تكوين 

هل أقتل أبي؟ سؤال يبدو وكأنه أحد أسئلة المحرمات الكبرى، نظرًا للموقع الرمزي الذي يحتله الأب في العقل البشري منذ أن عرف الإنسان الحضارة في بذورها الأولى، وتحديدًا مع تكون المجتمعات الأبوية. فكيف لهذا السؤال أن يُطرح بعد أن تمركز الرجل، بصفة الأب، لقرون على رأس الهرم السلطوي، بدءًا من العائلة وصولًا إلى رأس الهرم السياسي؟ وهل قَتْلُ الأب تعبير عن تنافسية بين الذكور على السلطة أم عن أمور أخرى؟ ألف سؤال وسؤال يُمكن أن يُطرح بخصوص ما قاله عالم النفس سيغموند فرويد عن قتل الأب.

لذا تُمثل فكرة “قتل الأب” في الفكر الفرويدي مُعضلة للعديد من الباحثين، نظرًا لما يُمثله “الأب البيولوجي” من رمزية في طبيعة العلاقات الاجتماعية، بغض النظر عن بعض الاختلافات في طبيعة علاقات القربى من مجتمع إلى آخر.

فالأب “البيولوجي” في المجتمعات الأبوية (patriarchal society) وهي الأكثر شيوعًا في بنية مجتمعات اليوم، يحتل رأس الهرم “العائلي”، رغم كل ما حققته المرأة من إنجازات تحررية داخل المجتمع الأبوي.

هل يمكن أن أقتل “أبي” في مثل هذه البنية المجتمعية؟ سؤال يفوق الخوف من طرحه خوف محاولة الإجابة عنه. فترتعش الأقلام إن أرادت مقاربة الإجابة، ويهجم “المثقفون” ومعهم العامة، ملوحين بشتى أنواع الأسلحة التي يمكن أن يمتلكوها، من أسلحة الموروثات الثقافية وصولًا إلى الأسلحة المادية، كالسلاح الأبيض والأسلحة الخفيفة إن طُرحت الفكرة، مصنفين إياها بوصفها واحدةً من أبشع الجرائم التي يمكن أن يرتكبها “الجنس البشري” في المجتمع “الأبوي” بعامة، وبخاصة في المجتمعات ذات العلاقات العائلية المبنية على “النسل الأبوي”، لما تُمثله رمزية صورة الأب “البيولوجي” من سمو يجعلها تتربع على رأس هرم العلاقات العائلية.

من هنا يُصبح سيغموند فرويد (Sigmund Freud) وفكرته المتعلقة بقتل الأب ذاك “الملعون” في الفكر القدسي، التي تُعد فيها اللعنة أشد ما يمكن أن يناله الإنسان المؤمن، لأنها تعني الطرد من رحمة خالقه. وهل هناك من عقاب أشد على المؤمن الذي يقضي طوال حياته الدنيوية في عبادة خالقه، ساعيًا في أن يَرضى عنه ويدخله فسيح جناته ليتنعم ببهجة الحياة الأبدية فتأتيه اللعنة، بمعنى الطرد من رحمة خالقه؟ وإن حدث هذا -أي وقوع اللعنة- حينها يكون هذا المؤمن قد فقد ثمرة حياته الدنيوية المخلصة التي كان يعمل من أجلها في حياته السرمدية، وبهذا لم يعد له من خلاص سوى الدخول إلى جحيم تفوق أفلام الرعب خيالًا، جحيم يعجز عن تصويره حتى أعظم مخرجي أفلام الرعب.

إقرأ أيضًا: استحالةُ قتلِ الأب (الجزء الأول)

القتل فعل مُحرم في الفكر القُدسي، لكن تحريمه مشروط. فإذا انطبقت الشروط، حُرّم القتل، وإذا لم تنطبق، أُحلّ القتل. وقتل الأب محرّم، لذا من يقوم بمثل هذا الفعل تحل عليه اللعنة. ومجتمعيًا، لما تحمله هذه الفكرة -بالإضافة إلى أفكار أخرى طُرحت، ولكننا هنا نأخذ فقط هذه الفكرة- من تدمير ليس للعلاقات الاجتماعية، بل للمنظومة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

نعم، تدمير لكل هذه المنظومات المتشابكة والمتداخلة، وبنظرة سريعة غير متسرعة، لماذا تُمثل فكرة “قتل الأب البيولوجي” تدميرًا لكل هذه المنظومات؟ يُمكن القول -وهو قول يتفق عليه جميع الباحثين في العلوم الإنسانية، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل- إن العائلة تُمثل “الخلية الأولى” لبناء المجتمع، وبفرض أنه لا وجود لنظام اقتصادي خارج المجتمع، ولا لنظام سياسي خارج المجتمع، فإن هذه النظم الثلاثة (المجتمع، الاقتصاد، السياسة) ترتبط مع بعضها، مؤثرة ومتأثرة في بعضها، لتكون المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية “المتناغمة” إلى هذا الحد أو ذاك، ما يعني أنه إذا كانت “الخلية الأولى” مُصابة بعلة ما، فإن هذه المنظومات الثلاثة (المجتمع، الاقتصاد، السياسة) سوف تصاب بعلة “الخلية الأولى” بهذا القدر أو ذاك، ما يُعيق ديناميكية التكون برمتها.

من هنا، مَثَّلت مُعضلة “قتل الأب” في الفكر الفرويدي أزمات وإشكاليات، نادرًا ما قوربت بعامة، وبخاصة في مجتمعاتنا العربية. وما تزال هذه المعضلة قائمة حتى يومنا هذا.

لكن لنتمهل قليلًا قبل إصدار الحكم على فكرة فرويد، فنحن هنا نتحدث عن واحد من أبرز علماء النفس في العصر الحديث. هل يمكن أن يكون فرويد قد ارتكب هذا “الخطأ”؟ أم كان يقصد أمرًا آخر في إشكالية “قتل الأب”؟ من هو “الأب” في الفكر الفرويدي ليُقتل؟ وما الجريمة التي ارتكبها “الأب” ليستحق القتل؟…

سؤال يستدعي سؤالًا آخر، وكلها تنبع وتتشعب من الفكرة ذاتها، “قتل الأب”. فتتعدد الأسئلة والتساؤلات بخصوص الفكرة إلى درجة يصعب فيها -ويمكن القول إنه يستحيل- الإجابة عن كل هذه الأسئلة والتساؤلات في مقال واحد، أو حتى في بحث أكاديمي واحد، لذا سوف نحاول مقاربة بعض منها من طريق ما كتبه فرويد نفسه، لا من طريق ما كُتب عنه، وتحديدًا من طريق كتابه (Civilization and Its Discontents)[1]، آملين من بقية الزملاء استكمال طرح المسألة من طريق نقد بناء، لما في النقد البناء من إغناء للفكر وتطوير للوعي.

نُبذة بشأن العنوان

قبل البدء لا بُد من توضيح أن محاولة الإجابة -مع التشديد على كلمة “محاولة”- ستكون معتمدة على كتابه المذكور فقط، ولن أعمل هنا لترجمة عنوان الكتاب، بل سأعتمد على مفهوم العنوان، لماذا؟

قبل الذهاب في رحلة محددة ومحدودة داخل الكتاب لمحاولة إيجاد بعض الإجابات والتوضيحات بخصوص فكرة “قتل الأب”، نوضح بعض المشاكل التي واجهت ترجمة الكتاب من الألمانية إلى الإنجليزية، وفقًا لما ورد في الكتاب نفسه، وتحديدًا ما يتعلق بالعنوان. فالكتاب كتبه فرويد باللغة الألمانية، ومن ثم عُمل لترجمته إلى الإنجليزية. وطَرح مسألة الترجمة هنا لا علاقة له بمستوى الترجمة أو مدى صحتها، بل يهدف إلى إعطاء لمحة عن مدى صعوبة نقل المفهوم أو دلالة الكلمة من لغة إلى أخرى، وما يمكن أن تؤدي إليه عملية النقل هذه -في بعض الأحيان- من ضياع أو تشويه للمفهوم أو دلالة الكلمة، على الرغم من الأصل المشترك للغتين الألمانية والإنجليزية. فكيف بعملية نقله إلى اللغة العربية؟

عندما كتب فرويد الكتاب، اختار له العنوان التالي: (Das unglück in der Kultur)، وتُرجم إلى اللغة الإنجليزية على النحو التالي: (Unhappiness in Civilization). ويمكن ترجمته إلى العربية على النحو التالي: “لا سعادة في الحضارة” أو “غياب السعادة في الحضارة” أو “التعاسة في الحضارة”… أو ما شابه. وهذه مسألة ندعها للمترجمين لاختيار ما هو أفضل.

لاستكمال إظهار مدى صعوبة نقل الفكرة من لغة إلى أخرى، بعد فترة وجيزة من الزمن، استبدل فرويد كلمة (Unglück) في العنوان بكلمة (Unbehagen). فوقعت مترجمة الكتاب إلى الإنجليزية في مشكلة نقل هذه الكلمة إلى اللغة الإنجليزية، نظرًا لصعوبة إيجاد ما يوازيها في اللغة الإنجليزية. وهي كلمة يوازيها في اللغة الفرنسية (malaise) (ص. 4). ولكن حتى كلمة (malaise) لا تعطي المعنى الدقيق والمطلوب للكلمة الألمانية. والدليل على ذلك أن المترجمة من طريق مراسلاتها مع فرويد للتشاور بخصوص مسألة ترجمة العنوان وطبعًا الكتاب برمته، قالت في إحدى رسائلها لفرويد: “… يمكن أن…” ولم تقل “توازي” أو أي تعبير آخر يُفيد بيقينية الاستخدام للمرادف الصحيح، فاستخدمت عبارة “يمكن أن” لنقل كلمة (Unbehagen) من الألمانية لتكون (malaise) بالفرنسية، ومن بعد هذا يمكن ترجمتها إلى الإنجليزية.

إقرأ أيضًا: في استحالة قتل الرب: الجزء الأول

وكما يبدو، بعد نقاش طويل من طريق المراسلات ما بين الطرفين –فرويد والمترجمة– بخصوص المصطلحات المستخدمة في العنوان والكتاب، ولن ندخل هنا في مسألة مضمون الكتاب ومصطلحاته وترجمتها، وسوف نبقى في العنوان، وجَّه فرويد رسالة إلى المترجمة مُقترحًا العنوان التالي: (Man”s Discomfort in Civilization). ويمكن أن يُترجم إلى العربية بـ “لا راحة للإنسان في الحضارة” أو “عدم ارتياح الإنسان في الحضارة” أو… ما يدل على هذا المعنى. وكما يبدو أيضًا بعد نقاشات مطولة مع المترجمة، توصلت المترجمة لصياغة العنوان لتتوافق مع فكرة فرويد، فكان العنوان النهائي المتوافق عليه من الطرفين: (Civilization and its Discontents).

تترجم كلمة (civilization) بكلمة “حضارة”، وبعضهم يترجمها بـ “مدينية” على أمل أن يُحل “النزاع” بين وجهتي النظر في الترجمة، لنصل في اللغة العربية إلى كلمة واحدة لمعنى (civilization) لا كلمتين.

تبقى المعضلة في كلمة (discontent)، أما بخصوص لـ(its)، فأمرها سهل ولا خلاف عليها. فهي ضمير ملكية يعود إلى “حضارة”، وكلمة (and) حرف عطف بمعنى “و”. فماذا تعني كلمة (discontent)؟

تحمل كلمة (discontent) ثلاثة تصاريف في اللغة الإنجليزية: قد تكون اسمًا أو فعلًا أو صفة، ويتحدد التصريف وفقًا لموقعها في الجملة. يُستبعد أن تكون فعلًا أو صفة في موقعها هنا، ما يحصر استخدامها في الاسم.

وفقًا لقاموس المورد (قاموس إنجليزي – عربي، ط. 1991)، تعني كلمة (discontent): ساخط، مستاء، قلق البال، الساخط المستاء… سخط، استياء. وإذا كانت فعلًا تعني: يُسخطه أو يُثير استياءه. أما في…

The New Lexicon Webester”s Encyclopedic Dictionary, 1997,

فتعني: (dissatisfaction) عدم الإشباع، أو لا إشباع، كون (dis) بادئة (prefix) نافية للكلمة المُلصقة بها. والصفة منها تُكتب (discontented). ما يجعل احتمالية الترجمة العربية لعنوان الكتاب: “الحضارة ولا إشباعتها” أو “الحضارة وعدم إشباعاتها”… أو إلى ما هنالك من تراكيب عربية تدور في هذا الفَلك من دون فقدان دلالة المعنى. ويُفضل استخدام كلمة “إشباع” لتوافقها مع الفكرة التي يتناولها الكتاب. وباختصار يُمكن القول إن فرويد يُناقش أو بالأحرى يبحث، في العلاقة ما بين الحضارة وإشباع الغرائز البشرية. ومن هنا وفقًا لوجهة نظره، ينشب الصراع القائم ما بين الطرفين، طبعًا بالإضافة إلى أمور أخرى.

بعد هذه النُبذة المختصرة بشأن “إشكالية” نقل مفهوم عنوان الكتاب إلى اللغة الإنجليزية، نترك للقارئ الكريم، والمترجمين المُختصين بفرويد، نقله إلى العربية بطريقة صحيحة. ومن جهة أخرى، ما ورد كان توضيحًا لسبب عدم الخوض في ترجمة العنوان، وإبقاء المحاولة -مع التشديد مجددًا على كلمة “محاولة”- في فَلك نقل المفهوم.

في الفكرة

نعود الآن إلى “إشكالية” قتل الأب في الكتاب. قبل الذهاب في محاولة البحث عن بعض الإجابات بشأن هذه “الإشكالية”، يُرجى توخي الحذر لأن فرويد يُقارب مسألة “قتل الأب” في المجتمعات الأبوية، لا في مجتمعات أخرى تقوم فيها علاقات القُربى على أسس لا أبوية. ومجتمعاتنا العربية، في جذورها الفكرية والممارسة العملانية، هي مجتمعات أبوية. ومن هنا يُمكن القول إن ما يقوله فرويد بشأن هذه المسألة ينطبق، في جزء منه على مجتمعاتنا العربية.

يؤكد فرويد على أن ظهور الـ (ego) وكأنه شيء خارج عنا أمر مخادع. مشاعره (ego-feeling) لا يمكن أن تكون هي ذاتها في جميع مراحل حياة الإنسان (ص 12 – 13)، فلا بُد من حدوث تطورات للانتقال من مرحلة إلى أخرى. وإن لم تحدث عملية التطور ما بين المراحل العمرية، فهذا يعني وجود “خلل” ما في الإنسان. وقد تكون هذه أحد الأسباب الجوهرية لاعتقادنا أن الـ ego شيء خارج عنا، أي لا نرتبط به. فالطفل الرضيع لا يُميز ما بين الـ ego والعالم الخارجي، وما يُمكن لهذا العالم أن يُسببه من آلام وتعاسة. وعند بداءة الإدراك تنشأ النزعة لفصل الـ ego عن كل شيء يُمكن أن يُمثل مصدرًا للتعاسة، فتُرمى كل هذه الأمور وتُخلق متعة الـ ego الصافية المتواجهة مع “الخارج” الغريب والمهدد.

كما يوجد وفقًا لفرويد، ثلاثة مصادر لمعاناة الإنسان وهي: الجسد المُعرض للأمراض والأوجاع. وثانيًا، العالم الخارجي الذي يثور ضدنا بقواه التي لا ترحم. وثالثًا، علاقة الإنسان مع الإنسان الآخر (ص 26). ويعتقد فرويد أن المصدر الثالث للتهديد –أي علاقة الإنسان بالإنسان– هي الأكثر إيلامًا (ص 26)، لما تُسببه من عدم إشباع غريزة الإنسان، والغاية القصوى من الوجود هي تحقيق “السعادة”.

و”السعادة” لا يُمكن تحقيقها إلا بإشباع الغرائز، والحضارة وفقًا لفرويد في محصلتها مجموع الإنجازات التي تُميز حياتنا عن حياة أجدادنا الحيوانات، وتهدف إلى أمرين: أولًا، حماية الإنسان من الطبيعة. وثانيًا، تعديل علاقاتنا المتبادلة فيما بيننا (ص 42).

ومن هنا وتحديدًا في مسألة تعديل العلاقات ما بين البشر، تسببت “الحضارة” بعدم الإشباع للإنسان. فالحرية ليست هبة من “الحضارة”، والإنسان كان أكثر حرية قبل أن يتحضر. فالحضارة في تطورها تفرض قيودها على حرية الإنسان، وتستلزم الخضوع، خضوع الجميع لقيودها (ص 49). وما أن يشعر الإنسان بأسره ضمن قضبان هذه القيود المفروضة عليه، تحثه حريته “القديمة” -ما قبل التحضر- على كسر قضبان سجن الحضارة ليكسب مجددًا حريته. وهنا يُدخلنا فرويد في إشكالية العلاقة بين الحضارة والحرية.

الحرية كما هو ظاهر لدى فرويد، مسألة فطرية في الإنسان قبل أن يكون إنسانًا حضاريًا، ما أن عَرَف الحضارة حتى بدأت حرية الإنسان المنغرزة به فطريًا بالتقيد. ومع ارتفاع مستويات حضارة الإنسان، ارتفعت قيود حضارة الإنسان الفطرية، وكأن فرويد يقول لنا -بطريقة غير مباشرة- إن الحضارة تعمل باتجاه معاكس لفطرة الإنسان الأول. وإذا طرحنا السؤال التالي: ما علاقة الإنسان الحالي بالإنسان الأول -أي القديم- الذي يُقَدَّر عمره بنحو 3.5 مليون سنة، وطبعًا هنا نتحدث عن الإنسان العاقل (Homo sapiens)، يأخذنا فرويد إلى العامل الوراثي، وبالتحديد يأخذنا إلى أحد أبعاد نظرية داروين وما يتعلق بالوراثة والأفكار التي ما نزال نحملها من أدمغة الإنسان الأول. فنحن -إنسان اليوم- ما نزال نحمل كثيرًا من أفكار الإنسان الأول، أي من أجدادنا القدماء، ومن ضمن هذه الأفكار الحرية التي كنا نتمتع بها وفقدناها مع التقدم الحضاري الذي ننجزه. أي بعبارة أخرى، كنا أكثر حرية قبل أن نعرف الحضارة، لذا كنا أكثر سعادة في حينها. فأوجدنا الحضارة التي جلبت علينا الويلات، ومن هذه الويلات أفقدنا أنفسنا الحرية التي كنا نعيشها في بداءات ظهورنا على سطح الأرض، وفي الوقت عينه فقدنا سعادتنا بفقدان حريتنا.

ويبدو وهذا ما لم يقلهُ فرويد مباشرةً، وكأن قُضبان سجن “الحرية” بدأت بالتكون مع تكون مفهوم “العائلة“، صيغة العلاقة التي يتمركز فيها المُذكر في مركز السلطة، والمرأة مجبرة على البقاء تحت سيطرته من أجل أطفالها، لأنهم عديمي القدرة على البقاء من دون حمايتها. بِنيةٌ يَخضع فيها الجميع “للمذكر الأقوى”.

في هذه البنية “العائلة البدائية” -وفقًا لتعبير فرويد– ما يزال هناك نقص في ملمح أساسي للحضارة: إرادة الرجل الأقوى، الأب، ما تزال بلا قيود (ص 54 – 55). إرادة بلا قيود تعني “سلطة” بلا قيود تُفرض على الجميع، على كل أفراد “العائلة البدائية”، ويحظى الذكر الأقوى، الأب، بكل ما يشاء، وتحديدًا ما يتعلق بإشباع الغرائز. ومع تكون “الوعي” لدى بقية “ذكور” “العائلة البدائية”، بدأت محاولات مقاومة “الأب”، ونشب النزاع ما بينهما. جوهر النزاع -وفقًا لفرويد- قائم على مدى الهيمنة على “إشباع الغرائز” للتخلص من “الأب”. وبهذا تُمثل الغرائز جوهر محور قتل الأب، حتى في بعض المجتمعات الحيوانية.

نجح ذكور “العائلة البدائية” في الانتقال إلى مرحلة أخرى من مراحل تطور البشرية، وأطلق فرويد على المرحلة الجديدة تسمية “عُصبة الأخوة” (bands of brothers). للمزيد من التفاصيل بشأن هذه الفكرة، يُمكن العودة إلى كتابه (Totem & Taboo).

بتحقيق انتصار “عُصبة الأخوة” على الذكر الأقوى، اكتشف “ذكور العائلة” أن تجميع قوتهم باتجاه مسألة واحدة يجعل منهم قوة أقوى من قوة كل فرد منهم منفصلًا، من هنا نشأت “الثقافة الطوطمية” (Totemic culture) المُعتمدة على قيود وضعتها “الأخوة” فيما بينهم. قيود تطال كل فرد في “العصبة” للحفاظ على “العلاقات” المتكونة مع نشأتهم الجديدة. فتكونت في “الجماعات” خاصيتان أساسيتان: الأولى، الإكراه على العمل، أي الحاجة إلى إنتاج مُقومات البقاء، وتحديدًا المُقومات الخارجية مثل الطعام… والأخرى، قوة الحب، أي العلاقة التي تجعل “المذكر” لا يرغب بالانفصال عن “الأنثى” مُشبعة غرائزه، وفي الوقت عينه تجعل “قوة الحب” الأم غير راغبة في الابتعاد عن أطفالها.

ارتكازًا على هذا المعطى التطوري وفقًا لفرويد، كون العاملان السابقان -الحاجة والحب- ما يُعرف بـ “والدي الحضارة البشرية” (ص 55). وكانت أولى نتائج الحضارة إمكان أن تعيش مجموعة كبيرة من البشر مع بعضها مكونةً ما يُعرف بـ “جماعة” (community).

تبرز في هذه البنية المتكونة أوجهًا نزاعية أخرى، بافتراض أن الحضارة تعمل على أن تعيش مجموعات كبرى مع بعضها ضمن “وحدات كبيرة” مُقابل “العائلة” التي تُريد الحفاظ على “فرديتها”، أمر يدفع بـ “العائلة” إلى تقوية الروابط فيما بينها ومحاولة الانفصال عن الآخرين. وبهذا يصعب على “العائلة” الدخول في حلقات أكبر من حلقات الحياة (ص 59). ومن مستلزمات “الحضارة” فرض قيودها على الجميع، تفرض المحرمات والقوانين والتقاليد والعادات مزيدًا من القيود على كل من هو موجود ضمن هيمنتها. فتؤثر هذه “القيود” المتكونة مع تطور الحضارة على الجنسين، المذكر والمؤنث، وترفع مستويات حرمان “المذكر” ما قبل الحضارة، من إشباع غرائزه.

كون “الإنسان” لدى فرويد كما هو لدى داروين، يحمل في عقله “أفكارَ “أسلافه القدماء وغرائزهم، والهدف من كل هذه التكوينات الحضارية يُمكن حصرها في هدف واحد ألا وهو “المتعة”، وهي لا تتحقق ضمن هذه التكوينات الحضارية، فترتفع شدة النزاع ما بين “الإنسان” و”الحضارة”.

نتيجة “النزاع” بين التكوينات الحضارية مع مرور الوقت، و”المتعة” غير المتحققة ضمن الحضارة -التي كان من المفترض أن تحققها هذه التكوينات- تتولَّدُ “الأمراض النفسية”. وهنا يلجأ الأنا (Ego) إلى حالة “الدفاع”، فيتمكن بعض الأفراد من تحقيق “متعة” ما، إلا أنها متعة “مُتوهمة”، إذ إن المتعة الطبيعية لا يُمكن تحقيقها في هذا السياق. ومن بين هذه المتع المُتوهمة الهروب إلى الغوص في الفنون أو العلوم أو غيرها، في حين يفشل آخرون في تحقيق حتى هذه المتع المُتوهمة، فيصابون بـ “الأمراض النفسية”.

وهكذا تصبح مقولة “أحب لجارك ما تحب لنفسك” مقولة خاطئة وفقًا لفرويد، إذ إنها ليست سوى محاولة لـ “تدجين” الإنسان داخل إطار “الحضارة”. فالإنسان لدى فرويد هو “عدو الإنسان” (Man is a wolf to man)، ويمكنُ هنا ملاحظة مدى تأثُّر فرويد بفيلسوف مثل توماس هوبز (Thomas Hobbes) وكتابه “اللفياثان” (Leviathan)، بالإضافة إلى تأثره بتشارلز داروين ونظريته في التطور.

لذلك تلجأ الحضارة بكل “قواها” إلى كبح جماح “الذئب” البشري، كي لا يفترس الإنسان أخاه الإنسان. وهكذا تحتكر الحضارة استخدام “العنف”، وهو المفهوم الذي ارتكز عليه ماكس فيبر (Max Weber) في بناء فكرة “احتكار العنف“.

بسبب تخلي الإنسان عن “المتعة” و”العنف” من أجل العيش في “الحضارة”، نستطيع أن نفهم وفقًا لمنظور فرويد، لماذا يصعب على الإنسان أن يكون سعيدًا في ظل الحضارة. فقد استبدل جزءًا من “سعادته” بجزء من الأمان الذي توفره الحضارة (ص 75). وهكذا دفعت الحضارة “السعادة” التي يطمح إليها الإنسان إلى أدنى سُلم أولوياتها، ليعيش في ظل “الخطيئة”. و”الخطيئة” هنا، وإن اتخذت عديدًا من التشكُّلات والصيغ الحضارية، إلا أنها تبقى في جوهرها تعبيرًا عن “قتل الأب” في العائلة “البدائية“.

اعتمادًا على هذا يُقارب فرويد مسألة “قتل الأب”، وأول ما يرد ذكر “الأب” في الكتاب، يرد بوصفها مثالًا على “الحماية”، فالطفل في حاجة إلى “حماية” الأب، وهي أكثر ما يحتاج إليه، نظرًا لأن الطفل عاجز عن البقاء دون هذه الحماية (ص 20). من هنا تنشأ حاجة “الطفل” إلى الأب. فالأب “الحامي” يُمثل للطفل مصدرَ “الحياة”، أو بالأحرى يُمثل ضمان بقاء الطفل على قيد الحياة، نظرًا لانعدام قدرته على البقاء بمفرده. وهكذا تتكون علاقة تعلُّق الطفل بالأب، انطلاقًا من طبيعة هذه العلاقة -علاقة “الحماية” الضرورية للبقاء- يُقدس الأب ويُمجد (ص 22).

و”قتل الأب” كما يبدو لا يُقصد به “الأب البيولوجي” كما يفهمه البعض، بل يُقصد به قتل الذكر الأقوى في “العائلة البدائية”. هذا المفهوم يتجسد في “عقدة أوديب” من جهة، ومن جهة أخرى في “الخطيئة” التي يعيشها الإنسان المعاصر.

على الرغم من “الجنساوية” في تحليل فرويد، إلا أن ما طرحه في مفهوم “قتل الأب” لا يُمكن إنكاره كُليًا، ولا يُمكن قبوله كُليًا، فالمسألة تحتاج إلى تعمق أكبر، خاصة فيما يتعلق بإشكالية الأسس المادية التي تكون منها المجتمع البشري ونزاعاته. بالإضافة إلى ذلك، هناك فكرة أساسية وإضافية طرحها فرويد ونادرًا ما يُقترب منها، وهي الفكرة المتعلقة بما يسميه فرويد بـ “إيروس” (Eros) وغريزة الموت (Thanatos)، ودورهما في التكوينات الحضارية والنزاعات. وتُمثل مقاربة هذه الفكرة علميًا حاجةً موضوعيةً لاستكمال فهم “قتل الأب”.

لنعود مجددًا إلى بعض ما نواجهه اليوم من حالات عنف مُتزايد، خاصة في مجتمعاتنا العربية، بالإضافة إلى الاستبداد السلطوي الذي يتجسد في رمزية “الأب”، وألقاب مثل “الأب القائد” وكل الألقاب المُشابهة التي تُطلق على من هم في السلطة، بدءًا من العائلة ووصولًا إلى رأس الهرم السلطوي. فهل علينا في مجتمعاتنا أن نقتل “الأب” الفرويدي كي نتخلص من جزء مما نعانيه، ونلتحق بركب الحضارة، خاصة أننا ما نزال نعيش في العالم العربي في زمن الانحطاط الحضاري؟ وهل سوف يؤدي ذلك إلى الوصول إلى الحضارة المنشودة؟

وتظل الإشكالية التالية قائمة: هل يُؤدي قتل “الأب” بالفعل إلى دخول الجنس البشري الحضارة؟ وإن كان الأمر صحيحًا، فلماذا تصعد بعض الحضارات بينما تهبط أخرى في المسار التاريخي للبشرية؟ وهل يُبعث “الأب” بعد قتله في تلك الحضارة التي قَتلت أباها لينتقم من قتلته ويعيدهم إلى حالة الانحطاط الحضاري؟

 

المراجع:

[1] Sigmund Freud, Civilization and its Discontents, the standard edition, translated & edited by James Strachy with a biographical introduction by Peter Gay, W. W. Norton & Company, New York, London, 1989.

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete