو غير علمي – بدون فروض مسبقة. لكن محاولة التخلص من “الذاتية” يؤدى إلى تركها تعمل في الخفاء. نحن نحصل على الفروض المسبقة من التراث. وهكذا، إذا كان محالاً وجود علم بلا فروض مسبقة، فإن فكرة وجود تفسير صحيح واحد في ذاته، هي بحسب جادامير فكرة مستحيلة وحمقاء. إن المعنى هو شيئ متعلق بالحاضر ونابع من الموقف التفسيري.

التطورات ما بعد الحداثية، ستنتقل بالهرمنيوطيقا خطوة أوسع خارج الغرض التقليدي للتأويل (تقويل النص مع ثبات سلطته المفترضة)، بحيث ستتحول من مبحث لغوى نفسي إلى مبحث “وجودي فلسفي”، يعمل كآلية نقدية في مواجهة الواقع ( الحداثة ) والنص( التراث ) معاً، وفي هذا السياق ستنفتح الهرمنيوطيقا على إشكاليات اللغة في ذاتها، وعلاقتها بالفكر والواقع، وستقف بوجه خاص أمام دورها اللعوب في إخفاء وتسريب المفاهيم التي يراكمها التراث.

بالنسبة إلى العقل الإسلامي المعاصر، تمثل هذه التطورات تحدياً جدياً، فالمسألة لم تعد تتعلق بمنهجيات جديدة لفهم النص بل تتعلق بنسق تفكيري مختلف جذرياً، يثير النقاش حول سلطة النص من حيث المبدأ، ويعيد النظر في المسألة الدينية ككل. وعلاقتها بالواقع الاجتماعي.

بين التأويل والتفكيك

-5-

في السياق الإسلامي المبكر، يبدو المنهج التأويلي خصوصاً عند المعتزلة، “تقدمياً” بالقياس إلى منهج أهل الحديث الذي يدافع عن حرفية النص، لكن في السياق الإسلامي الراهن، سيبدو المنهج التأويلي رجعياً، بالقياس إلى مناهج الهرمنيوطيقيا المعاصرة خصوصاً بالقياس إلى المنهج التفكيكي.

بوجه عام، يبقى التأويل الديني بنيوياً وليس تفكيكياً.

بحسب البنيوية، الفكرة الجوهرية في أي نص هي مراد المؤلف، وبحسب التفكيكية، تتعلق الفكرة الجوهرية بالقارئ المخالب  اكثر من تعلقها بالمؤلف. ذلك إذا كان ثمة فكرة جوهرية أصلاً يمكن الإمساك بها. وفقاً لتحليل دريدا: لا يوجد معنى واحد للنص يلزم اكتشافه، بل عدد غير محدود من المعاني التي يمكن التقاطها. معظم المعاني التي تعطى للنصوص “تعسفية “. ومسألة العلاقة بين الدال والمدلول ليست بالبساطة التي تتصورها، تنطوي النصوص بالضرورة على تعقيد لانهائي بالنظر إلى ظروف إنتاجها بالمعنى الواسع، بما في ذلك التقاليد والفروق الدقيقة في اللغة التي كتبت بها، وتفاصيل حياة مؤلفيها، وكذلك بالنظر إلى ظروف قراءتها بالمعنى الواسع أيضًا، بما في ذلك سياقات القارئ المختلفة والمتحركة على الدوام.

ينطلق المنهج التفكيكي من نقاط أولية ثلاث:

1- اللغة غامضة وغير مستقرة، ولا يمكن أن يوثق بها كمرجع نهائي منطقي ومكتمل كما يتصورها الوعي الديني والتقليدي عموماً. علاقة اللغة بالواقع علاقة مجهولة. والثقة في اللغة بوصفها مرآة العالم زائفة، وهي ترجع إلى توهم أن معنى أي كلمة يستمد جذوره من بنية الواقع ذاته، ومن ثم يؤدى إلى مثول حقيقة تلك البنية مباشرة في الذهن. لا يمكن لأي نص أن يعطى رسالة واحدة لجميع المخاطبين في جميع الأزمنة والسياقات الثقافية.

( تبلورت التفكيكية بهذا المعنى على يد جاك دريدا (ت 2004) الذي استخدمت تحليلاته في التشكيك في قدرة “العلم” والفلسفة والأدب على تقديم تصوير دقيق للعالم من خلال اللغة. لكن يلزم الوقوف هنا بوجه خاص أمام البحوث المبكرة لـ (لود فيك فتجنشتاين (ت 1951)،خصوصاً في كتابه الأخير “تحقيقات فلسفية” الذي تكلم فيه عن “ألعاب اللغة”.

ليس للغة قاعدة عامة أو نظام واحد مشترك ، بل تشتغل وفقا لعدد غير محدود من القواعد والأنظمة المختلفة، هذه القواعد قد تتشابه لكنها ليست متطابقة ، تماما كالألعاب التي يقوم بعضها على قواعد منضبطة مثل الشطرنج، وبعضها على غير قواعد منضبطة مثل قذف الكرة. المشكلات الفلسفية تنشأ نتيجة لاستخدام الكلمات في لعبة وفقاً لقواعد لعبة أخرى .

2 – ليس ثمة فكرة جوهرية ثابتة. الوجود ليس له مركز ولا معنى مستقر. لقد تم تحطيم كل المراكز التقليدية وتفكيك أنظمتها الموروثة من تاريخ الفكر، بداية من “مركز الإله” ومركز “الحقيقة” ومركز ” العقلانية “.

(في هذا السياق يبرز الطرح ” الثوري ” الذي قدمه نيتشه قبل بداية القرن الماضي، والذي مهد الطريق لما سيعرف لاحقاً بتيارات ما بعد الحداثة. امتداداً لموقفه الرافض لفكرة الإله ومفهوم الدين، شن نیتشه هجوماً عنيفاً على فكرة الحقيقة ومفهوم العقلانية ووجه سهام النقد إلى أداء “العلم” الذي لم يكن ” قاطعاً” بالحسم اللازم في مواجهته المضادة للدين. بحسب نيتشه، ليس ثمة اختلاف منهجي عميق بين الدين والعلم : “فهذان الاثنان ، العلم والمثل الأعلى النسكي، قائمان على أرضية واحدة – ذلك أمر قد بات مفهوماً – نعنى تحديداً على الإسراف في تقدير “الحقيقة” ، أو بشكل أصح على نفس الإيمان بأن الحقيقة شيء لا يقدر ، شيء لا يقبل النقد( في جينالوجيا الأخلاق – المقالة الثالثة ).

يعتقد الإنسان الحديث في العلم، كما في الدين، اعتقاداً ميتافيزيقياً “أشعله إيمان له من العمر ألف سنة. هذا الإيمان المسيحي الذي كان أيضاً إيمان  أفلاطون، بأن الإله هو الحقيقة، أن الحقيقة إلهية.” ولأن هذا الإيمان الديني قد سقط – كما يعتقد نيتشه- فسوف يحتاج العلم منذ الآن إلى نوع جديد من التبرير، وهذه هي الثغرة التي توجد في كل فلسفة: “إنها جميعاً لا تعي إلى أى مدى تحتاج أولاً إرادة الحقيقة ذاتها إلى تبرير… لأن المثل الأعلى النسكي قد بسط سيادته إلى الآن على الفلسفة. لأن الحقيقة قد وضعت وضعاً بوصفها كينونة، بوصفها إلها، بوصفها الهيئة العليا ذاتها” (في جينالوجيا الأخلاق، المقالة الثالثة، السابق ) .).

3 – تعددية التفسير ضرورية بحكم التنوع الطبيعي في الاجتماع. البشر كيانات أيديولوجية متشظية تتنافس في ميادين قتال. وكما يشرح لويس تايسون : بحسب المنهج التفكيكي وخصوصاً في النصوص الأدبية ،يجب التركيز على كشف لا محدودية المعاني التي يمكن التقاطها من النص، وكشف العمليات المعقدة للأيديولوجيات التي يجرى استنطاقه من خلالها.

-6-

من خلال هذه الخصائص تتجاوز التفكيكية مناهج الهرمينوطيقا الحداثية التي لا تزال تراهن على نوع من “اليقين” الدلالي. لقد صار مفهوم اليقين في مهب الريح، ومن هذه الزاوية تظهر التفكيكية كنقيض موضوعي كامل لمنهج التأويل الديني.

بوجه عام، وعبر اهتمامها بسياقات إنتاج النص وظروف المؤلف، وفرت الهرمنيوطيقا الحديثة في نسختها المبكرة آليات مناسبة للحفر في تاريخ النص الديني، والكشف عن جذوره الاجتماعية المستمدة من بيئة التأسيس. لكن بشكل أوضح من هذه النسخة المبكرة، يطرح المنهج التفكيكي في مواجهة النص الإسلامي جملة من المشاكل الشائكة : لم يعد السؤال هو “كيف نقرأ النص؛ بالتفسير الضيق أم بالتأويل الواسع ؟ ” بل صار يتطرق إلى سلطة النص من حيث المبدأ، بعد أن اهتزت الأفكار المركزية التي انبنت عليها تلك السلطة في الوعي الإسلامي الموروث عبر تاريخ الفقه، وفى مقدمتها : فكرة “الثبات ” وفكرة ” الإجماع”. (المنظومة التراثية تفترض وتستوجب ثبات النص كمطلق مؤبد، كما تفترض وتستوجب الإجماع على معنى واحد محدد له ، يعينه الفقهاء في عصر التدوين).

على نحو أكثر الحاحًا، صار على النص الإسلامي الآن – مواجهة السؤال المحوري المزدوج الذي يثيره قانون التطور” وقانون “التنوع” بوصفهما قانونين من قوانين الاجتماع الطبيعي. كيف يمكن للنص الثابت أن يتوافق مع حاجات الواقع الاجتماعي المتحركة على الدوام؟

العقل الإسلامي المعاصر يشتغل على حل هذا المشكل عن طريق “التأويل ” ، يهدف استبقاء المعاني التراثية والدفاع عنها لتثبيت سلطة النص ، لكنه – كما سنرى – يواجه صعوبات حقيقية في عملية التوفيق بينه وبين حاجات الواقع المعاصر. فهو لايزال يمارس هذه العملية من خلال آليات ومفاهيم المنظومة التراثية التي صارت تتوفر على سلطة الزامية تشبه سلطة النص ذاته ( يكاد العقل التراثي يطرح آليات أصول الفقه بوصفها معطيات توقيفية مؤسسة على النص).

وفقاً لهذه الأصول، النص بيان إلهى مقدس ينطوي على معنى موضوع واحد وثابت، ويفترض أن يتوصل الجميع إلى هذا المعنى. الوصول إلى هذا المعنى يأتي من خلال أهل العلم أي الفقهاء. وهذا الطرح حاضر في النص القرآني الذي يأمر برد الأمر إلى “الذين يستنبطونه منهم” (النساء 83). ومؤدى ذلك أن النص وضع بنفسه منهجية التفسير الخاصة به. الطرف الأساسي في العملية النصية هو صاحب النص، أي الإله الذي لا تخضع إرادته لسياقات الاجتماع وظروف العالم، بل هو الذي يوجه هذه السياقات والظروف. لكننا – في الواقع – لا نتوصل إلى معنى النص من خلال الإله، فهو لا يقدم شرحاً تفصيلياً للنص المجمل أو المبهم، (أو الساكت عن معالجة واقع بعينه)، بل يتم الوصول إلى ذلك من خلال عمل الفقهاء، الذي كان يخضع بالضرورة لسياقات الواقع في عصر التدوين، والذى يتعين علينا – مع ذلك – إنزاله على سياقات الواقع الاجتماعي المعاصرة.

كيف يتعاطى العقل الإسلامي المعاصر مع هذا المشكل؟

  • هل يمكن من خلال “التأويل” رفع التناقض القائم بين المدونة التراثية وحاجات الاجتماع الجديدة التي نجمت عن ضغوط الحداثة؟
  • هل يكفي التأويل (توسيع مساحة تفسير النص) لإعادة التوافق بين النظام الديني والنظام الاجتماعي ؟

هل يستبيح التأويل – الآن – تحقيق غرض التجديد الديني.

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete