في ذكرى رحيل الإمام محمد عبده: الجزء الثالث

تكوين

مدرسة القضاء الشرعي بين الإمام محمد عبده وطلاّبه: سعد زغلول وعاطف بركات

“أعتقد أنّه ليس عند الثلاثمائة والستين مليونا من المسلمين الذين في العالم مدرسة تماثل هذه المدرسة”، بهذه العبارة وصف السّلطان حسين كامل مدرسة القضاء الشرعي. 

تولي محمد عبده مفتى الديار المصرية

عهدتْ وزارة الحقانية (العدل) إلى الشيخ محمد عبده فورَ تولّيهِ منصب مفتي الديار المصرية ٥ نوفمبر ١٨٩٩م أن يُقدّم تصورا لإعادة هيكلة المحاكم الشرعية، وقد سبق وأن عمل بها الشيخ لسنوات بعد عودته من المنفى، قام الشيخ بجولة بين المحاكم الشرعية في ريف مصر وحواضرها، وبعد مقابلاته للكثير من قضاتها ومعاونيهم، واطلاعه على سجلاتها ومضابطها، ووقوفه على فداحة الخلل الكائن بها، قدّم الشيخ تقريرا كان بمثابة مشروع إصلاح المحاكم الشرعية التي كانت تُعاني من إهمال شديد منذ عهد محمد علي باشا، حتى أصبحت عاجزة عن القيام بدورها، فتردّت المباني، وضعُفَ مستوى القضاة والكتبة، وانتشر الفساد..

مناهج التعليم الشرعي في عهد محمد عبده

اشتمل تقريرُ الشيخ محمد عبده على حزمة إصلاحات تستهدف تسهيلَ إجراءات التقاضي، وإعادة النظر في التشريعات، وتوسيع دائرة مصادر الأحكام، بعدم تقيد المحاكم بالمذهب الحنفي، ورفع مستوى القضاة الشرعيين بإعادة النظر بإصلاح مناهج التعليم الشرعي، وإدخال العلوم الحديثة (الجغرافيا، والإدارة، والرياضيات وغيرها ) إلى أروقة الجامع الأزهر، وهذا ما قُوبل باستهجانٍ شديدٍ، وباتّهامِ نوايا الشيخ محمد عبده، فرغم تبعية المحاكم الشرعية لوزارة الحقانية (العدل) نطاق عمل الشيخ إلا أنّ الحديث عن إصلاح هيئة في اسمها كلمة “الشرعية” ليس بالأمر الهين، وزَعَم الرافضون أنّ ذلك يُهدّد خصوصية الجامع الأزهر الدينية، ويصرفُ طلابه عن العلوم الشرعية.

مما دفع الإمام محمد عبده إلى التفكير في ضرورةِ وجودِ مدرسةٍ مستقلةٍ على غرار مدرسة دار العلوم التي أُنشئت عام ١٨٧٢م، حيث إنّ محاولات إصلاح التعليم الأزهري من خلال عضويته بمجلس إدارة الأزهر واجهتْ الكثيرَ من العقبات، فلم تنجح في إحداث تغييرات في المناهج والعلوم التي تُدرَّس، وإنْ نجحتْ جزئيا في تحقيق بعض الإصلاحات من تطوير طُرق الامتحانات، وحوكمتها، وتنظيم شؤون الطلاب.

تحمّس الخديوي عباس حلمي الثاني لمشروع الشيخ محمد عبده أول الأمر، وتشكّلت لجنة برئاسة الشيخ محمد عبده، مفتي مصر، لإعداد لائحة مدرسة القضاء الشرعي، ووضْع التفاصيل المتعلقة بنظام الدراسة، وعدد السنوات، والكتب المقررة، والميزانية المقترحة، لكنّ انقلاب الخديوي على الشيخ دفَع بالشيخ محمد عبده إلى الاستقالة من دار الإفتاء، ثم سرعان ما كان المرض، وعاجلته المنيّة في ١١ يوليو سنة ١٩٠٥.

تلاميذ الإمام محمد عبده

ظنّ خصوم الشيخ أنّ مشروعه الإصلاحي انتهى بموته، لكن ظلّت فكرتُه حيّةٌ في عقول طلابه، كتب عنها الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار، وتبنّاها تلميذ الإمام وصديقه سعد باشا زغلول (١٢٧٣ه/١٨٥٨م-١٣٤٦ه/١٩٢٧م)، فبعد أن انتهى من التعليم الأولي في كُتّاب قرية “إبيانة” التحق سعد زغلول بالجامع الأزهر ١٨٧٣م، وهناك التقى بالإمام، ثم توثّقت العلاقة بينهما فترة رئاسة الإمام لتحرير جريدة الوقائع المصرية، فكان سعدُ زغلول من الشباب الذي تمرّنَ تحت إشراف الإمام على الكتابة الصحفية، وممن شارك الإمام عام ١٨٩٢ مع حسن عاصم، وأحمد فتحي زغلول، تأسيس “الجمعية الخيرية الإسلامية” التي كانت ملتقى الإمام مع محبّيه من أبناء الأزهر ودار العلوم ومن الأدباء، والمثقفين.

سعد زغلول والشيخ محمد عبده

وتُشير رسائل سعد زغلول إلى الإمام في المنفي ببيروت بعد فشل الثورة العربية (١٢٩٩ه-١٨٨١م) إلى وجود علاقة وثيقة بينهما، فيُجيب سعد زغلول عن أسئلة الإمام حول بعض ما نُشر في المجلات والجرائد المصرية، مستخدما رموزا وإشارات بالحروف لا يفهمها غيرهما، منها كلمة “بيدان” إشارة محتملة إلى الاحتلال البريطاني.. ففي رسالة سعد زغلول إلى محمد عبده بتاريخ ١١ جمادي الأولى سنة ١٣٠٠ه يقول: “أستاذي الأكمل.. لا أقدر على الوفاء بواجب شكرك… وأظن حضرته (محمد عبده) يذكر أنّي في يوم من الأيام التي نزلت بها في بيته ذاكرته في هذا المعنى، ورجوت من مكارمه أن يجعل طلبه أي أمْر مني بصيغة الأمر، لا بلفظ الرجاء، فإنّي أرى في الأول فوائد ترتاح نفسي إليها، ولا أراها في الثاني… وعلى كلٍّ فوجود حضرتكم في تلك الدِّيار، وتمتع “بيدان” في ديارنا، مما يُنبه حضرة الفاضل صاحب “الثمرات” الطيبة إلى ألا يُعاود المدافعة عن حقوق المصريين مرة أخرى… لم نجدْ كتاب “متن الإشارات” في الكُتب التي عند الشيخ عبد الكريم سلمان (تلميذ وصديق للإمام)، مع كون أخى إبراهيم أفندي جاء استلمها قبل السفر مني. أمّا “أساس البلاغة” فهو مع نسختين من مقدمة شارلكان مرسول لحضرتكم مصاحبا لهذا الخطاب، والثالثة سنبعث بها عند حضورها من لدن أحد الأصدقاء، فإن من عندهم هذا الكتاب أبوا عن أن يبيعوا المقدمة بدون التاريخ، وإن لم يحضرها ذلك الصديق، فلا بد من شرائها وإرسالها حالا، وليست النسخة الثانية مبتاعة، بل هي من كتبي، وقد أهديتها لجنابكم الكريم”. ([1])

استكمل سعدُ زغلول مسارَ إصلاح التعليم الديني الذي بدأه الشيخ محمد عبده إلى جانب المسار السياسي الذي عُرف به سعد زغلول فهو أحد أهم زعماء مصر التاريخيين ورموز النّضال الوطني المصري ضد الاستعمار الإنجليزي، مُفجّر وقائد ثورة ١٩١٩، وأول من شكّل وزارة/ حكومة وطنية بإرادة شعبية بعد الفوز الكاسح في انتخابات برلمانية مصرية، وبعد أن شغل أرقى المناصب السياسية بتوليه رئاسة وزراء مصر ١٩٢٤، تولّى رئاسة مجلس الأمّة/ مجلس النّواب ١٩٢٦. ([2])

مدرسة القضاء الشرعي

استصدر سعد زغول بعد توليه وزارة المعارف (١٩٠٦-١٩٠٨) قرارا من رئيس الوزراء مصطفى فهمي بإنشاء مدرسة القضاء الشرعي في ٢٥ فبراير سنة ١٩٠٧، ومرسوما من الخديوي عباس حلمي الثاني الذي وافق على مضض، وصدر منشور يوم ١٦ شهر صفر عام ١٣٢٥ هجرية الموافق يوم ٣ من شهر مارس عام ١٩٠٧م بإنشاء مدرسة القضاء الشرعي بقسميها: الأول: لتخريج الكتبة، والثاني: لتخريج القضاة والمحامين، وفقا للنظام الذي كان قد وضعه الإمام محمد عبده للمدرسة. ورَصدت لها وزارة المعارف في العام الأول مبلغ ٨٥٧٤ جنيها من موازنة الوزارة، وأسند وزير المعارف سعد زغلول نظارة (عمادة) مدرسة القضاء الشرعي إلى عاطف بركات؛ ليكون أول ناظر (عميد) لمدرسة القضاء الشرعي، فاستطاع خلال أربعة عشر عاما من عمله بها أنْ يُحافظ على المدرسة رغم تلاطم الأمواج، فكان يعمل “لا تكاد تسمع له حديثًا عن نفسه! تكون المدرسة في أحرج أوقاتها وهو يعمل بجد، ويهرب بها من وزارة المعارف إلى المجلس الأعلى للأزهر، ومن المجلس الأعلى إلى الحقانية (وزارة العدل)، ويعاني في ذلك الأمَرّين؛ فإذا جلست إليه سمعت كل شيء إلا أنه عمل أو عانى، وإذا ظفر بطلبته لم تظفر منه أنت بكلمة يحدثك بها عن نفسه”. ([3])

حزب الوفد

شارك “عاطف بركات”([4]) في تأسيس حزب الوفد في شهر نوفمبر عام ١٩١٨م، وفي حركة جمع التوكيلات لسعد زغلول باشا؛ كي يمثل الأمة في المطالبة برفع الحماية البريطانية عن مصر، ومنحها استقلالها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي، كما شارك وأخوه الأكبر محمد فتح الله بركات في ثورة الشعب التي اندلعت في شهر مارس عام ١٩١٩م.

اعتبرته حكومة توفيق نسيم الأولى سنة ١٩٢١ المسؤول عن تظاهر طلبة مدرسة القضاء الشرعي داخل المدرسة، وهتافهم ضد الإنجليز، فصدر قرار إحالته إلى التقاعد في مساء يوم تلك التظاهرة، ليترك المدرسة بعد أربعة عشر عاما قضاها مديرا لمدرسة القضاء الشرعي، لم يتوقف طلاب وأساتذة المدرسة عن التظاهر احتجاجا على القرار المتعسف بعزله، فاستمرت الاحتجاجات داخل المدرسة فترة حكومة توفيق نسيم باشا الأولي من مايو ١٩٢١م حتى مارس ١٩٢١م، غير أنّ الأمرَ ازداد سوءا، بتولي عدلي يكن باشا الوزارة بعد سقوط وزارة نسيم باشا، وانقسمت مصر إلى أغلبية مع سعد زغلول باشا وأقلية مع عدلي يكن باشا، وقمعتْ احتجاجات مدرسة القضاء الشرعي بعنف..

غير أن الاحتجاجات في مصر استمرت حوالي تسعة شهور، نُفي على أثرها عاطف بركات وشقيقه الأكبر محمد فتح الله بركات مع خالهما سعد زغلول، وأصدقاؤه سينوت حنّا، ومصطفى النحاس، ومكرم عبيد، وصادق حنين، وجعفر فخرى، وأمين عز العرب خارج مصر أواخر شهر ديسمبر عام ١٩٢١م، وبعد سنة ونصف تقريبا في المنفى بين جزيرة سيشل، وعدن، ومستعمرة جبل طارق، عادوا من المنفى أواخر شهر مايو عام ١٩٢٣م، وبعد فوز كاسح للوفد شكّل سعد زغلول (وزارة الشعب)، واختار عاطف بركات ليتولى منصب وكيل وزارة المعارف عام ١٩٢٤، عمل بوزارة المعارف قرابة العام، قضاها في حوكمة وضبط مسار العمل بها، فكان حريصًا على الضبط وحوكمة العمل، ومن ذلك تسجيل المكاتبات الواردة في سجلات، وألزم المخاطبين بها في الوزارة بوجود ردود عليها بعد ثلاثة أيام من تاريخ ورودها، وافته المنية ٣٠ يوليو عام ١٩٢٤م عن عمر يُناهز ٥٨ عاما.

إقرأ أيضاً: في ذكرى رحيل الإمام محمد عبده: الجزء الأول…أين يقع الشيخ من محاولات التصنيف؟

ترك الأستاذ عاطف بركات أثرا كبيرا في نفوس طلابه لاسيما عبد الوهاب عزّام، وأمين الخولي، وأحمد أمين، وأحمد فرج السنهوري، وعبدالحميد العابدي، كتب عنه أحمد أمين، وكان أسبق هؤلاء إلى صحبته، فقد تخرج قبلهم بتسع سنوات – قائلا: “تتلمذت علي يد عاطف بركات أربعة عشر عاما‏، أيام كنت طالبا في مدرسة القضاء الشرعي‏، وأيام كنت مدرسا مساعدا له في دروس الأخلاق، فطالعت بإمعان وإعجاب صحيفة من حياته هي في غاية الشرف والنبل والمجد‏،‏ بل قرأت منه كتابا في التربية والتهذيب مليئا بالحكمة والروح والحياة‏… درس لنا الأخلاق فابتدع في المادة وفي الأسلوب جميعًا، أمّا في المادة فقد هجر ما كان متعارفًا من تدريس الأخلاق على شكل مواعظ تسرد سردًا، وانتحى النحو الفلسفي في بحثه بحثًا عقليًّا علميًّا، فكان يترجم خير ما يقرأ، ويُمَصّر ما يترجم، وأحيانًا وبالمناسبة ينحي البحث ناحية، ويقص علينا من تجاربه في الحياة ومن مشاهداته في العالم ما يكون خير تطبيق على نظريات العلم…

كان له دروس أخرى قيمة، ولكن لا بالمعنى المتعارف من الدروس. طريقته فيها أشبه بطريقة سقراط، يظهر في الطلبة أوقات فراغهم، فيلتفّ حوله الكثير منهم، فيتكلم معهم في موضوع تخلقه المناسبة، فيرد عليه الطلبة ويرد عليهم، ويدفع الحجة بالحجة حتى يصل في النهاية إلى تكوين فكرة واضحة عند الطلبة في الموضوع الذي يبحث فيه، فكان ذلك درسًا في المنطق العملي من ألذّ الدروس.

تراه مع شدة وثوقه برأيه واسع الصدر جدًّا للرأي المخالف، فهو يصغي لكل ناقد، وأحيانًا يشتد الناقد في نقده، ويشوب نقده بشيء كثير من الحدة أو التعريض، فيقابل ذلك باطمئنان، ويستخرج الحدة أو التعريض وحده ويضعه جانبًا، ثم يستخلص ما في قول الخصم من رأي فيرد عليه…كان رجلا يكره السفاسف ولا يتدنى إلى الصغائر؛ لا تسمع له حديثًا في تافه من القول ولا سخيف من الهذر؛ إذا تدنى محدثه رفعه هو إلى مستواه فهو مملوء الهيبة موفور الكرامة… طُبِعَ على أن يعشق العمل يسند إليه، فهو يعطيه كل قلبه وكل تفكيره وكل حديثه، وإن شئت فقل: وكل أحلامه؛ أسندت إليه المدرسة فكانت شغله الشاغل: هي أغنيته، وهي أحدوثته، وهي شكواه، وهي مفخرته، ظاهره يشف عن باطنه، وقلبه في لسانه‏، عمله في النور دائما، ليس للدس ولا للجاسوسية مكان عنده‏، كان صادقا في القول حتى لم يأخذ عنه أستاذ ولا طالب كذبة واحدة، وكان صاحب إرادة جبارة تستهين بالشهرة والمنصب والمرض، لا يجد التردد إلى نفسه سبيلا”‏.([5])

ويقول تلميذ طه حسين الدكتور عبد الوهاب عزام مؤسس أول جامعة في المملكة العربية السعودية، وأول من أدخل دراسة اللغات الشرقية في مصر، وأول من قدّم محمد إقبال للعالم العربي: “رسّخت دراستي بمدرسة القضاء الشرعي في نفسي احترام القانون، وأثقلت فكري الموضوعي، ولغتي الإيضاحية، وأسهمتْ في تكوين ثقافتي القانونية، وأكسبتني قدرة على المُحاجّة، وتقديم البراهين المتكافئة لوجهات النظر المتعارضة، واستفدت كثيرا من تنوع موضوعات الدراسة فيها بين دراسات فقهية تقليدية، وقانونية عصرية، ولغوية، وأدبية”. ([6])

عاطف بركات وسعد زغلول

عمِل عاطف بركات وسعد زغلول على تحقيق ما كان يسعى إليه الإمام محمد عبده من توفير تعليم ديني مختلف من خلال نموذج “مدرسة القضاء الشرعي” فوفّر لها أكفأ المدرسين من مدرسي الأزهر، ووزارة المعارف وخريجي الجامعات الغربية، وقد بلغ عدد الأساتذة واحدا وثلاثين أستاذا، كان أربعة وعشرون منهم من الأزهر؛ وبلغ عدد طلابها أربعمائة طالب أزهري، كما كانتْ لجنةُ امتحانها مكوّنة من شيخ الأزهر (أو من ينوب عنه) إضافة إلى مفتي الديار المصرية، وكبار شيوخ المذاهب، ويُمتحن الطالب وقتا قد يمتد إلى أربع ساعات كما سرد الشيخ حسنين مخلوف في مذاكراته أنّ امتحانه امتدّ لأربع ساعات.. وهذا الحضور الأزهري في المدرسة دليلٌ على أنّ المدرسةَ لم تكن موقفًا مضادًا من الأزهر، وإنّما كانت موقفا مضادا لجمود ورفض الإصلاح من قِبل بعض الشيوخ.

وضعت المدرسة شروطا للالتحاق بها لاختيار الطلاب المتميزين، منها أنْ يكون قد درس في الأزهر عدة سنوات، وأن يكون حسن السيرة، صحيح الجسم، يحفظ نصف القرآن، ومُنح طلابها حزمة من المميزات من راتب شهري، واستضافة، وبرنامج تعليم وتدريب وترفيه فترة الإجازة الصيفية، عملت المدرسة على تنمية الذوق في نفوس الطلاب باشتراط جودة وهندام الملابس والسلوك المتحضر، كانَ طلابها يدرسون العلوم الشرعية إلى جانب علوم اللغة، والأدب والعلوم القانونية، وعلوم الإدارة، والطبيعة والجغرافيا والتاريخ، والحساب والرياضيات، ويعمل خريجوها، تبعا لأقسام الدراسة بها، قضاة، ومفتين ومحامين، ووكلاء الدعاوي وكُتّاب، ومعلمين.

وقد بلغ من نشاطها، وتنوع معارفها، وكفاءة التكوين الشرعي والعلمي لطلابها أنّ السلطان حسين كامل حاكم مصر زار المدرسة عقب توليه الحكم ١٩١٥م، فأعجب بها، ومنح ناظرها عاطف بركات رتبة الباكوية من الدرجة الأولى، وأثنى على المدرسة بقوله: “أعتقد أنه ليس عند الثلاثمائة والستين مليونا من المسلمين الذين في العالم مدرسة تماثل هذه المدرسة”.

عاشت مدرسة القضاء الشرعي مرفوضة من أكثر طلاب وشيوخ الجامع الأزهر، فكما يقول الشيخ رشيد رضا: “وما زال الأزهر بعد إنشاء مدرسة القضاء الشرعي في أمر مريج”، ولعل ذلك يعود إلى ظنّ الأزهريين أنّ خريجي مدرسة القضاء الشرعي سيستأثرون بالمناصب في المحاكم الشرعية والمحاماة دونهم، ويُزاحمونهم في التدريس، كما شاركتْهم مدرسة دار العلوم وظائف مدرسي اللغة العربية، مما دفع الأزهر إلى قبول فكرة دخول بعض المواد العصرية إلى جانب العلوم الشرعية في مناهج الأزهر حتى يستردوا ما أخذتْه تلك المدارس، ونظّم الأزهريون اعتصامات مطالبين الأزهر بإصلاح التعليم داخله، وتضمين العلوم العصرية ضمن مناهجه، وإلغاء مدرسة القضاء الشرعي..

ولعب الشيخ الأحمدي الظواهري، شيخ الأزهر، دوراً في إلغاء المدرسة، وذلك بعد صدور قانون إصلاح الأزهر في (١٣٤٩هـ-١٩٣٠م) الذي نصّ على إعادة تنظيم الجامع الأزهر، وإنشاء ثلاث كليات هي الشريعة، وأصول الدين، واللغة العربية، وعقب وفاة سعد زغلول مؤسس مدرسة القضاء الشرعي والمدافع عنها أصدرت حكومة “زيوار” باشا قرارا بإغلاقها سنة ١٣٤٩ه/ ١٩٣٠م.

إقرأ أيضاً: في ذكرى رحيل الإمام محمد عبده: الجزء الثاني…من فتاوى الإمام

وبذلك وضعت النهاية لتلك المدرسة العريقة التي تظهر قيمتها، ومستواها العلمي الرفيع فيمن تخرّجوا منها من فقهاء وقانونيين ومفكرين مثل:  أحمد أمين، وأمين الخولي، وعبد الوهاب عزام، الشيخ عبد المجيد سليم، الشيخ مصطفى عبد الرازق، والشيخ حسن المأمون، والشيخ جاد الحق علي جاد الحق، الشيخ محمد الخضري بك، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ علي الخفيف، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ حسنين مخلوف، محمد أحمد فرج السنهوري، وإبراهيم مدكور، وعبد الحميد العابدي وغيرهم من الفقهاء، والعلماء، والأدباء، الذين نبغوا في مجالات عديدة.

 

المراجع والحواشي:

([1]) أحمد الشرباصي، من سعد زغلول إلى محمد عبده، مجلة أكتوبر، العدد (١٠)، القاهرة، ١أكتوبر ١٩٧٠

([2]) بدأ سعد زغلول صحفيا، ثم تركها للعمل بالمحاماة بعد نفْي الإمام محمد عبده، فذاع صِيته لكفاءته، ثم انتقل إلى القضاء، فقرر ألا يكتفي بدراسته في مصر، وسافر على حسابه الخاص لدراسة القانون في فرنسا،  وتدرج في مناصبه وبعد أن حصل على ليسانس الحقوق عام ١٨٩٧م عاد إلى مصر، وأخذ يتدرّج حتى صار مستشاراً في محكمة الاستئناف، اختير وزيرا للمعارف المصرية سنة (١٣٢٤هـ – ١٩٠٦م)، فاهتم بشؤون التعليم والثقافة، وحرص على نشر اللغة العربية، وتعميمها في المدارس المصرية، ثم تولى وزارة الحقانية، ثم انتخب في الجمعية التشريعية سنة (١٣٣١هـ – ١٩١٢م)، فوكيلاً منتخباً لها سنة ١٩١٣م، شكّل مع آخرين الوفد المصري للدفاع عن حقوق المصريين ضد الاحتلال، وقاموا بجمع توقيعات من المصريين لإثبات صفة تمثيل المصريين في السعي السِّلمي لنيل الاستقلال، اعتقل سعد زغلول ونُفي إلى جزيرة مالطا، فانفجرت ثورة ١٩١٩، ليعود سعد إلى مصر وتسمح له بريطانيا بالسفر إلى باريس ليعرض في مؤتمر الصلح قضية استقلال مصر.. نُفي سعد مرةً ثانية إلى جزر سيشيل في المحيط الهندي١٩٢١، وعندما حصلت مصر على استقلال محدود فبراير ١٩٢٢، وعودة سعد زغلول من المنفى لمصر ١٩٢٣م، نجح حزبه “حزب الوفد” في تحقيق فوز كبير في الانتخابات البرلمانية، وشكّل الحكومة، فشغل سعد زغلول منصب رئيس وزراء مصر سنة ١٩٢٤، ومنصب رئيس مجلس النواب المصري عام ١٩٢٦ حتى وفاته ٢٣ أغسطس ١٩٢٧م/١٣٤٦ه. يُنظر: عباس العقاد، زعيم الثورة سعد زغلول، القاهرة، سلسلة كتاب الهلال، العدد ٩، فبراير ١٩٥٢. مصطفى النحاس جبر، مذكرات سعد زغلول درسة، القاهرة، سلسلة كتاب روزاليوسف، العدد ٤، يونيو ١٩٧٣.

([3]) أحمد أمين، فيض الخاطر، طبعة مؤسسة هنداوي، يناير ٢٠١٧م، ج١، ص١٥٧،

([4]) محمد عاطف عبد الله عبده بركات، وشهرته عاطف بركات، وُلد بقرية “منية المرشد” التابعة لمركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ عام ١٨٧٢م، كان والدُه عبد الله أفندي بركات عمدة لقرية منية المرشد ثم رفع بعدها إلى وظيفة ناظر قسم (مأمور) مركز دسوق، وهي وظيفة إدارية وحكومية كبيرة، لكنّه ترك الخدمة بقرار من “إسماعيل صديق باشا” المفتش صاحب السطوة في عهد “الخديوي إسماعيل”، أمّا أمّه فهي أخت الزعيم “سعد زغلول باشا”، فكان عاطف منه بمنزلة الابن، وشقيق عاطف الأكبر هو محمد فتح الله بركات باشا وزير الزراعة ثم الداخلية في حكومة الوفد برئاسة سعد زغلول.

بعد أن حفظ عاطف بركات القرآن في كُتّاب القرية، وتعلّمَ القراءة، ومبادئ العلوم، والرياضيات، أرسله والده إلى القاهرة في سنّ الحادية عشرة، فدرس في “مدرسة الجمالية الابتدائية” مع اثنين من أخواله: “عبد الرحمن زغلول” و”عبد الله زغلول”، جمع في تعليمه بين الدراسة في دار العلوم والدراسة في بريطانيا، فالتحق بمدرسة دار العلوم عام ١٨٩٠، وفي العام الذي تخرّج فيه ١٨٩٤ سافر لبعثة علمية إلى بريطانيا، كأول مبعوث إلى انجلترا من أبناء دار العلوم. وقد قُدّر لعاطف بركات قبل بعثته العلمية وبعد عودته أنْ يعيشَ مع خاله سعد زغلول باشا في بيته بعابدين، يأكل معه على مائدته، ويتلقى عنه أساليب الحياة، ودروس الرجولة، والشجاعة، والكرامة.

عُيّن بعد عودته من البعثة مفتشًا في المدارس الأميرية، وفي عام ١٩٠٣كلّفه المستشار الإنجليزي لوزارة المعارف “المستر دنلوب” بمشروع إصلاح التعليم الأولي من خلال إعادة تأهيل شيوخ الكتاتيب، وتحويل تلك الكتاتيب إلى فصول للتعليم الأولي، وقام عاطف بركات بهذه المهمة على أتم وجه، يُساعدها فيها نُخبة من خريجي دار العلوم.

([5]) أحمد أمين، فيض الخاطر، ج١، ص١٥٧:١٥١، بتصرف، طبعة مؤسسة هنداوي، يناير ٢٠١٧م.

([6]) عبد الباسط هيكل، الحب والحقد المقدس، القاهرة، دار روابط للنشر والتوزيع، ٢٠١٨، ص٢٧٨.

إقتباسات

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete