تنازعت الفكر العربي الحديث والمعاصر ثنائيات إيديولوجية متناقضة لم يفلح في الخروج من ربقتها إلى الآن ، من ثنائية الشرق والغرب ،والعرب والإفرنج ، والتقليد والحداثة، والوحدة والتجزئة ، إلى ثنائية الأنا والآخر، والذات والموضوع ،والمعرفي والإيديولوجي . وفي ظل هذه الثنائيات وسواها ، رهن الإيديولوجيون العرب المستقبل العربي بالانحياز إلى أحد طرفي الثنائية . فانقسم الفكر النهضوي العربي بين أولوية الاصلاح المؤسس على التراث وبين أولوية التغيير بالانتهال من ليبرالية الغرب وقيمه السياسية والاجتماعية .أعطى نهضويون الاولوية إلى النهج القويم المركون في التراث العربي الاسلامي ، في حين أعطى آخرون الأولوية لقيم الغرب الليبرالية في الحرية والدستورية والقومية والمواطنة وحقوق الانسان. قال الاولون التراث أولاً ، وقال الآخرون الحرية وحقوق الانسان أولاً . وعلى المنوال نفسه ذهب البعض إلى أن الدولة القطرية العربية هي الحقيقة الثابتة والنهائية فيما ذهب آخرون إلى أن الوحدة العربية هي اساس تقدّم العرب ومنعتهم وموقعهم في العالم الحديث . وبصورة عامة تميّز الفكر العربي ، وبخاصة منذ اواسط القرن الماضي إلى الآن بالانقسام بين منحى يعطي الاولوية للموضوع على الذات حيث العوامل المادية والاقتصادية هي الفاعلة والحاسمة ، وآخر يقدّم الذات على الموضوع باعتبار الانسان وإرادته الإنسانية وموقعه في حركة التاريخ ، وخياراته الروحية والثقافية هي الاصل والاساس وصاحبة الكلمة الفصل .
غلب المنحى الاول اجمالاً على توجهات شريحة واسعة من الماركسيين والقوميين العرب الذين غلّبوا العامل الاقتصادي جاعلين التطور الاقتصادي العربي وتقدّم الاقتصادات العربية ، الشرط المؤسس لأي تحوّل عربي باتجاه الاشتراكية أو الوحدة القومية , فغابت في هذا المنظور إرادة الانسان العربي وتراجع دور البعد الثقافي وتأجلت المطالبة بالديمقراطية وما تعنيه من قيم الى ما بعد وصول حركة التطور الاقتصادي الى منتهاها .
سادت هذه الرؤية الإيديولوجية بصورة شبه تامة حتى سبعينيات القرن الماضي ، حيث نجد لها نماذج وتعبيرات في الفكر الماركسي او القومي على السواء , فالوحدة العربية ، في رأي الماركسي نسيب نمر ، منوطة بتطور الاقتصاد العربي وليس بارادة وتصميم الشعوب العربية على تحقيق امانيها الوطنية والقومية. يقول نمر في ” محتوى القومية العربية “1959” قبل كل شيء ، ينبغي حسب وجهة نظرنا ، ان تتقدّم الحياة الاقتصادية على نطاق أجزاء العالم العربي كله ، وأن تتطور معها طرق المواصلات ، وان تقوى الرأسمالية الوطنية العربية، وان يقسم العمل بين الأجزاء العربية ،وفقاً لتطور الاقتصاد العربي ،ومن ثم يصبح جمعها في “كل ” موحّد ليس مرتبطاً برغبة هذا او ذاك ، وانما يكون ضرورة واقعية تاريخية يحتمها تطور المجتمع نفسه ” .
وفق هذا المخطط التبسيطي نظر إلى المسألة الفلسطينية، لا بوصفها اغتصاباً لوطن واقتلاعاً لشعب بل باعتبارها حركة استعمارية هدفها تصدير الرساميل الى العالم العربي ، وبسط سيطرتها على ثرواته وطاقاته الإقتصادية .
أما الفكر القومي فقد نحا هو الآخر ، بصورة عامة ، المنحى عينه بتغليب العوامل الموضوعية ، المادية والإقتصادية في حركة التاريخ ،على العوامل الأخرى الايديولوجية والثقافية ، وقد ظل هذا المنحى سائداً حتى السنوات الأخيرةمن القرن العشرين . ففي رأي برهان غليون ان ليس من الممكن للديمقراطية ان تصبح هدفاً مشروعاً للعمل السياسي إلا إذا تمت البرهنة على ان ” واقع العرب الموضوعي ” يتضمن الحد الأدنى من العناصر والإمكانات التاريخية . ولهذا فإن المشكلة الأساسية التي يعانيها الوطن العربي ، ليست مشكلة الحرية ، بل هي الآن والى زمن طويل ، مشكلة التنمية الإجتماعية والاقتصادية وتأمين العمل ملايين الناس .
الإيديولوجيا الماركسية
في الإيديولوية القومية إذاً كما في الإيديولوجيا الماركسية تقدم الشرط المادي الموضوعي على الشرط الثقافي حتى كانت نكسة 1967 وما جرته من عواقب على كل المستويات ، صدمة حقيقية أيقظت الفكر العربي على هشاشة مقولاته ومسلماته الإيديولوجية،لتضعه وجهاً لوجه أمام تحديات الهزيمة العربية بكل أبعادها الحضارية ، ولتعيد المسألة الثقافية إلى صدارة العوامل الفاعلة في التاريخ . فكتب عبدالله العروي “الإيديولوجية العربية المعاصرة ” وياسين الحافظ ” الهزيمة والإيديولوجا المهزومة ” ووضاح شرارة ” حروب الإستتباع :لبنان الحرب الأهلية الدائمة ” وغالي شكري ” ديكتاتورية التخلف العربي ” وجورج قرم “إنفجار المشرق العربي ” وهشام شرابي “البنية البطريركية : بحث في المجتمع العربي المعاصر ” . وقد حفلت كتابات هؤلاء بأمثلة حية على ارتداد المثقف العربي على تاريخه ومسلماته الإيديولوجية والسياسية التي شكلت الخلفية النظرية للهزيمة ، فاتجه البحث الى مكمن الخلل في الواقع العربي ، ووضعت الثقافة العربية في قفص الإتهام ، واعتبر المثقفون العرب أنفسهم مشاركين بشكل وبآخر في المأزق الذي يحاصر الأمة العربية ، مسؤولين عما لحق بها من تراجع وتخلف واستبداد .
في هذا الإطار دان المثقف العربي نفسه بالهامشية والعجز والجبن والسكوت عن القمع والإستبداد باسم القضايا الكبرى . ولم يتوان بعض المثقفين العرب عن اعتبار الثقافة العربية أصل البلاء في ما بدا تماهياً مع فكر الإستشراق الذي ألصق بهذه الثقافة كل سمات الجمود والإنغلاق وقابليتها للتحآلف مع الإستبداد واحتضانه . فقد اعتبر خلدون حسن النقيب في “آراء في فقه التخلف ” ان ” الذل والإذلال سمة عامة في الثقافة العربية وا ن العبودية أمر مقبول في تراثنا ” . وذهب فؤاد اسق الخوري الى أن ” العنف من صلب تراثنا ” وانه كأسلوب للتعامل “جزء من شخصيتنا الإجتماعية والنفسية ” .
لكن حليم بركات نبّه في ” المجتمع العربي في القرن العشرين ” إلى أن الثقافة ليست مجموعة مكونات ثابتة ساكنة جامدة مطلقة مغلقة ، بل هي متطورة متغيرة نسبية متحولة ، كما ان المجتمع ليس كائناً تاماًمكوناً جاهزاً ، بل هو متطور في هويته وثقافته وحتى مقدساته . من هنا من الخطأ افتراض خصوصية ثقافية عربية ،ذات سمات قارة ثابتة في وقت بات فيه العالم كله ، بما فيه العالم العربي ، مفتوحاً على كل الأفكار والقيم والمفاهيم ، ومتفاعلاً مع كل الأنماط السلوكية والإجتماعية والأخلاقية .
هذه الرؤية الحركية التطورية للثقافة هي الخلفية التي قامت عليها المشاريع النقدية الكبرى التي عرفها الفكر العربي منذ سبعينات القرن الماضي ، والتي أعادت الإعتبار الى المسألة الثقافيةبوصفها مكمن العلة في المأزق النهضوي العربي ، حيث توجه عبدالله العروي ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري وأدونيس وهاشم صالح وغيرهم الى نقد الأبنية الثقافية العربية التاريخية التي هي في نظرهم الأساس الفعلي للمحنة الحضارية العربية ، بهدف تأسيس رؤية عقلانية للإنسان والمجتمع والتاريخ ، متحررة من اليقينيات السائدة ، منفتحة على كل الأسئلة التي اعتبرت حتى الآن في عداد الممنوع التفكير فيه ، رؤية تجديدية تجد في الثقافة ، الإجابة الحاسمة على السؤال النهضوي المؤجل : لماذا تأخر العرب وتقدم الآخرون ؟
كان عبدالله العروي الرائد في اختطاط هذا المنهج الذي يقدّم الثقافة على العوامل المادية والإقتصادية انطلاقاً من فاعلية العامل الثقافي في الإقتصاد والسياسة والإجتماع ، على الضد من التفسيرات المبتذلة التي جعلت البنية التحتية _ الإقتصاد والعلاقات الإنتاجية _ المحدد الأول والأخير للفكر والإيديولوجيا . ومن هنا طرح العروي ضرورة التقويم الإيديولوجي لهزيمة عام 1967 لأن من ينكر هذا التقويم إنما يريد أن يجمد الحركة التحريرية العربية في مستوى قبل 1967 .
هذا التقويم الإيديولوجي هو بالذات ما صدر عنه محمد عابد الجابري ومحمد أركون وأدونيس ، اذ رأوا جميعاً أصل الخلل في إخفاق المشروع النهضوي العربي في الثقافة العربية : ” العقل العربي ” بتعبير محمد عابد الجابري أو “العقل الإسلامي ” بتعبير محمد أركون أو ” الرؤيا الدينية ” بتعبير أدونيس . يقول الجابري ” ميدان واحد لم تتجه إليه أصابع الإتهام ، وبشكل جدي وصارم ، هو تلك القوة أو الملكة أو الأداة التي يقرأ بها العربي ويرى ويحلم ويفكر ويحاكم … إنه العقل العربي “. وفي الإتجاه عينه ذهب أركون إلى أن ثمة عوامل ثقافية كامنة في العقل العربي ونمط تصوره للكون والإنسان والتاريخ تقف وراء فشل المحاولات النهضوية المتكررة ، فثمة أنماط فكرية ، وتصورات بشأن الإنسان والتاريخ ، لم تكن المجتمعات الإسلامية مستعدة لها . ومن هذه الزاوية بالذات اعتبر أدونيس نمط التفكير وطرائقه ، العامل الحاسم في المجتمع العربي الإسلامي الذي يصح وصفه بأنه مجتمع مؤسس على رؤيا دينية تشمل الجسم الإجتماعي كله ، اقتصادياً وثقافياً وسياسياًوأخلاقياً .
من هنا إن سؤال النهضة المركزي ، “لماذا تأخر العرب وتقدّم غيرهم ؟” سيبقى من دون إجابة ، في نظر الجابري ، إذا لم يطرح على الصعد الإبستمولوجي ، وما لم يتجه مباشرة ألى ” العقل العربي ” ف”المسلمون إنما بدأوا يتأخرون حينما بدأ العقل عندهم يقدم إستقالته ، حينما أخذوا يتلمسون المشروعية الدينية لهذه الإستقالة ، في حين بدأ الأوروبيون يتقدمون حينما بدأ العقل عندهم يستيقظ ويسائل نفسه ” . إن العقل العربي إذاً بوصفه الأداة المنتجة للقواعد المنظمة للواقع الإجتماعي العربي المتخلف هو مصدر الخلل الذي يجب أن يتوجه إليه النقد لتحديثه وتغيير مسلماته وأبنيته السائدةمن أجل تحول تاريخي في صالح الإنسان العربي ، المهمة الأساسية والجوهرية لمشروع نقد العقل العربي عند الجابري الذي خلص إلى أنه في هذا التحول التاريخي يبرز الفكر “قوة فاعلة” عليها أن تفعل من أجل تغيير الشروط الإجتملعية التاريخية ، مثلما حدث في اوروبا وفي اليونان وعند العرب قديماً .
في هذا الإتجاه ذهب أركون الذي اعتمد مفهوم “العقل الإسلامي ” باعتبار “العقل العربي ” منضوياً تحت هذا المفهوم ، إذ انه”عقل ديني أو لم يتجاوز بعد المرحلة الدينية من الوجود “.وهذا العقل هو قواعد وتصورات ومبادىء فاعلة في الواقع الإجتماعي منتجة له ، الامر الذي لا بد من مواجهته بثورة فكرية يجب ان ” تذهب الى أعماق الأشياء وتغير منظورنا جذرياً للتراث ” فتجعله “قوة تحريرية ” تساعدنا على الإقلاع والإنطلاق الحضاري ، بدل ان يبقى قوة معيقة تشدنا إلى الخلف في كل مرة.
إن النقطة المركزية التي تلتقي وتتقاطع عندها مشروعات العروي والجابري وأركون وأدونيس هي ان انجاز ” ثورة ثقافية ” تطيح الأبنية والأنماط الفكرية والثقافية الجامدة والمفوتة ، هو السبيل الناجع لإنجاز المشروع النهضوي الحضاري العربي العاثر الذي يجرجر خيباته وإخفاقاته ومآزقه منذ بدء النهضة العربية مطلع القرن التاسع عشر إلى الآن . وما وجه الخلل في ذلك إلا أنه لم توجه مشاريعنا التنموية حركة ثقافية ثورية ، فاستمرت أنماطنا الفكرية ” المتخلفة وأبنيتنا الثقافيةالقديمة جنباً ألى جنب مع الإنجازات الحداثية التي استوردناها من الغرب من دون العقل الذي أنتجها . ما عبر عنه أدونيس في “الثابت والمتحول ” بقوله : ” لا يمكن أن تنهض الحياة العربية ويبدع الإنسان العربي ، إذا لم تنهدم البنية التقليدية السائدة للفكر العربي ، وتتغير كيفية النظر والفهم التي وجهت هذا الفكر ولا تزال توجهه”.
إن الإستنتاج الأساسي الذي نخلص إليه من خلال مقاربات العروي والجابري وأركون وأدونيس هو أن ثمة توجهاً في فكرنا الفلسفي والنقدي لم يعط ما للمسألة الثقافية من فاعلية مركزية وأساسية في توجيهه الواقع العربي نحو التقدم والنهضة . ولعل ما أورده هاشم صالح في “الإنسداد التاريخي ، لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي ؟” 2007 تعبيراً عن استمرار الإشكال النهضوي الذي قاربه العروي والجابري وأركون وأدونيس ، إشكال المواجهة الثقافية التي لم تحسم بعد ، يقول صالح : ” سبب الإنسداد الحضاري الذي يعانيه العالم العربي والإسلامي ككل يعود الى الإنغلاق الكامل داخل يقينيات القرون الوسطى التي تتخذ صفة الحقيقة الإلهية المقدسة التي لا تناقش ولا تخضع للعقل بأي شكل . “ومعلوم ان اوروبا ام تنطلق حضارياً إلا بعد ان تحررت من أسر هذه اليقينيات “.وسوف يكون الشرط الأول والمسبق لكل تحرير . كل أنواع التحرير الأخرى ، كالتحرير الإجتماعي أو الإقتصادي أو السياسي مرتبطة بالتحريرالروحي “.
هكذا يكون صالح كما العروي وأركون والجابري وأدونيس ، قد أناط النهضة العربية مجدداً بالثورة الثقافية مقدماً في ذلك البعد الثقافي على الأبعاد الأخرى الإقتصادية والسياسية والإجتماعية ، الأمر الذي أغفله الماركسيون والقوميون وحتى الحداثيون العرب ، ولعله وقف وراء فجيعة هؤلاء بخطاباتهم التي جعلت المسألة الثقافية تابعاً ثانوياً للعوامل الإقتصادية والسياسية من دون أن يتنبهوا الى موقعها وأولويتها . أليس هذا ما عبر عنه المفكر القومي قسطنطين زريق قبيل رحيله إذ بلغ به الأمر حد الشك حتى في صحة التكلم ، ليس عن الأمة العربية فحسب ، بل عن “المجتمعات العربية القطرية أو عن المجتمع العربي العام ، نظراً لقصور أهلها جميعاً عن تكوين ما يصح أن يدعى مجتمعاً أو شعباً”.وكان الجابري في ” المشروع النهضوي العربي ” قد رأى أن ” المستقبل العربي يأتي دائماً بمفاجآت . فهو يكّذب جميع السيناريوات والتوقعات ويأتي دائماً خلاف الأماني “.
ولا ينجو المفكر العلماني مما أصاب المفكرين القوميين من خيبة بمشاريعهم القومية ، فأركون الذي بدا واثقاً في السبعينيات من إمكان تحرير العقل الإسلامي من القيود التي فرضها العقل الدوغمائي ، ومن إمكان زحزحة الأنظمة المعرفية الموروثة من التراث التيولوجي ، وصولاً الى علمنة الفضاء الإسلامي باعتبار ان الإسلام ليس مغلقاً بوجه العلمنة على ما رأى في ” العلمنة والدين ” يفاجأ في “قضايا في نقد العقل الديني ” ب”العقل الأصولي المدهش في استمراريته وطول أمده وٌقدرته على الإنبعاث والتجييش حتى في أواخر القرن العشرين “.
أما المفكر الماركسي الذي انتظر تقدم العوامل الإقتصادية لينجز كل مهامه الكبرى فقد كان الأكثر فجيعة بتنظيراته ، إذ صحا الماركسيون العرب ، بعد التداعي الدرامي لكل ما بشروا به ، بين متبرىء من ماضيه ، وبين معتذر عن مسؤوليته في ما آلت اليه الإيديولوجيا ، متنصل من جانب منها أو حتى منها كلها . ففي ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي عام 1999 قال جورج حاوي ” أي إشتراكية نريد ؟ لقد تملصنا وتنصلنا وحلفنا بالطلاق ثلاث مرات مع التجربة السابقة ” . وقال فاروق دحروج :” إذا كنا نصر على الإشتراكية ، فإننا نؤكد أن هذه الإشتراكية ستكون مختلفة عن كل ما سبقها “.
وجه الإشكال في كل ذلك ، في رأينا ،
ان الإيديولوجيين العرب ، ماركسيين وقوميين وحداثيين كانوا يطرحون ايديولوجياتهم بمعزل عن ثورة ثقافية تؤسسها . طرح الماركسيون الإشتراكية بانتظار ان يحققها تطور الإقتصادات العربية من دون ان يجهدوا أنفسهم في التواصل مع الجماهير وبناء العقلية الإشتراكية ، فجاء الواقع مخيباً لطموحاتهم وتمنياتهم . وطرح القوميون الوحدة القومية لأن العالم العربي ذات لغة واحدة وتراث واحد وتاريخ واحد ، ولكن من دون ان ينكبوا على بناء الروح العربية الواحدة والإرادة الواحدة فوق العصبيات القبلية والعشائرية والطائفية التي لم تلبث ان انفجرت في وجوههم . . وطرح العلمانيون العلمنة ولكن من دون ان يؤسسوا لاحترام الإختلاف والتعدد وبناء ثقافة الحرية ، ففاجأتهم الأصوليات من كل وجه واتجاه .
من هنا نطرح على الفكر العربي المعاصر تبدلاً جوهرياً في توجهاته النهضوية ، بالتعامل مع المسألة الثقافية بوصفها ألف باء النهضة العربية الثابتة والدائمة وغير المهددة من حين لآخر بكل تقلبات الأحداث وتحديات الحداثة ومفاجآتها غير المتوقعة ، فالفكر والإرادة الإنسانيين هما في رأينا اللاعبان الأساسيان والمركزيان على مسرح التاريخ وكل ما عدا ذلك منوط بهما أولاً وأخيراً.