تكوين
كم هي جميلة الأمثال الشعبية التي كنا نسمعها من أجدادنا في الصغر! أمثال كثيرة منها تصف واقعنا المُعاش، وفي أحيان أخرى تُعبِّر عن واقعنا المُتخيل. أمثال تَختصر بكلمات قليلة أو جملة أو جملتين، الكثير والكثير، إلى درجة يُمكن القول عنها إنها حِكَمٌ لا يُمكن للزمن أن يُلغيها إلا بتغير الواقع الذي تُعبِّر عنه.
لكن للأسف مع تطورات العصر الحالي، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، التي كثيرًا ما أثرت وما تزال تلعب دورًا في تسطيح المعرفة بدلًا من تعميقها، بدأت هذه الأمثال الشعبية، وخاصة تلك التي يُمكن أن ترقى إلى مستوى حِكَم، بالانقراض. لن نخوض في مَنْ هو المسؤول عن هذا الانقراض، أهو التطور التكنولوجي وما رافقه من ثورة في عالم الاتصالات، أم مستخدمو هذا التطور التكنولوجي الذين يستغلونه لأغراض تسطيحِية، أم أننا أصبحنا مُستلَبين بهذا العالم وبلغته، حتى أننا في أحيان كثيرة نستخدم لغة المُستَلِب من دون أن نعلم كيف نستخدمها بطريقة ولو بالحدود الدنيا من الصحة.
فقط مثال بسيط، عند التخاطب عبر تطبيق “الواتساب”، كثيرٌ منا يستخدم لغةً خليطة بين الرقم والحرف اللاتيني، في حين لا نجد مثل هذه الظاهرة المشوَّهة إلى هذا الحد لدى متحدثي لغات أخرى غير العربية! وكأن اللغة العربية لم تتطور لتصل إلى مرحلة الكتابة، وما تزال في مرحلة اللغة الشفاهية، أو أن هناك مسألة تتعلق بمفهوم الدونية، فاستخدام اللغة العربية دليلَ “تخلف”، واستخدام اللغة الأجنبية دليلَ “تطور” وتعبيرًا عن مدى “ثقافة” المستخدِم وموقعًا اجتماعيًا “مرموقًا” للمتحدث باللغة الأجنبية!
إقرأ أيضًا: التفاهة والهيمنة
الإجابة عن كل هذه الأسئلة ليست بالأمر السهل، نظرًا لتشعُّب حقول مقاربة هذه الظاهرة، وما يرافقها من انقراض الأمثال الشعبية، وصولًا إلى انقراض -وهنا نستخدم الفعل بصيغة الماضي لأنه وفقًا لمعرفتي، قد انقرضت إلا في بعض الأفلام العربية القديمة، أي في عالم اللاواقع– القصص الشعبية قبل النوم. فمَن منا ما يزال يعرف طفلًا يُروى له قصة قبل النوم؟
نعود إلى محاولة التعرُّف على بُعدٍ واحدٍ يتعلق بالمثل الشعبي القائل:
“العلم في الصغر كالنقش على الحجر“.
ليكون السؤال: هل فعل “النقش” كان خاطئًا فأَنتج نقشًا خاطئًا؟
منذ الصغر ونحن نكره المدرسة! فهي ذلك المكان الذي نُجبَر فيه على التقيد بنظام صارم، وتُمثل بداءة الانفصال عن الأهل، والانخراط في مجتمع أكبر، وبداءة التعرف على أمور نجهلها وعلينا “حفظها” وإلا تعرَّضنا للعقاب. ولا يتوقف الأمر عند حفظ ما هو جديد فحسب، وإنما يكون ذلك مترافقًا مع انضباط صارم. وفي أحيان كثيرة يكون هناك نوعًا من التمييز بين طلاب الصف. فهذا أمه معلمة وذاك والده مدير وآخر ابن شخصية مرموقة. وهذا أمر نادر، لأن أصحاب الشخصيات المرموقة لا يضعون أولادهم في المدارس العامة، بل لهم مدارسهم الخاصة. وهذه إشكالية أخرى تتعلق بالفرق الصارخ بين المدارس الحكومية أو العامة والمدارس الخاصة. وقد تنامت منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي ظاهرة انتشار المدارس الخاصة، حتى أصبحت تنمو كالفطر في زوايا الغابة الأسمنتية للمدينة.
الأمر الآخر يتعلق بالحِمل الزائد. فحقيبة الكتب وزنها يُعادل تقريبًا نصف وزن حاملها، فعلى التلميذ أن يُحضر معه إلى المدرسة جميع الكتب والدفاتر والقرطاسية الخاصة ببرنامج اليوم الدراسي. أضف إلى ذلك انعدام وجود وقت فراغ للعب واللهو بعد المدرسة، فالتلميذ يخرج من المدرسة مُثقلًا بالواجبات المنزلية. وما أن يصل إلى منزله حتى تبدأ معاناة من نوع جديد؛ معاناة التحضير والدراسة لليوم التالي، إلى جانب إتمام كل متطلبات حياته اليومية من الطعام إلى الاستراحة إلى اللعب. فاللعب -الذي يفقد مكانته بسبب ثقل الواجبات المدرسية والمهام اليومية- يُعد واحدًا من أهم الأمور الحياتية في حياة الأطفال لتنمية مهاراتهم. وما إن ينتهي من تحضير واجباته المدرسية وتناول الطعام والاستحمام وغيرها، حتى يكون وقت النوم قد حان، لأنه ملزمٌ على النوم مبكرًا ليُعيد تكرار اليوم السابق.
الأمر الجميل في المدرسة هو اللعب في الملعب، والفرحة الكبرى عندما يغيب الأستاذ فنذهب إلى الملعب، لأن الأستاذ لم يأتِ اليوم. ومن الجماليات الأخرى في حياة المدرسة: التعرف على أصدقاء جدد، وتعلم معنى الصداقة، خاصة إذا كانت المدرسة تقع في الحي نفسه الذي يسكن فيه التلميذ. وهذه الصداقات نحملها معنا غالبًا طوال الحياة، إنها صداقات الطفولة الدائمة. وبالطبع، توجد أمور جميلة أخرى في المدرسة لا تُحصى.
لكن هناك سلوكًا شبهَ عامٍّ يُمكن أن نشاهده عند انتهاء العام الدراسي، فعلٌ يقوم به الطلبة، وهو إلقاء الكتب في القمامة أو محاولة التخلص منها بأية وسيلة ممكنة. وهنا تظهر المشكلةُ واضحةً جليةً في طبيعة العلاقة بين النظام التعليمي والتلاميذ. تُرى لماذا يُقدِمون على التخلص من كتبهم؟ أليس هذا تعبيرًا صارخًا عن استيائهم مما مَرُّوا به طوال فترة دراستهم؟
البيداغوجيا
منذ عهد التعلُّم تحت ظل السنديانة وصولًا إلى عصر النظام المدرسي الحديث، تظل عديدًا من التحديات التعليمية قائمةً رغم كل التحولات. ومع تطور المجتمعات، بذلت البشرية جهودًا حثيثة لإيجاد حلولًا ناجعة لهذه التحديات، خاصةً مع نشوء الدولة الحديثة التي جعلت من وضع سياسة تعليمية “فاعلة” مهمةً أساسيةً للارتقاء المجتمعي. لذا لا تكاد تخلو دولة في العالم اليوم من وزارةٍ للتعليم، وإن اختلفت مسمياتها من بلدٍ لآخر. وتُعد البيداغوجيا (Pedagogy)[1]. وقد تكون هنا المعضلة. أحد الركائز الأساسية لهذه السياسات التعليمية. وهنا بالضبط قد تكمن المُعضلة الحقيقية.
أي ثمة انفصامٌ واضحٌ بين المدرسة -بالمفهوم البيداغوجي- والمجتمع المحيط بها. فلو وُجِدَ أدنى حدٌّ من التناغم بين هذين الطرفين، لوجدنا التلاميذ يُقبِلون على مدارسهم بحبٍ، ولما سعوا في التخلص من كتبهم بأي وسيلةٍ كانت.
بداءةً نجد أنفسنا أمام إشكالية العلاقة الجدلية بين التلميذ وكتابه المدرسي. ففي ظل غياب المكتبات المنزلية لدى معظم الأسر -وهو واقعٌ يتفاقم مع الثورة التكنولوجية وطغيان الوسائط الرَقْمية- يُصبح الحفاظ على الكتب المدرسية ضربًا من العبث. فما قيمة الاحتفاظ بهذه الكتب في بيوتٍ تخلو من أبسط مقومات الثقافة الورقية؟ بل إن من يحتفظ بها يُوصم بأنه يجمع “خَرْدَةً معرفية” لا طائل منها!
إقرأ أيضًا: تعليم دون مدارس قراءة في فلسفة إيفان إيليتش
ولعل الإشكال الأعمق يكمن في مضمون هذه الكتب ذاتها، ولا سيما تلك المصنفة تحت عنوان “التربية المدنية”. فكيف نطلب من التلميذ أن يُقدس كتبًا تطرح مفاهيمَ مثاليةً عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة، وهو يعيش في واقعٍ يناقض هذه المبادئ جملةً وتفصيلًا؟ إنها مفارقةٌ صارخةٌ تكرس القطيعة بين المدرسة والمجتمع.
تعليم العربية
أما كتب اللغة العربية -وهنا تكمن الكارثة التعليمية الحقيقية- فإنها تُجسّد الهُوَّة السحيقة بين اللغة المحكية اليومية والفصحى. فنحن نُلقِّن قواعد الفصحى عبر صدمة الحفظ الجاف، دون أي تمهيد أو محاولة لربطها بواقع التلاميذ اللُغوي. وكأن المنظومة التعليمية تفترض مسبقًا أن الفصحى لغة مألوفة لديهم! فيعلمونها بوصفها مسلّمة بدهية، مما يخلق نفورًا تراكميًا بين الطالب ولغته الأم.
والأدهى من ذلك، أن تعليم العربية يقتصر على الجانب النظري الجاف: تمارين الكتاب ودروس الإملاء وحصص القراءة الروتينية. ففي أثناء مسيرتي التعليمية كلها، لم أشهد يومًا نظامًا يُلزم التحدث بالفصحى داخل الصفوف، في حين نجد إلزامًا صارمًا باستخدام اللغات الأجنبية، مع نظام عقوبات رادع لمن يُخالف هذه القاعدة! إنها مفارقةٌ تعليميةٌ تكرِّس اغتراب الطالب عن لغته العربية.
مجموعُ هذه العوامل، مدعومًا بالشعور المُستتر بالدونية -الذي تُعززه هيمنةُ اللغات الأجنبية- إذ تُدرَّس المواد العلمية كالرياضيات والعلوم بلغة أجنبية، بحججٍ واهية مختلفةٍ. والحقيقة هي عدم وجود جهدٍ حقيقيٍ لتطوير المصطلحات العلمية باللغة العربية، كلُّ هذا يُبعد التلاميذ تدريجيًا عن الانتماء إلى لغتهم الأم.
المناهج البيداغوجية
والكارثة أن المناهج البيداغوجية (وليس “البداغوجيا”) المستوردة لا تأخذ هذه العواملَ في الحسبان، فهي تُنقل بحذافيرها دون تكييفٍ حقيقيٍ مع الخصوصيات المجتمعية. ناهيك عن إشكالية أخرى طارئة تتمثل في تطبيق مفاهيم الجندر في المدارس تطبيقًا منفصلًا عن السياق الثقافي المحلي.
ثمة إشكاليةٌ أعمق تتعلق بمفهوم السلطة التعليمية في ظلّ التحوّلات البيداغوجية. فبينما كان المعلّم يتمتّع سابقًا بسلطة شبه مطلقة داخل الصف، جاءت المناهج الحديثة لتقزّم هذه السلطة تقزيمًا كبيرًا. لكنّ هذا التوجّه “التقدّمي” يصطدم بواقعٍ اجتماعيٍ ما يزال يعتمد في بنيته على النظام العائلي-القبلي، حيث تُسيطر الهرمية السلطوية على جميع مفاصل الحياة، من الأسرة إلى مؤسسات العمل.
فكيف نفسّر هذا التناقض الجوهري بين تقليص سلطة المعلّم في الفصل الدراسي، في حين تبقى هياكل السلطة التقليدية مسيطرةً خارج أسوار المدرسة؟ أليست هذه المفارقة دليلًا صارخًا على انفصال المنظومة التعليمية عن السياق المجتمعي الذي تعمل فيه؟
ويطرح ريتشارد فاينمان (Richard Feynman) رؤيته الثاقبة لإشكالية السلطة الصفية بقوله:
“لا يوجد حلٌّ لمأزق التعليم إلا بالاعتراف بأن التعلُّم الأمثل لا يتحقق إلا في ظلّ علاقةٍ فرديةٍ مباشرةٍ بين الطالب والمعلم المتمكّن، فيتبادل الطرفان مناقشةَ الأفكار وتمحيصَ المفاهيم وتبادلَ الرؤى”[2].
لكن كيف لنا أن نُنشئ جيلًا قادرًا على الحوار النقدي وهو يعيش خارج أسوار المدرسة في مجتمعٍ:
- يقمع الأسئلةَ في المنزل بـ “اسكت وعليك الطاعة“؟
- يُخضع في العمل لسلطةٍ استبداديةٍ لا تقبل النقاش؟
- يُحوِّل الحوارَ العام إلى خطابٍ أحادي الجانب؟
أليس هذا ضربًا من العبث التربوي أن نطلب من الطالب أن يكون “فاينمان” داخل الفصل، ثم نُحوّله إلى محض تابعٍ صامت خارجه؟
ومع التقدم في السلم التعليمي -من المرحلة الابتدائية إلى الجامعية- تتفاقم الإشكاليات وتتعقد حلولها، خاصة في ظل تَحوُّل التعليم إلى أداةٍ لخدمة متطلبات السوق. لقد أصبحت العملية التعليمية سلعةً تخضع لتقلبات السوق المحلي والعالمي، إذ لم يعد التعليم قيمةً إنسانيةً في ذاته، بل وسيلةً محضة لتحقيق مكاسب مادية وضمان موقع في سوق العمل.
وهنا تبرز المفارقة الصارخة: لماذا يزدحم الطلاب في كليات الطب والهندسة وعلوم الحاسوب، في الوقت الذي تُصبح فيه الكليات الإنسانية (كالفلسفة والتاريخ والأنثروبولوجيا) مقصورةً على قلّةٍ قليلة؟ أليس هذا التجسيد العملي لفشلٍ مزدوج:
- فشل السياسات التعليمية في الحفاظ على التوازن المعرفي
- عجز المنظومة البيداغوجية عن صياغة رؤيةٍ متكاملةٍ للتعليم
إقرأ أيضًا: مستقبل الفلسفة في مصر: عن أي فلسفة نتحدث؟
يبدو أن الخلل الجوهري يبدأ من البَذْرة الأولى للتعليم، فينتج عنه “نقشٌ مشوّه” على حجر التكوين المعرفي، يُحمَلُ أثره عبر السنين ليُثمر تشوّهاتٍ متراكمةٍ تصل حتى سوق العمل. وهكذا نجد أنفسنا أمام سلسلةٍ من الكوارث التربوية:
- ارتفاع معدلات الأمية الوظيفية
- تفشي عمالة الأطفال
- نفورٌ عام من القراءة
- انحسار الاهتمام بالإنتاج العلمي الجاد
- إفلاس دور النشر وتدهور الصناعة الثقافية
وفي مواجهة هذه الأزمة الشاملة، يسهل على المسؤولين الهروب إلى الأمام بإلقاء التبعة على التكنولوجيا وثورة الاتصالات، لكن الجذور الحقيقية تكمن في:
- إخفاقات السياسة التعليمية (وليس “البداغوجيا”)
- سياسات تعليمية قاصرة
- غياب الرؤية التربوية الشاملة
إذا كانت التكنولوجيا هي المسؤولة عن أزمتنا التعليمية -كما يزعم بعضهم- فكيف نفسّر هذه المفارقات الصارخة:
- أولًا، وفقًا لإحصاءات اليونسكو الأخيرة:
لا يتجاوز الإنتاج العربي المُترجم سنويًا 20% مما تنتجه دولة أوروبية صغيرة مثل المجر أو بلجيكا
يُترجم إلى العربية سنويًا ما يعادل 1.1 كتاب لكل مليون عربي، مقارنة بـ 519 كتابًا لكل مليون أوروبي. - ثانيًا، تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن:
مُعدل الأمية في العالم العربي يصل إلى 61% بين البالغين.
31% من الشباب العربي بين 15-24 سنة يعانون الأمية الوظيفية.
74% من الأطفال العرب يفتقرون إلى مهارات القراءة الأساسية.
كل هذا في حين أن:
- معدل امتلاك الهواتف الذكية في العالم العربي يتجاوز 80%.
- متوسط استخدام الإنترنت يوميًا يصل إلى 5 ساعات للفرد.
أليس هذا الدليل الأوضح على أن الأزمة:
- بنيوية في المنظومة التعليمية
- تربوية في غياب الإرادة الإصلاحية
وأن التكنولوجيا شماعةٌ يُعلِّق عليها المسؤولون عن المناهج التربوية إخفاقاتهم؟
الحواشي والمراجع:
[1] البداغوجيا: الاسم العلمي لدراسة وسائل التعليم وطرقه (Pedagogy) أو “علم التربية”. وهو العلم الذي يهتم بفنون التعليم وأساليبه، بما في ذلك تصميم المناهج، وطرق التدريس، وإدارة الفصول الدراسية، وفهم كيفية تعلم الأفراد.
[2] Jagdish Mehra, The Beat Of A Different Drum The Life And Science of Richard Feynman, Clarendon Press, Oxford, 1996, p. 490.