في عالمٍ بلا أسوار . كيف نُجيب أسئلة الإيمان الكبرى؟ كيف نُقدّم اللهَ والآخر لأولادنا؟

تكوين

نعيش اليوم في عالم بلا أسوار، فوسائط التواصل الاجتماعي جعلتنا، وكأننا جميعا في غرفة معيشة واحدة، لا أقول قرية واحدة، فقد تجاوزنا ذلك بكثير.. وهذا ما يجعل تقديم الله والآخر الديني تحدّيا كبيرا للآباء والأمهات والمؤسسات التعليمية والدينية التي لم تُمارس، بعدُ، إصلاحا للفكر الديني يُمكنها من الصمود أمام تياريّ الإلحاد والتطرف، فلم يُجب الفكر الديني عن كثير من الأسئلة التي تُؤرق المسلم المعاصر، ومن يُحاول أن يُقدم إجابات مختلفة أكثر اتساقا مع العقل النقدي والمبادئ الإنسانية لا يسلم من اتهامات بعض الأوساط الاجتماعية والدينية التي لم تدرك، بعد، أنّه ليس أمامنا إلا خيار واحد إذا أردنا أنّ نُربي أولادنا تربية إسلامية في هذا العالم المنفتح على مختلف الثقافات ألا وهو تعزيز الجانب العقلاني والإنساني في تجربتهم الإيمانية وسلوكهم التديني، في حاجة إلى أن نُدربهم على التفكير الحرّ بعيدا عن الأجوبة التقليدية الجاهزة، في واقع أمسى السؤال الذي لا يعرف خطوطا حمراء هو الوسيلة للتفكير الإبداعي، فمن أبرز المشكلات التي تُواجهنا أننا نشأنا على تقليد وتلقين وحفظ وخوف وتمايز، نظنّه التربية المثلى.

بداية علينا أن نُعيد النظر في المتداول في ثقافتنا الإسلامية من مفاهيم تأسيسية، فمساحات غير المفكّر فيه شاسعة؛ لذا نحن في حاجة إلى أن نبدأ بمناقشة التعريفات الأولية، التي تكاد تغيب تماما عن حواراتنا، بما يُفقدها البعد الفكري، فالخطاب الديني المتأثر بجماعات التمايز بالإسلام عن المسلمين حجاجي، حصر النقاشات الدينية في شكل مناظرات تتبادل الحجج والحجج المضادة، في إطار “معركة تدور على أرضية منطق أرسطو” مواقعها ونتائجها محددة سلفا، لا تقبل التفكير والتغيير.

عندما يسأل الطفل أين الله؟

ومن المفاهيم التي تحتاج إلى إعادة بناء تصوّر جيد حولها: المفاهيم اللاهوتية/العقائدية، وفي مقدّمتها مفهوم “التوحيد”/”الإيمان”، فالتوحيد الذي دعا إليه الإسلام ليس الماثل في تلك الأنواع والفروق بين توحيد الربوبية والألوهية التي يدور حولها الجدل بين الحين والآخر، كما أنّ الأطفال ليسوا في حاجة إلى دراسة كتبٍ مثل كتاب: “توحيد الربوبية للأطفال”، وإنما في حاجة توحيد يبدأ في صورة الإيمان العاطفي البسيط، فتلك الصورة التي قدّمها القرآن الكريم وتجربة الاجتماع الأولى للمسلمين في عهد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فالإيمان هو رباط المحبة بين الإنسان والربّ/الله/ الرحمن بعيدا عن ترهيب الواعظين، وجدل المتكلمين الذي جعل الإيمان مادة معرفية جافة، فالتوحيد الذي نُدرّب قلوبَنا وقلوبَ أولادنا عليه هو انحياز شعوري/وجداني إلى الله الكمال، الجمال، الرحمة، السلام، المحبة، فالإيمان عاطفة تزول معها كلّ كراهية، ففرق كبير بين تدين شكلي يُردد صاحبُه في كل حوارٍ كلمة “الإسلام” عدة مرات، وتدين عميق يُدرّب صاحبُه نفسه على رفض الكراهية، والغلّ، والتعالي، فممارسة الشعائر والطقوس دون قلب مُحبّ، لن تصنع سوى إيمان مضطرب! فالمحبّة جوهر الإيمان وغايته.. وفرق كبير بين مسلم ينشغل بتجربته الإيمانية، وإسلامي ينشغل بإيمان غيره، فليست مهمّة أحدِنا أن يحكمَ على إيمان الآخر، ولا على الطريقة التي يتواصل بها مع الله؛ لأنّ الله وحده من يملك القدرة على أن ينظر في أعماقنا، وأن يعرف السطر الأخير في حياتنا.

الإيمان هو توحيد القوة النفسية بتخليتها من عبودية الأوهام المتنازعة، والخرافات المتهافتة التي تضعف الإنسان، وتضرّ بفكره.. التوحيد دافع يُحرك الأفراد داخل المجتمعات للالتفاف حول قيم العدل والمساواة، ونبذ التمييز.. فالإيمان التوحيدي لا يكتمل، ولا يتحقق في ظلّ غياب الأخلاق الاجتماعية، فمن روائع ما رُوي عن النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، “الدين المعاملة”، “لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له”؛ لذا نحن في حاجة أن نعترف لأولادنا أن تراجع الأخلاق الاجتماعية، وعدم الاكتراثِ بحقوقِ الإنسان بوصفه إنساناً من مظاهر ضعف الإيمان، ومن أسباب الإخفاق الحضاري، ففي داخلنا تكمنُ المشكلة، وليس في الخارج بعيدة عنّا.

الإيمان ليس اعتقادا، ولا معرفةً فحسب، وإنّما سلوك عملي اجتماعي؛ لذا ربطتْ آيات الكتاب الكريم بين الإيمان، والعمل في أكثر من خمسين آية، فالقرآن، عادةً، لا يقول: “آمنوا”، إلا ويقول: و”عملوا”، ولا يكون العمل صالحا في لغة القرآن إلا إذا ارتبط بقيمة روحية داخلية هي إرضاء الله، وقيمة خارجية هي تحقيق الخير للجميع، فالعمل الصالح الذي يكون به الإنسان مسلما هو السعي الدائم إلى أن يعمّ الخير الأرضَ، ودون هذا هو “الخُسر” الذي حذّرت منها سورةُ العصر.

بلا تمييز، يُعزز الإيمان، بهذا المفهوم، “النزعة الإنسانية”، وقيم العمل المشترك، فليس الله منحازا لعِرْقٍ، أو عائلة، أو قبيلة، إذ كيف نظن أن الله يدعو إلى تمايز عرقي، في الوقت الذي نُسلم فيه بأن إرادة الله أن نكون أعراقا وشعوبا وقبائل؛ وأنّ قانون الاجتماع يأبى إلا التّنوع والاختلاف؛ لذا وجهّنا الله إلى أن نتعارف لا أن نتقاتل، وأن نتفاضل بقدر ما نحمل من صفات الله رحمة ومحبة وسلاما..

كيف نتصوّر، مع هذا، أنّ ثمّةَ تمايز وتفضيل إلهي لسلالة أو قبيلة مثل قريش، أو لنسلٍ مثل النسل الهاشمي، وأنّهم المشار إليهم بـ “آل البيت”، فمثل هذا ادّعاء يُكذّبه عدل الله الذي لا يُميز بلون، ولا يُقرّب بنسب، فلا تمايز لقرشي، ولا لهاشمي، وعندما ندعو في صلواتنا، فنقول: “اللهم صلى على محمد، وعلى آل محمد” فإنّ آل محمد هم عباد الله الصالحين الذين جاء ذكرهم في بداية التشهد في قول النبي، صلى الله عليه وسلم، “السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين”، فآل إبراهيم وآل محمد هم عباد الله الصالحون على إطلاقهم، وليسوا ذوِيهم، فـ”آل محمد” ليسوا الهاشميين، ولا القرشيين، وإنما الصالحون في كلّ زمان، الذين يُصلحون ولا يُفسدون في الأرض.

من جانب آخر، نافذتنا الوحيدة إلى معرفة عالم الغيب هي صريح الوحي الذي تحدّث عن الغيبيات بقدر ما يُعزّز سعي الإنسانِ إلى السمو الأخلاقي والتسامح والتخفف من الأطماع، فرسم الوحي لعالم الغيب صورا رمزية موجزة لمشاهد الحساب والثواب والعقاب.. مبتعداً القرآن الكريم بالإنسان عن دوامة التفكير في قضايا ليس لها مساس بالواقع الاجتماعي، فلم يتحدث عن طبيعة الذات الإلهية؛ لاعتبارها غيباً مغلقاً على العقل البشري، مكتفياً بالتأكيد على صفاته عزّ وجلّ، ولم يُركزْ القرآن على طبيعة اتصال الله بالرسول عبر جبريل، عليه السلام، بينما ركّز الوحي على سلوك الرسول الاجتماعي، ودعا إلى التأسي به، لربْط الإيمان بالحياة الاجتماعية، فالقرآن يُبقى الإنسانَ واقعيا منشغلا بهمومه الحقيقية، يسعى إلى ربّه من خلال تجاربه الاجتماعية، دون استغراقٍ في عوالم غيبية يعجز العقل عن استيعابها، ولن يكون لمعرفة طبيعتها أثر في حياته.

حقائق وجود الله

وهنا يأتي سؤال كيف يكون “يقين الإيمان بوجود خالق”؟ لن نصل إلى “الإيمان” عبر دليل نقلي نستشهد فيه بآيات القرآن الكريم، فالأدلة النقلية كما يقول أئمة مثل الرازي والسعد وأبو حامد الغزالي ومحمد عبده ومحمود شلتوت لا تُفيد اليقين العقائدي، ولا تُحصّل الإيمان المطلوب، ولا تثبت بها وحدها عقيدة؛ لأنّها مجالٌ واسعٌ لاحتمالات دلالية تحول دون تحقق الثبوت اليقيني، ومن قال بأنّ الدليل النقلي يُفيد اليقين الذي تثْبت به العقيدة اشترط فيه أن يكون قطعياً في وُروده، قطعياً في دلالته، ومعنى كونه قطعياً في وروده ألا يكون هناك أيّ شبهة في صحة ثبوته، وذلك لا يكون إلا للقرآن الكريم، ومعنى كونه قطعياً في دلالته أن يكون له معنى واحد، لا يُختلف عليه، فلا يحتمل التأويل. فـ “العقائد وطريق ثبوتها لا بد أن يعمّ العلم بها جميع الناس، ولا يُختّص بالعلم بها طائفة دون أخرى؛ لأنّها أساس الدين، وبها يكون المرء مؤمناً، فكيف يُتصوّر في مؤمن أنّه يجهلها؟ ومن مقتضيات هذا العلم العام بها ألا يقع خلاف بين العلماء في ثبوتها أو نفيها”.

فالسبيل إلى تعميق الإيمان التفكير الحدسي، وتجارب التأمل التي دعا إليها القرآن الكريم، ومنها النّظر في الكون/كتاب الله المنظور، الذي اتخذ في هذا العصر شكلا علميا أكثر عمقا، فاكتشافاتُ العلم للحقائق الكونية تُعمّق من إيمان العلم، وعلى النقيض منه إيمان الجهل بالطبيعة وعجز الإنسان أمام ظواهرها، الذي يتبناه جانب كبير من الخطابات الوعظية الداعية للدين في ظاهرها، المناهضة له في جوهرها، فالوحي المقدس على خلاف الوعظ الديني يُؤكّد على قوة الطبيعة وتحديّاتها اللامتناهية للبشرية، وقدرة الإنسان، هو الآخر، المجتبى من الله، القادر على المواجهة، فقانون الكون: الكائنات التي تعجز عن مواجهة الطبيعة تنقرض، وتتلاشى.

فتحدّث الله إلى الناس جميعا بلغة يعرفونها عبْر كتابِ الكون المقروء، الذي يسير وفق قوانين أودعها الله فيه، منها قانون التطور.. وكلّما خطى العقل خطوات في طريق العلم أمكنه قراءة سطور هذا الكون/كتاب الله المنظور، واكتشاف قوانينه، بينما تحدّث الله إلى المؤمنين به فقط عبر كتابه المقدس (النقل) بهدف هدايتهم، واستنهاض قيم الخير والحق والجمال بداخلهم، وتوحيد قواها النفسية حتى لا تتبدد بين الخرافة والقلق والخوف من المجهول، فالمؤمن يرى في ربه القوة المهيمنة على كلّ ما غاب عنه، لا يُنازعه فيه شريك، وهذا يمنح الإنسان طمأنينة وهدوء وتفاؤلا، لاسيما في وقت الأزمات.

وفي الوقت الذي تستفيد تجربة الإيمان من تجليات الله في الكون، فإنها على وعي بأنّه “ليس ثمّةَ برهان مستمد من الطبيعة يحسم البرهنة على وجود الله، كما أنّه لا يُوجد برهان مستمد من الطبيعة ينفي وجوده”؛ فلسنا إزاء مقابلة وندية بين الطبيعة، والله، وعلينا أن نختار بينهما، فالمؤمن وغير المؤمن ينطلقان من الطبيعة/ الفيزياء في دراسة وتفسير الظواهر، وتبقى مساحة ما وراء الفيزياء/ ما وراء الطبيعة لا تشغل غير المؤمن فهي لا تقبل الدراسة والتفسير العلمي بوصفها ظاهرة متجاوزة للطبيعة، بينما تشغل المؤمنون بالدين وفق منطق إيماني محدد ومجمل وهو أن الله/ المفارق للطبيعة والإنسان هو من منح الطبيعة قوانينها الصارمة، والإنسان قدرته اللامحدودة الإبداع للتعاطي مع الطبيعة.. فدوما يُوجد مُتلقى/ إنسان حاضر في الاثبات والنفي، فما يراه المؤمن دليلا على وجود مفارق للطبيعة والإنسان، يراه غير المؤمن ظاهرة طبيعية أو إنسانية قائمة بذاتها لا تحمل أيّ دلالة على وجود من يقف خلفها، وإن اتّفق المؤمن وغير المؤمن على خضوع الطبيعة لنظام مُطّرد، يُقال لها سنن كونية أو قوانين الطبيعة، وهذا لا يتعارض مع الإيمان؛ بموجب “الحتمية/الوجوب” التي خلقها الله في الطبيعة، و”الاستقلالية/الذاتية” التي خلقها الله في الإنسان، وبالتالي فنحن لا نتكلم عن وجود إرادة حادثة أو متجددة لله (إشكالية الماضي)، بل نتحدث عن إرادة الله القديمة والماثلة في علمه القديم بقوانين الطبيعة.

من ناحية أخرى، مساحات الإيمان الواجبة محدودة للغاية، فالملزم ما قدّمه الوحي بشكلٍ واضح صريح، ونتقيّد بمنهجية القرآن المجملة للغيبيات، المقتصدة في التّطرق إليها. فنتوقف عن الاستغراق في تفصيلات عزف القرآن عن بيانها، فلم يَطُلّ عليها إلا عبر نافذة محدودة، كي يُوفّر طاقة المجتمع للتفكير في سؤال حاضره، ومن ذلك: ما غاب عنّا من تفاصيل تاريخ الرسل وأممهم فلا نعرف عنهم سوى إجمال قصص القرآن الكريم التي ركّزت على المغزى والعبرة، فما يُشاهده الأطفال ويسمعونه من قصص متداولة للأنبياء تتنوع مصادرها بين القرآن الكريم والمأثورات وتراث الأمم السابقة لا يُمثل القصة القرآنية شديدة الإيجاز الحريصة على تقديم العِظة وليس الملامح التاريخية؛ لذا فالمادة المتداولة حول قصص الأنبياء في حاجة إلى إعادة نظر، كي نسلك بها مسلك القرآن الكريم في تناوله لتاريخ الرسل وأممهم التي جاءت في سياق التعريف بسُنن الله في تقريب الصالح وإبعاد الفاسد، مُبقين الاحتمالي على تعدده، والمجمل على إجماله، متجنبين الخوضَ في تفاصيل لا يُمكن إدماجها في السردية التاريخية مما سكت عنه الوحي؛ ومن هنا لا تدخل التجربة الإيمانية في خصومة مع المعرفة العلمية التاريخية التي تُقدّمها الحفريات والآثار عن تاريخ الإنسان، فتناول الخطاب الديني العقيدة بعيدا عن المنهجية القرآنية نوع من الكهانة المضللة، وليست الدعوة المستهدية.

من جانب آخر “ما مصائر المخالفين؟” من الأسئلة التي تتكرر منذ مئات السنين، بداية من سؤال الخوارج من جيش علي، رضي الله عنه، “أين قتلانا يا أشعث في الجنة أم في النار؟” وصولا إلى الصراعات الفكرية والسياسية اليوم التي يتم أسلمتها، فيزعم طرف أنه ممثل الإسلام الحقّ في معركته مع الباطل! متوعدا الراحلين من الطرف الآخر بالعذاب الأليم، في محاولة، غير مشروعة، لجعل الله جنديا في معاركهم! فتركنا سؤال الحاضر: كيف نحقق العدل والمساواة والكرامة والبناء والتحضر؟ وعدنا إلى أسئلة الماضي التي نتجادل حولها منذ أكثر من ألف عام، التي عُرفت تاريخيا بـ “ما حكم مرتكب الكبيرة”؟ فقد عادت اليوم بعبارات مختلفة لكنها تدور حول الفكرة نفسها ما مصير الراحلين؟ نهرب من عالم الشهود المطالبين بالحركة فيه إلى عالم الغيب ومشاهد الحساب التي نُسلّم بها اعتقادا، فكما يدلّ الإحساس بالظمأ على وجود الماء.. فلابد أنّ الظمأ إلى العدل المطلق يدل على وجوده، ولما كان العدل المطلق مستحيلا في دنيا البشر، كان من الثابت ضرورة وجود “يوم الحساب” الذي هو في حقيقته عملية غيبية تتم من الله للمُكلَّف، لكن لا يُمكننا، وليس في مقدورنا أن نعرف كيف سيكون؟ وما النتائج؟

فلا يملك إنسان أن يحسم هل ستخضع عملية محاسبة فلان لقواعد العدل أم لعوامل العفو الإلهي، فليس في مقدورنا أن نقطع بتحقق العقوبة الأخروية على ذنب مهما كانت بشاعته، فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يأتيه الوحي قالها بوضوح: “أمره إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه”، وسورة البروج تحكى لنا جريمة بشعة في حقّ أطفال ونساء وشيوخ أُلقوا أحياء في حفرة طولية (أخدود) من النيران، ورغم أنّ الله توعّد الجُناة بالعذاب إلا أنه استثنى منهم التائبين بقوله عزّ وجلّ: “إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ”، والأخبار في العفو كثيرة، منها بائعة الهوى التي غفر الله؛ لأنّها سقت كلبا، وقاتل المئة التي يحكى الخبر عن قبول توبته.. فإذا كان ما بعد الموت منطقة غيبية نعجز عن القطع بمصائر الراحلين إليها، فلماذا تأخذ هذا الحيز الجدلي في حياتنا! وننشغل بها عن العمل على تحقيق المزيد من العدالة في واقعنا.

أخيرا، الإيمان تجربة فردية، وعلاقة رأسية بين الإنسان والله؛ ليس لمن حولنا أن يتدخل فيها؛ لذا في حاجة إلى نعزز استقلالية التجربة الإيمانية، والرقابة الذاتية في نفوس أولادنا، فكل إنسان هو الرقيب على نفسه، والمحرّك، لخيرها وشرّها، “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها”.. سيتعزز بداخلنا أن الإيمان تجربة فردية عندما نُمارس التفكير الحرّ الذي سيقودنا إلى أنّ الله المطلق الذي “لَیۡسَ كَمِثۡلِهِ شَيء” [الشورى،١١] اتصل بالإنسان النسبي، متنوع الثقافات، واللغات، عبر لغة الإنسان، “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ”. [إبراهيم:٤] تلك اللغة التي تبدأ من داخل العقل/الفكر الإنساني، الذي لا يُدرِك إلا عبر تصوّرات وتقييدات؛ لذا تتعدد وتتنوع التصورات؛ ليس لأنه الله في ذاته تعدد، وإنما لأنّ الإنسان المتلقي متعدد متنوع في تصوّراته واجتماعه وثقافته ولغته؛ بهذا نُؤسس معرفيا لقبول التجارب الإيمانية والمذاهب المتعددة داخل الدين الواحد، ونحترم تعدد الأديان الذي هو من لوازم تنوع وتعدد الاجتماع الإنساني.

 

 

 

أ.د عبد الباسط سلامه هيكل

 

 

 

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete