قصة ابني آدم وجدل القرآن والإنسان

تكوين

في البدء كانت الأسطورة…

في الواقع الإنساني المتحرك والمتغير يغدو الدين وقودا يعزز نظرة الإنسان إلى ذاته، وإلى الوسط الذي يعيش فيه، ويمنح الكائن الإنساني إمكانية العيش داخل الفضاء الكوني الفسيح ضمن دائرة ما هو إنساني، ولعل أهمه ما يخلقه له هذا الدين من معنى يجابه به صعوبات الحياة وتحدياتها، باعتبار أن الفرد الإنساني لا يستطيع أن يقاوم كل هذه التحديات دون هذه النظرة الشمولية والمعنوية التي يتيحها له الدين. ومن بين هذه الإمكانيات هناك القصص الديني، أو القصص الإنساني عبر المثال الحي والمجسد لقيم البشرية في تطوراتها والتغيرات التي لحقت بها في مختلف مسارات تشكل وعيها. إنه القصص بكل ما يفرضه هذا الجانب من أشخاص، وأحداث، وزمان ومكان، وعقد وحلول يمكن أن نستخلص منها ما ينير لنا دروب الحياة، أو على الأقل يجعل حياتنا يسيرة دون مشقة أو عسر. وبغض النظر عن الرؤية التي ينظر بها الإنسان إلى القصص بين من يجعلها مطابقة للواقع، أو مفارقة عليه، فإن القصص تشكل إرثا إنسانيا بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ أنها تعبر عن مستوى الوعي الإنساني لبعض القيم، ومدى تطورها على مدار التاريخ الإنساني, وحتى إذا تم اعتبارها شكلا من أشكال الأساطير كما هو شأن الكثير من الأدبيات، فهذا لا يعني انتفاء جانب المعنى من مكوناتها، أو اعتبار كل ما تفرزه من الدروس مجانب للصواب، لأن حتى الأسطورة في أقصى ما يمكن أن يذهب إليه الإنسان هي إحدى تجليات هذا العقل الإنساني الممتد في التاريخ. لذلك لا بد من معرفة ما تشكله الأسطورة من اختلاف ونظريات في طبيعة فهمها، وتشكيلها.

ما هي الاسطورة

حينما نتحدث عن الأسطورة دوما يتبادر إلى الإنسان علاقتها بالخرافة أو تمثلات الناس لهذا العالم قديما وحديثا. وبالتالي نجد أنفسنا مضطرين لإعادة تركيب السؤال من جديد لنقول: ما هي هذه الأسطورة؟ وما هي أهم النظريات المفسرة لها؟. هنا يحضرنا ما كتبه روبرت إيه سيجال[1] الذي اقترح تعريفا للأسطورة ينطلق من اعتبار الأسطورة كيفما كانت وإلى أي ثقافة انتمت فهي لا تعدو أن تكون مجرد قصة، ويعتمد هذا التعريف على أن هناك مجموعة من الأساطير هي عبارة عن قصص عن الآلهة والأبطال اليونانيين والرومان… غير أن هذا ليس هو التعريف الأوحد لها، فهناك من ينظر إليها على أنها معتقد أو مذهب كما هو حال «أسطورة من الأسمال إلى الثروة» أو «أسطورة الحدود» الأمريكيتين. ولكن بالرغم من هدا الاختلاف الشكلي، فإن أهم ما يميز الأسطورة في نهاية المطاف هو أنها مجرد قصة. فإي بي تايلور بالرغم من أنه مثلا يحول القصة إلى تعميم ضمني، غير أنه لا يزال التعميم يصل إلى القارئ عن طريق قصة. كذلك بينما يتجاوز كلود ليفي-ستروس حدود القصة وصولًا إلى «بنية» الأسطورة، فلا تزال البنية تعتمد على القصة في توصيلها.

باختصار شديد هذا أهم ما يقال عن الأسطورة. هناك تداخل بينها ومختلف المجالات المعرفية. فلقد تمت دراسة الأسطورة في علاقتها بالدين، وعلم الاجتماع والفلسفة والعلم وعلم النفس والأنثروبولوجيا، وغير ذلك. غير أن ما يربط بين دراسة الأساطير في المجالات المختلفة التي توجد فيها هي الأسئلة المطروحة. هذه الأسئلة تتمحور حول أسئلة ثلاثة وتتمثل في: الأصل، والوظيفة، والموضوع. ولنحاول أن نشرح كل واحدة على حدة. عندما نتحدث عن الأصل فإننا نقصد به السبب والطريقة التي نشأت بها الأسطورة. كما أن الوظيفة تشير بشكل أو بآخر إلى السبب والطريقة التي تستمر بها الأسطورة في الوجود. أما الموضوع فيشير إلى المدلول في نظرية الأساطير. وبالنسبة للمدلول هناك أيضا اتجاهان: الأول: يفسر الموضوع تفسيرا حرفيا أو ظاهريا. والثاني: يعتمد المجاز والتأويل والرمزية.

لكن لنكن عمليين ونقول: ما هي الاتجاهات أو المدارس التي اعتمدت هذه الأسئلة؟

للجواب عن هذا السؤال يبدو إن نظريات القرن التاسع عشر ركزت على سؤال الأصل، أما نظريات القرن العشرين فقد ركزت على سؤالي الوظيفة والموضوع. لكن تجدر الإشارة هنا إلى أن النظريات التي تفسر الأسطورة من خلال الأصل فإنها لا تزعم معرفتها بمكان وزمان ظهور الأسطورة للمرة الأولى. نريد أن نطرح السؤال من زاوية أخرى تبدو أكثر أهمية في هذا المقام. هل الأسطورة عامة أم خاصة؟ وهل هي حقيقية أم خرافة؟. هنا يمكن القول ببساطة أن النظرية التي ترى بأن الأساطير تنشأ وتعمل على تفسير العمليات المادية سوف ترى بأن الأسطورة هي خاصة بالمجتمعات التي تفتقر أو افتقرت إلى الجانب العلمي. أما النظرية التي ترى أن الأساطير تنشأ وتعمل على توحيد المجتمع فهذه ترى بأن الأسطورة هي أمر مقبول ومهم ولا غنى عنه مهما تقدمت المجتمعات.

إشكاليات منهجية في مقاربة القصص القرآني

  • التفسير بين التوحيد والتجزيء:

هل هناك تفسير توحيدي للقرآن في ثقافتنا الإسلامية؟ يمكننا الجزم بأن خلال المسار التاريخي لعلم التفسير ليس هناك وحدة موضوعية، إلا إذا استثنينا بعض المحاولات المعاصرة، ولكنها تبقى قاصرة عن بلوغ هذا الهدف، لأنها اقتصرت فقط على بعض المواضيع، ولم تتعامل مع نص القرآني باعتباره كلا لا يتجزأ. وإذا أمعنا النظر في مختلف التفاسير نجد أن لها أصولا في التفسير لا تتجاوز النظرة التجزيئية، وذلك باعتماد الآثار والروايات المختلفة، وقراءة القرآن في سياقات مختلفة تخرجه عن سياقه الداخلي، فابن كثير في مقدمة تفسيره يوضح هذا الأمر حيث قال:” فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير ” فالجواب إنّ أصحّ الطرق في ذلك أنْ يفسِّر القرآن بالقرآن. فما أجمل في مكان فإنّه قد فسّر في موضع آخر. فإنْ أعياك ذلك فعليك بالسّنة فإنّها شارحة للقرآن، وموضِّحة له. بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله كلّ ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن قال الله تعالى ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) [ النساء 105 ] ، وقال تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) [ النحل 44 ] ، وقال تعالى وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) [ النحل : 64 ] .

ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه يعني: السنة والسنة أيضا تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك…”[2].

فحسب ابن كثير وغيره ممّن اشتغل بالحقل التفسيري الأثري، لا بدّ منَ المرور منْ تفسير الآيات بعضها ببعض على غرار ما شرحه الشافعي في رسالته حيث جعل وظائف السنّة للقرآن على ثلاثة أوجه:” فقلت له: كل ما سنّ رسول الله مع كتاب الله من سنة فهي موافقة كتاب الله في النص بمثله، وفي الجملة بالتبيين عن الله، والتبيين يكون أكثر تفسيرا من الجملة. وما سنّ مما ليس فيه نص كتاب الله فبفرض الله طاعته عامة في أمره تبعناه “[3].

شاهد ايضاً: قصة مقتل عثمان ابن عفان، علي إبن أبي طالب، والحسن إبن علي

إنّ إشكالية المنهج المطروح للنقاش لا تقتصر فقط على ضعف جانبها النّظري وتناقضاته، ولكن تتجاوز ذلك إلى أنّها عملية انتقائية وغير موضوعية، بالمعنى الذي تحدّث عنه محمد باقر الصدر، حيث يرى بأنّ علم التفسير تقاسَمَتْه رؤيتان أساسيتان: أولاهما الاتّجاه التجزيئي في التفسير وثانيهما الاتّجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير. ويزيد باقر الصدر شرحاً للرؤية الأولى التي ينتمي لها التفسير الأثري أو المدرسة الأثرية، فيوضح بأنّ التفسير التجزيئي:” هو المنهج الذي يتناول المفسر ضمن إطاره القرآن الكريم آية فآية وفقا لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف ، والمفسر في نطاق هذا المنهج يسير مع المصحف ويفسر قطعاته تدريجياً بما يؤمن به من أدوات ووسائل للتفسير من الظهور أو المأثور من الأحاديث أو العقل أو الآيات الأخرى التي تشترك مع تلك الآية في مصطلح أو مفهوم بالقدر الذي يلقي ضوءا على مدلول القطعة القرآنية التي يراد تفسيرها مع أخذ السياق الذي وضعت تلك القطعة ضمنه بعين الاعتبار في كل تلك الحالات “[4].

فالمنهج التجزيئي حسب هذه الرؤية، هو منهج يهدف في كل خطوة من هذا التفسير إلى فهم مدلول الآية، التي يواجهها المفسِّر بكل الوسائل الممكنة. أيّْ أن الهدف « هدف تجزيئي »، لأنّه يقف دائما عند حدود فهم هذا الجزء، أو ذاك من النص القرآني ولا يتجاوز ذلك غالبا. في مقابل هذا التفسير يقف التفسير الموضوعي، ليس بمفهوم الحياد أو العلمية، ولكن بمفهوم أكثر عمقا عبّر عنه باقر الصدر بقوله:” الموضوعية هي التي تطرح موضوعا من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية وتتجه إلى درسه وتقييمه من زاوية قرآنية للخروج بنظرية قرآنية بصدده “.[5]

ب– الوحي هو القرآن وحده:

في التاريخ الإسلامي هناك مجموعة من القواعد المثيرة للجدل، على رأسها تلك القاعدة الأصولية التي تجعل من النص، نصين أو وحيين. وبالتالي لم نعد هنا أمام قراءة أحادية تهدف إلى قراءة النص الأصلي فقط، بل نحن أمام إشكالية تداخل النصين، أو إشكالية تعدد الوحي المثيرة للنقاش بين جماعة القرآنيين، وجماعة الأثريين أو الحديثين. والإشكالية هنا ليست فقط في التعدد، بل في التقديس، حيث لا نستطيع أن نميز بين الأصلي والثانوي في هذه المنظومة التفسيرية، إلى الحد الذي تصبح فيه رواية حديثية تنسخ أو تخصص أو تقيد أو تشرح النص الأصلي. لهذا سنحاول أن نقرأ معنى الوحي اعتمادا على النص القرآني لوحده، بما أن الكل لا يناقش في حجيته ومصدريته. قال تعالى:” والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إنْ هو إلا وحي يوحى “[6]. فالصّاحب هنا هو القرآن، يصحب الناس في حياتهم الخاصة والعامة طلباً للهداية، ويؤكّد بأنّه وحيٌ من الله، وليس أماني يتلوها. وإذا نظرنا بشكل مستفيض في قوله تعالى :{ إن هو إلا وحي يوحى}: يتبين بأنّ الضمير “هو” تعود على القرآن، لأنّ رسول الله لم يأت قومه بغير القرآن، وإنّما أتاهم به وحده. ومن ثمة كانت مشكلة قومه معه بسبب هذا القرآن: ” وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون “[7] :” وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا “[8]…فتبين أنّ كلّ هذه التقوّلات والتطاول في مواجهة ما جاء به الرسول كان بسبب القرآن، ولو كان غير ذلك لصرح به ” وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون [9]وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه “[10].

لماذا احتلت السنة النبوية المصدر الثاني من مصادر التشريع؟

إنها ببساطة ما عبرنا عنه في النقطة السابقة بإشكالية المنهج التجزيئي، الذي يقرأ النص الأصلي في سياقات أخرى، ويوظف حسب إيديولوجية هذا المذهب أو ذاك. وهو منهج إقصائي، وانتقائي، ومؤدلج، يصبح فيه النص وظيفيا، ولا علاقة له بالتأطير أو الهداية. فمن خلال تتبع لفظ الوحي، فهو لا يشير على الأقل في النص القرآني إلا إلى القرآن، وليس شيئا آخر موازيا له في الصحة والدرجة والقدسية. فقوله تعالى: “ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [11]“، تعني القرآن لأنّه هو الموحى به إلى رسول الله:” نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين “[12]وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ “[13] ” ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه “[14] ” واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك “[15].

إذن فالقرآن هو وحي الله المنزل على النبي محمد حسب مختلف البلاغات القرآنية، وهو المأمور بتبليغه والإنذار به:” قل إنما أنذركم بالوحي “[16] ” وكذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن “[17]. فهل بعد هذا البيان القرآني نقول بأنّ الوحي شيء غير القرآن ، وأننا مأمورون بالإيمان بشيء غير الوحي القرآني؟ قال تعالى:” فبأي حديث بعده يؤمنون[18] ، والحديث في القرآن هو الكتاب المنزل:” الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني[19] وقال:” فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين “[20]. فمن ادّعى غير هذا الذي قرّره القرآن فقد افترى على الله كذباً:” ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله[21].

إقرأ أيضاًًًً: قصة السيدة خديجة زوجة الرسول محمد الأولى والوحيدة قبل البعثة

ج- القرآن والإنسان

لا يمكن أن نفصل القرآن عن الإنسان، لأن كلاهما يكمل الآخر، فالقرآن هو ذلك الموجه للإنسان، والهادي إلى سبل السلام الداخلي والخارجي. والإنسان هو المتلقي المباشر، والمكلف بتطبيق كل ما جاء في القرآن من الهداية الإنسانية. وبالتالي فنحن أمام جدل يمكن أن نسميه بجدل القرآن والإنسان، وهو جدل يؤشر على العلاقة الطبيعية لكتاب يحمل بين بلاغاته المختلفة قضية الإنسان. وإذا كنا نؤمن بأن هناك جدل، فإننا نقصد بالتحديد وجود علاقة ضمنية كامنة في الاقتراحات الإنسانية التي يضمها هذا الكتاب بين دفتيه، ويتوجه بها رأسا إلى الإنسان ليساهم من خلاله في بناء الفرد والجماعة بما يحقق كينونة هذا الإنسان، ويصوب مختلف علاقاته مع الذات، والمحيط والآخر. وهذا هو الجدل أو العلاقة التكاملية بين القرآن والإنسان. أي الجدل الذي يتعامل مع الظاهرة الإنسانية على أنها ظاهرة محكومة بالزمان والمكان، وظروف التاريخ والثقافة، وليس كما تداولته الثقافة الإسلامية حينما جعلت من الإنسان ظاهرة متجاوزة لكل ما هو إنساني، ومفارقة للواقع والتاريخ والجغرافيا. كما أننا يمكننا أن نفهم من الجدل ما يجعلنا نفكر خارج الصندوق، أو خارج الخطوط الحمراء، أو ما ترسمه السياسة في أبعادها اللاإنسانية. وهذا الأمر نفسه هو ما يؤكد على هيمنة القرآن على كل الكتب السابقة:” وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه “[22]” اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”[23]. إذ أن الهيمنة هنا لا تعني بحال الإقصاء، أو التجاوز، بقدر ما تعني لنا الحالة التكاملية التي تحدث بين الإنسان والكتاب من جميع النواحي الأخلاقية والاجتماعية والثقافية في مسار طويل ساهمت فيه كل الرسل والأنبياء:” شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه[24]ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين”[25]، وهو الاكتمال الذي تحدث عنه النص السابق، فإكمال الدين، هو تكامل بين الإنسان والقرآن، وليس إنهاء لرسالة. فالرسالة ممتدة في التاريخ والجغرافيا، ولا يحدها حدود ما دام الإنسان هو اللبنة الأساسية فيها:” إنْ هو إلا ذكرٌ للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حي.[26]“.

وحينما نتحدث عن موضوع الهيمنة فإننا نستحضر هنا تلك المقاربة التفسيرية التي تحدث عنها أبو القاسم الحاج حمد في إحدى كتاباته، وسماها بالاسترجاع النقدي القرآني، هو نفسُه موضوع الهيمنة، حيث يستحيل الإقدام على هذا العمل المنهجي، دون أخذ القرآن في وحدته البنائية العضوية وكلّيته، فلا يتمّ تحليل النص عضيناً ومجزأً، وإنّما يقرأ من خلال الكلّ القرآني[27]. وبناء على ذلك فالهيمنة القرآنية هي هيمنة على الكتب، من حيث أنها أتممت ما جاءت فيها من الهداية، وهيمنة على الإنسان، من حيث إقامة روابط إنسانية تتجاوز العلاقة السابقة المبنية على المعجزة والآيات، وتجاوز حدود ما هو بشري داخل هذه العلاقة. وهو نفسه ما سبق أن أشرنا إليه من مفهوم إكمال الدين، حيث تصبح الرسالة هنا تتعامل مع الإنسانية في رشدها دون حاجة إلى أي عوامل تصديق خارجية، بل فقط التفكير والتدبر والتأمل:” قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد[28].

  • ابني آدم وبناء السِّلم العالمي:

قبل الحديث عن موضوع ابني آدم كما تناوله القرآن الكريم، أودّ أن أشير إلى ما تمّ إقراره سابقا، وهو أن توجهات المفسرين المسلمين لم تخرج عن قسمين أساسيين: أحدهما: التفسير التجزيئي والثاني: التفسير الموضوعي. وهذا الأخير هو ما استقرّ عليه باقر الصدر اعتمادا على رؤى تقتضيها المنهجية العلمية في تفسير النص ومقاربة دلالاته. ولعل خطورة التفسير الأثري أو التجزيئي في علاقته بموضوع البحث، هي أنّ هذا النوع من التفسير والمفسرين كانوا يشتغلون بالحقل التاريخي، على اعتبار أنّ الرواية جزء من التاريخ. لهذا كان يشغلهم البحث عن الجزئيات وملء الفراغات التي يتركها القرآن الكريم، متوسِّلين في ذلك بجميع المعطيات والمواد التي تخوِّل لهم القيام بهذه المهمة، سواءٌ كانت هذه المعطيات خارجة عن السياق القرآني، أو مباينة لبنية القرآن المعرفية أو اللغوية، أو لا تنسجم مع مبادئه وأطروحاته. وقد وجد هذا الاتجاه في التفسير مادته الخام في المادة التوراتية أو الكتابية بشكل عام. الشيء الذي غيّب جانبا مهمّاً من العطاء القرآني، تمثل في الرؤية الإنسانية التي يمكن أن يحملها هذا الكتاب: ” قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا[29] “.

لم تكن قصة ابني آدم بِدْعاً من القصص القرآنية التي نحا بها المفسرون قديما وحديثا عن وجهتها الإنسانية. فقد تحوّلت هذه التجربة الإنسانية الرائعة إلى جزئيات وتفاصيل ملأ بها الخيال التوراتي عقول المفسرين، فجاءت تفاسيرهم تتناغم والرؤية العنصرية لشعب الله المختار، وتتناسق والوجهة الكتابية بشكل عام. فالقصة تحتلّ مكانة رئيسية في النّسق الديني عموما، فبها يتمّ تأطير الفرد وفق الأهداف والنموذج المقدَّم داخل هذه القصص. وبها يتمّ تقديم السّنن والقوانين، التي تحكم المسار الإنساني في الجوانب المختلفة من حياة الإنسان. ناهيك عن الدّور التربوي والشعوري، لما تختزله هذه النماذج من أسرار وعِبَر وحكم، لها مع غيرها دورا أساسيا في المخيال الجمعي البشري. فانطلاقا من هذا الدّور الريادي الذي تضطلع به القصة في الفكر الديني، استعمل الدّين القصة لأغراض كثيرة من خلال رؤية كل دين على حدة، والأرضية التي ينطلق منها في عرض تصوّراته وعقائده ومنظوره للوجود والطبيعة والإنسان. كما كانت القصة تخدم بشكل أو بآخر المنظومة الفكرية للواقع، الذي أنزل إليه الدّين بلسان القوم وبثقافتهم وخصوصياتهم.

للاطلاع أكثر على أهمية هذا المعطى الفكري، نأخذ نموذجا من القصص الديني الذي أفرزته الكتب الدينية بمختلف توجهاتها وعلى رأسها التوراة والقرآن. للنظر إلى رؤية كل من هذين الاتجاهين في الدّين إلى القصة عبر هذا النموذج. ونرى أيضا كيف تعاملت المقاربات الأثرية التي صاحبَتْ النص القرآني مع هذه القصص؟. وإلى أيّ وجهة كان النص القرآني موظَّفا في العملية التفسيرية؟. لكن قبل أنْ نخوض غمار هذه التجربة المقارِنَة بين النصوص الدينية، أحبُّ أنْ أذكِّر بأنّ تعامُلنا مع نصوص القرآن، سيكون وفق مقاربة تهدف أساسا إلى فهم مصطلحات القرآن فهْماً موضوعيا يتجاوز النظرة التجزيئية التي طبعَت التفسير بالمأثور. وذلك لا يتأتّى إلا بالاحتكام إلى أسلوب القرآن نفسه، على هدْي التتبع الدقيق بمعهود استعماله للألفاظ، والأساليب داخل سياقاتها القرآنية. وهو أمرٌ ضروري من الناحية المنهجية التي تروم إلى دراسة الشيء، انطلاقا من بنيته الداخلية ومراعية أسلوبه ونمطه وسياقاته.

أ- ابني آدم والوجهة التوراتية:

إنّ القصة موضوع الدراسة هي نموذج من القصص، التي لعبَت فيها أيدي المفسّرين بشكل تعسّفي، أذهبَ الكثير من عطاءاتها، أو ما يمكن أنْ يستخرج من مكنوناتها. إذ تحوّلت هذه التجربة الإنسانية الرائعة، إلى جزئيات وتفاصيل ملأ بها الخيال التوراتي عقول المفسرين، فكانت هذه التفاسير بشكل أو بآخر تكرِّس المفاهيم التوراتية وتنطق بلسان التوجهات الكهنوتية، ونظرتها لأهداف القصة عموما. دون أنْ تسعى إلى تقديم مقترحات من خلال هذه القصص، تمتدُّ برحابتها إلى آفاق الإنسان بأخذ العِبرة، وقياس الحال على الحال، من أجل فهمٍ أعمق للتجربة الإنسانية بمختلف تجلياتها.

إنّ القصص القرآني قد لا يكون واقعيا، بمعنى أنّه كان وجوداً تاريخيا بالمعنى الفعلي، ولم يكن الهدف منه إثبات تاريخيته من عدمها، أو صِدقه من بطلانه. بل يتجاوز الأمر كل هذا في اتجاه ينحو بالإنسان أنْ يتعامل مع القصص، وما تطرحه من قضايا إنسانية تلامس جوانب تبدأ بالنفس الإنسانية وما تختزنه من أسرار، وتصل برحابتها إلى ما يعكس الواقع الإنساني وتجاربه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بها في هذا المقام.

تبتدئ قصة ابني آدم- ) سفر التكوين إص4 مقط1 ( – في سياق متتابع لأحداث قصة الأب آدم وامرأته حواء، وما تعرّضا له من الإغواء الذي كان سببا في طردهما من الجنة. وداخل هذا السياق المشحون بالأحداث والوقائع تمّت معرفة آدم لامرأته كما عبَّر النّص:” وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين.وقالت اقتنيت رجلا من عند الرب. ثم عادت فولدت أخاه هابيل وكان هابيل راعيا للغنم وكان قايين عاملا في الأرض “[30]. وتستمرّ الأحداث ممهّدة لنا حسب النص التوراتي قضية القتل فيقول النص:” وحدث من بعد أيام أن قايين قدم من أثمار الأرض قربانا للرب. وقدم هابيل أيضا من أبكار غنمه ومن سمانها. فنظر الرب إلى هابيل وقربانه.  ولكن إلى قايين وقربانه لم ينظر. فاغتاظ قايين جدا وسقط وجهه. فقال الرب لقايين لماذا اغتظت ولماذا سقط وجهك. إن أحسنت أ فلا رَفْعٌ. وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها.  وكلم قايين هابيل أخاه. وحدث إذ كانا في الحقل أن قايين قام على هابيل أخيه وقتله “[31].

هذه القصة نفسُها ستأخذها التفاسير الإسلامية، لتملأ بها خيال الناس ظنًّا منها أنّها ستتدارك ما فات على القرآن ذكره أو توضيحه، فيقول ابن كثير:” وَقَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنَا اِبْن بَشَّار حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن جَعْفَر حَدَّثَنَا عَوْف عَنْ أَبِي الْمُغِيرَة عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو قَالَ إِنَّ اِبْنَيْ آدَم اللَّذَيْنِ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدهمَا وَلَمْ يُتَقَبَّل مِنْ الْآخَر كَانَ أَحَدهمَا صَاحِب حَرْث وَالْآخَر صَاحِب غَنَم وَإِنَّهُمْ أُمِرَا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا وَإِنَّ صَاحِب الْغَنَم قَرَّبَ أَكْرَمَ غَنَمِهِ وَأَسْمَنَهَا وَأَحْسَنَهَا طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ وَإِنَّ صَاحِب الْحَرْث قَرَّبَ أَشَرَّ حَرْثِهِ الْكَوْدَن وَالزُّوَان غَيْرَ طَيِّبَةٍ بِهَا نَفْسُهُ وَأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ تَقَبَّلَ قُرْبَان صَاحِب الْغَنَم وَلَمْ يَتَقَبَّل قُرْبَان صَاحِب الْحَرْث وَكَانَ مِنْ قِصَّتهمَا مَا قَصَّ اللَّه فِي كِتَابه “. [32]

بل سيتجاوز المفسّرون القصة التوراتية نفسها، لأنّها ربّما لا تفي بغرضهم وتوجّهاتهم، ليؤسِّسوا بخيالهم الواسع قصة أخرى حول قضية القتل فيقول ابن كثير:” قَالَ السُّدِّيّ فِيمَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي مَالِك وَعَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَنْ مُرَّة عَنْ اِبْن مَسْعُود وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُولَد لِآدَم مَوْلُود إِلَّا وَمَعَهُ جَارِيَة فَكَانَ يُزَوِّج غُلَام هَذَا الْبَطْن جَارِيَة هَذَا الْبَطْن الْآخَر وَيُزَوِّج جَارِيَة هَذَا الْبَطْن غُلَام هَذَا الْبَطْن الْآخَر حَتَّى وُلِدَ لَهُ اِبْنَانِ يُقَال لَهُمَا هَابِيل وَقَابِيل وَكَانَ قَابِيل صَاحِب زَرْع وَكَانَ هَابِيل صَاحِب ضَرْع وَكَانَ قَابِيل أَكْبَرَهُمَا وَكَانَ لَهُ أُخْت أَحْسَنُ مِنْ أُخْت هَابِيل وَإِنَّ هَابِيل طَلَبَ أَنْ يَنْكِح أُخْت قَابِيل فَأَبَى عَلَيْهِ قَالَ هِيَ أُخْتِي وُلِدَتْ مَعِي وَهِيَ أَحْسَنُ مِنْ أُخْتك وَأَنَا أَحَقّ أَنْ أَتَزَوَّج بِهَا فَأَمَرَهُ أَبُوهُ أَنْ يُزَوِّجهَا هَابِيل فَأَبَى وَأَنَّهُمَا قَرَّبَا قُرْبَانًا إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَيّهمَا أَحَقّ بِالْجَارِيَةِ وَكَانَ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام قَدْ غَابَ عَنْهُمَا أَتَى مَكَّة يَنْظُر إِلَيْهَا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ هَلْ تَعْلَم أَنَّ لِي بَيْتًا فِي الْأَرْض قَالَ اللَّهُمَّ لَا قَالَ إِنَّ لِي بَيْتًا فِي مَكَّة فَآتِهِ فَقَالَ آدَمُ لِلسَّمَاءِ اِحْفَظِي وَلَدِي بِالْأَمَانَةِ فَأَبَتْ وَقَالَ لِلْأَرْضِ فَأَبَتْ وَقَالَ لِلْجِبَالِ فَأَبَتْ فَقَالَ لِقَابِيل فَقَالَ نَعَمْ تَذْهَب وَتَرْجِع وَتَجِد أَهْلك كَمَا يَسُرّك فَلَمَّا اِنْطَلَقَ آدَم قَرَّبَا قُرْبَانًا وَكَانَ قَابِيل يَفْخَر عَلَيْهِ فَقَالَ أَنَا أَحَقُّ بِهَا مِنْك هِيَ أُخْتِي وَأَنَا أَكْبَرُ مِنْك وَأَنَا وَصِيّ وَالِدِي فَلَمَّا قَرَّبَا قَرَّبَ هَابِيلُ جَذَعَةً سَمِينَةً وَقَرَّبَ قَابِيلُ حُزْمَةَ سُنْبُل فَوَجَدَ فِيهَا سُنْبُلَة عَظِيمَة فَفَرَكَهَا وَأَكَلَهَا فَنَزَلَتْ النَّار فَأَكَلَتْ قُرْبَان هَابِيل وَتَرَكَتْ قُرْبَان قَابِيل فَغَضِبَ وَقَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ حَتَّى لَا تَنْكِح أُخْتِي فَقَالَ هَابِيل إِنَّمَا يَتَقَبَّل اللَّه مِنْ الْمُتَّقِينَ “. ابن كثير [33]

وهكذا فالمفسّرون لا يجدون حرجاً في تفسيراتهم وشرْحِهم، لما قد يعتبرونه غامضا في القرآن، وهو كما رأينا في الرواية الأولى لابن كثير النص نفسه الموجود في التوراة الحالية، دُون ذكر المصدر المأخوذ عنه هذه الأحداث. فسبب القتل الذي أعرض عنه القرآن بمنظورهم، كان هو بسبب ظلم هذا الإله المتعطِّش، إلى نوعية القربان المتقرّب به إليه. فلن ينظر الإله التوراتي أو إله من سايره من المفسّرين إلى قربان الأخ الفلاح لوضاعة قربانه وتفاهته، بل سينظر إلى قيمة القربان المتجلي في صاحب الغنم السمين والطيب، وهو القربان المفضل في عقلية الإله التوراتي. أما الرواية الثانية لابن كثير في سبب القتل فلا هي توراتية ولا هي قرآنية، ولا ندري مصدريتها أصلا.

تزيد الرواية التوراتية في سرد أحداث ما بعد القتل فتقول:” فقال الرب لقايين: أين هابيل أخوك.فقال لا أعلم. أحارس أنا لأخي.  فقال ماذا فعلت. صوت دم أخيك صارخ إلي من الأرض. فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك. متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها. تائها وهاربا تكون في الأرض. فقال قايين للرب ذنبي أعظم من أن يحتمل أنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض ومن وجهك أختفي وأكون تائها وهاربا في الأرض. فيكون كل من وجدني يقتلني. فقال له الرب لذلك كل من قتل قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه. وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده “[34].

حسب النص التوراتي الرب يسأل عن الأخ المقتول، والقاتل يجيب بسؤال يستنكر من خلاله ويعترض عن سؤال الرب:” فقال لا أعلم. أ حارس أنا لأخي؟ “. وهذا هروب من المجرم بعدم اعترافه بما اقترفَتْه يداه. وهو أمر سيترتّب عليه حسب النّص اللعنة من الأرض، بمنع عطائها والتيهان فيها هرباً ممن سيحاول قتله. لكن نسي الكاتب التوراتي أنّه يتحدّث لنا عن بدايات الخليقة هنا، و قايين وهابيل هما أول النسل البشري حسب نص العهد القديم ولا أحد معهم، فمن سيقتله يا ترى؟. أضف إلى ذلك أن الرب قد رتب عقوبة انتقامية من هابيل تتجلى فيما عبَّر عنه النص:” كل من قتل قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه “، لكنْ سرعان ما ينسى الكاتب التوراتي نفسه، وهو المهووس بواقعه وآماله وأمانيه فيقول:” وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده “. ينتقم منه سبعة أضعاف ثم يجعل له علامة كي لا يقتله أحد. فتأمل.[35]

أمّا التفسير الإسلامي فلم يكتف بملأ الفراغات التي يحسبها على القرآن فقط، بل يزيد على الرواية التوراتية نفسها أحداثا لم ترد بهذا النص، ليخلُق لنفسه رواية مستقلة تستقي من التوراة، وتزيد عليها في حالة عدم الإيفاء بالغرض. فتحدّث عن طرق القتل وإنْ اختلف فيها، وهذه واحدة منها:” فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسه قَتْل أَخِيهِ فَطَلَبَهُ لِقَتْلِهِ فَرَاغَ الْغُلَام مِنْهُ فِي رُءُوس الْجِبَال فَأَتَاهُ يَوْمًا مِنْ الْأَيَّام وَهُوَ يَرْعَى غَنَمًا لَهُ وَهُوَ نَائِم فَرَفَعَ صَخْرَة فَشَدَخَ بِهَا رَأْسه فَمَاتَ فَتَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ “.” وَعَنْ بَعْض أَهْل الْكِتَاب أَنَّهُ قَتَلَهُ خَنْقًا وَعَضًّا كَمَا تُقْتَل السِّبَاع “. كما تحدث عن قضية الغراب وهي غائبة تماما عن النص التوراتي، وإن حضرت في القرآن بشكل سنتعرف عليه لاحقا، فقال:”  لَمَّا مَاتَ الْغُلَام تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ وَلَا يَعْلَم كَيْف يُدْفَن فَبَعَثَ اللَّه غُرَابَيْنِ أَخَوَيْنِ فَاقْتَتَلَا فَقَتَلَ أَحَدهمَا صَاحِبه فَحَفَرَ لَهُ ثُمَّ حَثَى عَلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ ” يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْت أَنْ أَكُون مِثْل هَذَا الْغُرَاب فَأُوَارِيَ سَوْأَة أَخِي “. وَقَالَ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس: مَكَثَ يَحْمِل أَخَاهُ فِي جِرَاب عَلَى عَاتِقه سَنَة حَتَّى بَعَثَ اللَّه الْغُرَابَيْنِ فَرَآهُمَا يَبْحَثَانِ فَقَالَ” أَعَجَزْت أَنْ أَكُون مِثْل هَذَا الْغُرَاب ” فَدَفَنَ أَخَاهُ “.

وهكذا فالتفسير الإسلامي يستقي معلوماته بشكل أساسي من مصادر غير قرآنية، ويزعُم أنّه يقوم بعملية تفسير للنص القرآني، بتوظيف هذا الأخير لخدمة تصورات وحمولات عقدية وفكرية معينة، بصفته شاهداً على أحداث ووقائع مثل القصة التي رأيناها. قد يكون مستساغا من الناحية المبدئية سرد قصص بطابع خيالي لو كانت القصة منفصلة عن الواقع الإنساني بكلّ تجلياته. ولكن أبعاد القصة تحمِل مفاهيم إنسانية، وأغراض تتجاوز المعطى التبسيطي لها بكونها لهواً وتسلية للمتلقي. فالقصة التوراتية تعبِّر بشكلٍ أو بآخر على عقلية الكاتب لها، حيث تجلّى هذا الأمر في الخلط المعرفي الذي سقطت فيه عن قصد أو غير قصد. كما غاب جانب العبرة والقصدية في القصة التي لم تؤسس لمفاهيم إنسانية في أبعادها، سوى مفاهيم الإله المتحيز إلى القربان الجيد، والحامي للقاتل رغم جريمته، ورغم العقوبة الانتقامية التي حاولت الرواية التأسيس لها. وللأسف الشديد سايرَت هذا الطرح الفكري في أبعاده مختلف التفاسير الأثرية. فأنشأَت برواياتها المختلفة ضبابية على ما تختزنه هذه القصص من درر، خاصة أنها تزعم انتسابها لعملية تفسير القرآن الكريم، وباعدَت بأصولها ومناهجها التفسيرية المعروفة القصة كما رواها القرآن، واقتربَت بذلك من الإلهام التوراتي كما رأينا سابقا، بتناقضاته ومفاهيمه العنصرية والضيقة، فمثلت بذلك مقاربات توراتية لا قرآنية كما سنرى.

  • القرآن وابني آدم:

اعتمادا على ما سطَّرناه في مقدّمتنا للموضوع نقوم بمقاربة هذه القصة القرآنية بعيدا عن ضيق النَّفَس التوراتي، ورحابة الخيال التفسيري الأثري. يقول تعالى:” واتل عليهم نبا ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من النادمين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا “[36]. هذه الآيات من سورة المائدة تختزل قصة ابني آدم، لا بمنطق التوراة التي انشغلت عن البعد الإنساني الرحب بتفاصيل وجزئيات لا تغني ولا تسمن من جوع، ولا بمنطق المفسّرين الذين حاولوا ملء الفراغات حسب تصوّرهم بما تجود به المفاهيم الكتابية. وإنّما اختزلت هذه القصة وفق رؤية قرآنية كان البعد الإنساني العالمي حاضرا فيها بشكل كبير. والتلاوة القرآنية لهذا الحدث التاريخي، مغايرة للتلاوات السابقة، وخاصة التوراتية منها على وجه الخصوص، فهي تلاوة بالحق :” واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق، فابني آدم في هذه الآيات ليسَا من صلبه، كما تريد أنْ تمرر لنا الروايات المشحونة بالفكر التوراتي، وإنّما همَا ابني آدم في تاريخ الإنسانية الطويل، الممتدّ في أعماق التاريخ دون تحديد أو تعيين. كما أنّ ربط هذا الحدث التاريخي، بالدفن فيه كثير من التجاوز لسياق الآيات، إذ أنّ البحث في الأرض ليس دفناً، والآية لم تصرح بالدفن، و دور الغراب هنا هو أنّه كشف للقاتل كيف يواري سوءة أخيه، لا دفنه كما هو شائع في الثقافات الدينية عموما، والقرآن الكريم عبر بقوله:” فبعث الله غرابا “، مفردا فماذا دفن هذا الغراب يا ترى؟، هنا سيأتي دور الروايات التفسيرية التي ستدخل غرابا آخر ليكتمل نسج القصة التوراتية، وحياكتها بإحكام، مع أنّ القرآن قال:” غرابا” وليس غرابين، إضافة إلى أنّ الغراب لا يدفن كما هو مشاهد في الواقع المادي.

والذي يزيد الأمر وضوحا كون ابني آدم داخل هذا السياق ليسا من صلبه هو قوله تعالى:” من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا . فهذا الحدث كما هو مُبين، كان سبباً في إنزال العقوبة على بني إسرائيل، والتجربة الإسرائيلية حديثة العهد، تفصل بينها وبين عصر آدم عليه السلام قرونا طويلة.

ولنقف الآن مع ما له صلة وثيقة بالموضوع قيد المدارسة، ونقرأ قوله تعالى:” واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين“.  فالقصة القرآنية تعتمد وفْقاً لمنظورها الإنساني المتعالي عن رؤية الذات الضيقة، على إبراز قضية مهمة يمكن أن يصطلح عليها بالتعبير المعاصر ” استراتيجية الحل السلمي “[37] في معالجة الخلافات والصراعات، سواء كانت ثنائية كما جسّدها نموذج ابني آدم، أو بين جماعتين عبْر التاريخ الإنساني الطويل. هذه الاستراتيجية التي تحدّثت عنها الآيات، تسعى لترسيخ مبدأ السلم والسلام باعتباره مبدأ إيجابيا يرسخ في النفس الإنسانية ثقافة السلم، لا بالمنظور السلبي الذي يرى في مثل هذه السلوكات والتصرفات نوعاً من الاستسلام لقوة الطرف الآخر، وضربا من العجز الفكري والجسدي على المقاومة المشروعة.

وفكرة القربان داخل النص القرآني تكسر المفهوم المتوارث في الفكر التوراتي، وانجر إليه علماء التفسير عن قصد أو بغير قصد. هذا المفهوم التوراتي الذي لا يفهم فكرة القربان إلا أشياء محسوسة ومادية، باعتباره فكرا ماديا ارتبط بشكل وثيق بالشخصية الإسرائيلية. فابني آدم قدّما قربانا وليسا قربانين منفصلين عن بعضهما، كما تريد أنْ توهمنا الرواية التوراتية، والرواية الإسلامية. وتقبل الله لهذا القربان غير ناتج عن طبيعة ما تحمله الروايتين السابقتين، وإنما سبب هذا التقبل هو أنْ أحد طرفي النزاع في هذه القصة كان من المتقين بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى متجاوز للمدلول العبادي والثقافي المرتبط بها. والتقوى داخل النص كما أشرنا سابقا هو أن هذا الشخص المتقي كان يؤمن بعدالة قضيته ولو كان نتيجة هذا الإيمان أنّ يضع حدا لحياته. فإيمانه نابع من رؤية إنسانية تستهدف ضرب الأسس التي يقوم عليها العنف باعتباره حلا لقضايا مثل هاته.

كما تبرز الآيات بشكل واضح طبيعة النفس الإنسانية، وتسويلها قتل الآخر بشكل تعسفي دون ذنب:” فطوعت له نفسه قتل أخيه “،هذه النفس المجبولة على الصراع والصدام، و المتمثلة في الأخ المؤمن بأن القوة تكون دائما مسلكا إيجابيا لجلب الحقوق أو دفع الضرر، دون الاكتراث بما قد تؤول إليه عواقب الأمور. والنهاية الحتمية لهذا الصراع الأخوي المتكرر بشكل كبير في العمق التاريخي، كانت لصالح الإستراتيجية السلمية في مقابل إستراتيجية العنف، وذلك بالتشريع الإنساني الرائع الذي يراعي المحافظة على النفس الإنسانية أيا كانت هذه النفس، وكانت توجهاتها ومذاهبها:” من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا.”. هكذا يضع القرآن الكريم الإنسان أمام خيارين اثنين، أحدهما: خيار العنف والصراع الذي يصفه بأنّه تطويع النفس الإنسانية، وغرور بمصدر القوة بصفتها حلا ممكنا لإنهاء القضايا العالقة. والخيار الثاني: هو الحل السلمي الواسع الأفق، والضارب في أعماق المستقبل لمن يؤمن بعدالة قضيته.

المراجع:

[1] – روبرت، إيه سيجال. الأسطورة مقدمة قصيرة جدا. ترجمة محمد سعد طنطاوي. مؤسسة هنداوي، ط1، 2014 .

[2] -تفسير ابن كثير، على الرابط التالي http://library.islamweb.net/Newlibrary/display_book.php?idfrom=1&idto=35&bk_no=49&ID=2

[3] – الشافعي، محمد بن ادريس، الرسالة، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت، ص: 212

[4] – الصدر، محمد باقر. مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن.  الكويت. دار التوجيه الإسلامي. نشر إلكترونيا وأخرج فنيا برعاية شبكة الإمام الحسين للتراث والفكر الإسلامي. ص:10

[5] – المرجع السابق، ص: 17

[6] – سورة النجم الآية 102

[7] – سورة الفرقان الآية 4

[8] – سورة الفرقان الاية 5

[9] – سورة فصلت الآية 26

[10] – سورة سبأ الآية 31

[11] –  سورة النجم الآية 1

[12] – سورة يوسف الآية 3

[13] – سورة الأنعام الآية 19

[14] – سورة طه الآية 114

[15] – سورة الكهف الآية 27

[16]  سورة الأنبياء الآية 45

[17] – سورة الرعد الآية 30

[18]  سورة المرسلات الآية 50

[19] – سورة الزمر الآية 29

[20]– سورة الطور الآية 33

[21] – سورة الأنعام الآية 93

[22] – سورة المائدة الآية 48

[23] – سورة المائدة الآية 3

[24] – سورة الشورى الآية 13

[25]– سورة النحل الآية 123

[26] – سورة ص الآية 87/88

[27] – الحاج حمد، أبو القاسم.(2004). جدل الغيب والطبيعة والإنسان العالمية الإسلامية الثانية. (ط1). بيروت. دار الهادي للطباعة والنشر. ص 73

[28] – سورة سبأ الآية 46

[29] – سورة الأعراف الآية 158

[30] – سفر التكوين الإصحاح 4 المقطعين 1و2

[31] – سفر التكوين الإصحاح 4 المقاطع 3 إلى 8

[32] – تفسير ابن كثير على الرابط التالي: http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura5-aya27.html

[33] – المرجع السابق

[34] – سفر التكوين الإصحاح 4 المقاطع 9 إلى 15

[35] – انظر ما كتبه بوهندي مصطفى، العقائد الإسرائيلية وأثرها في التفسير الإسلامي. بحث مرقون بجامعة محمد الخامس.

[36] – سورة المائدة الآية 27/31

[37] – من الذين يستخدمون هذا المصطلح هناك الدكتور خالص جلبي من خلال مختلف الكتابات خاصة كتابا:” سيكولوجية العنف واستراتيجية الحل السلمي “، و ” الدرس الأفغاني “.

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete