تكوين
اختارت اليونيسكو عام 2002 ثالث خميس من شهر نوفمبر كل سنة للاحتفال باليوم العالمي للفلسفة، وهو اخيار رمزي يهدف إلى بعث الاهتمام أكثر بالفلسفة في مختلف المجتمعات بالنظر لما لها من أهمية في نشر قيم الحرية والتعايش والاختلاف الإيجابي والأمن وغيرها، كما أنها أداة فعالة لتحرير القدرات الإبداعية الكامنة لدى الإنسان، والحقيقة أن الفلسفة طيلة تاريخها لم تجد إجماعا حول أهميتها؛ فقد عرفت في كل العصور وفي كل المجتمعات منافسين لها ومنفرين منها، سواء كانوا علماء أو فقهاء أو رجال مال أو سياسيين، لذلك فقد كانت بحاجة دوما إلى مدافعين عنها ضد حملات التشويه والازدراء التي تتعرض لها، هذه الحملات وصلت إلى حد الإعلان عن موتها كما حدث مع بداية القرن العشرين بصعود التيار الوضعي والمنطقي الذي قاده علماء رأوا في موضوعات الفلسفة –خاصة الميتافيزيقا- مجرد أشباه قضايا أو قضايا خالية من المعنى، وقد تصدى لهم فلاسفة الذات والحياة(هنري برغسون والفلاسفة الوجوديون فيما بعد) بأن ميزوا بين موضوعات خاصة بالعلم وموضوعات خاصة بالفلسفة ومن المجحف وغير المقبول تقييم موضوعات الفلسفة بمعايير العلم.
ما هي الفلسفة وأهميتها؟
ومع التطور العلمي والتكنولوجي الرهيب الذي نعيشه اليوم خصوصا مع الاستثمار الكبير في الذكاء الاصطناعي الذي حقق نجاحات باهرة، نلاحظ عودة التهميش والازدراء للفلسفة بما يشبه إعلانا جديدا عن موتها موتة ثانية، ففي ظل اكتساح العلوم لمختلف المجالات البحثية مادية كانت أو إنسانية، يبدو أن هناك إفراغا للحقل الفلسفي وتجريدا له من موضوعاته، حتى أننا نلاحظ أن حضور الفلسفة يبدو باهتا وفي تقلص مستمر سواء تعلق الأمر بمنزلتها في الساحة الأكاديمية أو في الساحة الثقافية والفكرية عموما، وهنا تطرح الكثير من الأسئلة المشروعة؛ أليست الفلسفة “سردية” بمعنى ما ضمن السرديات الكبرى التي أعلن الفيلسوف الفرنسي جون فرانسوا ليوتار(1924-1998) سقوطها منذ نصف قرن تقريبا، ومن ثم الإقرار بموت الفلسفة؟ ما الغاية أو ما الجدوى من الفلسفة ما دام العلم التجريبي يجيب وبدقة كبيرة عن مختلف الأسئلة المتعلقة بالكون من الماكروفيزياء إلى الميكروفيزياء؟ ألا تبدو الفلسفة مجرد تأمل وترف لا طائل من وراءه؟ ثم ما هي أسباب هذا الوضع “البائس” الذي تعيشه الفلسفة؟ وهل بقي لها ما تقوله بناء على معطيات الوضع الراهن؟
هذه الأسئلة وغيرها تطرح نفسها بقوة في الساحة الفكرية العالمية عموما والعربية بصورة خاصة مع فوارق كبيرة، طبعا، بين السياقين العربي والغربي، لذلك فمن الصعب الإجابة عنها كلها في مقالة واحدة، ولكننا نعتقد أن مجرد طرحها يشكل أهمية في حد ذاته، ففي الفلسفة -كما يقال- السؤال أهم من الجواب، والجميع يتفق أن منزلة الفلسفة في السياقات العربية ليست بالمنزلة المتناسبة مع قيمتها وأهميتها، مع بعض التحسن الذي شهدناه مؤخرا في بعض البلدان العربية التي بدأت تنفتح على الفلسفة درسا وتدريسا وكتابة(المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان ..) بعد أن كانت مجتمعاتها ونخبها محرومة من الاطلاع على هذا المجال المعرفي الذي لا يقل أهمية عن غيره من المجالات الإنسانية والاجتماعية. ومع ذلك تبقى الفلسفة تعاني في بلداننا من التهميش و”الخواف”، لنلاحظ مثلا أن هناك عشرات وربما مئات الجوائز التحفيزية التي تمنح كل سنة للروائيين والشعراء والنقاد والسينمائيين والمسرحيين في مختلف البلدان العربية، وهو أمر صحي جدا بما يتيحه من التفاف واهتمام بهذه التخصصات، في المقابل لا توجد أية جائزة في العالم العربي لتحفيز الباحثين والمشتغلين بالفلسفة !! لنلاحظ أيضا فرص العمل المحدودة جدا للمشتغلين بالفلسفة مقارنة بغيرهم من التخصصات الأخرى، وضع يختصر كل شيء ليقول: الفلسفة غير مرحب بها عندنا ولا حاجة لنا بها..
يعتبر الأستاذ عبد الرحمن بوقاف أستاذ الفلسفة الغربية الحديثة بجامعة الجزائر الفلسفة نصا شارحا أو نصا قارئا لنصوص أخرى، بمعنى أنها أشبه ما تكون بمجموعة من الأدوات المنهجية والنقدية التي تطبق على نصوص علمية أو فنية أو دينية لاستنطاقها وكشف متكآتها ومآلاتها، فالفلسفة في جوهرها هي فن السؤال، ومن ثم فهناك حاجة ماسة للفلسفة لا باعتبارها تقدم أجوبة، ولكن لأنها تتيح طرح الأسئلة المناسبة، فمهمتها الأساسية ليست تقديم الأجوبة حول القضايا أو النصوص التي تقرأها بقدر ما هي طرح المزيد من الأسئلة المتناسلة من بعضها البعض لتجعل هذه النصوص تصل إلى أقصى مداها التعبيري، ومن ثم تكون الفلسفة بحثا في المعنى لكشفه عبر الأشكلة أو السؤال ولحصره عبر المفهمة دون أن تكتمل هذه المهمة بصورة نهائية، فهي تظل أفقا مفتوحا على ممكنات كثيرة، وبهذا المعنى تبدو الفلسفة كأداة قراءة مستعصية على الموت أو الزوال، لأنه مادامت هناك نصوص أدبية وعلمية وفنية تظهر كل يوم فهي بحاجة لقراءتها وتأويلها، وهو ما تقوم به الفلسفة.
إقرأ أيضاً: الفلسفة الوضعية : تعريفها، مؤسّسها، وتأثيرها في الفكر العربي.
وأهمية السؤال الفلسفي تتجلى في كونه يعبر –ضمن ما يعبر عنه-عن درجة عالية من الوعي، لاسيما الوعي بالأزمة الذي يعتبر الخطوة الأولى لتجاوزها، والمجتمع الذي يفقد القدرة على السؤال -كما يقول عبد الرحمن بوقاف- يصبح معرضا لكل شيء، وهذا ما نعيش بعض صوره كل يوم، فقد أصبحنا معرضين لكل شيء، فاقدين للبوصلة غير قادرين على تلمس الطريق الذي نسلكه.
يقال في بعض أدبيات الفلسفة أنها تفضح/تقاوم الحمق، ونحن نعيش الآن موجة رهيبة من انتشار الحمق، بفعل أغلب وسائط التواصل الاجتماعي التي شرعت الأبواب أمام الحمقى ليسمعوا صوتهم وينشروا حماقاتهم على أوسع نطاق، ولأنهم يمثلون الأغلبية العددية فإن هذه الحماقات تفرض نفسها بفعل التفاعل الكبير معها على أنها “حقائق”، وقد أصبح هؤلاء يدعون بــ”المؤثرين” لأنهم فعلا قادرون على نشر منتجاتهم على أوسع نطاق وأكثر من غيرهم، وهم مدعومون بشكل خفي من قبل قوى المال وإرادات الهيمنة العالمية التي تعلم جيدا أن نشر الحماقات على أنها “حقائق” ولو مؤقتة سيساعدها كثيرا في بسط نفوذها وتحقيق أهدافها الاقتصادية والسياسية، وقد أشار منذ سنوات المفكر الإيطالي الكبير أمبرتو إيكو(1932-2016) إلى خطر هذه الوسائط الكبير بالنظر لكونها تمنح حق الكلام بنفس الدرجة وفي كل الموضوعات للعالم كما تمنحه للجاهل/الأحمق.
هنا يمكن، بل يجب أن تتدخل الفلسفة بممارسة وظيفتها التساؤلية: ماذا يقدم هؤلاء “المؤثرون” للإنسانية؟ هل بإمكانهم إبداع أنساق أو نظريات في الأخلاق أو السياسة أو الاقتصاد أو الفن والجمال أو غير ذلك؟ طبعا لا، كل ما يفعلونه –في الغالب- هو نشر السخافات أو الممارسات الشبيهة بـ “الوجبات السريعة” التي ينتهي مفعولها بسرعة ولكن بعد أن تكون قد أسهمت بفعل كبير في هدم ونفكيك للقيم وللذوق السليم.
ركز الكثير من الفلاسفة في تعريفهم للفلسفة على أنها اشتغال بالمفاهيم ضبطا وإبداعا وتداولا ونقدا، وما تاريخ الفلسفة إلا تاريخا لنظر العقل في مقولاته، والفلسفة ليست شيئا أكثر من تاريخها، وبتقلص دور الفلسفة وتهميشها أصبحت مفاهيم أساسية مثل: المواطنة، الدين، الهوية، الدولة، المجتمع المدني، حقوق الإنسان، الديمقراطية..الخ، عرضة للاستسهال والعبث والتلاعب حينما تحدث فيها كل من هب ودب كما يقال، مع أنها مفاهيم “خطيرة”، يجب ضبط مدلولاتها بدقة ومن قبل مختصين، لا أن تترك لرجال السياسة والإعلام والعوام يعبثون بها، لأن ذلك من شأنه خلق فوضى دلالية وضبابية في الرؤية لدى الفاعلين الاجتماعيين، وما يترتب عن ذلك من ابتعاد عن الموضوعية وحجب للحقيقة، لنلاحظ ما يحدث هذه الأيام بسبب الصراع العربي الإسرائيلي من عبث وخلط للمصطلحات في مختلف الخطابات السياسية وعبر وسائل الإعلام العبرية والغربية، حيث تساوي بين مصطلحي المقاومة والإرهاب ومصطلحي العدوان والحرب “العادلة” والحق في الدفاع عن النفس، حتى أصبح المتلقي أو الرأي العام الغربي غير قادر على التمييز بين الحق والباطل، وقد صرح رئيس الحكومة الإسرائيلية منذ يومين أن إسرائيل تمثل النور وعدوها (المقاومة الفلسطينية تمثل) الظلام !! أي نور هذا الذي يتسبب في قتل آلاف الأطفال والنساء؟؟ اللهم إلا إذا كان نورا مظلما، هنا أيضا يجب أن تتدخل الفلسفة لتكشف المغالطات والتلاعبات والعبث الممارس بالمصطلحات على المفاهيم والتصورات، وتعيد لهذه المصطلحات حمولتها ومضامينها الحقيقية.
لعل الميزة الأساسية للمجتمعات المعاصرة هي كونها مجتمعات استهلاكية، أين تمت سلعنة كل شيء بما في ذلك المعرفة بمختلف تخصصاتها، فإذا كان الأمر واضحا في العلوم الدقيقة من خلال ارتباط نتائجها المباشر بالتطبيقات التكنولوجية، فإن بعض العلوم الإنسانية والاجتماعية أيضا شقت طريقها في مجال سلعنة نتائجها من خلال إنشاء مؤسسات الإشراف والتأهيل والتطوير والاستشارة، وتقديم دورات تدريبية حول مختلف الموضوعات ذات الصلة بالإنسان والمجتمع(الذاكرة، اللغة، التنمية البشرية، العلاقات الأسرية، علاقات العمل…الخ)، بل حتى في مجال الإبداع الأدبي أصبحنا نسمع عن دورات تدريبية على شاكلة: كيف تكتب رواية قصة أو شعرا؟ وهذا يعني سلعنة الإبداع وتسويقه..
وفي السياق الغربي بدأت فعلا محاولات سلعنة الفلسفة هي الأخرى على خطى علم النفس والعلوم القانونية والإدارية وغيرها، وهذا من خلال تعديل مجالات اهتمامها باقترابها أكثر من الحياة اليومية، وهو ما أصبحنا ندعوه بالفلسفة التطبيقية والتي تنظر في وجود الإنسان اليومي، ومشكلاته وهمومه وإنجازاته واختياراته وقراراته، وبالتالي أصبحت الفلسفة تناقش المشكلات التي يعيشها الإنسان فعلا ويعانيها كل يوم، ويجد نفسه بحاجة لمرشد أو موجه لحلها، ضمن هذا السياق “فقد افتتح الفيلسوف الألماني جيرد ب آخنباخ في ماي 1981 أول ممارسة للإرشاد الفلسفي، وأسس بعدها الجمعية الألمانية للممارسة الفلسفية ومنذ ذلك الحين انتشرت هذه الممارسة في كل أنحاء العالم، وفي عام 2002 تم تأسيس الجمعية الدنماركية للممارسة الفلسفية، كما أن الجمعية الدولية للممارسة الفلسفية الناطقة بالألمانية تضم مئة وخمسين عضوا، بل هناك مقاه فلسفية، أما الاتحاد الأمريكي المعروف باسم “الجمعية الوطنية للاستشارات الفلسفية” فيشمل حوالي أربع مئة عضو”(تشارلي هوينمان وآخ: موت الفلسفة، 2023، 11).
والفلسفة التطبيقية تشمل مجالات فلسفة الأخلاق وفلسفة السياسة والتاريخ والاقتصاد والطب والبيولوجيا وغير ذلك من المباحث التي تزداد قيمتها يوما بعد يوم كمرافق وقارئ لما يحدث علميا، وهو ما يعني أن الفلسفة من خلال هذا الشق التطبيقي لديها الكثير لتقوله في مختلف المجالات المرتبطة بالحياة اليومية للإنسان.
تأسيسا على ما سبق يمكن القول أن كل تضييق على الفلسفة فهو لا يعدو أكثر من زوبعة عابرة، والفلسفة إن أخرجت عنوة عبر النافذة عادت مزهوة عبر الباب، ومن شبهها بالقطة السوداء غاب عنه أن القط في ثقافتنا الشعبية بسبعة أرواح، لذلك، فكل إعلان عن موت الفلسفة هو بمثابة ميلاد جديد لها ولو بثوب مغاير، فهي كطائر الفينيق تبعث من رمادها.