السياق الإسلامي
-1-
يبدو التوافق واضحًا بين الإسلام واليهودية على مستوى اللاهوت (أرضية التصور الإلهي – فكرة الوحي والنبوة- السردية التاريخية الإبراهيمية). ومنذ الدراسات الاستشراقية المبكرة، يجري تفسير هذا التوافق بفكرة الاقتباس المباشر، أو التنقل الطبيعي بين الثقافات السامية المتجاورة، وليس بفكرة المصدر الإلهي المشترك التي يتبناها النص الإسلامي.
لكن الإسلام نأى بنفسه منذ البداية عن النظام الطقوسي اليهودي بمفرداته الأساسية الثلاث (الكهنوت الإكليروسي المنظم- مركزية المعبد- أشكال الشعائر التعبدية)، وظل يدور في فلك النظام الطقوسي القرشي، فاعتمد بشكل مباشر منظومة الشعائر السارية حول الكعبة المكية، وفرض الحج إليها كركن من أركانه، رابطًا بينها وبين اللاهوت.
أما الصلاة، فيلزم قراءتها من حيث المبدأ كفكرة طقوسية مشتركة في جميع أنساق التدين، من حيث هي آلية اتصال مع الإله، لإظهار التقديس، وطلب الحاجات، ودفع المخاطر والشرور. على مستوى المضمون، يظهر الدعاء كركن جوهري مشترك. وفي الشكل يحضر الوقوف والركوع والسجود كحركات شائعة على نطاق واسع، فهي معروفة في الصلوات اليهودية كما في الإسلامية. وبحسب القرآن عرف عرب الجاهلية نوعًا من الصلاة تتضمن شكلاً من التصفيق والصفير “وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية” (الأنفال- 35). وتتضمن أيضًا السجود حسب رواية ابن عمر “يضعون خدودهم بالأرض” (الواحدي، أسباب النزول، آية الأنفال).
ونفهم من المصادر الإخبارية أن الصلاة التي كان النبي يؤديها في مكة لم تكن مجهولة من قبل القرشيين؛ “فقد كان يخرج إلى الكعبة أول النهار فيصلي صلاة الضحى، وكانت صلاة لا تنكرها قريش” (انظر المقريزي إمتاع الأسماء 14/17، والبلاذري أنساب الأشراف 13/1). وبالنظر إلى الشكل الإجمالي لهيئة الصلاة اليهودية تظهر تشابهات عرضية مع الصلاة الإسلامية، أعني تشابهات قابلة للتفسير بالاشتراك العام.
جغرافية الطقوس
نفهم -بالاستقراء- أن الفكرة الدينية تعبِّر عن نفسها من خلال منظومات طقوسية متعددة بعدد أنساق التدين وبيئاتها الجغرافية. فبوصفها أنماطًا من السلوك الجماعي، تبدو الطقوس أوضح التصاقًا بأرضية البيئة المحلية، ومن ثَم أبطأ أو أقل قابلية للتنقل من منظومات اللاهوت المجرد بوصفها أفكارًا.
ويفرض هذا التعدد نفسه حتى داخل الديانة الواحدة: فالتدين العبري المبكر ظل يعتمد نظام المعبد المتنقل/ الخيمة في مرحلته الصحراوية قبل أن يتحول إلى نظام المعبد الثابت، بانتقاله إلى البيئة الكنعانية الزراعية التي كانت تتوفر على نظام كهنوت متطور (كانت الخيمة هي المقر الذي يجتمع فيه الشعب مع الرب من خلال موسى. وهي العملية التي أسندت إدارتها إلى اللاويين، وأنتجت طبقة الكهنة وفكرة المجمع. قارن هذه الحالة التي أفرزها الفراغ الجغرافي في صحراء سيناء بفكرة الكعبة ذات الحضور الجاهز كرمز مقدس في الجغرافية العربية).
بعد العبور من سيناء، يرصد مؤرخو اليهودية تفاوتًا واضحًا في بنية التدين العبري بين مقاطعة الجنوب الصحراوية ذات الطابع الرعوي ومقاطعة الشمال الكنعانية الزراعية، فقد تبنى الشماليون مع حضور يهوه أنظمة طقوسية مستمدة من العبادات البعلية، حيث كانت كل منطقة تدين بخصوبة الأرض إلى بعلِ ينظر إليه كسيد حاكم. وماثلوا ما بين دوره النباتات الطبيعية ودورة الحياة المتجددة للبعل، منذ ميلاده إلى موته ثم بعثه من جديد.
في سفر التثنية (ق. 7 ق م) والأسفار التالية من العهد القديم، سيتراجع النموذج الرعوي من النصوص انعكاسًا لغيابه الجغرافي، وستبدو اليهودية ديانة أكثر مدينية، وأكثر زراعية. ومع ذلك ظل يمثل “مثالاً فلكلوريًّ لا يخلو من القوة والمنزلة الأخلاقية. واستعملت الأصول الرعوية في الطبيعة الإسرائيلية الجديدة لتقوية شخصيتها. وهكذا أصبحت العناصر المقدسة في المجتمعات الفلاحية الأخرى ممقوتة كالخنزير، وهي التي كانت ترافق الطقوس الوثنية للخصوم التي يحتقرها الرعاة” (انظر ديڤيد سوفير ، جغرافية الأديان، الترجمة العربية، دار قتيبة، بيروت، 1990 ص 31).
في هذا السياق- كما يلاحظ سوفير- بدأت الطقوس والتقاويم تحمل خصائص المتوسط الزراعية “الجافة” (الحبوب الشتوية، كالقمح والشعير، والأشجار المثمرة، وتربية الأغنام). ومثل ما في معظم الشعوب الزراعية عكست الطقوس دورة المحاصيل ومواقيت الحصاد، ومثَّل الربيع المتوسطي (حيث تخضر التلال بالأعشاب، وتنضج الحبوب، وتسمن القطعان)، فصلاً مناسبًا للشكر الذي يستحق الاحتفال.
يناقش سوفير طقس “التدوين” الزراعي عند اليهود وفقًا للعهد القديم: “سوف تدونون (تسجلون كتابة) سبع مرات في سبعة أيام، وعندما يبدأ المنجل في حصاد الحبوب تبدأون التدوين مدة سبعة أسابيع”، وهكذا، بعد انتهاء سبعة أسابيع من بداية حصاد الشعير حتى نهاية حصاد القمح، يصل المرء إلى آخر عطلة مقدسة بالنسبة إلى تقويم العهد القديم، قبل بداية الصيف الجاف في شابوت، وهو عيد الأسابيع… ولا تزال الأعياد اليهودية تقام كما كانت تحدث على شاطئ البحر المتوسط قبل ثلاثة آلاف عام، وتقدم تباشير الفواكه في نيسان (أبريل)، حيثما يكون اليهودي. ويسجل التدوين مهما كان اليهودي بعيدًا عن حقوله، وعن الحبوب” (جغرافية الأديان، السابق، ص 39).
ويلاحظ سوفير أن المسيحية “احتفظت بجزء بسيط فقط من التقويم اليهودي المقدس، وتحررت من قيود المكان، فاستطاعت أن تصبح من الديانات العالمية بنجاح. فقد احتفظت بالحوافز والدوافع لعيد الفصحى وهي تقديم القرابين والأضحيات، ثم الاعتقاد بالبعث. وإن “الرمزية” التي تشمل ذبح الشاة في يوم عيد الفصح تمثِّل هنا عنصرًا هامًا؛ ففي اللغة اللاتينية هناك اسم مشابه للاسم العبري لعيد الفصح. ويختلف هذا الاسم في شمال أوروبا حيث لم تنتشر المسيحية إلا بعد أن أصبحت دين الدولة الرسمي (بعد القرن الرابع)، وقد كانت شعوب شمال أوروبا تحتفل بقدوم الربيع بعد برد الشتاء القارس، وذلك بإحياء إلهه فصل الربيع لديهم، وهي “إستار” Eastre أو “أوستارا” Ostara.
ولما كان هذا الاحتفال يصادف الزمن المسيحي احتفظ باسمها بينما بقيت بعض الرموز الخاصة الوثنية بذلك الفصل في العادات والتقاليد الشعبية هناك. وقد بقيت بعض المذاهب المسيحية الشائعة في التقويم المسيحي المقدس، بينما حذفت الأعياد اليهودية الباقية، ويميل الباحثون الآن إلى اعتبار ميلاد المسيح في أواخر الصيف أو أوائل الخريف؛ أي حول الزمن الذي تبدأ به السنة اليهودي. لكن الكنيسة في أوائل عهدها لم تحتفل بميلاد المسيح، ولم يتعين تاريخ ميلاده إلا فيما بعد؛ عندما اقترن بميلاد اله الشمس في الإمبراطورية الرومانية “Sol invictus وهو يصادف الانقلاب الشمسي الشتوي” (جغرافية الأديان، السابق، ص 40).
وفي هذا السياق المقارن يلفت سوفير إلى أن التقويم الإسلامي منسلخ كليًّا بحكم البيئة عن أي معطيات زراعية، فالوحدة الزمنية الرئيسية في هذا التقويم هي الشهر القمري؛ وعليه ينضبط برنامج الممارسات والطقوس “التي يمكن أداؤها في أي فصل من فصول السنة، أو أي بيئة مناخية دون تفريق بين شمال خط الاستواء أو جنوبه”، فالصوم يجري في شهر رمضان القمري الذي يأتي أحيانًا في الصيف وأخرى في الشتاء. وكذلك الحج إلى الكعبة في شهر ذي الحجة.
من الواضح هنا تأثير البيئة العربية “غير الزراعية” التي نشأ فيها الإسلام: “فمكة والمدينة كانتا تعتمدان على التجارة إلى أماكن بعيدة، أكثر من اعتمادها على الخدمات الزراعية. وكانت للقوافل البرية والتجارة أنظمة موسمية، ولكن ميكانيكية العمل التجاري كانت تخفف من أهمية الفصول بالنسبة إلى سكان المدن، بسبب المسافات البعيدة التي تفصلها نفسيًّا واجتماعيًّا عن المزارعين كما ظهر في المواقف الإسلامية الأولى” (جغرافية الأديان، ص 42) وانظر الفصل الثالث الذي يقدم فيه سوفير دراسة شيقة حول تأثير الدين على البيئة الطبيعية للأرض والوجه المقابل لتأثير الطبيعة الأرضية على التحول الديني).
2
قبل الإسلام
البيئة الدينية المباشرة
بيئة التدين العربية التي نشأ فيها الإسلام ونقل عنها، لم تؤد إلى تكون نظام كهنوتي مرتب على الطراز المعروف في ديانات المعبد القديمة في الشرق الأدنى (المصرية- الكنعانية- الرافدية) وفي اليهودية والمسيحية. فعلى الرغم من وجود الكعبة لم يكن ثمة ديانة شعبية جامعة للاهوت محدد تضم القبائل المتناثرة في محيط صحراوي واسع وقليل الكثافة السكانية.
كانت الكعبة مركزًا لتجمع الأصنام والرموز الوثنية الخاصة بالقبائل، ورغم وجود إطار عام من الشعائر المشتركة التي يسود الاعتقاد بقداستها لقدمها وارتباطها بعباده الأجداد، ظلت كل قبيلة تحتفظ بآلهتها وممارستها الطقوسية الخاصة التي تجري حول الكعبة في موسم محدد، أو على مدار السنة.
كان هذا النشاط يحتاج إلى نوع من التنظيم العملي لإدارة المكان وخدمته، بالمعنى اللوچستي. ومن هنا نشأت وظيفة “السدانة” التي أسندت إلى قريش بحكم الموقع والمكانة الاقتصادية التي انتهت إلى بني هاشم عشيرة النبي محمد.
مع غياب اللاهوت الجامع، حضرت الشعائر التي تشير إلى ممارسات احتفالية متعددة تذكرنا بالطابع الطقوسي الفج للتدين البدائي. في هذا السياق لم تظهر طبقة دينية أو شريحة مهنية وسيطة تروج لنظام لاهوتي واضح. لقد عرف العرب مصطلح الكاهن الذي يُجمع غالبًا على كهان وليس على كهنة، لكنه لا يقابل في العربية الجاهلية نظيره في العبرية اليهودية، فهو لا يشير إلى رجل الدين الذي يروج لعقيدة بعينها، ويقوم على خدمة الطقوس الخاصة بها، ويدعي التواصل مع الإله بشكل من أشكال الوحي، بل يشير إلى أفراد ذوي ملكات وممارسات خاصة تدور على التنجيم والعرافة واستطلاع الغيب، وإطلاق المقولات المسجوعة على الطراز السامي القديم. يشرح القرطبي: “العراف هو الحازر والمنجم الذي يدعي علم الغيب، والتنجيم من العرافة، وصاحبها هو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها، وقد يعتقد أهل هذا الفن في ذلك، وهذا الفن هو العيافة، وكلها يطلق عليها اسم الكهانة” (القرطبي الجامع 7/3).
إقرأ أيضاً: الكهنوت الديني وديمومة التخلف
وبحسب الثقافة السائدة، ترتبط الكهانة بفكرة التواصل مع الجن، فالكاهن كما يقول ابن قُدامة في المغني: “هو الذي له رئى من الجن تأتيه بالأخبار”، ويظهر هذا المعنى بوضوح في لغة النصوص، فصحيح البخاري يروي عن النبي قوله: “إن الملائكة تتحدث في العنان، (أي في الغمام) بالأمر يكون في الأرض، فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن، كما تقر القارورة فيزيدونها مائة كذبة”. وفي القرآن وردت لفظة الكاهن مرتين، كلاهما في معرض الذم والاستنكار بغرض نفي صفة الكهانة عن النبي: (انظر سورة الحاقة 42) “ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون”، (وسورة الطور )29: “فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون”.
الواضح هنا أن “الكهانة” في السياق الثقافي الجاهلي لا تشير إلى الكهنوت بالمعنى الديني الواضح المعروف، ومع ذلك فالاشتراك في الجذر اللغوي يلفت إلى التداخل الدلالي بين المفردتين، كلاهما يشتغل على فكر”الغيب” أو التواصل مع قوة غير مرئية، وكلاهما يمارس نوعا من السلطة المعرفية.
تعتمد الكهانة على التواصل مع الجن والشياطين، وأحيانًا على بعض المعارف والملاحظات الطبيعية؛ مثل حركة ومواقع النجوم. فيما يتحدث الكهنوت عن التواصل عبر عبر نوع من الوحي الإلهي.
يمكن للكهانة أن تنشأ في سياقات غير دينية، وهي لا تظهر في شكل هيئة عضوية منظمة خلافًا الكهنوت الذي يرتبط بوجود ديانة محددة، ويتخذ شكل مؤسسة جماعية ذات طابع تراتبي. لكننا سنلاحظ أن الكهنوت يحتوي غالبًا على كثير من عناصر الكهانة الإيحائية واآليتها الغرائبية التي تنحدر من تراث التفكير البدائي المبكر.
-3-
الكلام عن غياب كهنوت منظم في التدين العربي الجاهلي الذي انبثق منه الإسلام، لا ينطبق على الأطراف الجنوبية والشمالية، حيث تكونت مجتمعات مستقرة بسبب الزراعة وحضور سلطة الدولة. يرتبط التدين الزراعي غالبًا بفكرة “المعبد” الذي ينشأ كمؤسسة ثابتة يتخلق من حولها طبقة “الكهنة”. في المنطقة الجنوبية يمكن ملاحظة الانتشار الواسع للمعابد. وقد أشار المؤرخ الروماني بلينيوس إلى 60 معبدًا في مدينة شبوة (Sabota) عاصمة حضرموت، وإلى 65 معبدًا في مدينة تمنع (Thmana) عاصمة قتباد، وتحدث عن نفوذ اقتصادي (ضرائب حصاد تشبه الزكاة)،
وحضور سياسي كبير لرجال الدين في حضرموت القديمة، وفي مملكة سبأ، حيث تمكنوا من انتزاع صلاحيات دينية من أيدي الملوك.
ويسهل افتراض حضور الكهنوت مع الانتشار الواسع لليهودية في اليمن في ظل المملكة الحميرية الثانية (حوالي 300 م)، الذي بلغ ذروته في القرن السادس. وينطبق ذلك على المنطقة العربية الشمالية المتداخلة مع الأراضي السورية (الانباط- تدمر) ذات الطابع الحضري المستقر نسبيًّا، حيث تشير المصادر الإخبارية إلى انتشار مماثل للمعابد ونفوذ الكهنة (انظر نصوص بلنيوس Naturalis Histora في الترجمة الإنجليزية History of pliny”.
- Henry Tomas,H. G Bohn 1855, London, vol 11, book vi- xi.
-4-
الكهنوت والأسلام
لم ينشأ -إذن- كهنوت منظم في الإسلام المبكر، لسبب بسيط، وهو أن بيئة التدين المباشرة التي انبثق عنها لم تعرف فكرة الكهنوت المنظم.
هذا التسبيب يبدو مفهومًا إذا كنا نتعامل مع الإسلام بما هو “واقعة” تاريخية ظهرت في الصحراء العربية في القرن السابع، أي إذا كنا نقرأ الإسلام من منظور أنثروبولوچي اجتماعي. لكنه يحتاج إلى مزيد من الحفر ونحن نقرأ الإسلام كمنظومة نظرية مدونة مصبوبة في قوالب مطلقة، ومسندة إلى الوحي الإلهي، أي إذا كنا نقرأه من منظور الطرح الديني التقليدي الموروث من عصر التدوين.
غياب الكهنوت عن المحيط العربي الجاهلي يتناسب مع كثافة وعمق التدين، ففي هذا المحيط الذي لم يتوفر على ديانة جامعة أو مهيمنة، لم يكن الحس الديني طاغيًا على الثقافة السائدة مقارنة بالمحيط العبري “السامي” المجاور. ويمكن الاستدلال على ذلك من التراث الأدبي المنقول عن الحقبة الجاهلية، والمتمثل خصوصًا في الشعر، حيث لا تحضر المعاني الدينية بشكل ظاهر مقارنة بأغراضه التقليدية المعروفة، رغم الملاحظات التي أثيرت حول نحله وتنسيبه إلى المرحلة الإسلامية.
ومع ذلك، يمكن الحديث عن حضور نسبي للحس الديني في المحيط المكي القريب من الكعبة، وبوجه خاص في العشيرة الهاشمية التي تولت مهمة السدانة و خدمة البيت الحرام.
في الحقبة المكية – كما يظهر من النصوص القرآنية المبكرة- بدا وكأننا حيال طرح “ديني” صرف، أو ديني بالمعنى الضيق، لكن مع الانتقال إلى المدينة سيبدأ البعد “السياسي” في التفاقم تدريجيًّا على حساب المعنى الديني. وبالنسبة إلى المراقب “الخارجي”، بدا نشاط النبي محمد في المدينة، وتمدده إلى خارجها من خلال الغزو، حركة سياسية خالصة، أو حركة سياسية مطعمة بهامش ديني ثانوي.
بالطبع نستطيع الحديث هنا عن مشروع سياسي يكشف عن نفسه في وضوح تام، لكننا لا نستطيع الحديث عن تلاشي البعد الديني، أو عن غيابه الأصلي، كما تذهب بعض الدراسات المعاصرة التي تؤكد أن الإسلام كمفهوم ديني مجرد لم يظهر قبل عصر التدوين العباسي. صحيح أنه يمكن الربط بين الانتشار الواسع لمصطلح الإسلام وعصر التدوين، بوصفه الحقبة التي اكتمل فيها تبلور الديانة في إطارها النظري، لكن من الصعب إنكار حضور المعنى الديني وتلبسه الصريح بالمعنى السياسي منذ العهد المدني، وفي زمن الخلفاء “الراشدين”، والعصر الأموي.
وفي نص مسيحي مبكر مثل كتاب “الهرطقات” يتحدث يوحنا الدمشقي (676- 749 م) عن “ديانة الإسماعيليين التي لا تزال تسيطر في أيامنا وتستميل الشعوب معلنة عن مجيء المسيح الدجال”. لا يستخدم يوحنا مصطلح المسلمين، بل الإسماعيليين أو الهاجريين أو السراسنة، لكنه يشير إلى نشاط ديني يقوم على فكرة توحيدية، وعن “نبي” كاذب تأثر بالهرطقة الآريوسية بعد لقائه بالراهب بحيرا، واستعمل القرآن لتغطية آثامه.
-5-
غياب الكهنوت في الطرح الإسلامي يشير إلى توجه مختلف في إدارة العملية الدينية داخل نسق التدين الإبراهيمي، الذي ينسب نفسه إليه. نحن حيال موقف إسلامي متميز حيال الأدوار التقليدية للكهنوت: الوساطة بين الإله والناس/ خدمة الطقوس/ تمثيل الديانة وحراسة اللاهوت. وهو ما ينقلنا إلى المستوى النظري للإسلام كما تبلور في المنظومة الفقهية.
النصوص القرآنية توحي بأن التواصل بين الله والناس يجري بشكل مباشر؛ لا يحتاج إلى هيئة متخصصة؛ “وقال ربكم ادعوني استجب لكم” (غافر- 60)، “ونحن أقرب إليه من حبل الوريد” (ق- 16).
وينطبق ذلك على ممارسة الطقوس التي قد تؤدى بشكل فردي أو جماعي، لكنها لا تحتاج إلى خدمة فنية خاصة، ولم تسند إدارتها إلى جهة محددة ذات طابع مؤسسي.
لكن تمثيل الديانة وحراسة اللاهوت يستحق المزيد من النقاش، فهذه المهمة تسند بوجه عام إلى عموم المؤمنين كفرض كفاية. ويبدو هذا واضحًا في كتب التفسير السلفية خصوصًا المبكرة منها، فبحسب الطبري: “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر” (آل عمران- 104).
أمه”يعني جماعة يدعون الناس إلى الإسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده”.
يتحدث النص عن جماعة عامة تشير إلى معنى التناصح بين الناس، وليس إلى جماعة محددة أو فئة مهنية خاصة. وواضح أن المطلوب هو مجرد الدعوة، أي التواصي وليس التلزيم، وأن موضوع الدعوة هو أداء الخير والمعروف وترك المنكر؛ أي الأخلاق الكلية التي يفترض أنها محل اتفاق في الوعي العام، وليس تفاصيل اللاهوت والفقه التي قد تتعدد باختلاف الرؤى والمواقف المذهبية، التي تؤدي إلى الصدام والعنف.
لكن التفاسير المتأخرة (التي ستظهر بعد تشكل المنظومة النظرية) ستبدأ في توجيه دلالة النص إلى “جماعة” خاصة، هي الجماعة التي صارت تتبلور كطبقة فقهية محترفة تحتكر التعاطي مع النصوص نيابة عن الأمة؛ يشرح ابن كثير: “قوله تعالى ولتكن منكم أمة”؛ أي منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “وأولئك هم المفلحون” قال الضحاك “هم خاصة الصحابة، وخاصة الرواة، يعني المجاهدين والعلماء”. ثم يعقب ابن كثير: “والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبًا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.
استنادًا إلى مثل هذه النصوص انفتح الباب في السياق الإسلامي أمام فكرة “الشيوع الدعوي”، التي أسفرت عمليًّا عن حالة توليد متواصلة للفرق والجماعات الدينية التي تدعي تمثيل الإسلام وحمايته، بغض النظر عن دوافعها السياسية والاجتماعية المكشوفة أو المضمرة. وفي أجواء الصراع السياسي المبكرة، كانت هذه الحالة تمثل خطرًا على مشروعية السلطة الحاكمة، المدعمة نظريًّا من الطبقة الفقهية الناشئة.
الطبقة الفقهية – التي تتولى الآن عملية التنظير- أسندت إلى الدولة/ الحاكم مهمة حراسة الدين وتنفيذ الشريعة، فيما استبقت لنفسها مهمة بيان الدين، وتعيين أحكام الشريعة نيابة عن الأمة.
لقد تم تقسيم وظائف الكهنوت التقليدية بين الفقه والدولة، وصرنا حيال نسخة كهنوتية مخففة “نسبيًّا” بالقياس إلى النسختين اليهودية والمسيحية. الكهنوت هنا -ورغم غياب النص- يعود فيفرض وجوده كلازمة ضرورية من لوازم التدين التاريخي الموروث، ويتخذ صيغة مغايرة بحكم السياقات البيئية الثقافية والاجتماعية الخاصة.
جرى تطوير وتثبيت هذه الصيغة عبر تراكم تدريجي بامتداد عصر التدوين الإسلامي (القرون الثلاث الهجرية الأولى) وهو عصر ازدهار الدولة السنية المركزية، الذي يمثل، بالفعل، حقبة “تأسيس” ثانية للديانة الإسلامية كما نعرفها اليوم.
عصر التدوين العباسي
أسفر عصر التدوين العباسي عن متغيرين مؤثرين:
1- تشكل الفقه كمنظومة نظرية تتوفر على سلطة معرفية بالتوازي مع تبلور “الفقهاء” كطبقة ذات نفوذ اجتماعي وسياسي متصاعد. تصدت هذه المنظومة لوظائف الكنيسة في خدمة الطقوس، وتقديم الفتوى، واحتكرت تفسير النصوص؛ أي التعبير عن مراد الله. ولم تتورع عن التداخل في الشأن السياسي كلما سمحت الظروف، وخصوصًا في فترات ضعف الدولة، ما كان يعني تخليق نواة “لمؤسسة كهنوتية معنوية” لا تمثل بنية إدارية منظمة، لكنها تمارس نوعًا من سلطة الواقع.
2- تقنين حالة التداخل الموروث منذ العهد النبوي بين الدين والسلطة السياسية حيث صارت وظيفة الدولة هي حراسة الدين.
بإسناد هذه الوظيفة إلى الحاكم لم يكن الفقه يخلق حالة الخلط بين الديني والسياسي، فهذا الخلط حاضر بوضوح منذ العهد النبوي. ومن زاوية النظر التاريخية يبدو نشاط النبي في المدينة حركة سياسية صريحة أكثر منه دعوة دينية بالمعنى الروحي الضيق. ما قام به الفقه هنا هو تقنين هذا التداخل للموروث بين الدين والسلطة السياسية، وتشريعه نهائيًّا كجزء ثابت من بنية الديانة مدعم “بالنصوص”، خصوصًا الروايات “السنية” التي صارت متوفرة على نطاق واسع.
صار الفقه يربط “رسميًّا” بين الدين والدولة (جهاز السلطة): يفتتح الماوردي كتابه “الأحكام السلطانية” بالتعريف الآتي:
“الإمامة موضوعة لخلاف لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا” (ص 29). ويوافقه ابن خلدون الذي يعرف الإمامة بأنها “حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحه الأخروية والدنيوية الراجعة إليها. إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا”. (المقدمة ص 180).
في تأصيل ابن خلدون تبدو هيمنة الدين على الدولة أوسع مدى منها عند الماوردي “الأسبق زمنيًّا”؛ فهذا الأخير يشير إلى حراسة الدين بصيغة إجمالية، وهي صيغة يمكن صرفها إلى معنى الأصول العامة أو الخطوط العريضة، بينما يتكلم ابن خلدون عن صلاحيات موضوعية عامة ذات طابع شمولي للدولة/ الحاكم تطال المصالح الدنيوية والأخروية التي لا ينفك أحدهما عن الآخر، فهي تستغرق حياة الأفراد بتفاصيلها التي “ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة”، أي بالدين.
لكن الفقه، وكذلك دراسات ابن خلدون الاجتماعية، لم يهتم ببيان الكيفية التي تمارس بها الدولة حمل الكافة على مراعاة مصالحهم الأخروية التي تتضمن جميع الأحوال الدنيوية، اللهم إلا من خلال إطلاق سلطة الحاكم. ما المدى الذي تصل إليه السلطة للتدخل في الحياة الخاصة والحريات الفردية؟
لم يكن هذا السؤال مطروحًا في مناخ التفكير السياسي الوسيط الذي تشكلت فيه نظرية الخلافة، وهو في مجمله مناخ أوتوقراطي ثيوقراطي، لا يلتفت إلى المضمون السياسي للحرية. لكن السؤال ينتصب -الآن- بقوة أمام العقل الإسلامي الذي يواجه ضغوط الحداثة ونزوع الإنسان المعاصر إلى الحرية و فردانية الذات.
تطرح الحداثة، بشكل مبدئي، “مشكل” الدولة الدينية بطابعها الشمولي الحصري، في مقابل التعددية الطبيعية وفكرة الحقوق القانونية، وهو السؤال الذي سبق أن فرضته الحداثة على العقل المسيحي الغربي، وأدى في النهاية إلى تراجع الكنيسة، وتخليها الصريح عن حكم المجال العام.
التيارات الأقل سلفية داخل الفكر الإسلامي تواجهه السؤال بتبرير دفاعي مقتضب يروج للقول بأن الإسلام لم يعرف الكنيسة، ولم يمارس حكم رجال الدين، وهو تبرير مراوغ يتجاهل وجود كهنوت إسلامي خاص مركب من سلطة الدولة وسلطة الفقه.
نحن هنا حيال صيغة أخرى، قد تبدو مخففة من مشكل ازدواجية السلطة، التي اتخذت شكلاً حادًا في السياق المسيحي الغربي، وكشفت عن الطابع القمعي الفج للكهنوت المسيحي بامتداد العصور الوسطى.
كيف يُحمل الكافة (من الأفراد المعاصرين) على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الدنيوية؟ من الذي يحدد مفهوم النظر الشرعي؟ وفقًا لأي تفسير؟ ولفهم أي فرقة؟ ولرؤية أي مذهب؟ إلى أي مدى في مجال الاعتقاد (المحكوم بنزوعات الفكر و مبدأ التعدد)؟ وفي مجال المعاملات (المحكوم بمطالب الواقع ومبدأ التطور)؟
في كتابه “الأحكام السلطانية” يضع الفقيه الحنبلي أبو يعلى على رأس الواجبات العشرة للإمام “حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة” (ص 27). هنا تضاف إلى إلزامية الدين العامة إلزامية أخرى قابضة هي رؤية فرقة بعينها يعتبرها الحنابلة حصرًا الفرقة الناجية، والمخالف لها زائغ عن الحق يستحق الأخذ بالحدود التي تتراوح بين الجلد والقتل. في نهاية المطاف ستمثل “الدولة” إرادة الله التي سيفرضها باسمه جماعة من “الفقهاء”.
-6-
بامتداد مراحل الدولة المركزية (القوية) أمكن احتواء المشكل الناجم عن الازدواجية، إذ ظلت الطبقة الفقهية تعمل تحت سقف السلطة الحاكمة. وبوجه عام كانت التراث القابض للدولة بامتداد التاريخ “السني” يغطي على حضور الفقهاء كقوة ذات نفوذ مباشر (كان يظهر في فترات ضعف الحاكم)، لكن السلطة النظرية للفقه ظلت تكرس موقعها المركزي داخل الثقافة.
هذه المعادلة ستتغير على نطاق واسع مع التحول إلى نموذج الدولة الوطنية الحديثة. كيف؟
يتبع