تكوين
-1-
خلافا للمنوذج المصري الحديث – حيث نشأت الدولة منذ البداية على أسس “وطنية”، وتطورت في أطر دستورية ذات طابع مدني، واستطاعت تحجيم النفوذ المعنوي للطبقة الفقهية واحتواءها داخل جهازها الحكومي – تشكلت الدولة السعودية الأولي في القرن الثامن عشر على أسس “دينية” تقليدية، ونتيجة لتحالف معلن بين قوتين متكافئتين تقريباً : قوة الأمير وقوة الشيخ ( الأمير محمد بن سعود، والشيخ محمد بن عبد الوهاب).
لم تكن قوة الشيخ حينذاك مجرد مجموعة فقهية ذات نفوذ معنوي، بل جماعة حركية منظمة، تروج لأفكار أصولية وتسعى إلى استناف حركة الجهاد، واستطاعت أن تفرض نفسها كجزء من بنية الدولة الناشئة. بعض المصادر تتحدث عن اتفاق صريح بن الأمير والشيخ على “تقاسم” السلطة بشقيها السياسي والديني وتوريثها لأبنائهما في المستقبل. وتذهب هذه المصادر إلى أن الأمير كان هو من بايع الشيخ، الذي كانت له اليد العليا في معادلة سياسية تشبه “ولاية الفقيه”. فبحسب الحسين بن غنام وهو تلميذ مباشر لمحمد بن عبد الوهاب: “بقى الشيخ بيده الحل والعقد، والأخذ والإعطاء، والتقديم والتأخير، ولا يركب جيش ولا يصدر رأي من محمد بن سعود ولا من ابنه إلا عن قوله ورأيه ” (انظر “تاريخ ابن غنام المسمى روضة الأفكار والأفهام دار الثلوثية للنشر، 2021، ط 2، الجزء الأول).
لكن المصادر المتأخرة تنفي هذه الرواية، وتؤكد على بيعة الشيخ للأمير وانضوائه تحت سلطته بوصفه الإمام صاحب الشوكة واجب الطاعة. أحد أهم هذه المصادر هو كتاب “تاريخ نجد الحديث وملحقاته” لأمين الريحاني، الذي يؤكد أن ابن عبد الوهاب لم يكن يتدخل بشكل مباشر في شؤؤون الملك، “لكن الأمير محمد وابنه كانا يستشيرانه في الأحكام الشرعية، وكانت له الكلمة الأولى في المبايعة على الإمامة”.
تحظى الرواية الأولى بقبول الطبقة الفقهية، التي تروج ضمنيا لفكرة ” التقاسم الملزم”، كي تضفي على الكهنوت الوهابي شرعية دائمة ذات طابع “دستوري” أو شبه دستوري. فيما الرواية الثانية تمثل وجهة النظر “الرسمية” التي تقبل بفكرة “التحالف الطوعي” مع الفقهاء تحت شروط الدولة.
واقعياً، يشير المسار الفعلي للدولة السعودية في مراحلها الثلاث، إلى حضور متجاور للقوتين الزمنية والفقهية، لكن ورغم التوافق الأيديولوجي المعلن، ظل النفوذ الحقيقي في معادلة السلطة بيد الملك، وظل النفوذ الفقهي يتناقص بشكل تدريجي لكن مضطرد، وهو ما سيظهر بوجه خاص مع الدولة السعودية الثالثة، التي صارت تكشف عن توجهات مدنية أكثر وضوحاً.
-2-
تشكلت الدولة الثالثة على يد الملك عبد العزيز في بداية القرن العشرين، لكنها لم تولد كالدولة الأولى من خلال تحالف مسبق مع حركة الوهابية، بالاعتماد على تحالفات سياسية خارجية، وعبر آلياتها الحربية الخاصة التي مكنتها من إعادة الاستيلاء على الرياض سنة 1902، قبل أن تعود إلى التحالف من جديد مع هذه الحركة، التي كانت تعيد تأسيس نفسها في نجد تحت مسمى “الإخوان”، وتتحول بسرعة إلى قوة حربية منظمة وذات وزن سياسي بمقاييس المنطقة الداخلية. وقد أسهمت بالفعل في توسيع نطاق الدولة بعد ضمها إلى جيش الملك، الذي نجح في السيطرة على الإحساء وحائل والحجاز. لكن في الوقت نفسه، كانت عودة السعوديين إلى السلطة في الرياض من العوامل التي ساعدت عملية الإحياء الوهابي.
في هذا التحالف الجديد بدت الدولة أكثر حضوراً، أعنى أكثر وعياً بذاتها كقوة سياسية زمنية، وبموقعها المهيمن في معادلة السلطة والكهنوت. الملك عبد العزيز – الذي كان يؤسس للدولة في سياقات القرن العشرين المنفتحة نسبياً، والأكثر احتكاكاً بالمؤثرات الخارجية (البريطانية والتركية)- لم يكن حاكماً “علمانياً” بالمعنى الدارج الذي يستبعد الدين من المجال العام، لكنه في الوقت نفسه لم يكن يطرح دولة “دينية” بالمعنى التقليدي الموروث من التجربة السعودية الأولى في القرن الثامن عشر.
إقرأ أيضاً: في نقد الكهنوت: الجزء الأول…مناقشة حول المؤسسة الدينية
يبدو هذا واضحاً من طريقة إدارته للصدام الذي احتدم بينه وبين حركة الإخوان، حيث ظهر التناقض بشكل صريح بين الأهداف السياسية البرجماتية المباشرة للدولة، والأهداف النظرية الدوجمائية للحركة، التي كانت مدفوعة في الوقت ذاته بأغراض مصلحية اقتصادية واجتماعية مكتسبة.
كان الصدام حتمياً في الواقع، بسبب التناقض الضروري بين طبيعة الدولة (التي تحركها غريزة السلطة واعتبارات الواقع العملية)، وطبيعة الحركة الأصولية (التي تتحرك بدوافع أيديولوجية تستلهم نماذج تاريخية مكتوبة) : بالنسبة إلى الملك كانت الحروب التي يشنها داخل الجزيرة فعلاً “سياسياً” يهدف إلى توسيع رقعة الدولة، وبالنسبة إلى الإخوان اتخذت هذه الحروب صفة “الجهاد” الديني. وبحسب الملك يمكن الاستعانة في تحقيق أهدافه السياسية “بغير المسلمين”، وهو مصطلح لا يشير في الطرح الوهابي إلى القوى الأجنبية (البريطانية) فحسب، بل أيضاً إلى مجمل القبائل العربية بسبب ممارساتها الدينية المنافية لأصول التوحيد الصحيح كما طرحها محمد بن عبد الوهاب.
-3-
اتخذ الصدام شكل الانشقاق الصريح عقب احتلال جدة سنة 1924. وبقيادة فيصل الدويش وسلطان بن بجاد، أطلق الإخوان في مواجهة الملك عبد العزيز جملة من الاعتراضات الفقهية على أدائه السياسي والحربي ومجمل توجهاته “المدنية” التي بدت منافية لتفسيرهم الأصولي، ومصالحهم الاقتصادية، في مواصلة الغزو وتحصيل الغنائم تحت مسمى الجهاد.
مبدئياً، رفض الإخوان سياسة التحالف مع الإنجليز بحجة تعارضها مع التفسير الوهابي لشروط التوحيد، التي تعتبر “موالاة الكفار” واحداً من أكبر نواقض الإيمان. واعترضوا بشدة على منعهم من مواصلة الغزو ضد مناطق “الكفار” في العراق والأردن والكويت، وعلى منعهم من التعامل مع أراضي مكة والحجاز كغنائم حرب. واستنكروا ما اعتبروه “تساهلاً” من قبل الملك حيال الشيعة في المنطقة الشرقية، بعد أن طلبوا إليه إعادة دعوتهم إلى الإسلام أو طردهم خارج البلاد.
وفي هذا السياق الاستنكاري، اعترض الإخوان على حجب الدويش وابن بجاد عن تولي إمارة المدينة ومكة، واستهجنوا سلوك الملك الشخصي الذي “أوفد ابنه فيصل إلى مصر وانجلترا بلاد الكفار”. وكانوا قد اعترضوا من قبل على استعمال “البدع الحديثة” كالتلغراف واللاسلكي؛ ففي رسالة إلى الملك بتاريخ 7 شوال 1339 هـ/ 1920 م، قدموا حيثيات “شرعية” لتحريمها على النحو الآتي: ” وأما وضع البرقيات في الرياض وغيرها من قرى نجد، وما يترتب على ذلك، فلا نراه جائزاً، ولا نفتي به، ونبرأ إلى الله من الإفتاء بشيء تترتب عليه المفاسد … وإن من لازم وضعه الكفر ممن يتولاه والسعي إلى نقض هذه الدعوة الإسلامية وإعادة الباطل في نجد كما كان وأعظم… وقد قال صلي الله عليه وسلم: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب.”.
(التويجري، لسراة الليل، بيروت 1998، ط 3، ص 273).
في نوفمبر 1928 عقد الملك مؤتمراً في الرياض للرد على اتهامات الإخوان، واستعان بعدد من الفقهاء الوهابيين الأقل تشدداً لتحذير الدويش واتباعه من نتائج الخروج عن طاعة الإمام. لكن المؤتمر فشل في إقناع الدويش، الذي أعلن التعبئة العامة في صفوف أتباعه لشن حملة عسكرية ضد الملك. وفي سنة 1929 اندلع القتال بين الطرفين وانتهى بقتل الدويش وإلقاء القبض على ابن بجاد وحبسه.
-4-
تشكيل جديد للطبقة الفقهية
تم القضاء على جماعة الإخوان بوصفهم خوارج وغلاة عن طريق استخدام القوة وفتاوى الفقهاء الأقل تشدداً. وبدأت عملية احتواء واسعة من قبل الدولة لإعادة تأهيل المقاتلين والفقهاء الوهابيين، بآليات تحفيز اقتصادية واجتماعية، ونوع من الشحن الثقافي، بهدف ربطهم بالأهداف السياسية للملك.
ومن خلال هذه العملية ارتسمت الملامح “النهائية” لمعادلة السلطة كما سيجري تقنينها بامتداد الدولة السعودية الثالثة؛ حيث يظهر الموقع الثانوي لطبقة الفقهاء الوهابية، التي ستحتفظ تحت هيمنة الدولة – بنفوذ إفتائي واسع نسبياً في الفقه الفرعي وصلاحيات استشارية ذات طابع كلي.
لم يكن هذا الموقف يعني التحول بالدولة إلى “علمانية” جزئية ذات إطار دستوري شكلي على غرار النموذج المصري، بل يعني التخفف من فكرة “تقاسم السلطة” المنحدرة من تراث الدولة السعودية الأولى، إلى فكرة التحالف من موقع “التبعية للسلطة” ووهو الموقع التقليدي المعتاد للطبقة الفقهية عبر التراث السياسي السني بوجه عام.
كان ثمة تحجيم صريح لنفوذ الطبقة الفقهية، لكن الدولة بقيت تحافظ على ارتباطها الوهابي، وظل النموذج السعودي يكشف عن خصائص تقليدية ذات طابع سلفي:
- من جهة الدولة: التي ظلت -رغم توجهاتها الحداثية المتفاقمة- تقدم نفسها داخلياً في إطار ديني، من خلال صيغة “ولي الأمر” الواجب الطاعة بوصفه “الإمام الحاكم”. وهي صيغة شرعية مؤصلة في الفقه السني (والحنبلي بوجه خاص)، وفاعلة في تبرير سلطة الدولة ضد “المزايدات” الفقهية أو الدعاوى الأصولية المتطرفة. وهو بدوره تبرير توظيفي مفهوم في ظل الثقافة الدينية السياسية التي نشأت فيها الدولة، وظلت تواكب تطورها، خصوصاً بعد تجدد الظاهرة الأصولية في المحيط الإسلامي المجاور، وارتداداتها الجديدة في الداخل السعودي.
- من جهة الطبقة الفقهية: التي أخذت تتبلور كجماعة مدرسية حاملة للسلفية النقلية، بعيداً عن الانخراط السياسي المباشر ورغم اندماجها في الأطر التنظيمية الجديدة، ظلت تحافظ على توجهاتها التيولوجية المتشددة بطابعها “الحصري”، المستمد من تراثها النظري البعيد (الحنبلي/ التيموري)، وتراثها العملي القريب (الوهابي/ الحركي). وظلت تمثل بيئة ثقافية مهيأة لتوليد الأفكار السلفية القابلة للتحول الأصولي بشقية الأكثر تطرفاً: التكفير والعنف.
الطبقة الفقهية، التي تم احتواؤها رسميا ً داخل الأهداف العامة للدولة، أعادت تكييف نفسها في الأطر البيروقراطية الحديثة، واستطاعت تكريس صلاحيتها الطقوسية والإفتائية والتعليمية، عبر شبكة واسعة من المساجد، والجامعات، ومراكز البحث، ومنصات الدعم الإعلامي. وهو ما أضفى عليها بعداً “مؤسسياً” وروج لنفوذها الكهنوتي، الذي صار يتمدد – مع تفاقم الحالة الأصولية – عبر مناطق العالم الإسلامي.
هذا التطور المؤسسي أدى إلى خلق حالة من الزخم السلفي وبوجه عام، يمكن الحديث عن تضخم نسبي للوهابية على المستوى الفقهي النظري، خصوصاً في الأوساط الأصولية التي تزايدت مساحتها في العالم الإسلامي منذ أواخر القرن الماضي. وفي بعض الأحيان تقاطعت أهداف الدولة مع هذا الزخم الخارجي للمؤسسة الفقهية، وتم توظيفه سياسياً في مواجهة التيارات اليسارية ضمن سياقات الحرب الباردة.
لكنه على المستوى الداخلي لم يؤد إلى تغيير معادلة السلطة أو في عبارة أخرى، لم يسفر عن توسيع نفوذ الطبقة الفقهية.
بل على العكس، سيتعرض هذا النفوذ لموجة جديدة من التقليص في غضون المرحلة التالية، حيث ستشرع الدولة في تطبيق سياسات تحديثية مدنية غير مسبوقة على مستوى التطوير الثقافي الاجتماعي.
كيف نقرأ هذه الموجة التحديثية وموقف الطبقة الفقهية منها؟ إلى أين تريد الدولة أن تصل بالمجتمع من خلالها؟ هل تسعى الدولة إلى افتكاك كلي من الأيديولوجيا الوهابية؟ وإلى أي مدى تستطيع تحقيق ذلك في المدى المنظور؟
-5-
مشكل الافتكاك الأيديولوجي
من وجهة نظر خارجية، لا يزال النموذج السعودي يقرأ في إطار الصورة النمطية الشائعة عن دولة دينية تقليدية، يحظى فيها الكهنوت الفقهي بموقع مؤسسي ملزم داخل بنية السلطة. لكن هذه الصورةلا تعكس -تماما- حقائق الواقع الراهنة في المجتمع السعودي، الذي يشهد حالة واسعة من الحراك “المدني” تقودها الدولة.
كقاعدة عامة، تستجيب “الدولة” لمثيرات التطور الاجتماعي بوتيرة أسرع من حركة “المجتمع”، الذي يبدي بدوره استجابة أسرع لهذه المثيرات من حركة “الكهنوت” أو متن المدونة الدينية. بطبيعة التكوين تملك الدولة دائماً إمكانية القيام بدور ريادي لقيادة وتوجيه المجتمع باتجاه حاجاته الجديدة ومواجهة رد الفعل المضاد من قبل القوى المحافظة، التي ستدافع غريزياً عن بضاعتها النظرية التراثية، ومصالحها الاقتصادية والاجتماعية المكتسبة.
في هذا السياق، يمكن قراءة التوجهات التحديثية الراهنة للدولة السعودية، التي تأتي ببساطة كرد فعل طبيعي لمستوى التطور الداخلي، حيث أخذت تظهر نتائج التحول الاقتصادي النفطي، وتداعياته الثقافية والاجتماعية، التي تتفاعل داخل المجتمع منذ أوائل القرن الماضي، والتي تشير الآن إلى درجة من “التوتر” الاجتماعي المكبوت، وتكشف عن مساحة أوسع من التناقض بين أهداف الدولة وأهداف الطبقة الفقهية.
-6-
منذ إعادة تأسيسها مطلع القرن الماضي، ظلت الدولة السعودية تحافظ على ارتباطها المعلن بالتراث النظري الوهابي. لكن توجهاتها الحداثية المعتدلة صارت تتصاعد تدريجياً بالتوازي مع حركة التطور التي نجمت عن التحول النفطي والانتفاح الثقافي المتزايد على العالم. كشف التطور عن فقر المخزون الفقهي التقليدي وقصوره عن مواكبة الحاجات السياسية والاجتماعية والعقلية الجديدة، وأفصح عن مساحة أوسع من التناقض بين مادة المدونة الوهابية ومشاغل الدولة والمجمتع. وفي هذا السياق تزايد وعي الدولة بحجم “العبء” الذي يفرضه الارتباط الوهابي على أهدافها التجديدية والصورة الذهنية المعدلة التي تريد من خلالها تقديم نفسها إلى العالم.
مع ذلك تظل إرادة التغير لدى الدولة محكومة بمستوى التطور العام، الذي يبقى جزئياً، وبحجم النفوذ الافتراضي المتبقي الذي لا يزال يملكه الفقه الوهابي داخل المجتمع بوصفه ممثلاً للدين.
طالما لم يبلغ التطور حد التغير الجدذري في الهياكل الكلية التحتية (الاقتصادية/ العقلية)، لا يتخلى النظام الديني طواعية عن صلاحياته السلطوية داخل المجتمع. ومن ثم تظل عمليات التحديث الجزئي التي تجريها الدولة بحاجة إلى “إقرار” شرعي من قبل المدونة الفقهية. لكن نتائج التحديث الجزئي وقد صارت جزءاً من الواقع، تفرض وجودها إلى جوار المدونة الفقهية وضد إرادتها، ما يخلق حالة من التوتر والضغط الذي يفرض على المدونة إجراء عمليات تأويل داخلية بغرض إعادة التكيف بينها وبين الواقع.
في السياق العربي الإسلامي الراهن يصعب على الدولة الاستغناء عن الدور التأويلي المطلوب للطبقة الفقهية ويصعب على هذه الطبقة القيام بهذا الدور على النحو، أو إلى الحد الذي تتطلبه حركة التطور، الأمر الذي يرجع – ببساطة- إلى التناقض الضروري بين الطبيعة الثابتة للمدونة الدينية والطبيعة التعددية المتطورة للنظام الاجتماعي خصوصاً في المراحل المتأخرة حيث تتسارع وتيرة التطور على نحو غير مسبوق في المدى الزمني القصير. ومن هنا يظهر الطابع الإشكالي للإزدواجية الضمنية في معادلة السلطة والدور التعطيلي الذي يلعبه الكهنوت حيال حركة التطور. هذه الصعوبات تبلغ ذروتها في النموذج السعودي الراهن، بسبب الخصائص السلفية الجامدة للطبقة الوهابية ولأن الدولة رغم توجهاتها التحديثية لا تزال تعلن عن ارتباطها النظري بهذه الطبقة.
-7-
في اللحظة السعودية الراهنة تبدو السلطة في موقف دولة “أيدولوجية” تحاول الافتكاك من “النظرية”. موقف يستدعي إلى الأذهان مرحلة “البرسترويكا” الروسية في تسعينيات القرن الماضي، حيث بدأت عملية التحول الليبرالي بالتأسيس على تأويلات واسعة للأصول “الصحيحة” للماركسية.
يلعب التراث الوهابي هنا دور الأيدولوجيا (الماركسية)، والطبقة الفقهية دور الحزب (الشيوعي) الحارس لها، أما الدولة فلا تنكر المرجعية النظرية لهذا التراث وتقدم لممارساتها التحديثية تبريرات مستمدة منه تحت عنوان التوافق مع التفسير الصحيح للنظرية أو على الأقل عدم التعارض معها. وهو سلوك مشابه لسلوك السلطة في روسيا (مرحلة جوربا تشوف) عندما شرعت في التخفف التدريجي من الشيوعية تأسيساً على قراءات ليبرالية لمقولات ومفاهيم ماركسية وحتى لينينية.
بالطبع، سيتعين علينا ملاحظة الفوارق النظرية والتاريخية بين الحالتين:
- من ناحية الطبيعة الأكثر دوجمائية للإيمان الديني قياساً بالاعتقاد الأيدولوجي. فرغم أن الأيدولوجيا عموماً تنطوي على موقف رؤيوي (كلاني وحماسي) شبيه بالموقف الديني، يظل هذا الموقف الأخير أكثر جموداً وسعياً إلى نفي الآخر بسبب فكرة المقدس.
- من ناحية التفاوت في مستوى التطور الاقتصادي والثقافي، وفي بنية السلطة وآليات اشتغالها.
-8-
بوجه عام، لا تزال الدولة السعودية تدرك أنها بحاجة إلى إقرار فقهي لشرعية خطواتها التحديثية ولا تزال تطلب هذا الإقرار من المؤسسة الفقهية. ومع ذلك فهي تبدو -مؤخراً- وكأنها تخفف تدريجياً من “لازمة” الإشارة إلى تبرير وهابي، وتذهب مباشرة إلى باتجاه الحصول على الإقرار الفقهي المطلوب من مادة النصوص التأسيسية (القرآن/ الحديث) بغرض الاحتماء بالمبادئ الكلية للإسلام. وهو توجه ينطوي على تجاوز صريح للسلطة التفسيرية التي تحتكرها الطبقة الفقهية. يظهر هذا التوجه بحذر وفي نطاق ضيق، لكنه يعطي مؤشراً مبدئياً من قبل الدولة على إرادة الافتكاك الأيدولوجي.
-9-
المؤشر الأكثر صراحة على هذا التوجه يتمثل في الخطوة الحاسمة التي اتخذتها الدولة بتقليص صلاحيات “هيئة الأمر بالمعروف”. كانت هذه الهيئة قد أنشئت سنة 1940، في سياق عملية التقسيم التقليدي للسلطة بين الدولة والكهنوت، بغرض استبقاء الطبقة الفقهية بعيداً عن المجال السياسي المباشر وتوجيه نفوذها إلى المجتمع الداخلي.
عملياً، مارست الهيئة صلاحيات رقابية وتنفيذية أوسع من صلاحيات الكنيسة الكاثولويكية في العصور الوسطى، حيث كان للهيئة حق التدخل في الحياة اليومية للأفراد وإلزامهم بتطبيق التعاليم الإسلامية وفقاً للتفسير الفقهي المذهبي الموروث. يدخل في ذلك دفع الناس إلى المساجد، وإغلاق الأسواق في أوقات الصلاة، والرقابة على ملابس النساء ومنع اختلاطهم بالرجال.
وبحكم اللوائح امتلك أعضاء الهيئة صلاحيات الضبط، والتثبت، والتحقيق، والتحفظ، وقاموا عملياً بالمطاردة ودخول المنازل. وهي ممارسات تنطوي على انتهاك فادح لحقوق الأفراد وحرياتهم الطبيعية، ولا تستند إلى تأصيل شرعي صريح من قبل النصوص التأسيسية في الإسلام.
التحولات الثقافية الجارية منذ أواخر القرن الماضي صارت كافية لتحريك وعي اجتماعي مضاد لممارسات الهيئة، وخلق حالة من التذمر الداخلي، حيث ارتفعت وتيرة الجدل حول عدد من الحوادث “الكارثية” التي نجمت عن هذه الممارسات، ولفتت انتباه المنظمات العالمية المعنية بحقوق الإنسان:
(مثل حريق مدرسة البنات الذي أدى إلى وفاة عدد كبير من الطالبات بسبب منع أفراد الهيئة لرجال المطافئ من دخول المدرسة، بحجة عدم جواز الدخول على فتيات سافرات الوجوه. ومثل عدد من حالات المطاردة بالسيارات التي انتهت بحوادث مرورية أودت بحياة المطاردين، أو انتهت بانتهاك حرمة منازلهم بحجة التفتيش عن الخمور أو المخدرات، وكذلك حوادث تتعلق بمطاردة إمرأة وضربها وجرها من ملابسها داخل مول تجاري بحجة عدم امتثالها للتعاليم الفقهية الخاصة بالاختلاط أو الملبس).
في سنة 2016 أقدمت الدولة على إصدار تنظيم جديد لهيئة الأمر بالمعروف يقلص من صلاحياتها “التنفيذية” إلى حد الإلغاء تقريباً، حيث يمنع أعضاء الهيئة من ممارسة إجراءات الضبط الجنائي والإداري، بما في ذلك طلب التثبت من الهوية والإيقاف والقبض والتحفظ. وبمقتضى هذا التنظيم صارت مهمة الهيئة الاكتفاء بالدعوة بالمعروف والنهي عن المنكر بالرفق واللين، أو تقديم مذكرات إبلاغ إلى الشرطة الرسمية أو الإدارة العامة لمكافحة المخدرات.
بالطبع، يمثل هذا التعديل خطوة واسعة باتجاه التحول المدني. لكن استمرار وجود هذه الهيئة -رغم التقليص- لا يزال يمثل مظهراً فجاً لسلطة “كهنوتية” ذات طابع بدائي. فهي لا تزال تتوفر على صلاحيات “رقابية” تسمح بالمتابعة والإبلاغ، ما يشير إلى “حشرية” فقهية دخيلة على سلطة القانون، ومنافية لنزوعات الحرية الفردية التي صارت أكثر رسوخاً في الوعي الإنساني المعاصر.
-10-
تدرك الطبقة الفقهية الآن حجم حضورها المتراجع داخل المجتمع وفي معادلة السلطة. لكنها بمنطق الدفاع عن مصالحها المكتسبة لا تزال تشتغل على حاجة الدولة إلى خدماتها الاحترافية. ورغم استعدادها الموروث لتقديم مواقف مرنة تحت الضغط، تظل محكومة بالسقف المنخفض لبنيتها النظرية (المذهبية الأصولية). ومن هنا تأتي صعوبة التعويل على قابلياتها للتطوير الذاتي ومن ثم صعوبة الرهان عليها لإنجاز عملية تجديد ديني حقيقية أي كافية لمواكبة حركة التطور (هذه الحركة لم تعد تستدعي حلولاً جديدة للمشاغل القديمة فحسب، بل تفرز حاجات ومشاغل جديدة على المستويين الفردي والجماعي).
المشكل هنا لا يتعلق بمخزون المدونة الوهابية التي لا تملك مقابلات موضوعية لهذه الحاجات فحسب، بل يتعلق أصلاً بموقف الوعي الوهابي من مبدأ الاستجابة للمثير الاجتماعي (راجع المفهوم الوهابي لمصطلح “التجديد الديني” كما يطرحه الشيخ ابن باز وهو يشرح حديث “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها”، حيث لا يعني التجديد إعادة تأويل المدونة بغرض التوافق مع الواقع الاجتماعي، بل إدخال تغيير على الواقع الاجتماعي (المنحرف) كي يعود إلى التوافق مع مادة المدونة.
فتاوى اللجنة الدائمة 247/ 2- 248 ).
-11-
في ضوء هذا التحليل لا يبدو الافتكاك الأيدولوجي وشيكاً، لكنه مرجح الوقوعلى كل حال في المدى المنظور يتحدد التوقيت بعوامل متداخلة وقابلة للتغير، لكنه يتوقف أولاً على تصاعد مستوى التطور في الهياكل الكلية (الاقتصادية والعقلية)، ثم على درجة حماس الدولة أعنى على قوة إيمانها بمشروعية مشروعها الحداثي وإمكانية إنجازه: قدرتها على تجاوز حالة التبرير الاعتذاري لإرادة التغيير، وتجاوز الأفكار النمطية المسبقة التي تروج لها القوى المحافظة، كمسلمات نهائية عن خصائص بنيوية سلفية ثابتة للمجتمع السعودي وكأنها من قوانين الطبيعة، مثل التأكيد على فكرة التكوين القبلي وفكرة الحضور الملزم للوهابية في معادلة السلطة.