تكوين
لا شكّ أن تناول أفكار المنظرين البارزين عملية مشوبة بالتعقيد؛ لأنّهم باحثون مجددون لا يعرفون الجمود على رأي ولا التعصب لمدرسة، فغالبا ما تتبدل أفكارُهم، وتتغيرُ مواقفهم على مرّ السنين، ومنهم الإمام محمد عبده (١٨٤٩-١٩٠٥) أحد أعلام التنوير في تاريخ مصر المعاصر، وأحد رُواد الحركة الإصلاحية الذي تنقّل بين مدارس التراث، وتعرّف على ثقافات الغرب؛ فتراه في بعض القضايا يبدو أشعرياً، وأخرى معتزلياً، وثالثة سلفياً، ورابعة متأثرا بالثقافة الغربية.. على نحو يُصيب الباحث عن تصنيف للإمام بالحيرة.
فكر الإمام محمد عبده
فإذا تتبعنا فكر الإمام في ضوء المنهج التاريخي الذي لا يُهدر أثر الزمن في نتاج الشخصية التي قد تُؤمن بالفكرة في مرحلة، وتُمارس نقيضها في مرحلة أخرى، فسنجد الإمام تبنى الفكرة، ثم عدل عنها إلى نقيضها، فنظر إلى الدولة القومية كحاجز يُقسّم دولة الخلافة إلى أقطار، ورأى الجنسية عصبية تناقض الإسلام بقوله: “وطن المسلم من البلاد الإسلامية هو المحلّ الذي ينوي الإقامة فيه، ويتخذ فيه طريقة كسبه وعيشه… يجري عليه عرفه، وينفّذ فيه حكمه.. فهو رعية الحاكم الذي يقيم تحت ولايته.. أما الجنسية فليست معروفة عند المسلمين، ولا لها أحكام تجري عليهم.. وإنّما هي عند الأمم الأوربية تُشبه ما كان يُسمَّى عند العرب عصبية.. ولقد جاء الإسلام فألغى تلك العصبية، ومحا آثارها”.
ثم عاد، لاحقا، فتراجع عن تلك الأفكار، فاستساغ مبدأ المواطنة، وقبِل بفكر الدولة القومية، “التي وصفها بأنها لا تُفرّق بين دين وآخر، وأنّها سمة العصر الحديث منذ الثورة الفرنسية، وهي نزعة فكرية وعاطفية تُوجّه ولاء الفرد للأمّة، وقد سُمّيت القومية نسبة إلى القوم الذين يعيش الفرد بين ظهرانيهم، ويشعر أن كيانه جزء لا يتجزأ من كيانهم، وللقومية مقوماتها الخاصة كاللغة والأرض والكيان السياسي والعادات والتقاليد أو الدين”.
كذلك مال الشيخ محمد عبده في نشأته إلى التصوف الانعزالي، يلبس الخشن، ويأخذ نفسه بالرياضات والتأملات، يقضي الليل قائما والنهار صائما بين التلاوة والذكر، لا يُكلّم أحداً إلا بمقدار الضرورة، ثمّ لم يلبث أن عدل عن العزلة بعد أن اتّصل بجمال الدين الأفغاني، فاندمج في حياة أهل عصره، معنيا بإصلاح أحوالهم، مخالفا صوفية زمنه في منحاها الانعزالي، وإن “ظلّ بالإمام -على حد تعبير الشيخ المراغي- قليلٌ من النزعة الصوفية يأخذ ببعض رياضات الصوفية في كتاب “الإحياء” بعد أن عالج الضارّ منه، فلم يأخذ منه بعض العبارات المبتدعة، ولا عقيدة الجبر، ولا التأويلات الأشعرية والصوفية المغالية في الزهد”.
ويبدو الإمام سلفيا متأثرا بمدرسة ابن تيمية في إنكاره على مشايخ الطرق الصوفية شيوع البدع والخرافات الدينية، وفي دعوته إلى فهْم الدين على طريق السلف قبل ظهور الخلاف، والرجوع إلى أصول الدين من الكتاب والسنة؛ حتّى ترجع الأمور الاعتقادية والتعبدية إلى ما كانت عليه في عهد السلف بلا زيادة ولا نُقصان، إلا أنّه كان، في الوقت نفسه، على خصومة مع جانبٍ كبير من أفكار مدرسة ابن تيمية، ويظهر ذلك في دعوته إلى تحرير الفكر من التقليد، وفتحه باب الاجتهاد على مصرعيه، وتفسيره للقرآن الكريم تفسيراً يُلائم روح العصر الحديث، ولا يُناقض حقائق العلم.
من جانب آخر، تأثّر الإمام بالمعتزلة والجيل الثالث من الأشاعرة، فاتّجه نحو المنهج العقلي، وأوّلَ النقل بما يُوافق العقل، مُرجّحا العقل على ظاهر النقل عند التعارض بينهما، ودان بالتأويل في العقائد على خلاف ما عليه مدرسة ابن تيمية قديما، وحديثا؛ في إنكارها التأويل، والتزامها بظواهر النصوص، ولا شكّ أن ما جرى عليه الشيخ محمد عبده في التأويل وتقديم العقل، يجعله أقرب إلى مدرسة ابن رشد، وليس إلى مدرسة ابن تيمية التي ثار أتباعها داخل الأزهر عليه بتحريض من الخديوي عباس الثاني، حتّى أنّهم اتّهموه بالزندقة، رافضين أفكار الشيخ الإصلاحية.
كذلك تأثّر الشيخ محمد عبده في مقتبل حياته الفكرية بالمدرسة التقليدية المحافظة التي نشأت على تبديع الفلاسفة ومجافاة العلوم الفلسفية، والتي لا تزال تجافيها إلى يومنا رغم أثرها في الحضارة الحديثة، إلا أنّ موقف الإمام من الفلسفة والفلاسفة تغيّر، بعد أن أتقن اللغة الفرنسية في المنفى، وتعرّف أكثر على الثقافة الغربية، فقويت صلته بكتب الفلسفة، لما رأى من آثارها في نهضة أوربا، والتقى بعدد من كبار الفلاسفة في زمنه، فعندما أعجب بالفيلسوف الإنجليزي “هربرت سبنسر” سافر لمقابلته في بريطانيا، وترجم كتابه في التربية من الفرنسية إلى العربية، وسعى عند عودته إلى مصر إلى تدريس علوم الفلسفة في الأزهر ضمن حزمة من العلوم الحديثة إلا أنه قُوبل بالرفض الشديد.
من جانب آخر، لا يُمكِنُنا أن نحكمَ على الشيخ محمد عبده بما انتهى إليه أشهر تلامذته الشيخ محمد رشيد رضا، فأحيانا يجمدُ التلميذ، ولا يتطور مع تطور المواقف الفكرية لأستاذه، فإذا كانت كتبُ ومقالات ودروس الشيخ محمد عبده تُظهر تغيّرَ موقفه الفكري إزاء الكثير من المفاهيم بما يُواكب تطوّر أفكاره حول الخلافة والمواطنة والجنسية والفلسفة، والإصلاح الديني، وعلاقة العقل بالنقل، فإن تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا اتخذ موقفا مغايرا بتوجهه فكريا إلى الدعوة الوهابية القادمة حينها من صحراء نجد، ولم يكن رشيد وحده مَنْ توجّه نحو نجد، فتأثّر خليفة رشيد رضا في رئاسة تحرير مجلة المنار الأستاذ حسن البنا بها أيضا، فاستعار اسم جماعته “الإخوان المسلمين” من اسم الجيش الذي تشكّل من قبائل البادية التي توحّدت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الدينية، وقيادة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، وقد أُطلق على جيش القبائل حينها “جيش الإخوان”، فخاض جيش الإخوان معارك ضد الدولة العثمانية ذات الدعوة الدينية بأنّها دولة الخلافة الإسلامية بدعوة دينية هو الآخر أطلق عليها الدعوة الإسلامية الإصلاحية “دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب”.. وبتعدد الدعوات الدينية وتنازعها في العالم العربي، انتشرت شعارات دينية نجحتْ في تهميش دعوات التمدن والتحوّل، مكتفيةً من التحديث بالقشرة، فأصبحنا دولا بقشرة ضعيفة تُخفي تحتها جماعات وقبائل.
امام التيار السلفي
وإذا كان الأستاذ الإمام محمد عبده هو الأب الروحي للتيار السلفي الحديث (رشيد رضا)، فالأستاذ الإمام هو أيضا الأب الروحي للتّوجه الاجتماعي التّقدمي (قاسم أمين) وللثورة المصرية الحديثة (سعد زغول)، وللجامعة الأهلية (أحمد لطفي السيد)، ولمدرسة الإصلاح والتجديد الأزهرية (محمد مصطفى المِرَاغي)، ولمدرسة الفلسفة الإسلامية (مصطفى عبد الرازق) وغيرهم ممنْ رسموا خريطة الفكر العربي في النصف الأول من القرن العشرين، فالأستاذ الإمام من الشخصيات الحيوية المتطورة في أفكارها على نحو يجعلها عصيّة على التصنيف.
أخيرا – على حد تعبير أودن W.H.Audan- “إن كلمات الموتى تتحوّل وتتبدل عندما يجترّها الأحياء”، وتتبدل وتتغيّر أكثر عندما تتمثّل في واقعٍ معيشٍ فيه، فالشيخ محمد عبده لا ينطق بأفكاره اليوم بيننا، وإنّما نحن من ننطقُ بأفكاره، ونُعيد تقديمها، فالقراءات التي تُهمل مسار التطور الفكري الذي عاشه الإمام، فتنسبه إلى السلفية أو الأشعرية أو العصرانية أو الرّشدية، إنّما تقف عند محطة فكرية بعينها، أو تنظر إلى جانبٍ، مهملةً مسارا حيويا متطورا مرّ به الأستاذ الإمام، فمن يقرأ نتاجه يجدُ فرقا كبيرا بين نقطتي البداية والنهاية؛ فلم ينته في مسيرة أفكاره كما بدأ؛ لأنّ بينهما عمرا طويلا من الأسئلة والأجوبة التي لن تنته حتى برحيله وسكوت قلمه؛ لأنّ أفكاره ظلّت حيّة تنمو، وتتطور في فكر تلامذته، من أمثال محمد مصطفى المراغي، وأحمد لطفى السيد وغيرهم فكان لهم تلاميذ تأثّروا بهم، ومن هؤلاء التلاميذ: محمود شلتوت وعبد المتعال الصعيدي وأحمد أمين وطه حسين الذين أثروا في تلاميذهم، ومن هؤلاء التلاميذ: أمين الخولي الذي كان له هو الآخر له تلاميذ تأثّروا به من أمثال: شكري عياد، ونصر حامد، وهكذا تدور الأفكار دوْرة الحياة، فلا تموت الأفكار لكنها تتجدد..
يُتبع