في مناهج دراسة الأديان: الجزء الثاني… الوحي تحت مجهر التحليل اللساني لنصر حامد أبو زيد

تكوين

يقول نصر حامد أبو زيد محلّلا ظاهرة الوحي:

“إن الموقف الاتصالي المتضمّن في حالة الوحي بالنصّ يختلف عن المواقف الاتصالية التي ناقشناها إلى حد الآن من حيث انه أكثر تعقيدا، إن طرفي الاتصال الأساسيين في عملية الوحي النبوي هما الله في جانب والرسول البشر في جانب آخر، وقد عبر القرآن عن هذا الاتصال بأنه إلقاء وفي آيات أخرى تم التعبير عن ذلك لإلقاء بالكلام.

وليست الرسالة المتضمنة في عملية الاتصال سواء كانت رسالة لغوية ام رسالة غير لغوية رسالة خاصة بالمتلقي الأول، ولكنّها رسالة مطلوب تبليغها للنّاس وإعلامهم بها. وإذا كانت الرسالة لغوية قولية كما هو الأمر في حال القرآن فالمطلوب إبلاغ منطوق الرسالة اللفظي دون تحوير أو تبديل أو تحريف. أن النص بفصل في مواطن كثيرة بين فاعل القول المتكلم والموحي وبين المتلقي الأول.

وكون النص بلاغا معناه أن المخاطبين به هم الناس جميعا، الناس الذين ينتمون إلى النظام اللغوي نفسه للنص وينتمون الى الإطار الثقافي الذي تعد هذه اللغة مركزه. إن مفهوم التنزيل هنا لا بد أن يفهم بوصفه تنزيلا إلى الناس عبر وسيطين الأول الملك، والوسيط الثاني محمد البشر. انها رسالة السماء إلى الأرض لكنها ليست رسالة مفارقة لقوانين الواقع بكل ما ينتظم في هذا الواقع من أبنية وأهمها البناء الثقافي إن المطلق يكشف عن نفسه للبشر يتنزل إليهم بكلامه عبر نظامهم الدلالي الثقافي واللغوي. ويمكن أن نضع هذا التحديد للنص على الوجه التالي:

إن الناس هم هدف الوحي وغايته ومن الطبيعي أن يكون النص في هذه الحالة دالا حيث هو رسالة لغوية على كل أطراف عملية الاتصال. وإذا كان النص بمثابة خطاب فلا بد أن يتضمن دوال تدل على المتكلم، وعلى المخاطب الأول، وعلى المخاطبين، أي على الله، وعلم محمد وعلى الناس، ومع ذلك فهذه الدوال لا تكون متساوية أو متوازية سواء من حيث طبيعتها الدلالية أو من حيث نسبتها العددية.

وبالإضافة إلى أن النص كله لا يدل إلا من خلال النظام اللغوي الخاص بالمخاطبين، فان الثقافة العربية ذاتها قبل الإسلام، يمكن أن توصف بأنها ثقافة تنحو منحى المخاطب في نصوصها أكثر مما تنحو ناحية المتكلم وانتماء النص على مجال هذه الثقافة يجعله من هذه الوجهة نصا ينحو ناحية المخاطب. وليس ادل على هذا الاتجاه في بناء النص وآلياته اللغوية من كثرة دوران أدوات النداء فيه. سواء كان المنادى هم الناس او بني آدم أو الذين آمنوا أو الكافرين أو أهل الكتاب هذا بالإضافة إلى نداء المخاطب الأول بالنبي أو الرسول.

في مثل هذا التصور الذي يطرحه النص عن نفسه من خلال الثقافة ونظامها اللغوي يصبح التركيز على مصدر النص وقائله فقط إهدارا لطبيعة النص ذاته وإهدارا لوظيفته في الواقع وهو ما حدث في الفكر الديني الذي سيطر على التراث والذي مازال فاعلا في ثقافتنا إلى اليوم”[1]

***

ماهي إشكالية الوحي في المنظور اللساني؟

إن إشكالية المنهج اللساني الذي يطبقه نصر حامد أبو زيد في هذا المثال المطروح يعتمد على توضيح بعض الأسس اللسانية الأساسية التي ستحدد طبيعة النص وتجعل للنص القرآني ماهية لغوية _بشرية- ثقافية. وهو الأمر الذي يتناقض كليا في الظاهر مع تعريف النص المقدس على أنه “وحي إلهي”. لنوضح منذ الآن أن ثقافية النص القرآني لا تعني باي حال من الأحوال عدم الوهية الوحي، ولا تعني نفي المصدر الرباني ولا تعني نفي وجود “الله”. إنه لمن المهم لكل من يحاول أن ينظر بعين النقد العلمي وخارج أية أيديولوجية سياسية مسبقة دينية أن يطبق المفاهيم اللغوية بأمانة على النص القرآني كما فعل أبو زيد، ذلك المثقف والباحث الأمين، بمعنى المحافظ على مصطلحات العلم في سياقها العلمي بلا محاولة اسقاط أيديولوجية.

يمكن تفكيك النص المنطلق إذن حسب معيار البنية التفسيرية إلى عنصرين: القسم الأول موضوعه طبيعة النص القرآني اللغوية وماهيته والعنصر الثاني ثقافية النص الديني. وهما مفهومان ثابتان في كتابات نصر حامد أبو زيد ولهما دلالات لسانية لا علاقة لها بقاموس الكفر والإيمان.

  • طبيعة النص اللغوية:
  • أركان التخاطب الستة ونتائجها في تعريف النصّ القرآني:

يعتمد نصر حامد أبو زيد على أركان عملية التخاطب الستة فيستخرجها معتبرا أن القرآن رسالة لها باث ومتقبل ولها سياق تواصل وقناة اتصال وسنن. وهي الأركان التي وضع خطاطتها جاكبسون بعد تطوير درس اللسانيات الديسوسيري، ولفهم ما أنجزه نصر حامد أبو زيد بعمق لا بد من فهم كيف أن اللسانيات بعد جاكبسون صارت تنظر للغة على أنها “شيء” أي كما لو أنها موضوع شبيه بمواضيع علم الفيزياء، أي يمكن لمسه وقياسه وعده وحسابه وتجربته أي تطبيق المنهج العلمي التجريبي عليه. وها هنا بالنسبة إلي عبقرية الباحث، لقد طبق ذلك المنظور المادي دون أن يكون ماركسيا ولا حتى ينطق بمنهج البنيوية أو يحيلنا إليه، وفي الحقيقة إنه في مرات عديدة يكرر على مسامع المتلقين أنه لا يطلب سوى العلم بادواته، وها هنا نطبق نظرية التواصل الجاكبسونية على النص المقدس فإذا نحن أمام “خطاب” له عناصره البنيوية بغض النظر من هو مصدره وهل هو مفارق أم محايث. وكل خطاب له : 1) باث أو مرسل، وم2) تقبل أو مرسل إليه و3) سياق أو مرجع و4) قناة اتصال و5)شفرة لغوية أو قواعد اتصال إلى جانب 6) الرسالة ذاتها. ومن قواعد التخاطب أنه يتغير كلما تغير عنصر واحد من هذه العناصر الستة المذكورة.

يعتمد نصر حامد ابو زيد في هذا التفكيك على مفهوم النص/البلاغ ذاكرا آيات قرآنية تعتبر الرسول محمدا مبلغا لرسالة للناس. فالنظام اللغوي اذن يجمع هذه العناصر فنجد حسب تحليل أبي زيد أنفسنا أمام طبقات من الخطابات:

الخطاب1:

المرسل الله/ المتقبل جبريل/ ويسمى التنزيل

الخطاب 2:

المرسل جبريل/ المتقبل النبي/ ويسمى الوحي او الرسالة

الخطاب 3: المرسل النبي محمد/ المتقبل الناس/ ويسمى البلاغ

لقد تبين عبر تطبيق الأركان الستة ان الخطاب الأول والثاني لا نعرف بالضبط عبر اية قناة وصل ولا عبر أي سنن لغوية او غير لغوية وقد استفاض نصر حامد أبو زيد في معالجة هذه القضية وفي استعراض أقوال السلف من علماء القرآن في كيفيات نزول الوحي على النبي واختلافاتهم في ذلك، بل لقد استخرج من النص القرآني نفسه آيات تذكر كيفيات مختلفة لنزول الوحي المقدس على النبي. يمكن للقارئ العودة إلى الكتاب فيتبين الجهد المبذول لتفسير ذلك.

إن النتيجة التي يصل إليها نصر حامد أبو زيد في هذا التحليل تتمثل في أن النص القرآني الذي بين ايدي البشر لا يمكن ان يكون وفق المعيار اللغوي سوى نص بشري  ولا يعني ذلك نفي الألوهية بل بمعنى ان قناة الاتصال هي اللغة كتابة او صوتا والسنن هو قواعد اللغة وهذان يتطلبان وجود كائن عاقل وناطق وحي ولا يمكن الحديث عندئذ عن وحي إلهي بمعنى ان المعاني القرآنية ترتبط بالنص اللغوي الذي يرتبط بدوره بكائن بشري. سيشير أبو زيد إلى تعريفات التراث نفسه للغة على أنها مجموعة أصوات، يمكن إيجاد ذلك عند ابن جني مثلا في خصائصه في تعريفه للغة، يمكن العودة إلى النحاة الكبار لنتبين التضارب الذي وقعت فيه المدونات التي حاولت أن تعرف اللغة كونها أزلية أي غير مخلوقة، ذلك أن أهم محنة عرفها المسلمون في تاريخهم ترتبط بمحنة خلق القرآن، وقد كانت تجربة حقيقية للعقل في مواجهة العجيب والخرافي.

ما هو النص

إن تعريف النص بما هو دال وبما هو رسالة لغوية وبما هو خطاب يجعل الشرط الأساسي للإفهام مرتبطا بان تكون الدوال تدلّ على المتكلّم وعلى المخاطب وعلى المخاطبين في نفس الوقت وهنا لا يمكن أن نسويّ حسب نصر حامد أبو زيد بين باث يكون إلهيا ومتقبّل هم الناس، ولذلك فان معنى كون الرسالة النبوية رسالة لغوية يقتضي كونها بشرية ويقتضي ان الباث لا يمكن الا ان يكون في المقام الأول بشريا ولذلك يتحدث عن النص منزلا في سياقه التاريخي واللغوي والثقافي ولا يتحدث عن النص باعتباره “كلام الله” او “تنزيلا” لان ذلك مما يعلمه الغيب وحده. إن الرسالة ليست مطلقة بل هي ملتبسة بواقع الناس وبلغتهم وثقافتهم وتقاليدهم في القول وها هنا يستدعي نصر حامد أبو زيد كل مقولات اللسانيات الحديثة مع دي سوسير في العلاقة بين الفكر واللفظ والترابط الجدلي بينهما. وقد وضحنا ذلك في المدخل النظري أي القسم السابق من هذا المقال. ولنؤكد مرة أخرى أن كل هذا التعريف للنص على أنه بشري لا ينفي كونه إلهي إنه فقط وبكل بساطة يقول: ما بين أيدينا هو ما كان النبي مرسله فهو إذن بشري بهذا المعنى فقط أي بالمعنى اللغوي. ونعني بالمعنى اللغوي تعريف الباث والمتقبل في اللغة لا تعريفهما عند العوام. وهنا تمييز لطيف يجدر بالعاقل التفطن إليه: إن النص اللغوي يتطلب ناطقا عاقلا له صوت وعقل ودماغ ودماء وجهاز تنفس للنطق بالنص، كل هذا مما هو بشري وهذا فقط معنى بشرية النصّ وهذا فقط التعريف اللساني للغة على أنها مجموعة أصوات دالة. إن نصا لغويا لا يمكن إلا أن يكون بشريا[2] وبما أن النص القرآني لغوي فهو بشري بهذا المعنى اللساني.

  • النصّ الثقافي

بأي معنى نفهم أن النص القرآني رسالة للناس؟

يتشكل النص الديني حسب أبي زيد داخل علاقة تواصلية بين باث ومتقبّل في سياق اتّصالي محكوم بعادات وتقاليد وبفهم ما. وهذا هو ما يسميه ثقافة. وهكذا فان نصر حامد أبو زيد يستخدم مفهوم الدليل القرآني بمعناه اللّغوي ( كل دليل لغوي هو دال ومدلول وعلاقتهما في اللسانيات الحديثة محددة بالمنظور المتجدد للثنائيات المصطلح عليها بثنائيات دي سوسير)  ليستدل على أن النصّ وليد ثقافته وبيئته الاجتماعية والذهنية اللغوية. “فالناس هم هدف الوحي وغايته ولذلك من الطبيعي ان يكون النص في هذه الحالة دالا حيث هو رسالة لغوية على كل أطراف عملية الاتصال” إن نصر حامد أبو زيد يستنتج من تعرفه الوحي بانه عملية اتصال كونه في الأصل مهمته التركيز على الرسالة التي يحملها بغض النظر عن مصدره او اصله ان كان الهيا ام لا، فحسب تفكيكه يتمثل التصور الذي يقوم عليه البلاغ من خلال نظام الثقافة اللغوي في توجيه مضمون الرسالة نحو المتلقي وهذا المتلقي متنوع في النص: بني آدم/ الناس/ الكافرون: اهل الكتاب/ النبي/ المؤمنون..الخ .

إن الثقافة التي نسجت شبكتها التواصلية هنا لم تركز حسب ابي زيد على مصدر النص المتعالي او غير المتعالي، بل حول هذا المنادى نفسه والرسالة التي تتوجه له ولذلك يرى الكاتب أن هذه الطبيعة التداولية للنصّ ترغمنا على الفصل بين المصدر والرسالة والسياق لنتمكن من إعادة فهم هذه الرسالة في السياق الحديث الذي فيه المؤمن بها اليوم. ذلك أن مضمونها ليس ثابتا بل متغيرا بتغير العناصر التخاطبية من متقبل ومن سياق حتى بعد قرون.  فالنص القرآني إذن منسجم مع بيئته التي نتج فيها ومتسق مع قواعدها اللغوية غير خارج عنها، وهو في طبيعته اللغوية رسالة تواصلية تتحكم بها طبيعة الفهوم وتبدلها من مصر الى مصر ومن عصر الى عصر.

هو رسالة بالمعنى اللساني أي غير متعالية بل صادرة من الثقافة التي انتجتها الى الثقافة التي ستعيد انتاجها وتجديدها وتفعيلها ولذلك يرى الكاتب أن سنة الحياة ان ينظر كل مسلم في النص بمنظور عصره حتى لو كان في اعتقاده أن الذين سبقوه من الأجداد قد استوفوا النظر والتأمل فطبيعة النص اللغوية تجعله مدونة مفتوحة على كل الإمكانات ومتغيرة بتغير الثقافات.

إن المدخل اللغوي للتحليل ارتكزت عليه البلاغة التأويلية العربية منذ الزمخشري والجرجاني ويكفي العودة الى نصوصهم كما أسلفنا للتأكد من ان نصر حامد أبو زيد لم يفعل سوى أن مارس العملية التأويلية على النصوص التراثية كما مارسها القدامى لكنه فقط تجاوزهم باستخدام آخر ما توصل اليه العلم اللساني في عصره فلم يسقط على التراث مفاهيم غربية كما يدعي نقاده، ولكنه نظر الى النص الذي تقدسه المجموعة نظرة موضوعية وعلمية وهو الامر الذي جلب له التكفير والاتهام بالخروج عن الملة.

النص القرآني في كتب التراث وعلوم القرآن

*المقاربة الأدبية-اللغوية للنص القرآني في كتب التراث وعلوم القرآن.

لقد خضع النص الديني الإسلامي منذ بداية تكونه إلى قوانين القراءة. وهذه القوانين تطورت بتراكم المعارف والعلوم إلى أن أمسى تقبل العرب المسلمين للنص القرآني تقبلا مؤسسا على علوم القرآن التي نشأت على امتداد 7 قرون على الأقل إلى ان استقرت حين تم تأليف الكتب الجامعة ككتب الزركشي والسيوطي. فما إن استقرّ القرآن مدوّنا في شكل المصحف حتى بدأ علم التّفسير يتشكّل فنّا من فنون الفهم بحثا عن معاني ومقاصد “كلام الله” فنشأت حول النصّ المحوريّ نصوص تفسّره وتجمع ما قيل من أقوال السّلف والعلماء في آياته وأسباب نزولها وقراءاتها المختلفة وما تعلّق بها من أحكام وحدود وعلوم ستصنّف فيها فيما بعد كتب تجمعُ ما استقرّ من آليّات التّفسير القرآني ككتاب الزرّكشي وكتاب السّيوطي . ويعتبر التفسير أوّل العلوم الإسلاميّة نشأة ويدلّ على الحاجة الملحّة إلى فهم النصّ المؤسّس، وتطور عبر مراحل واختُلف حول بدايته فبعضهم أقر أنّ أول من فسر القرآن هو النبي محمد، لأنه كان يفسّر للصّحابة ولكن عارض هذا الرأي آخرون معتبرين أن النبي لم يكن يفسّر إلا بعض الآيات فقط. أما الذين يرون أن محمدا هو أول من فسر القرآن ينطلقون من السيرة وتوجد بعض الأخبار تدل على ذلك والذين يقولون القول الثاني ينطلقون من مبدأ أن القرآن نزل بلغة العرب وأن العرب كانوا يفهمونه إذن لم يحتج النبي إلى تفسير شيء جاء مفهوما بالنسبة إليهم. هذان المبدآن ناتجان في زمن الاختلاف بعد موت الرسول. فانقسم النّاس صنفين، الذين سينقلون قول المفسرين بعضهم عن بعض بالتقادم والذين لم يعتمدوا فيه على سلسلة وإنّما كل شخص يأتي بتفسير من معارف عصره. فالتفسير بالرأي المحمود هو الذي يتطابق مع المقولة السنيّة مثل الرازي وهو أشعري والتّفسير بالرأي المذموم هو كلّ ما يخرج عن المقولة السنية كالباطنية الشيعية والصوفية والمعتزلة الزمخشري مثلا. والتفسير بالمأثور كالطبري وابن كثير. وسيتصارع التفسير بالرأي والتفسير بالمأثور ففي الفترات التي تزدهر فيها الحضارة العربية يزدهر التّفسير بالرأي وفي الفترة التي تركد فيها يزدهر التفسير بالمأثور[3].

رسالة القرآن

  • العلوم التراثية محاولة في فهم رسالة القرآن بحسب معارف العصر الذي فيه المفسر:

فالتّفسير علم من علوم القرآن وفي نفس الوقت وظيفة بقيّة علوم القرآن. إنّه محاولة الإنسان الاتّصال من جديد بهذا المتعالي الذي فارقه في قصّة الجنّة والهبوط ثم صافحه عبر النبوة ثم فارقه بعد انتهائها عبر وساطة النصّ المقدّس ومحاولة فهمه. فالمفسّر يعتبر النصّ كلمة الله وهو الحبل المشدودُ إليه، ويتنزّل علمه في محاولة الجمع بين هذا الإلهي والبشري، بين السّماوي والدنيوي. دافعه في ذلك الحاجة إلى الإيمان بلا شك ولكنّ الحاجة إلى التّشريع أيضا وهو الأمر المتناسق مع عصره ومعارفه. فالمفسّر يعتبر أنّه نزّلَ ليفسّر بدوره حياة النّاس ويهديهم إلى الصّواب ويربط العلاقات ويحكم بينهم فكأنّ مهمّته نقلُ هذه الأحكام السّماويّة إلى حيّز البشرية ونقل المعنى المكنون من العالم المتعالي الإلهي إلى العالم البشريّ فالتأويل كأنّه ضرب من تأبيد الاتّصال الذي كان قائما زمن الوحي والنبوّة. ويحترز المفسّر دائما بأن النصّ القرآني معجز لا يمكن بلوغ دلالاته الإلهيّة النهائيّة ولكن مع ذلك يقدّم الاجتهادات التي يعبّر بها عن توقه إلى عناق ذلك المطلق. لكن تلك الاجتهادات قيّدتها شروط وقواعد هي آليّات وأدوات معرفيّة دقيقة ويمكن القول منذ البداية أن آليّات التأويل في الثقافة العربيّة الإسلاميّة فيما يخصّ النصّ القرآني خضعت لشروط ضبطتها كتب العلماء وضبطت فنونا على المفسّر أن يتقنها ليتمكّن من هذا المجال لأنّهم يعتبرون “التَّفْسِير الْقَطْع عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ اللَّفْظِ هَذَا، وَالشَّهَادَة عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ عَنَى بِاللَّفْظِ هَذَا، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ فَصَحِيحٌ، وَإِلَّا فَتَفْسِيرٌ بِالرَّأْيِ، وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَالتَّأْوِيلُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُحْتَمِلَاتِ بِدُونِ الْقَطْعِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى اللَّه” . فآليّات التأويل يلخّصها القول هنا ب”الدليل” القاطع وهو إمّا دليل نقليّ أو عقليّ واتّجاه التأويل نعني به الغاية التي سار فيها المفسّرون وهم يجمعون أقوال السّابقين ويصنعون من كلّ ذلك موروثا تأويليّا ويتعاقدون ضمنيّا على أن يتّجهوا به وجهة معلومة عبر هذه الآليّة آليّة الترجيح التي تتيح لهم أن يختاروا بين المحتملات بدون القطع فهي إذن إمكان تأويلي ناتج عن عمل علمي لغوي. وها هنا فإن التفسير القديم ليس سوى اجتهاد عقلي بعلوم العصر ولا هو وحي منزل ولا هو معنى ثابت للأبد.

  • ما معنى الدراسة الأدبية للقرآن؟

يسمي محمد عبده الإنتاج التأويلي العلمي للمفسرين القدامى الدراسة الأدبية للقرآن. وقد ضبط له شروطا وخطوات هي التالية: 1- فهم حقائق الالفاظ المفردة الموجودة في القرآن بحسب دلالتها التداولية في عصر النزول 2- يلي فهم دلالة الالفاظ المفردة في سياق تداولها اللغوي فهم الأساليب، ويحتاج هذا إلى علم الإعراب وعلم الأساليب -المعاني والبيان-. 3- الخطوة الثالثة في المنهج هي علم أحوال البشر إذ لا بد للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم ومنشأ اختلاف أحوالهم. 4- الخطوة الرابعة في المنهج تعد امتدادا للخطوة الثالثة أو تفريعا عليها إذ العلم بأحوال البشر يندرج فيه العلم بما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم 5- الخطوة الخامسة تفريعا للخطوة الرابعة فالعلم بما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم يتضمن العلم بسيرة النبي وتاريخها 6- الربط ترابطا وثيقا بين اللغة والسياق التاريخي لتداولها والعالم من حيث القوانين المحركة له طبيعيا واجتماعيا وسيرورته في التاريخ. فالنصّ عند محمّد عبده بناء لغوي دالّ في سياق اجتماعي تاريخي بعينه.[4]

إن العلاقة بين النص القرآني ومعانيه تتعلق بجوهر طبيعته نصا لغويا فالقارئ إما أن ينغلق داخل النصّ ليحلل الأبنية والعلاقات بينها وإما أن ينزله في سياقه الثقافي والسياسي والاجتماعي والنفساني وفي هذه الحالة يمرّ المحلل من الأبنية اللغوية الصرف ومعانيها النحوية إلى المعنى الناتج عن التأويل ضمن السياق المخصوص الذي نشأ فيه الخطاب. لذلك فالمعنى القرآني لا يمكن أن يكون واحدا أو ثابتا لطبيعته المعجمية القابلة لقراءات لانهائية، ولطبيعته الثقافية والسيميائية ولطبيعة المصالح التي توجّه المفسرين ونوعية المناهج التي بها نظروا في النص القرآني مما أنتج كل هذا الميراث التفسيري المتنوع الذي يثبت أن النص الديني قابل لما لا نهاية له من الفهوم. ولذلك يلحّ نصر حامد أبو زيد أن تجديد الفهم يمر عبر استخدام قراءة معاصرة تتمثل أساسا في مكاسب العلوم الحديثة وأوّلها علم اللغة بمكاسبه الحديثة وما يرتبط به من علوم متعددة كالانتروبولوجيا وعلوم الاجتماع[5].

خاتمة: في ضرورة تطبيق المنهج العلمي:

إن تطبيق المنهج العلمي على النص الديني عمل محفوف بالمخاطرة لغياب تقاليد التعامل العلمي في الثقافة العربية الإسلامية ولطابع الجمود الذي تكتسيه الأفكار التي لها صلة بالجوانب الدينية والفقهية، ولكن المحاولات المتتالية التي تسعى الى زحزحة ذلك الجمود ومقاومة الدغمائية وتطبيق العلم الحديث على المدونات التراثية بما فيها تلك المدونة المقدسة القرآنية فان هذه المحاولات جديرة بالتأمل المعرفي والنظر والتجريب.

لقد ألح نصر حامد أبو زيد أن تطبيق المنهج اللساني على نص القرآن بالذات ليس قطعا مع الإيمان بل قطعا مع الجمود والاجترار ودخولا في العصر وتفعيلا لملكة العقل واستغلال لثمار العلم وأكد أن الذي دفعه إلى ذلك هو التحدي الكبير الذي تواجهه الثقافة الإسلامية التي عليها إما أن تقبل بتحديث منابعها او بالاستسلام للموت البطيء ولذلك فإن تطبيق المناهج الحديثة ليس عملا ناتجا عن اغترار بالغرب او الرضوخ اليه ولا هو مؤامرة ضد الدين ولا ضد الهوية ولا هو عبودية واستسلام بل هو نابع من شعور الباحثين بواجب تجديد منابع الحياة في الثقافة الإسلامية لجعلها ثقافة حية قابلة للعصر وللقيم الحديثة.

 

المراجع:

أبو زيد نصر حامد، مفهوم النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2014.

أبو زيد نصر حامد، منهج التفسير الادبي للقرآن الجذور وآفاق المستقبل، في الاجتهاد وقراءات النص الديني في العصر الحديث، مجموعة باحثين، نشر المعهد العالي للغات، تونس 2004.
الخولي أمين، مناهج التجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، دار المعرفة، القاهرة، 1961

أركون محمد، تاريخيّة الفكر العربيّ الإسلاميّ، ترجمة: هاشم صالح، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت

برجر بيتر، القرص المقدّس: عناصر نظريّة سوسيولوجيّة في الدين، تعريب: عبد المجيد الشرفيّ ومجموعة من الأساتذة، مركز النشر الجامعيّ، تونس، 2003

بن سلامة فتحي، تخييل الأصول: الإسلام وكتابة الحداثة، ترجمة: شكري المبخوت، دار الجنوب للنشر، تونس، 1995

توين فان ديك، الخطاب والسّلطة، تعريب، غيداء العلي، وعماد عبد اللطيف، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2014.

الجابري محمد عابد، التّراث ومشكلة المنهج، ضمن المنهجيّة في الأدب والعلوم الإنسانية، دار توبقال للنشر، 1986

الجابري محمد عابد، نحن والتّراث، المركز الثقافي العربين 1986.

الجمل بسّام، أسباب النزول، المؤسسة العربية للتحديث الفكري، بيروت، 2007.

جميل صليبا، المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية، دار الكتاب اللبناني، 1982، بيروت، ج2، ص35-36.

جولتسيهر إجنتس، مذاهب التّفسير الإسلامي، ترجمة عبد الحليم نجار، دار اقرأ، بيروت، 1983.

حرب علي، نقد النصّ، المركز الثقافيّ العربيّ، الدار البيضاء-بيروت، ط 4، 2005

الخولي أمين، مناهج التجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، دار المعرفة، القاهرة، 1961.

دومينيك مانغونو، المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب، ترجمة محمد يحياتن، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، 2008.

دي سوسير فرديناند، دروس في الألسنيّة العامّة، تعريب صالح القرمادي، محمد الشاوش، محمد عجينة، الدار العربية للكتاب.

ديكارت، مقال عن المنهج، ترجمة محمود محمد الخضيري، القاهرة، 1985.

الزناد الأزهر، اللغة والجسد، مركز النشر الجامعي، تونس، 2017.

شارودو، باتريك ومنغنو، دومينيك، معجم تحليل الخطاب، ترجمة: عبد القادر المهيري وحمّادي صمّود، دار سيناترا والمركز الوطنيّ للترجمة، تونس، 2008.

الشاوش محمد، أصول تحليل الخطاب في النظرية النّحوية العربية، تأسيس نحو النص، جامعة منوبة- المؤسّسة العربية للتوزيع، 2001.

الشرفي عبد المجيد، الإسلام بين الرسالة والتاريخ، دار الطليعة، بيروت، 2001.

الشرفي عبد المجيد، الإسلام والحداثة، الدار التونسية للنشر، 1996.

الشّرفي عبد المجيد، في قراءة النصّ الديني، جماعي، الدار التونسية للنشر، مقال حول الإتقان في علوم القرآن.

العروي عبد الله العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة، بيروت، 1974.

غارودي روجي، البنيويّة أو فلسفة موت الإنسان، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة بيروت، 1979، ص13.

فضل صلاح، بلاغة الخطاب وعلم النصّ، الكويت، 1992.

محمد رشيد رضا، تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، 1990

المسدي عبد السلام، التفكير اللّساني في الحضارة العربية، الدار العربية للكتاب، 1986.

ميشلان مسلان، علم الأديان مساهمة في التأسيس، ترجمة عز الدين عناية، كلمة- المركز الثقافي العربي، بيروت- أبو ضبي، ط1، 2009، ص 312.

Émile Durkheim, Les formes élémentaires de la vie religieuse. Le système totémique en Australie. Les Presses universitaires de France, Paris, 1968, cinquième édition, 647 pages. Collection : Bibliothèque de philosophie contemporaine.

Jacques Derrida, Foi et Savoir, seuil, 1996, p14.

الحواشي:

[1] نصر حامد أبو زيد، مفهوم النص، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2014، بتصرف عبر اختزال بعض الفقرات.

[2] إن التعمق في هذه الفكرة يقودنا إلى مسألة إطارية تتعلق بارتباط ملكة اللغة بالجسد، يقول الازهر الزناد باحث في اللسانيات في ذلك: ” نجول بأجسادنا في العالم ولا يحدث أن نعي بها إلا في ما يندر لأننا نلبسها من حيث مثلت القوقعة التي تحملنا ونحملها، ونجري آلاف الخطابات في اليوم الواحد، باللغة حادثة بأجسادنا، ولا يحدث أن نعي بها إلا في ما يندر لأننا نجريها وبها نعيش أجسادا” إن الكاتب يوضح في الكتاب المأخوذ منه هذا الشاهد كيف ان اللغة لا تقوم إلا بالجسد والجسد بقوم لغة، وهي حجة إضافية أن اللغة بشرية بمعنى أنها تتطلب جسدا يحملها، جسدا يطبقها، جسدا يخزنها، جسدها يقولها وجسدا يأتي إشاراتها بقصد وبغير قصد، إن التأمل في هذه الفكرة يحملنا بعيدا لندرك أن النصوص اللغوية مهما كانت هي نصوص بشرية بهذا المعنى اللغوي البحت. انظر التفاصيل العميقة في الازهر الزناد، اللغة والجسد، مركز النشر الجامعي، تونس، 2017.

[3]انظر في كلّ ذلك: جولتسيهر، إجنتس، مذاهب التّفسير الإسلامي، ترجمة عبد الحليم نجار، دار اقرأ، بيروت، 1983.

[4]محمد رشيد رضا،  تفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)، 1990، مج1 ص 19 نقلا عن نصر حامد أبو زيد، منهج التفسير الادبي للقرآن الجذور وآفاق المستقبل، في الاجتهاد وقراءات النص الديني في العصر الحديث، مجموعة باحثين، نشر المعهد العالي للغات،  تونس 2004.

[5] للتوسّع في معرفة أنواع التّفاسير التراثية للنص القرآن: مذاهب التفسير الإسلامي، للمستشرق جولتسيهر. حيث يقدّم للباحث مادة أولية حول التفاسير الإسلامية واتجاهاتها وخلفياتها الكلامية والمذهبية وأبرز أعلامها ومدارسها. – أمين الخولي، مناهج التجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، دار المعرفة، القاهرة، 1961. – محمد رشيد رضا، تفسير المنار، مج1. مقدمة بقلم محمد عبده توضح منهج التفسير الأدبيّ للقرآن.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete