تكوين
مقدمة
تعرضنا في المقالات السابقة للظروف التاريخية التي واكبت ظهور مذهب أهل السنة والجماعة على مسرح الأحداث السياسية في الدولة الإسلامية. وتناولنا بعض المحددات المهمة في صياغة وتشكيل التيار السني العام، وهي “شرعنة حكم المتغلب“، و”الميل للجبرية“، و”النظرة المعظمة للصحابة“، و”تقديم السنة ومضاهاتها للقرآن” على الترتيب. نواصل في هذا المقال تسليط الضوء على محددات المذهب السني من خلال مناقشة فكرتي
- اعتماد الاجماع كأحد الاصول المهمة للفقه
- الفهم الحرفي لصفات الله الواردة في القرآن
اعتماد الاجماع كأحد الاصول المهمة للفقه
كان اعتراف التيار السني بالسلطة المستبدة من جهة، وتقديمه الطاعة غير المقيدة لها من جهة أخرى، سببًا رئيسًا في تمجيده لمفهوم الجماعة/ الاجتماع، وذمه لكل معاني الفرقة/ الاختلاف، الأمر الذي يمكن ملاحظته بدءًا من لحظة وصول الأمويين للسلطة في عام 41ه، وهو العام الذي عُرف -فيما بعد- باسم عام الجماعة بسبب انتهاء الحرب الأهلية بين المعسكرين العلوي والأموي، وقيام الحسن بن علي بتسليم الخلافة إلى معاوية ([1]).
الاحتفاء بقيمة الجماعة، ظهر في الكثير من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول، والتي احتلت مكانة مهمة في الذاكرة السنية الجمعية، ومنها على سبيل المثال كل من الحديث الذي ذكره بدر الدين الشوكاني المتوفى 1250ه في كتابه نيل الأوطار
“يدُ اللَّهِ مع الجماعَةِ ومن شذَّ شذَّ إلى النَّارِ”
وحديث
“لا تجتمع أمتي على ضلالة”
الذي ورد في سنن ابن ماجة، وهو الحديث الذي لاقى ذيوعًا كبيرًا بين أهل السنة والجماعة، رغم أنه قد جرى تضعيفه من جانب الكثير من العلماء، ومنهم النووي في شرحه لصحيح مسلم، وبدر الدين العيني في شرح صحيح البخاري.
اعتبارية الاحتكام للإجماع، ستنتقل من الحيز السياسي إلى الحيز الفقهي- الأصولي، وسيظهر ذلك في الكثير من النصوص، للدرجة التي حدت بالإجماع ليصبح دليلًا من الأدلة الأربعة المُعتبرة في علم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، وفي ذلك ورد عن أحد الفقهاء المشهورين، قوله:
“الإجماع حجة مقطوع عليها، يجب المصير إليها، وتحرم مخالفته، ولا يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ…”([2]).
على الجهة المقابلة، سيتم تهميش الآراء الفردية المخالفة للإجماع -والذي يعني هنا الالتفاف حول السلطة الحاكمة- وسيتم شيطنة الآراء المخالفة للسلطة ووسمها بالبدعة والكفر والفسق، وسينعكس هذا بالتبعية بشكل سلبي على قيمة الحرية والاختيار الحر. ذلك أن الحرية -والتي كانت في بدايات الإسلام من “أصول الديانة وجوهر التوحيد“([3])– كانت تمثل خطرًا داهمًا على السلطان؛ لِمَا فيها من نزعةٍ تلقائية إلى المساواة في الحقوق والواجبات، وعدم تقبل الظلم والجور، واللجوء إلى الاعتراض والرفض والثورة ضد الحاكم المستبد.
أمام كل هذا، فقدت الحرية أي معنًى سياسيٍّ/ أخلاقي لها في الوجدان السني الجمعي، واقتصر معناها على الناحيتين الشرعية والقانونية فحسب ([4])، ولم تتمكن من فرض نفسها على صعيد المنظومة الأخلاقية السائدة في المجال السني، إذ توارت خلف ركام عظيم يروج لقيم الاستبداد والطاعة المطلقة، وتم المقارنة بينها وما ينبني عليها من فساد/ فتنة من جهة، وما ينبني على الحكم المطلق من هدوء واستقرار من جهة أخرى، وفي ذلك شاعت الجملة الشهيرة “حاكم غشوم خير من فتنة تدوم“، والتي عبّرت عن واحدة من أهم القيم الأخلاقية السنية على الإطلاق.
الفهم الحرفي لصفات الله الواردة في القرآن
بطبيعة الحال، اختلفت التيارات السنية مع بعضها البعض في تعاطيها مع النصوص القرآنية والحديثية. رغم ذلك، يمكن القول -إجمالًا- أن السمة الغالبة على العقائد السنية قد تمحورت بالأساس حول الفهم الحرفي -أو شبه الحرفي– لصفات الله الواردة في النصوص المقدسة، والابتعاد -قدر الإمكان- عن المجاز أو التأويل.
على سبيل المثال، مال أهل الحديث إلى القول بأن الله في السماء، وذلك اعتمادًا على الفهم الحرفي لبعض الآيات القرآنية[5]، وعلى الحديث المشهور الوارد في صحيح مسلم، والذي جاء فيه أن
النبي قد سأل جارية جاء بها سيدها ليعتقها، فقال لها “أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله”، فقال لسيدها “أعتقها فإنها مؤمنة”.
كما وردت العديد من الروايات التي يُفهم منها تأكيد أعلام أهل السنة على الاعتقاد بجلوس الله فوق عرشه. من ذلك ما رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة في معرض شرح الآية الخامسة من سورة طه “الرحمن على العرش استوى…”، أن الإمام مالك بن أنس لمّا سُئل عن صفة الاستواء، فإنه أجاب بقوله:
“الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء ثم أمر به -أي بالرجل الذي وجه السؤال- أن يُخرج من مجلسه”.
من جهة أخرى، كان الخلاف حول مسألة خلق القرآن، أحد القضايا المهمة التي عبّر أهل السنة -ولا سيما أهل الحديث منهم- من خلالها عن مذهبهم وطريقة تفكيرهم. عارض أهل الحديث الاعتقاد المعتزلي الذاهب إلى أن القرآن مخلوق. ورفضوا هذا القول جملةً وتفصيلًا. يُجمل ابن بطة العُكبري المتوفى 387ه عقيدة أهل الحديث في تلك المسألة في كتابه “الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة“، فيقول إن:
القرآن “كلام الله ووحيه وتنزيله، فيه معاني توحيده ومعرفة آياته وصفاته وأسمائه، وهو علم من علمه، غير مخلوق، وكيف قُرئ وكيف كُتب وحيث تُلي وفي أي موضع كان، في السماء وجد أو في الأرض، حُفظ في اللوح المحفوظ وفي المصاحف وفي ألواح الصبيان مرسومًا، أو في حجر منقوشًا، وعلى كل الحالات وفي كل الجهات، فهو كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، أو قال كلام الله ووقف أو شك أو قال بلسانه وأضمره في نفسه فهو بالله كافر حلال الدم برئ من الله والله منه برئ، ومن شك في كفره ووقف عن تكفيره فهو كافر… فمن زعم أن حرفًا واحدًا منه مخلوق فقد كفر لا محالة…”.
لم ينفرد ابن بطة بتكفير من قال بخلق القرآن، بل شاركه في ذلك جمع كبير من أعلام أهل السنة والجماعة على مر القرون. على سبيل المثال روي عن سفيان الثوري قوله:
“من زعم أنَّ قَولَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النمل:9] مخلوقٌ، فهو كافِرٌ زِنديقٌ حَلالٌ دَمُه”،
وروي عن عبدُ اللهِ بنُ المبارَكِ:
“من قال: القُرْآنُ مخلوقٌ، فهو زِنديقٌ”
كما قال سُفيانُ بنُ عُيَينةَ:
“القُرْآنُ كَلامُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، من قال: مخلوقٌ، فهو كافِرٌ، ومن شَكَّ في كُفرِه فهو كافِرٌ”.
أما أحمدُ بنُ حَنبلٍ -والذي عاصر محنة خلق القرآن، وعانى كثيرًا من اضطهاد السلطة العباسية له بسببها- فقد شدد على تلك المسألة وقال:
“من قال: القُرْآنُ مخلوقٌ فهو عندنا كافِرٌ؛ لأنَّ القُرْآنَ مِن عِلمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وفيه أسماءُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ”،
كما قال أيضًا:
“من قال ذاك القَولَ لا يُصَلَّى خَلْفَه الجُمُعةُ ولا غَيرُها، فإن صُلِّيَ خَلْفَه أعاد الصَّلاةَ”.
وقد تواتر الحكم بكفر من قال بخلق القرآن بين علماء السنة حتى ذكر اللَّالَكائيُّ في شرحه لأصول اعتقاد أهل السنة والجماعة:
“… قالوا كُلُّهم -يقصد علماء أهل السنة-: القُرْآنُ كَلامُ اللهِ غَيرُ مَخلوقٍ، ومن قال: مخلوقٌ، فهو كافِرٌ. فهؤلاء خَمسُمائةٍ وخَمسونَ نَفسًا أو أكثَرُ من التابعينَ وأتباعِ التَّابعين والأئمَّةِ المَرْضِيِّين سوى الصَّحابةِ الخَيِّرينَ على اختلافِ الأعصارِ ومُضِيِّ السِّنينَ والأعوامِ. وفيهم نحوٌ من مائةِ إمامٍ ممَّن أخذ النَّاسُ بقولِهم وتدَيَّنوا بمذاهِبِهم، ولو اشتَغَلْتُ بنَقلِ قَولِ المحَدِّثين لبلغَت أسماؤهم ألوفًا كثيرةً، لكنِّي اختصَرْتُ وحَذَفتُ الأسانيدَ للاختصارِ، ونَقَلْتُ عن هؤلاء عصرًا بعد عصرٍ لا يُنكِرُ عليهم مُنكِرٌ، ومن أنكر قولَهم استتابوه، أو أمَروا بقَتْلِه أو نَفْيِه أو صَلْبِه”[6].
الفهم الحرفي لآيات الاعتقاد، حدا بأهل السنة لوضع العديد من التصورات الساذجة عن الذات الإلهية. إذ ذهب العديد من علمائهم للقول: برؤية المؤمنين لله في الآخرة اعتمادًا على بعض الآيات القرآنية[7]، والتي جاء في تفسيرها عن النبي أن المقصود بها هو: النظر إلى الله عز وجل.[8]
كذلك، قال البعض أن هناك شبهًا بين صورة الله وصورة الإنسان، وذلك استنادًا إلى الحديث الشهير الذي أورده كل من البخاري المتوفي 256ه ومسلم المتوفي 261ه في صحيحيهما “أن الله خلق آدم على صورته…“، وهو الحديث الذي ورد في روايات أخرى “أن الله خلق آدم على صورة الرحمن“. علق شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني على ذلك الحديث فقال إن الصورة المقصودة في الرواية هي صورة الله نفسه، وذكر في كتابه “نقض أساس التأسيس” “لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير في الحديث عائد إلى الله تعالى، فإنه مستفيض من طرق متعددة، عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك…“. ليس ذلك فحسب، بل إن ابن تيمية قد صحح الحديث الذي ورد فيه على لسان الرسول، وصف صورة الله “رأيت ربي في المنام في صورة شاب أمرد جعد عليه حلة خضراء“.
تأثر أهل السنة بهيمة السلطة السياسية الحكمة، انعكس كثيرًا على فهمهم وتصوراتهم بخصوص عملية الخلق وفكرة العدل الإلهي. انتقد أغلبية علماء السنة مفهوم القدر/ الاختيار الذي نادت به أحزاب المعارضة. وفي هذا السياق، ظهرت العديد من الروايات المكفرة للقائلين بالقدر. ومنها ما نُقل عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي أنه قال:
“ما هلكت أمة قط إلا بالشرك بالله، وما أشركت أمة حتى يكون بدو شركها التكذيب بالقدر“[9]،
وما نُقل عن ابن عباس، أنه قال: قال رسول الله:
المكذبة بالقدر إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تصلوا عليهم“[10].
في السياق نفسه، ومن باب إسباغ صفة التوحيد الكامل والمطلق على الذات الإلهية قال أهل السنة أن الله هو خالق أفعال العباد، بما فيها من الخير والشر، وأكدوا أن الإنسان لا يمتلك القدرة على الخلق. واستشهدوا على ذلك بما جاء في سورة الصافات “والله خلقكم وما تعملون“، وما ورد في سورة فاطر “هل من خالق غير الله“. وفي ذلك المعنى يقول عبد القاهر البغدادي المتوفى 429ه في كتابه “الفرق بين الفرق“،
“… إن الله سبحانه خالق الأجسام والأعراض خيرها وشرها…”.
ولمّا كان هذا الاعتقاد يقترب بشكل كبير من الجبرية الخالصة، التي يلصق أصحابها جميع الأفعال البشرية بالله دون الإنسان، مما يثير الشكوك والتساؤلات حول عدلية التكليف الإلهي والحكمة من الخلق، فإن الأشاعرة -وهم الفصيل السني الذي اهتم بعلم الكلام– قد أضافوا إلى نظريتهم مصطلح جديد وهو “الكسب“، حيث اقتبسوه مما ورد في سورة البقرة “تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون”، والكسب بحسب ما عرفه أبو الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين هو “أن يكون الفعل بقدرة محدثة”، والتي يقصد بها هنا قدرة العبد، بمعنى أن تتداخل قدرة الإنسان مع قدرة الله وتظهر القدرتان مع بعضهما البعض في الفعل نفسه، فالكسب هو الأمر الذي يُثاب عليه العبد أو يُعاقب.
في كتابه “العقيدة النظامية“، عمل إمام الحرمين أبو المعالي الجويني المتوفى 478ه، على شرح مفهوم الكسب بمثال مبسط، فقال لو افترضنا أن هناك سيد يمتلك عبد، فإن العبد لا يستطيع أن يتصرف في مال السيد، فإن أذن السيد للعبد بأن يتصرف في هذا المال، لتحقق فعل التصرف، ولكن التصرف هنا يُعزى إلى السيد وليس إلى العبد، لأنه لولا إذنه لما وقع الفعل، ولكن مع ذلك فالعبد يؤمر بالتصرف ويُنهى عنه ويوبخ عن المخالفة ويثاب على الطاعة. بشكل عام، يُمكن القول إن: المعتقدات السنية حول خلق أفعال العباد، والقدر، والعدل الإلهي، والتكليف تُعدّ امتدادًا فكريًا منطقيًا لمفهوم الجبر والإكراه الذي حتمته الظروف السياسية، قبل أن يتلقفه العقل الأصولي السني ويتبناه ويعتمده أصلًا من الأصول الرئيسة للمذهب.
من جهة أخرى، تسبب اعتماد أهل السنة والجماعة على الأصول -القرآن والحديث- أيضًا في رفض الاحتجاج بالعقل، ولذلك رفض معظم علماء السنة الاعتقاد المعتزلي الذاهب إلى قبول التحسين والتقبيح العقليين. واستُبدل هذا المعتقد في الأوساط السنية بما عُرف بالتحسين والتقبيح الشرعيين، بمعنى أن تمييز الخير والشر يحتاج للرجوع للشريعة وأن العقل لا يستطيع أن يستقل بتحمل أعباء تلك المهمة. ومن الممكن أن نفهم موقف التيار السني المتشدد من العقل في ضوء حالة التسلط السياسي الذي مورس بشكل كبير ضد جماهير أهل السنة التي اختارت -في أغلب الفترات التاريخية- أن تنقاد لحكم ولاة الأمور -من الأمراء والعلماء- دون أن تسهم بشكل فعال في عمليات تداول السلطة أو التعاطي -بشكل مرن- مع النصوص الدينية.
أطياف المذهب السني
بطبيعة الحال، لا يمكن الحديث عن مذهب واحد داخل الوسط السني. إذ تعددت أطياف هذا التيار وتداخلت بشكل كبير على مر السنين، كما مرت بالعديد من التطورات المهمة التي غيرت كثيرًا من أشكالها وتوجهاتها وهويتها. إجمالًا، يمكن أن نوضح أهم المذاهب الفقهية والعقائدية التي ظهرت داخل المجال السني، والتي قُدر لها البقاء على مر القرون.
على الساحة العقائدية، ظهر أهل الحديث منذ فترة مبكرة نسبيًا، ووضحت مكانتهم في القرن الثاني الهجري، في الفترة التي اُشتهرت باسم محنة خلق القرآن. في تلك الفترة، مال الخليفة العباسي عبد الله المأمون لرأي المعتزلة في القول بخلق القرآن، ودعا الفقهاء لمتابعته في ذلك الرأي. وافقه العديد منهم، بينما رفض أخرون، وأصروا على الالتزام بالنص الحرفي الوارد في القرآن. كان الإمام أحمد بن حنبل المتوفى 241ه واحدًا من أبرز المعارضين للقول بخلق القرآن. وتشبث بموقفه في عهود كل من المأمون والمعتصم والواثق بالله. يذكر شمس الدين الذهبي المتوفى 748ه في كتابه “سيّر أعلام النبلاء” كيف تغير الوضع في عهد الخليفة المتوكل على الله “وفي سنة 234 أظهر المتوكل السنة، وزجر عن القول بخلق القرآن، وكتب بذلك إلى الأمصار، واستقدم المحدثين إلى سامراء، وأجزل صلاتهم، ورووا أحاديث الرؤية والصفات…”. وضح ابن كثير دور المتوكل في الانتصار لمذهب ابن حنبل وغيره من أهل الحديث، فقال:
“وكان المتوكل محببًا إلى رعيته قائمًا في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم بالصديق في قتله أهل الردة، لأنه نصر الحق ورده عليهم حتى رجعوا إلى الدين. وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية. وقد أظهر السنة بعد البدعة، وأخمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها فرحمه الله. وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور قال فقلت: المتوكل؟ قال: المتوكل. قلت: فما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي. قلت: بماذا؟ قال: بقليل من السنة أحييتها”.
لم ينقض زمن المتوكل على الله حتى قويت مكانة أهل الحديث -وهم الفئة التي وقفت ضد المعتزلة واعتمدت في مناقشتها على النصوص القرآنية والحديثية- وصاروا يُعرفون باسم أهل السنة والجماعة تمييزًا لهم عن أعدائهم من الشيعة والخوارج والمعتزلة.
في بدايات القرن الرابع الهجري، تشكل طيف عقائدي جديد داخل الوسط السني على يد أبي الحسن الأشعري المتوفى 324ه، والذي عُرف بأنه صاحب المدرسة الأشعرية التي لعبت دورًا مهمًا للغاية في تطور مصطلح أهل السنة والجماعة. تذكر المصادر التاريخية أن أبا الحسن الأشعري كان معتزليًا في أول حياته، وأنه كان تلميذًا عند أبي علي الجبائي المتوفى 303ه. يذكر المؤرخون أن الأشعري ناقش أستاذه في الكثير من المسائل العقائدية. أعلن الأشعري بعد فترة أنه قد تراجع عن أفكاره المعتزلية، وأنه رجع إلى معتقدات أهل السنة والجماعة. قدم الأشعري منهجًا كلاميًا تمكن من خلاله من التصدي لأفكار المعتزلة. اشتهر مذهبه بين الناس ورحب به كبار العلماء الذين عرفتهم الحضارة العربية الإسلامية، من أمثال كل من
- أبي بكر الباقلاني المتوفى 403 هـ
- وأبي المعالي الجويني المتوفى 478 هـ
- وأبي حامد الغزالي المتوفى 505 هـ
- وفخر الدين الرازي المتوفى 606 هـ
- ويحيى بن شرف النووي المتوفى 676 هـ
- وجلال الدين السيوطي المتوفى 911 هـ
بشكل عام، كُتب للمذهب الأشعري الانتشار في مناطق واسعة في بلاد الشام ومصر والعراق وبلاد المغرب، وارتبط بمصطلح أهل السنة والجماعة حتى أن بعض الباحثين قد ذهبوا إلى أن الأشاعرة كانوا أول من عُرفوا بهذا المصطلح.
في نفس الوقت الذي كان الأشعري يضع فيه مذهبه في العراق، كان أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي المتوفى 333ه يطور من منهجه الكلامي للرد على المعتزلة في بلاد ما وراء النهر. تمكن الماتريدي من تصنيف بعض الكتب للرد على المعتزلة. من أهمها كل من التوحيد، وتأويلات أهل السنة، والمقالات، وبيان وهم المعتزلة، ورد الأصول الخمسة.
لم تلبث عقائد الماتريدي -القريبة جدًا من العقائد الأشعرية- أن تزاوجت مع المذهب الفقهي الحنفي المنتشر في تلك الأصقاع البعيدة. وسرعان ما انتشرت الماتريدية في بلاد الهند والصين وتركيا. يقول محمد زاهد الكوثري في كتابه “تنبيه الخطيب” مشيرًا لأعداد الماتريدية الحنفية في تلك البلاد:
“في السند لا تقلّ عن خمسة وسبعين مليونًا، وفي الصين عن خمسين مليونًا، وفي بلاد الروس، والقوقاس، والقزان وبخارى، وسيبريا، وما والاها عن خمسين مليونًا أيضًا، وفي بلاد الرومان، والعرب، ودربوسنا، وهرسك، والألبان، والبلغار، واليونان، والبلاد العثمانية القديمة في القارات الثلاث، يعني آسيا، وأوروبا، وإفريقيا، عن خمسين مليونًا أيضًا، سوى من بلاد الأفغان، وبلاد الحبشة، ومصر، وطرابلس الغرب، وتونس، وإفريقيا الجنوبية، وغيرها”.
وهكذا ارتبط مصطلح أهل السنة والجماعة بثلاث فرق/ مذاهب عقائدية رئيسة،
- أهل الحديث الذين تفقهوا بالمذهب الحنبلي والذين ظهروا في بدايات القرن الثالث الهجري
- الأشاعرة الذين انتشروا في وسط وغرب البلاد الإسلامية.
- الماتريدية الذين انتشروا في مشرق العالم الإسلامي.
على الصعيد الفقهي، ارتبط التيار السني بعدد كبير من المذاهب، ومنها كل من مذهب الليث بن سعد، ومذهب الأوزاعي، والمذهب الظاهري. اندثرت العديد من تلك المذاهب مع الزمن، وبقيت بعض الأحكام والمسائل الفقهية من البعض الأخر. غير أن هناك أربعة مذاهب فقط هي التي استطاعت أن تثبت نفسها بشكل قوي على مر القرون.
- كان المذهب الحنفي أول تلك المذاهب، يُنسب هذا المذهب للفقيه أبي حنيفة النعمان بن ثابت بن مرزُبان الكوفيّ. ولد أبو حنيفة في سنة 80ه، ويُعد من طبقة التابعين لأنه لقي بعض الصحابة. تتلمذ أبو حنيفة على يد حماد بن أبي سليمان، ولمّا توفي حماد في سنة 120ه تصدى أبو حنيفة للتدريس والمشيخة. اشتهر أبو حنيفة بميله إلى التوسع في استخدام القياس، وعُرف مذهبه باسم مذهب أهل الرأي. بعد وفاته، اُستكمل بناء المذهب الحنفي على يد أشهر تلاميذ النعمان، وهما القاضي أبو يوسف المتوفى 182ه، ومحمد بن الحسن الشيباني المتوفى 189ه.
- أما المذهب الثاني فهو المذهب المالكي، ويُنسب للفقيه المحدّث مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي. ولد مالك بالمدينة المنورة في سنة 93ه على أرجح الأقوال. ودرس على يد عدد كبير من الشيوخ والعلماء، ومنهم كل من ربيعة الرأي، وابن شهاب الزهري، وهشام بن عروة. جمع الإمام مالك الآلاف من الأحاديث النبوية في كتابه الأشهر المعروف باسم “الموطأ“. توفى الإمام مالك في سنة 179ه، ولم يضع في حياته كتاباً مخصوصاً في توضيح الأصول التي اعتمد عليها مذهبه الفقهي. رغم ذلك استنبط الفقهاء المالكيين الذين قدموا من بعده تلك الأصول من خلال ما نُقل من فتاوي مالك وأقواله. وقالوا إن: أصول مذهبه هي القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، وعمل أهل المدينة، والقياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والعرف والعادات، وسد الذرائع، والاستصحاب.
- كان المذهب الشافعي هو المذهب الثالث الذي تمكن من إثبات تفوقه وانتشاره داخل الوسط السني. يُنسب هذا المذهب للفقيه محمد بن إدريس الشافعيّ المطَّلِبيّ القرشيّ. ولد الشافعي في غزة بفلسطين في سنة 150ه. وعُرف منذ صغره بالذكاء وسرعة الحفظ، وفي ذلك يُنقل عنه قوله: “حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين“. سافر الشافعي في رحلة طويلة لطلب العلم فزار الحجاز واليمن وبغداد. وتتلمذ على يد العديد من الشيوخ والفقهاء المشهورين في شتى البلدان، ومن أهمهم كل من الإمام مالك، ومحمد بن الحسن الشيباني. في سنة 199ه وصل الشافعي إلى مصر وظل مقيماً بها حتى وفاته في سنة 204ه، وكتب في مصر كتاب الرسالة، والذي يُعدّ واحداً من أشهر كتبه على الإطلاق. في هذا الكتاب وضح الشافعي أصول مذهبه الفقهي، وهي الكتاب، والسنة، والإجماع، وقول الصحابي، والقياس.
- أما المذهب الرابع، فهو المذهب الحنبلي، ويُنسب للفقيه المحدّث أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي. ولد ابن حنبل في بغداد في سنة 164ه. وسافر في طلب الحديث النبوي فزار كل من العراق والحجاز وتهامة واليمن. اشتهر ابن حنبل بموقفه الرافض للقول بخلق القرآن في زمن الخليفة المأمون ومن بعده الخليفة المعتصم والخليفة الواثق. تذكر المصادر التاريخية السنية أن ابن حنبل تعرض للتعذيب والحبس والتضييق في تلك الفترة. في ثلاثينيات القرن الثالث الهجري انتهت تلك المحنة بعدما تولى الخليفة المتوكل على الله السلطة، وسمح لابن حنبل بمواصلة التدريس ورواية الحديث. بشكل عام، يُنظر لابن حنبل باعتباره محدثاً أكثر مما يُنظر إليه باعتباره فقيهاً. لم يصرح ابن حنبل بالأسس التي بنى عليها آراؤه الفقهية. ولكن علماء الحنابلة الذين ساروا على دربه من بعده أوضحوا أن المذهب الحنبلي يقوم على مجموعة من الأسس وهي القرآن الكريم، والسنة النبوية، وفتوى الصحابي، والإجماع، والقياس، والاستصحاب، والمصالح، والذرائع.
وهكذا، لم يدخل القرن الرابع الهجري على الأمة الإسلامية إلا وقد ظهرت عدد من الأطياف العقائدية -الفقهية داخل الوسط السني. إذ وقع الارتباط بين الفقه الحنفي والعقيدة الماتريدية، بينما أثرت العقائد الأشعرية على الفقهين الشافعي في المشرق، والمالكي في المغرب على الترتيب. فيما حافظ أهل الحديث على أحكام الفقه الحنبلي.
المراجع:
([1]) عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، ط2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،2000م، ص74
([2]) أبو يعلى الحنبلي (المتوفى 458ه)، العدة في أصول الفقه، تحقيق: – أحمد بن علي بن سير المباركي، 1990م، ج4، ص58
([3]) محمد العبد الكريم، تفكيك الاستبداد: دراسة مقاصدية في فقه التحرر من التغلب، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2013م، ص68
([4]) محمد يسري أبو هدور، في تاريخية الفرق والمذاهب السياسية في الإسلام، دار رؤية، القاهرة، 2022م، ص97
[5] من تلك الآيات، ” أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ…” سورة الملك، الآية رقم 16
[6] أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الرازي اللالكائي (ت ٤١٨ هـ)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ط8، تحقيق: أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، دار طيبة، 2003م، ج2، ص344
[7] من تلك الآيات، ” للذين أحسنوا الحسنى وزيادة…” سورة يونس، الآية رقم 26؛ ” وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة…” سورة القيامة، الآية رقم 23
[8] اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ج3، ص503
[9] اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ج4، ص590
[10] المصدر نفسه، ج4، ص786