تكوين
لماذا ماركس مرة أخرى؟
بل لماذا للمرة الألف؟ سؤال من المتوقَّع، بل من الضروري، أن يخطر بذهن القارئ بمجرد مروره على عنوان المقالة الرئيس. والإجابة: لسببين: الأول خاص يتعلق بدور الفيلسوف المعاصر، حين يتساءل عن مَهمته في عصر الذكاء الاصطناعي، ونيوليبرالية شركاتِ التقنية، وإعلامِ مواقع التواصل الاجتماعي. والثاني عام، يتعلق بدور الفيلسوف عمومًا، وكيف يمكن للفلسفة أن تمارس دورًا فعّالاً في التغيير الاجتماعي على مستوى عالمي؟ وكان من الممكن أن نتخير نموذجًا سوى ماركس، هيجل نفسه، أستاذ ماركس، مثلاً، أحد أهم الفلاسفة في التاريخ، والذي قيل عنه إنه ما مِن فيلسوف تلاه، ووضع نظرية، أو مذهبًا، حتى اليوم، إلا وهو يردّ ضمنيًا عليه، بما يتضّمن ماركس ذاته. كان بالإمكان انتخاب نموذج أرسطو، الذي ظل نسقه هو العِلم بالألف واللام لمدة ألفَي عام تقريبًا، منذ وفاته في القرن الرابع قبل الميلاد، وحتى تم تجاوزه بنجاح مع مطلع القرن السابع عشر الميلادي. كان يمكننا اختيار أفلوطين، الفيلسوف المصري، الذي سيطرت فلسفته على المذاهب الإشراقية عند المسلمين لقرون عديدة، ووصلت نظرياته المعدّلة إلى أوروبا في العصر الوسيط. هناك أيضًا نموذج ديكارت على ما تميز به من أسئلة أصيلة، أسست للعقلانية في القرن السابع عشر الميلادي في أوروبا، أو فرانسيس بيكون مؤسس التجريبية.
ماركس والحرب العالمية الثانية
بيد أن ماركس تميز عن كل هؤلاء –كما يرى فلاسفة كثيرون كمراد وهبة في مصر وبرتراند راسل في بريطانيا- بكونه الوحيد بين كل هؤلاء، الذي تجسدت فلسفته في دُوَل، وحركات تحرر ثورية، ومارس تأثيرًا لا يمكن قياس حجمه؛ لجسامته البالغة، على علم الاجتماع، والاقتصاد، والسياسة، والنقد الأدبي، وعلم النفس، وفلسفة الفن، وغيرها من فروع العلوم الاجتماعية. وإذا اعتقد القارئ –كما نعتقد- أن هيجل وأرسطو هما المنافسان الأساسيان الجديران بالمقارنة من حيث الأثر التاريخي مع أثر ماركس سابق الذكر، فإن أيًا منهما، على تقدير ما لهما من أثر، لم يناهز قامة ماركس من زاويتين: زاوية امتداد الأثر، ونطاقه، وزاوية السيرة الشخصية. فإذا كان هيجل فيلسوف الدولة الأساسي، فإن ماركس فيلسوف الثورة الأهم. وإذا كان أرسطو فيلسوف العلم القديم، والوسيط، فإن ماركس فيلسوف العلم الحديث، والمعاصر. وبينما أيّد هيجل حكومة بروسيا، التي عاش في كنفها، وكان أرسطو معلّم الإسكندر الأكبر، فإن ماركس كان أبرز المعارضين السياسيين منذ ظهوره على الساحة الفلسفية، والسياسية قرب انتصاف القرن التاسع عشر، وحتى وفاته عام 1883. وسنرى كيف استطاع ماركس تجاوُزَ كلٍّ من أرسطو في مجال التصور السببي للطبيعة، الذي قام عليه العلم التجريبي حديثًا، وهيجل في مجال السياسة، ومفهوم الدولة، ودور السلطة في مقابل دور المجتمع المدني.
وأبعَدَ من ذلك قد يتساءل القارئ بصدد العنوان الفرعي للمقالة: ولماذا إعادة طرح السؤال عن أثر الماركسية في العالم العربي؟ وهو سؤال مشروع؛ فالفلسفة ليست متعة نفسية، ولا رياضة ذهنية. الفلسفة محاولة لتفسير العالم من أجل تغييره بالدرجة الأولى، وذلك منذ أول صانعي المذاهب المتكاملة، أفلاطون، الذي وضع فلسفته أساسًا من أجل التغيير السياسي. ولا شك أن المثقف العربي العامّ عليم بما للماركسية من أثر سياسي هام على العالم العربي. ونحن مشغولون ككتاب مصريين بهذا الأثر في المحيط المصري أولاً، ثم الدائرة الإقليمية العربية ثانيًا. ولهذا يتفرع السؤال عن أثر الماركسية إلى نطاقين: الأول هو النطاق التاريخي العالمي، والثاني هو النطاق التاريخي المصري، والعربي. ولكل ذلك ليس عنوان المقال عنوانًا صحافيًا جذّابًا من حيث منطق صوغه. ليس المقصود أن يندهش القارئ من “نصف المعلومة”، التي تثير الفضول إلى المزيد. لقد كان ماركس فعلاً سببًا في إشعال أكبر حرب عرفتها البشرية على المستوى العالمي، كما كان سببًا في أكبر تحول سياسي وقع في مصر، والشرق الأوسط، على أيدي مجموعة الضباط الأحرار في 1952. وسنعرف في الفقرات التالية لماذا كان من الطبيعي أن يحتل ماركس هذه المكانة العليا في الأثر الفلسفي، وهو الفهم، الذي سيؤهلنا، إذا استفدنا منه، لنكون مفكرينَ مؤثرينَ في المحيطين المحلي، والعالمي.
أرسطو وماركس
أولاً: من الميتافيزيقا إلى الفيزيقا: أرسطو وماركس
1-مشكلة السببية
كانت، وظلت إلى الآن، مشكلة السببية Causality، أيْ طبيعة العلاقة بين السبب والنتيجة، واحدة من أهم مشكلات الفلسفة. وهي بالأحرى “إشكالية”، لا مجرد مشكلة؛ فالمشكلة تفترض مسبقًا كمفهوم أنّ لها حلًا معروفًا، أو أن بالإمكان حلها حلًا حاسمًا في حدود معرفتنا، ومن حيث المبدأ. بيد أن الإشكالية Problematic هي المشكلة، التي تتفرع مشكلات أخرى، قد تكون أكثر حدة، وإعضالاً، مِن محاولة إجابة سؤالها. وقد أجاب حديثًا كارل ريموند بوبر K. R. Popper عن سؤال السببية في صيغته: كيف نثبت تجريبيًا العلاقةَ بين السبب والمسبَّب، تلك التي يقوم عليها العلم التجريبي؟ بأن السؤال نفسه غير صحيح؛ فنحن “نسلّم” بهذه العلاقة؛ كي تقوم التقانة أصلاً، وكي يكون للعلم التجريبي فائدة عملية. وهي إجابة، يعتقد فيها غالبية علماء اليوم، وفلاسفة العِلم. وهي إجابة، كما سيَلْمح القارئُ الفطِن، تعبّر عن اليأس من محاولة إيجاد رابطة حتمية بين السبب، ونتيجته. أما في عصر أرسطو، في القرن الرابع قبل الميلاد، لم يكن اليأس قد تسلل إلى قلوب الفلاسفة بعدُ في مواجهة هذه المسألة. وكانت إجابة أرسطو مبتكرة، ومؤثرة حقًا على تاريخ الفكر لعشرين قرنًا تقريبًا. وهي الإجابة، التي يمكن تلخيصها تحت مفهوم واحد: “المحرِّك الأول” Prime Mover.
مفهوم “المحرك الأول” -في رأينا- هو الذي جعل لأرسطو مكانة فلسفية حقيقية، إذا استثنينا الأورجانون (مجموع المنطق). مع ذلك فهذا الاستثناء ليس ضروريًا؛ لأن النبوغ في المنطق يختلف عنه في الفلسفة، وله مقاييس مختلفة، لا داعيَ لتشتيت القارئ بالخوض فيها في هذا المقام. المحرك الأول هو –فيما نعلم- أول مفهوم عن الألوهية في الفلسفة، يربط بين الفيزيقا والميتافيزيقا على نحو استنباطي مُبرهَن، ومُعزَّزٍ بالمشاهدات المتاحة في وقته، ويحل في الوقت نفسه سؤال تسلسل العلل؛ فهو علة نفسه، وعلة حركة العالَم، الذي يدور حوله، وهو في غيبوبة عن كل شيء إلا نفسه؛ فهو لا يَرى، أو يعقِل، إلا نفسه. ويتمتع الإله الواحد، من وجهة نظر أرسطو، بثلاث صفات سلبية فقط: لا يعتني بالعالَم، لا يعرف شيئًا محددًا عنه، لا يخلقه من عدمٍ. وتفصيله: أنه لا يتدخل في أحداث العالَم، ولهذا يمكن للعقل البشري فهم العالَم بناء على السببية المادية، أو العلة الفاعلة باصطلاح أرسطو. وهو لا يعلم جزئياته، أو أحداثه، وإلا تبدلت طبيعته بفعل المعرفة، وهو من المفترَض أن يكون سرمديًا، بسيطًا ثابت الكينونة، مهما امتد الزمان. وهو –أخيرًا- لم يخلق هذا العالَم، وإلا تبدلت طبيعته أيضًا بفعل الخلق ذاته. والسبب في الصفتين السلبيتين الأخيرتين هو أننا، لو افترضنا أن هذا المحرك الأول قابل للتغير، لصرنا في حاجة إلى تعليل هذا التغير، ولَتَسلسلت العللُ إلى ما لا نهاية.
2- لماذا افترض أرسطو وجودَ إلهٍ واحد؟
والسؤال المشروع هنا: لماذا أصلاً افترض أرسطو وجود الإله؟ والإجابة: اضطر أرسطو بحسب مذهبه إلى هذه الفرضية؛ ليفسر السببية في الطبيعة. لا يمكن أن تستقل العلة الفاعلة Causa efficiens، وهي السبب المادي خلف ظاهرةٍ ما بفَهْمنا اليوم، بتفسير عالمنا؛ لأننا سوف نتساءل عن السبب وراء هذا السبب، ثم السبب المسبِّب لذلك السبب، وهكذا نقع في تسلسل لا نهائي. لهذا احتاج أرسطو العلةَ الغائية Causa finalis؛ ليغلق بها الدائرة، ويقطع تَسَلْسُلَ العلل. باختصار، وبحسب أرسطو: إذا تتبعنا علةَ شيءٍ ما، أي شيء، فسوف نتدرج في تسلسل العلل الفاعلة، إلى أنْ نصل إلى المحرك الأول، المسبِّب لكل الأسباب. وهو يحتل هذا الموضع؛ لأن المادة نفسها يجري عليها التغير نتيجة دورانها حوله. لماذا تدور حوله المادة؟ لأنه هو نفسه غايتها. وهو مَعْنى “العلة الغائية”. وهو نفسه الدليل على وجود الإله الواحد عند الأرسطيين، “دليل الحركة”: فإذا تتبعنا الأسباب، لوصلنا –بحسبهم- إلى سبب واحد خلف أقصى الأسباب، لا سببَ له هو نفسه، أو أنه هو علة نفسه، وهو الإله. والخلاصة هي أن المحرك الأول هو مصدر كل حركة في العالم، لكنه لا يوجهها بإرادته، لا يُحْدِثها بفعله، بل هي التي تَحدُث تلقائيًا بناءً على تفاعُل المادة الأزلية مع مجرد وجوده.
استطاع أرسطو عن طريق إضافة مصدرية الحركة إلى مفهوم الإله أن يفسر الطبيعة، وأن يستنبط على نحو متسق ما بعدها. وإن المدقق في تاريخ الفلسفة السابق عليه سيجد أن الإله في أغلب المذاهب الدينية، والفلسفية –على الأقل- منفصل عن العالم الطبيعي رغمَ تدخله الدائم فيه، وأن علاقته بالعالم لا تفسر تحولات الطبيعة، وغير واضحة. زيوس مثلاً عند الإغريق، أو أودين عند النورديين، أو آمون عند المصريين، ليس مصدر حركة العالم، ولا علاقة له بالعلة الفاعلة في الطبيعة. وحتى إذا كانت له مثل تلك العلاقة بالطبيعة، فإننا لا نجد تأسيسًا نظريًا لذلك مدعومًا بالمشاهدات، ولا فلسفة مكتملة للطبيعة، تبين لنا دور الإله فيها. وعند أفلاطون، إذا فرضنا أن مثال الخير، أو مثال الجمال، يعادل مفهوم الإله، فإننا بحسبه لا نفهم طبيعة الصلة بينه، وبين عالمنا. أما بَعد أرسطو فقد تجنب المشارقة المسلمون، وأهمهم الفارابي، وابن سينا، هذه النظرية وأبدلوا بها نظرية أفلوطين في الفيض Fluxus، التي تقوم على مبدأ الخَلْق الأزلي بلا إرادة. فوقع الفصل بين الإله والسببية الدائمة، وتمَّ الاكتفاء بسببية أُولَى مؤقتة، هي التسبب في وجود العالَم أصلاً. أما المغاربة المسلمون فقد استعادوا سببية أرسطو على يد ابن رشد، الذي سافرَتْ شروحاته، فملأت أوروبا، وشغلت الأوروبيين. ومَن لم يفهم معنى “المحرك الأول”، وطبيعة العلاقة بينه وبين المادة عند أرسطو، فلن يفهم سر هذا الاهتمام بأرسطو بالذات في العصر الوسيط شرقًا، ثم غربًا؛ كونه يقدم فلسفة متسقة تربط بين الطبيعة، وما بعدها، للمرة الأولى، بحيث تفسِّر السببية، وبحيث تظل –في الآن نفسه- بعيدة عن متناول يد المحرك الأول الوحيد، الغنيّ في وحدته عن كل شيء.
وإن أقوى دليل، وأبسط دليل، على وجود الله –في نظرنا- لهو “دليل الحركة” لأرسطو سابق الذكر. وقد ظلت صورته السائدة هي : لكل متحرك محرٍّك، حتى نصل إلى محرِّك لا يتحرك، هو المحرك الأول، الذي هو مَصدر الحركة، لا مَصدر المادة. أما الصورة السلبية من هذا الدليل فهي: أن المفترض بالكون أصلاً ألا تكون به حركة، إذا كان أزليًا، فما الذي سبّبها؟ كيف نشأت التناقضات في الطبيعة، التي هي سبب الحركة؟ فإذا وضعناه في هذه الصورة الأخيرة، لوجدناه دليلاً بدهيًّا؛ فهو يستدل بوجود تناقضات في الطبيعة على أن الكون حادِث. إنه يستدل على طبيعة المخلوق، لا الخالق، ثم يستنبط الخالق من المخلوق؛ فلا بد مِن أنَّ لكل مخلوقٍ، خُلِقَ مِن عدَمٍ، خالقًا. ولو كان الكون أزليًا، بلا لحظة خَلْق معينة، لتعادلتْ قواه منذ زمنٍ طويلٍ جدًا.
تخيل حفرةً لا قاع لها، ممتدة إلى ما لا نهاية، هل تتصور أن يوجَد بأيّ درجةٍ احتمالٌ ألّا يقع ما يقع فيها، ويتعلق في الهواء، أو يرسو على قاع، ويكفّ عن الحركة، ويستمر لأيّ وحدة زمنية أو مكانية مهما كانت ضئيلةً؟ سبب الوقوع في الحفرة هو الجاذبية في المثال، وسبب (السقوط) الزمني الحقيقي –بحسب علم الطبيعة الحالي- في كوننا الحالي هو الإنتروبيا (القصور الحراري)، الذي يؤدي إليه القانون الثاني للديناميكا الحرارية: كل شيء سينتشر ليتعادل مع كل شيء حرفيًا، الوجود المحدود سينتشر في الفراغ المتمدد بأسرع من الضوء حوله، وسيتبدد تمامًا في أقل من لحظة حسابًا بعمر الأزلية اللانهائي. وهو ما عززته كشوفات إدوين هابل Edwin Hubble (ت 1953 م) الفلكية المثيرة، المتعلقة بتمدد الكون، وبتسارُع معدّل هذا التمدد، حتى وصلَ هذا المعدل بالفعل إلى أسرع من سرعة الضوء في الأطراف البعيدة جدًا للكون. لا يمكن لشيء واقع في الزمكان أن يتحرك بأسرع من سرعة الضوء بحسب نسبية آينشتين، ولكنْ يمكن للزمكان نفسه أن يفعل ذلك. المسألة الفاصلة هنا أن كوننا يتحرك نحو التعادل، لا التناقض؛ فلو كان أزليًا، لانحلت كل تناقضاته في زمنٍ يساوي مقدارُه عكس اللا نهاية، هو الصفر. بناءً على ذلك فالكون كما نراه الآن، هذا الكون النشِط، المتحرِّك، لا يستقل بوجوده المادي، ويتطلب افتراضًا ميتافيزيقيًا، هو افتراض وجود محرك أوَّل، أصيل، سرمدي، لا يتحرك. وهكذا تطلبَ تفسير الطبيعة عند أرسطو فرضيةً ميتافيزيقية. وهنا يأتي دور كارل ماركس في نقض هذا الدليل على وجود المحرك الأول، الذي قلنا إنه أقوى الأدلة.
3- كيف نقضَ ماركسُ دليلَ أرسطو على وجود الإله؟ الديالكتيك والكون الدَّوْريّ
يعتقد ماركس، مع طابورٍ من فلاسفة الجدل (الديالكتيك)، ذلك الممتدّ من هيراقليطس إلى اليوم، أن الحالة الأصلية للكون ليست الثبات القائم بفضل تعادُل القُوَى، بل الحركة الدائمة بسبب تناقض الكيفيات، والذي وقعَ بدوره بسبب عدم التوازن الكمّي على أطراف مختلفة. ولهذا فإنَ من أصول الديالكتيك أنَّ التحوّل الكمّي يؤدي إلى التغير الكيفي. وإذا تساءلنا عن السبب الأول لهذه الحركة، أي المحرِّك الأول لها، لَأجاب الجدليون: لو أنها بدأتْ في لحظة بعينها، لكان السؤال السابق مشروعًا، أما بافتراض أزلية هذه الحركة العامة في الطبيعة، فإنها بلا علة. وقد يكون ردهم بسؤال مقابل: لماذا نفترض أصلاً أن يكون لها علة، وهي من الوارد أن تكون أزلية؟ وهناك بالفعل نظريات في الكوزمولوجيا، أيْ النظريات العلمية، التي تصف الطبيعة ككل بناءً على الفيزياء وحدها، ترسم شكلَ كونٍ مُتحَوِّلٍ باستمرار، تمثل فيه الحركة جانبًا أصيلاً من طبيعته، وهي نظريات الكون الدوري Cyclic universe.
اشتُهر مؤخرًا خارج مجال علم الطبيعة اسمُ الفيزيائي البريطاني روجر بنروز Roger Penrose(1931-؟)، حين قدّم نظريةً، تندرج تحت هذه الفئة من نظريات الكوزمولوجيا، وتقوم باختصار على نموذج الكون، الذي يبدأ من الانفجار العظيم، ويتمدد حتى أقصى اتساع ممكن، مما يتسبب في انفجار عظيم جديد، وهكذا، دون بداية محددة للطبيعة، ولا نهاية. وبرغم شهرة هذه النظرية مؤخرًا في أوساط علماء الطبيعة، والمهتمين بالفيزياء، فإن دارسي الفلسفة يعرفون جيدًا تلك الفصيلة من النظريات، ويدركون أنها قديمة جدًا، ربما كان أقدم طرح لها هو السنة الكبرى عند الهندوس. ويعرفون أيضًا أنها وصلت إلى اليونان، وأن بعض فلاسفة الإغريق قد طرحها بصورة مختلفة عن بنروز، وعن الهندوس، وأشهرهم في هذا الطرح إنبادوقليس (أمبيذوقليس عند قدماء العرَب)، وهيراقليطس.
على كل حال أمكن للماديين الجدليين، كماركس، وإنجلز، وسواهما، نقض دليل الحركة، وإنْ لم يكن هذا النقض شغلهم الشاغل. كانت مهمتهم الأساسية هي تقديم نموذج ميكانيكي، مادي، للكون، يمكن أن يقوم عليه العلم التجريبي، دون الحاجة إلى فرضية ميتافيزيقية. ويمكننا أن ندعوَ هذا النموذج باسمه الأشهر: “المادية الجدلية”. عن طريق المادية الجدلية استطاع الماركسيون تقديم نموذج جديد للمادية، يحل محل المادية الكلاسيكية، مادية لابلاس Laplace الاستاتيكية، التي لا تحل سؤال علة العلل، وأصل الحركة، والتي تقوم على نموذج نيوتن الفيزيائي للكون الثابت. وبمعايير الإبداع الفلسفي يمكن القول إن هذا التصور المادي-الجدلي كان إنجازًا عظيمًا في وقته على الأقل، قرب منتصف القرن التاسع عشر، يفصل بين الفيزيقا، والميتافيزيقا؛ ليس لأنه يبرهن على عدم وجود أي كيان ميتافيزيقي، ولكنْ لأنه ينفي الحاجة إلى افتراض مثل هذا، ذلك الافتراض، الذي اضطر له أرسطو قديمًا، والذي استمر عشرينَ قرنًا تقريبًا. ومع ذلك بقيت أمام ماركس عقبة أخرى معقدة: هي: إذا فسرنا الطبيعة عن طريق المادية الجدلية، فكيف نفسر التاريخ؟ بصيغة أخرى: ما الصلة بين التاريخ الإنساني، وبين المادة، التي مِن طبيعتها الحركة؟ اعتقدَ أوغسطين، في مطلع العصر الوسيط في القرن الرابع الميلادي، أن الله نفسه هو محرك التاريخ، وذلك فيما يعرَف عند الباحثين بـ”لاهوت التاريخ”. وهو تنويع على النموذج الأرسطي الأساسي: الميتافيزيقا هي علة الفيزيقا، بما فيها وقائع تاريخ الإنسان. فكيف نفسر حركة التاريخ، إذا لم نُضطر إلى هذا النموذج؟ هنا يأتي دور هيجل بمثاليته المطلقة؛ ليجيب عن هذا السؤال.
ثانيًا: من الدولة إلى الثورة: هيجل وماركس
1- الرُّوح بما هو الصِّلَة بين الطبيعة والتاريخ
يرى هيجل باختصار شديد أن الطبيعةَ، والتاريخَ، متصلان بلا انقطاع، وأنّ ما ينطبق على حركة الطبيعة ينطبق كذلك على حركة التاريخ. وقد استطاع هيجل بذلك بدءًا أن يحقق الصلة بين المادة، والتاريخ. يعتقد فيلسوف بروسيا الأشهر، تلميذ كانط الأنجَب، وأستاذ ماركس الأهم، أنَّ علة الطبيعة، وعلة التاريخ، واحدة، هي المُطلَق Absolute (يطلَق عليه كذلك “الرُّوح” Geist).[1] وهي فكرة معقدة، يصعب تصورها لغير المختص، ولذلك قد ينزعج المختصون من تبسيطها، غير أننا مطالبون من جهة أخرى بهذا التبسيط. إن هذا المطلَق ليس شيئًا موجودًا في الطبيعة، أو التاريخ، بل هو حالٌّ فيهما حلولَ الروح في الجسد. ولهذا اتُّهِم هيجل بالكفر في زمنه بسبب ما يترتب على هذا القول من وحدة الوجود. هذا المطلَق عبارة عن فكرة مجردة، لكنّ تجلياتِها في الطبيعة، والتاريخ، هي التي نلقاها بالخبرة المباشرة. وهو فكرة، مِن طبيعتها أن تتحقق، أن تتمثل في أشكال مادية عبر مراحل معينة، من الأكثر تجردًا إلى الأشد تعيُّنًا. المجرَّد هو ما لا زمانَ محددًا له، ولا مكان. والمتعين هو ما يمكن من حيث المبدأ، إن لم يكن من جهة الواقع، أن نحدد له زمانًا محددًا، ومكانًا معينًا. الخير، أو الشر، فكرة بلا إحداثيات، بلا زمان، ولا مكان. أما كوكب الأرض مثلاً في الطبيعة، والدولة في التاريخ، فهما من قبيل المتعيِّن، الذي يتمتع بإحداثيات زمانية، ومكانية، معًا.
وإن هذا المطلَق، بما هو مطلَق، وبما هو من قبيل المجرد في نظر هيجل، يسعى بطبيعته، لا بإرادته، لأنْ يصير متعينًا أكثر، فأكثر، عبر مراحل تاريخية متدرجة. وهو المبدأ، الذي يَنْظم كلَّ فلسفة هيجل، والذي يتوقف على فهمه فَهْمُ فلسفته بصفة عامة. وذلك بحيث تكون تلك المراحل المتدرجة من التجلِّي أزلية بلا بداية، بما هي حركة دائمة. ولهذا فإن هيجل فيلسوف جدلي، ديالكتيكي. مثلاً يرى هيجل أن الشِّعر “مرحلة” أرقى من الموسيقى؛ وذلك بناءً على أن الموسيقى الخالصة، أي التي لا يصحبها شِعر في شكل أغنية، أو أوبرا، كسيمفونية موتسارت رقم 40، أو سيمفونية بيتهوفن السابعة، لا تقدم فكرة متعينة، بحيث نحسم القول في ما يقدمه العمل الموسيقيّ. ولأنها فنّ العواطف المجردة، فالموسيقى مرحلة أدنى من الشعر، الذي يستطيع من حيث المبدأ، ومن جهة الواقع، قَوْلَ شيءٍ محدَّد. هكذا يتجلى المطلق من الموسيقى إلى الشعر. وهي مسافة قصيرة جدًا قياسًا على المسافات الهائلة، التي يقطعها المطلق في تجليه من الطبيعة، إلى الدين، إلى الفن، ثم إلى الفلسفة، حتى يصل، عبر مراحل أرقى، إلى أقصى تجلياته: الدولة.
والمقصود في سياق هيجل بالدولة هو “الدولة القومية” Nation state، من دون إحالة إلى الأيديولوجيا القومية Nationalism. الدولة القومية هي التجلي الأكثر موضوعية للروح. ولهذا هو –هيجل- فيلسوف الدولة بالألف واللام. وعن طريق المسار التدريجي الصاعد من الطبيعة إلى الدولة على نحو مترابط مركَّب، يصعب الخوض في تفاصيله في هذا المقام، حقق هيجل نظريًا العلاقة بين الطبيعة، والتاريخ. وذلك بحيث تمثل مرحلة الدولة القومية، المرحلة، التي تمخضت عنها الثورة الفرنسية، الحدث الأهم في حياة هيجل، نهايةَ التاريخ، وبحيث تمثل فلسفته تلك نهاية الفلسفة، بما هي نفسها فلسفة الفلسفة، التي تُعَيِّن موضع الفلسفة نفسها كمرحلة تاريخية-ميتافيزيقية مِن مراحل تجلي الروح.
2- كيف، ولماذا تجاوزَ ماركس نهايةَ التاريخ؟
كيف تجاوزَ ماركس هذا البناء المذهبي المُشيَّد؟ بَلْ لماذا؟ يعتقد ماركس أن هذا النسق الهيجلي مزيَّف بمعنى معيَّن. وهذا هو السبب في أن ماركس –بحسب بول ريكور كما هو مشهور- أحد ثلاثة، هم “فلاسفة الارتياب” مع نيتشه، وفرويد. وهم فلاسفة ارتيابٍ؛ لأن منبع أفكار كل من الثلاثة ينحدر بدءًا، وأصلاً، من فرضية أنَّ كل التنظير السابق على الواحد منهم، كل بحسب مجاله، موضوع أصلاً كغطاء أيديولوجي، كنسق يستهدف مصالح سياسية، واجتماعية في المقام الأول، ليُخفيَ هذه الأهداف، ويُيَسّر لأصحابها التوصل إليها من دون الكشف عنها. وطالما كان هيجل أشمل ما وُضع للناس من مذاهب فلسفية، فهو في رأي ماركس المزيِّف الأكبر، كما كان بالنسبة له المعلم الأول. تعلم ماركس من هيجل كيف يكون الديالكتيك، الجدل، مذهبًا شاملاً، لكنه أنكر عليه أن يوظِّف هذا الديالكتيك المذهبي العظيم لخدمة دولته، بروسيا. وهنا يأتي دور “المادية التاريخية” عند ماركس؛ لتُتَمّم دور “المادية الجدلية”، وتُرْسِيَ الصلةَ بين الطبيعة، والتاريخ، على نحو مختلف عمّا قدمه هيجل، والتي تمثل كذلك فلسفة ماركس في التاريخ.
إن إضافة كارل ماركس الأصيلة، والأساسية في فلسفته للتاريخ، التي هي أساس مذهبه السياسي ككل، هي أن السابقين عليه منذ هيراقليطس، وحتى فويرباخ، قد انحاز كل منهم إلى أحد قطبي الفلسفة الكبيرين، الأكثر عمومية بصدد الأنطولوجيا: بارمنيدس القائل بالثبات الأزلي الأبدي، الذي يُعتبر التغيرُ فيه استثناءً، والذي انحاز له أرسطو، وهيراقليطس القائل بالتغير بناءً على صراع الأضداد، وبأن الثبات فيه مجرد مرحلة ضمن مراحل عديدة، الذي انحاز له هيجل. أما هو –ماركس- فقد وجد أن الصراع يدور أصلًا بين هذين القطبين: بين القائلين بالثبات، الذين يعبرون عن أنفسهم في مجال الأيديولوجيا بأطروحات المحافظَة، والرجعية، وهُم اليمينيون أرباب الوضع القائم، وبين القائلين بالحركة، أي التقدميين، واليساريين بصفة عامة، المبشرين بالعصر القادم.
الوجودية: فلسفة تمرّد وحرية وتفكّر في القلق الوجودي!!
وبينما اعتقد المثاليون اليمينيون، كهيجل، واليمين الهيجلي، أن القطبية الفلسفية هي أصل القطبية الأيديولوجية، فقد رأي ماركس العكس: أن هذه القطبية الأيديولوجية هي التي عبرت عن نفسها أنطولوجيًا، فلسفيًا، عن طريق القطبية البارمنيدية-الهيراقليطية بأسماء جديدة في كل حقبة تاريخية، وأن هذا الأساس الأيديولوجي الخفي للفلسفة ما هو إلا التعبير الأوّلي عن التناقض الاجتماعي السياسي المتأصل في التناقض الطبقي-الاقتصادي تحديدًا؛ لأن الاقتصاد هو المتغير المستقل في المعادلة (وليس الوحيد). وبالتالي فإنه محرك التاريخ، الذي إذا عرفنا معادلته،لَاستطعنا اختراق برنامج التاريخ، ولَوجَّهْناه على نحو يضمن العدالة الاجتماعية من ناحية، ويوقِف حركته من ناحية أخرى؛ لا ليتلاشى التاريخ، والوجود، بل لينتهي مسار التاريخ البشري، المليء بالظلم الطبقي، كما نعرفه، ويبدأ عصر جديد من الوفرة اللا نهائية، لا تصل إليه قدراتنا التكنولوجية الحالية، ولا يتبعه تحول تاريخي جديد؛ بسبب نهاية صراع الأضداد، أيْ نهاية الصراع الطبقي.
وبهذا أضاف كارل ماركس، وسواء أَعتقدتَ في آرائه أم لا، بُعدا جديدًا للإشكال، ولِتصوُّرنا عن الوجود بما هو وجود، أيْ تصوراتنا الأنطولوجية. وإنَّ أخطر ما يمكن للفيلسوف تقديمه، بما هو فيلسوف، أن يبدل تصوراتنا الراسخة بصدد الوجود، بما هو وجود. لهذا، وبهذا، تجاوزَ ماركس مذهب مُعلّمه المثالي؛ فمن جهة استطاع عقد الصلة بين الطبيعة، والتاريخ، ومن جهة أخرى شكلت هذه الصلة الجديدة نفسُها مبدأً للثورة على دولة هيجل. ومن هنا يمكن القول إن نهاية التاريخ، إذا كانت تتحقق بالدولة عند هيجل، فإنها تتحقق بالثورة على يد ماركس. وإذا كان هيجل فيلسوف الدولة القومية بحقّ، فإن ماركس كان -بالقدر نفسه من الحقّ- فيلسوف الدولة متعددة القوميات، والتي تجسدت فعلاً بعد وفاته بحوالي ثلاثة عقود من الزمان في الاتحاد السوفييتي.
ماركس ومذاهب الفلسفة
3- كيف قَضَى ماركس –حَرْفيًّا- على مذاهب الفلسفة؟
في ذلك الوقت، قبل انتصاف القرن التاسع عشر ببضع سنين، كانت الاشتراكية الطوباوية (المثالية لا المادية) تحاول في ظل تَنافُس جماعات اليسار الأوروبي أن تروّج لنفسها عن طريق موافقة قيم الجمهور الخلُقية، كالعدالة، والمساواة، وحقوق الإنسان الطبيعية. أما الماركسية فمما ميزها منذ البداية، ومنذ منتصف عشرينيات ماركس، أنها جذبت الطليعة المثقفة من الجيل الجديد بسرعة، عن طريق موافقة تلك الطليعة في أصولها المعرفية، لا الخلُقية، أيْ منهجية العلم التجريبي. ولهذا أسماها صاحبها “الاشتراكية العلمية”. وتقوم الأخيرة على مبدأ الدراسة التاريخية للمجتمع، وهي التاريخية Historicism، وعلى مبدأ أن الناس أبناء بيئتهم في محصلة أثرهم، وتأثرهم، وهي الماديةMaterialism . وذلك بحيث لا تنقطع الصلة بين المادة، وبين الفكرة، بين الطبيعة، وبين التاريخ. الفكرة نتيجة تفاعل مادي معين، وهي كذلك ما يؤدي إلى حركة جديدة في المادة، وهكذا.
إذن لم يقل ماركس إن الأفكار والإرادة الحرة لا دور لها، بل قال إن الناس ينطبعون بالبيئة نفسها، التي يؤثرون عليها بأنفسهم، ومن ثم يصيرون مكونًا أساسيًا من مكوناتها، وبالتالي لا انفصال أصلًا لديه بين المادة، والفكرة، أو بين الحجارة، والإرادة. وهكذا هي مادية ماركس “جدلية”، حيث تختلف عن المادية الكلاسيكية، التي قامت على مفهوم مختلف عن المادة، هو ما هو محسوس، وملموس. في المقابل قدم ماركس مفهوم “المادة المفكرة”، أو “الفكرة المادية”، كما يمكننا أن نطلق عليها، وتعني ذلك الكيان، الذي يتكون، ويتحول باستمرار، في تأثره بالفكرة، والإرادة، وبتأثيره فيهما، في جدل لا ينقطع إلا في نهاية التاريخ بالمجتمع الشيوعي، مجتمع وصلت فيه التقانة إلى درجة لا نتخيلها، بحيث يمكن لها تحقيق الوفرة للجميع بلا صراع طبقي. لكنه -هذا المجتمع المستقبلي- سيصل أيضاً إلى درجة ختام الفلسفة، نهايتها على يد ماركس، كما كان يأمل، وبحيث تغدو كتاباته إنجيل “مجتمع ما بعد الندرة” Post-scarcity society. على هذا النحو تفسر الماركسية في نظر مؤسسها، ونظر الماركسيين الأصوليين، لماذا هناك فلسفة؟ ولماذا هو آخِر فيلسوف؟ ولماذا قام بهدم الفلسفة السابقة عليه كلها بإجابته عن السؤالين الأول، والثاني.
وقد نجح ماركس جزئيًا في طموحه، الذي يبدو للمختصين بالذات خياليًا، فمن ذا الذي يأمل أن يمثل مشروعُه نهايةَ الفلسفة، بل ويقدم نفسه لجمهوره كآخر فيلسوف؟! مع ذلك، وكما قال برتراند راسل، “كان ماركس آخر بناة المذاهب العظام”. يمكن القول بلا مبالغة إنه قد نجح في تحويل مسار الفلسفة جذريًا، حتى لم تعد هناك مذاهب متكاملة بعده، كما كان معهودًا بطول تاريخ الفلسفة. وكان ماركس سببًا أساسيًا في ذلك، يتصل حتى يكون سببًا مباشرًا لقيام الحرب العالمية الثانية! وبهذا يتصل رأس مال ماركس، ويكافح خارجًا من أحشاء النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى يلتقي بـ”كفاح” هتلر في عشرينيات القرن العشرين.
كي نفهم ذلك علينا أن نتصور أولًا بصورة دقيقة قدر الممكن مدى انتشار الماركسية الواسع، وسرعة تداولها بين مثقفي غرب أوروبا بالذات في ألمانيا، وفرنسا، الذين كانت غالبيتهم من اليسار الطوباوي بأطيافه المتنوعة. وهكذا كانوا يتنافسون تنافسًا ذاتيًا، وكان معيار التميز هو القيم، التي يعير عنها صاحب الطرح، ومدى قابلية طرحه للتنفيذ. ولما بدأ ركود الحركة العمالية يزعجهم، ازدادوا عزلة، واغترابًا عن جمهورهم، وطرحوا أفكارًا خيالية من جهة، لا تختلف جوهريًا عن وُعود الكنيسة، ووَعيدها، من وجهة نظرهم، ومن جهة أخرى فهي غالبًا ليست إلا حلولًا إصلاحية معتدلة. ومن وجهة نظر ماركس كان هذا هو سبب فشلهم، حتى أن كميونة باريس 1871، التي تعرضنا لها في مقالة سابقة، قد قامت من دون أمثال هؤلاء المثقفين المنعزلين المعزولين.
ثالثًا: الأساس الوُجودي للماركسية: الجيل الجديد والفيلسوف الأخير
كان ذلك الجيل جيلًا يساريًا شابًّا، يبحث عن طموح عالٍ، يميزه، وينال به اعتراف الجيل السابق، وربما الجيل التالي، كأي جيل يساري آخر في الحقيقة، وكأي جيل شابّ عمومًا. كانت الماركسية مناسبة للحظتها التاريخية، والتي تلبي الحاجة الوجودية لذلك الجيل في قتل الأب الرمزي، وميلاد الذات الحقيقية. كانت هي المذهب المنشود، الذي صار منتشرًا كانتشار علامة تجارية كبرى في مجتمع اليوم؛ لأنه غدا معبرًا عن أرواحهم المتمردة الجديدة، ورابطًا بين جماعاتهم، وعلامة على الانتماء، ولأنه، وربما قبل كل ذلك بالنسبة لكثير منهم، منحهم اختبار الرجولة الذي أرادوا، الذي قرروا أنهم سينجحون فيه؛ لأننا في مرحلة الشباب نحب اجتياز هذا الاختبار، بل نحتاج هذا الاختبار بحبنا للمخاطرة، والمغامرة، والمقامرة. ونحن كشباب نحب المخاطرة؛ لأنها تظهرنا أكبر، وأرقى مما نحن عليه فعلًا. لكنها طريقة لا تعمل إلا على نحو ثوري؛ فإن موقف شجاع واحد مدته دقائق أفضل من حياة كاملة. وجاء ماركس ليقدم لهم هذه اللعبة الجديدة، المقامرة التاريخية، المتعارضة جوهرياً مع أفكار شيوخ الثورة الفرنسية، والموافقة في الوقت نفسه لمستوى تعليم الطبقة العليا، والوسطى، مع انتشار التعليم إلى حد لم يصله من قبل في بروسيا، ثم الرايخ الثاني فيما بعد، بجهود بسمارك العظيمة. باختصار كانت الماركسية في لحظة إعلانها الأول، تأكيدًا على كينونة جيل جديد، على رؤيته الجديدة، الأصيلة، وعلى إرادته، المنعقدة حول قتل الأب الفلسفي، المنحدر من جيل الثورة الفرنسية، التي قتلت هي نفسها الشيوعيين مع أول من قتلتْ.[2]
وهنا وصلت موجات زلزال الثورة الفرنسية إلى قلب ألمانيا، وتركزت حول رجل واحد، هو ماركس، وهو يقف مُشيرًا إلى صدره، هاتفًا بيقين شبه ديني: أفكاري هي نهاية التاريخ، وأنا نهاية الفلسفة. وربما ما برر طموح ماركس البعيد منذ سن صغيرة نسبيًا، ووسط غطاريف الفلسفة الألمان، أنه حقق نجاحات دراسية قياسية في مدة وجيزة؛ فقد حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة، في موضوع المذهب المادي بين ديمقريطس وأبيقور، وهو قرابة سن الثالثة والعشرين. وهي سن مبكرة حتى بالمعايير الغربية حاليًا. وقد رفض وظيفة الجامعة مؤمنًا بأصالته، عليمًا بأنه سوف يُفصَل منها، كما فُصِل منها بعضُ أعضاء اليسار الهيجلي السابقين عليه. ولا يمكن ألا يكون لكل ذلك أثره العميق عليه في مساره الفلسفي، والسياسي.
هناك من اقتنع برأيه القائل بأن الفلسفة السابقة عليه هي من قبيل الأيديولوجيا المتخفية غير العلمية، التي تكمم أفواه المعارضين، وتُغيِّب عقولَ الناس، وذلك بدعاية مفادها أن الدين، والقيم الإقطاعية، أو البرجوازية، بحسب العصر، وبتكيفها مع تحولات اقتصادية جوهرية، “أصول” سرمدية خالدة للمجتمع البشري. وكي تنجز تلك المذاهب المحافظة مَهمتها، كان عليها تقديم الدين فوق العلم؛ ليوجه الأخلاق، وبهذا تتركز السلطات كلها، بما فيها السلطة الرابعة، الإعلام، بأشكاله من البدائي إلى أحدث ما نتصور، في يد صاحب العمل. وعن طريق مكانتها الاجتماعية الراقية، واتصالها بالقصر، أمكن لها أن تستغل هذه القناة الإعلامية الفريدة، الكنيسة، التي تخاطب الغالبية من الناس، ولا تميز في خطابها بين غفير، ووزير. إنها هي، التي تحفظ مبادئ الأخلاق، وتحتفظ لذلك بحق الرقابة اللا محدودة. وهكذا تعمل الكنيسة (في ذلك الوقت والمكان) كمركّب من الأجهزة: راديو، وتلفزيون، وأمن دولة. ويتلخص دورها في كونها تأمرك بما ستقول، ولا يمكنك أن تصمت، حين تأمرك أن تتكلم.
ومع هذا الوضع –في نظر الماركسيين من الجيل الأول- تكيفَ الفلاسفةُ، فأيد بعضهم الرقَّ كأفلاطون وأرسطو، والدكتاتوريةَ كتوماس هوبز، واستعبادَ السود كجون لوك، واضطهادَ المرأة مثل جيريمي بنتام، والمستبدَّ العادلَ كهيجل. وحتى من لم يؤيدوا نمط اقتصاد الطبقة الرقيقة الراقية، فهم لم ينقدوه، ودعوا إلى قيَم محافِظة، تؤدي على نحو غير مباشر إلى تأييد السلطات القائمة عبر التاريخ، والهادفة بالأساس إلى مراكمة الأرباح، من عصر الرق، إلى عصر الماكينة البخارية، على حساب الرقيق، أو الفلاحين، أو العمال. وبهذا انقسم تاريخ الفلسفة بحسب هذه الفكرة إلى أغبياء لم يفهموا، وجبناء لم يتكلموا، ومنافقين إذا تكلموا، لم يفعلوا.
وقد اقتنع أناس بهذا التصور السابق معتبرين الماركسية فعلًا، وعلى ذلك النحو، فلسفة الفلسفة، ونهاية الفلسفة. وقد حاول ماركس باجتهاد، بل بنجاح، أن يكون نموذجًا للفيلسوف الأخير، الذي اجتمع فيه النبوغ، والشجاعة، فظل معارِضًا سياسيًا جريئًا حتى اقتربت نهايته. أما من لم يقتنع بكل ذلك، فإما أنه أيد الماركسية بصورة أو بأخرى كأيديولوجيا بديلة، جديدة، جريئة مقارنة بأفكار دراويش الاشتراكية الطوباوية، وإما عارضها بما هو امتداد شاحب للجيل القديم، وغير شجاع، ولا ثوري.
الشجاعة التي ضمنها لهم كارل ماركس كلقبٍ مستحَقّ، كفردوسٍ موجود، وكثورة كاملة، كتمرُّدٍ أقصَى (كما يرى كذلك ألبير كامو في “المتمرد”) كانت -بالتحليل الوجودي- وفي رأينا، السببَ العميق لانتشار الماركسية على مستوى جيلها الأول، وبالتالي لأثرها، الذي لا نظير له في العالم الحديث إلى اليوم على السياسة، والاقتصاد، والفن، والعلوم الاجتماعية. بيد أنَّ هذا الأثر سوف يتضاعف عمقه إلى حد يصعب على تصورنا، حين نعرف أن ماركس بشخصه وبفلسفته كان سببًا مباشرًا لإشعال الحرب العالمية الثانية بكل آثارها، التي لم تزل إلى اليوم غير محدودة كمًا، وغير محدَّدة كيفًا.
هتلر وخط ماجينو
رابعًا: هتلر هو خط ماجينو الحقيقي
نظرًا لانتشار الماركسية غير المسبوق في تاريخ الفلسفة، وخاصة على مستوى العمل السياسي، يمكن من دون مجافاة للدقة القول بأن الرايخ الثالث نفسه لم يكن إلا حائط صد ضد أي محاولة للاتحاد السوفييتي للتمدد نحو وسط أوروبا، وأي امتداد مخطَّط له، أو تلقائي، لأفكار ماركس عمومًا في الغرب، وفي العالَم ككل. فقد دعمت بريطانيا هتلر في البداية، ووراءها سار بعض حلفاء الحرب العظمى سابقًا، بما فيهم الولايات المتحدة، من أجل أن يحول بينهم، وبين الشيوعية، والاتحاد السوفييتي، الذي فشلوا مؤخرًا في محاولة القضاء على ثورته الحمراء بالقوة العسكرية، والاقتصادية. وهو تصور أقرب إلى خط ماجينو على مستوى قاري، بل وعالمي.
قرر الإنجليز حصار الماركسية كفلسفة، وكمذهب في السياسة، والاقتصاد، والفن، والمجتمع، فتركوا هتلر يستولي على النمسا، وتشيكوسلوفاكيا، وكل أراضي الرايخ الثاني المأسوف عليه، التي انتزعتها منه معاهدة فرساي، دون إطلاق رصاصة واحدة. وهي تلك المعاهدة، التي اشمأز منها الأمريكان، وتحفظ ضدها الإنجليز، وأيدتها فرنسا، أرض الثورة الأولى. ولقد كانت فرنسا مدفوعة بمقتها للألمان بعد اجتياحهم باريس في الحرب البروسية-الفرنسية 1870. هكذا سمح التاريخ قبيل الحرب العالمية الثانية بانتخاب الوحش السياسي الأقوى على الإطلاق، الأيديولوجيا الأكثر شبابًا، وجمالًا، وعنفًا، ودمويةً، ومخاطرةً، وبساطة: النازية. والتقي “رأس المال” أخيرًا بـ”كفاحي”.
بيد أنه، رغم ما تمتع به من قوة غير مسبوقة، كان وحشًا قصير العمر جدًا مقارنة بعمر الرايخ الأول، أو حتى الثاني، وهو الذي قال عنه مؤسسه إنه سيعيش لألف عام. يمكن القول إن أوروبا قد استحضرت وحشًا لتهزم به وحشًا. ولكنْ اتضح أنه أذكى من الجميع، فعقد معاهدة عدم اعتداء مع السوفييت، ووجّه كل قوته لهزيمة غريمه الإقليمي التقليدي: فرنسا، ويا لها من هزيمة! في رأيي الخاص كانت هزيمة فرنسا أمام النازيين، تلك الهزيمة المهينة والمدهشة، هي نقطة اللا عودة بالنسبة لنظام هتلر، التي صار بعدها عقد الصلح مع بريطانيا، والتحالف معها ضد السوفييت، مستحيلاً تقريبًا. لقد قضى النازيون على فرنسا أصلاً كدولة، وتم تقسيمها إلى شمالٍ منضمّ إلى “الإمبراطورية الألمانية الكبرى” Greater German Empire، وجنوبٍ تابع مسئول بصورة رئيسة عن إدارة المستعمرات الفرنسية، بحيث يستحيل على فرنسا أن تتوحد مرة أخرى، طالما ظل الرايخ الثالث قائمًا.
وكانت فرنسا تتمتع من وجهة نظر الإنجليز بميزتين: فهي أقوى قوة برية في العالم، أقوى من قوة بريطانيا البرية نفسها، وهي كذلك شرطيّ القارة، الذي يضمن للإنجليز استقرارَ الفِناء الخلفي. وظل هذا الوضع قائمًا منذ معاهدة الوفاق الثلاثي في 1904، حتى تمت هزيمة تلك القوة البرية العظمى هزيمة مفاجئة، وساحقة بمعنى الكلمة في عام 1940، وبخسائر على الجانب الألماني، لا تتناسب إطلاقًا مع ما حققه من انتصار سريع في ستة أسابيع تقريبًا، وبأعدادٍ مِليونيةٍ من الأسرى الفرنسيين. وهكذا تلاشَى شرطيّ القارة، واختلت موازين القوَى الأوروبية، التي اجتهدتْ بريطانيا عبر عقود من الجهد الحربي، والعمل الدبلوماسي، والاتفاقيات الاقتصادية، في هندستها بدِقّة جِراحية. وفوق كل ذلك اتضح لها أن هذا الوحش المستحضَر، هتلر، خارج عن السيطرة، وقادر على التحكم الذاتي، ومستقل أكثر من المطلوب، بالحدّ الذي يسمح له بالتعامل البراجماتي مع العدو الأصلي، الذي هو مبرِّر وجوده أصلاً: الاتحاد السوفييتي. وبقية القصة المؤلمة، التي حُسِمَتْ نهايتها مع حسم معركة ستالينجراد، معروفة.
لماذا لم ينجح ماركس عربيًا؟
وهو السؤال الآن: لماذا لم يفعل، برغم انتشاره، الذي قلنا إنه غير مسبوق، غربًا؟ في تقديرنا هناك عدة أسباب، يمكن تصنيفها تحت فئتين، عامة، وخاصة: أسباب عامة، أدت إلى صعوبة تلقي الفلسفة الغربية عمومًا على المستوى الإقليمي، وأسباب خاصة، أدت إلى إجهاض أي محاولة فعّالة للتغيير الثوري الجماهيري على طريقة الماركسيين تحديدًا، أو تكوين “ماركسية عربية” على الورق، وعلى الأرض.
أول الأسباب العامة هو تأخرنا عمومًا في الاطلاع على الأفكار الغربية، والتفاعل معها، بحوالي عشر سنين تقريبًا مقارنة بأوروبا، رغم القرب الجغرافي، ورغم الإلمام باللغة الفرنسية في مغرب العالم العربي، وإلمام المثقفين المشارقة بالإنجليزية، وبرغم حركة الترجمة المعاصرة الثرية من اللغات الأوروبية الرئيسة في الإنتاج العلمي: الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية. وهو تأخر طبيعي؛ من أهم أسبابه أن الفكرة الأوروبية، حين تنشأ، تظهر في موطنها، ويفهم القراء الأوروبيون سياقها الفلسفي، والمجتمعي، ولكنها حين تُتَرجَم، تصل إلينا منبتة الصلة في أغلب الأحيان عن ذلك السياق، فيصعب تلقيها على مستوى الشريحة العريضة من القراء.
ثاني الأسباب العامة هو مشكلة الأمية، أمية الأميين، وأمية المتعلمين، أي المتعلم، الذي لم يتعلم عبر كل مراحل الدراسة الطويلة سوى القراءة، والكتابة، وربما لم يتعلمهما بما يكفي لقراءة نصوص مركَّبة، حتى بلغته الأمّ. ولمّا صارت الفلسفة الغربية صعبة التلقي بوجهٍ عام في العالم العربي، صار صدامها مع العقلية السائدة، التي تتحكم بها وسائل الإعلام المحلية، حتميًا. ولم نقل “صدامها مع الدين”؛ فحتى المؤسسة الدينية غير مستقلة، وذلك في دولة لا هي علمانية، ولا دينية. وقد تعرضنا في مقالة سابقة لطبيعة كفاح المفكر العربي في ظل هذا التشابك المؤسسي-الأيديولوجي المحلّي، بحيث لم يعد التنوير له المعنى نفسه، حين نقارنه بمعنى التنوير في القرن الثامن عشر في أوروبا.[3] باختصار، وكتلخيص لهذه النقطة، التي يمكن للقارئ الرجوع لتفاصيلها في المقالة المذكورة، فقد واجهَ المفكر التنويري في أوروبا في القرن الثامن عشر سلطة دينية، مستقلة إلى حد كبير نسبيًا عن السلطة السياسية، أما المفكر العربي فهو يواجه منذ أواخر القرن التاسع عشر جبهتين في آنٍ: جبهة دينية محافِظة، وجبهة سياسية تستغل كلاً من المفكر التقدمي، ورجل الدين المحافظ، لتصنع توازنًا بينهما، ولتقوم بتحجيم أثر كلٍّ منهما بأقل جهد، بما لا يسمح بتحول الدولة إلى دولة علمانية، أو دولة دينية.
أما الأسباب الخاصة، المتعلقة بإفشال الحركات اليسارية بالذات، فأهمها ما تعلق “بالفاشية العربية“، التي أجهضت مشروعات “الماركسية العربية”. ففي مقالة سابقة أيضًا تعرضنا لمدى نجاح الفاشية، عدو الماركسية الطبيعي، والأول، في الدول العربية، وخاصة مصر، والذي تَمَثَّل في خروج السياسة من الأحزاب إلى الشارع بعد معاهدة 1936، وتكوين ميليشيات حتى في الأحزاب الليبرالية العريقة كالوفد، الأمر الذي تمخض في النهاية عن صعود حركات الضباط في عدة دول عربية إلى السلطة عبر سلسلة من الانقلابات العسكرية، أهمها حركة الضباط الأحرار في مصر 1952.[4] وهذا هو في اعتقادنا المظهر المركَّب لنجاح الفاشية في مقابل الماركسية. وربما لولا صعود الفاشية عربيًا، لانتشرت الماركسية إلى حد أكبر، وتكونت بالفعل ماركسية عربية، تتحد –كما اقترح محمد عابد الجابري مثلاً في السبعينيات- مع القومية العربية، أو تَحِلّ روحًا ثوريًا في العلوم الإسلامية التقليدية، كما اقترح حسن حنفي من خلال مشروع “اليسار الإسلامي” في الفترة نفسها.
سادسًا: خطة بريطانيا وأمريكا التي نجحت في إجهاض الماركسية العربية أو الإسلامية
لم تنجح الفاشية كحائط صد ضد الشيوعية في أوروبا، ونتجت عن خطة بريطانيا وحلفائها كارثة، تمثلت في الحرب العالمية الثانية بكل نتائجها القاسية، المروعة، والمدمرة. بيد أنها –تلك الخطة- نجحت تمامًا على نحو غير متوقع في الإجهاز على الحركات الشيوعية، والاشتراكية بأطيافها المختلفة، في البلاد العربية. يمكن القول من دون مبالغة إنَّ قلق بريطانيا، ومعها الولايات المتحدة، مِن تحول مصر إلى جمهورية سوفييتية، وما يتبعها على هذا الطريق مِن دولٍ عربيةٍ، كان السبب الأساسي في دعمهم الإيجابي، والسلبي، لحركة الضباط الأحرار في مصر، التي –كما تمَنَّوا- ستكون خط دفاع ضد الشيوعية على المستوى القطري، والإقليمي.
صحيح أن النظام الناصري اتجه يسارًا بعد سحب مشروع تمويل المرحلة الأولى من السد العالي في 1956؛ وذلك بسبب صفقة الأسلحة التشيكية، ومحاولة ناصر تكوين تحالف إقليمي ضد مشروع حلف بغداد، وهو ما أثار حفيظة بريطانيا، والولايات المتحدة. وقد نتج عن هذا ذلك القرار غير المدروس جيدًا بتأميم قناة السويس في العام نفسه، وبعد شهور، ضرب العدوان الثلاثي الفاشل مصر، وقضى على جانب كبير من قوتها العسكرية الناشئة، ودمّر مدنَ القناة. وربما تكون النتيجةُ السلبية الهُمَّى، بل المؤسية، لتأميم القناة على ذلك النحو غير المدروس، في السياق الحالي، هي تخلف التعليم المصري، الذي كان قبيل المرحلة الناصرية قادرًا على مناهزة التعليم الأوروبي. فبعد تأميم القناة، وكنتيجة متوقعة لسوء العلاقة بين مصر والدول الأوروبية الكبرى، وخاصة بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا الغربية، تم تحويل البعثات الدراسية إلى الشرق، إلى الاتحاد السوفييتي، ودول الكتلة الشرقية، التي، وإنْ كانت متقدمة في العلوم الطبيعية، والرياضية، فإنها لم تكن متقدمة بالقدر نفسه على الأقل؛ بسبب الشمولية السياسية، في العلوم الاجتماعية، ومنها الفلسفة. وهو ما أدى سريعًا إلى انحدار التعليم المصري في هذا الجانب بالذات.
نقول إنه من الصحيح أن النظام الناصري قد توجّه يسارًا، وصار محسوبًا على المعسكر الشرقي بشكل ما، خاصةً بعد تأميم القناة، بيد أنه كان في تلك اللحظة قد أجهز بالفعل منذ سنوات على أي تحرك سياسي، سواءً كان ليبراليًا، أو اشتراكيًا. ومع أوائل الستينيات أطلق عبد الناصر سراح الاشتراكيين من المعتقلات، بعد حوالي عقد كامل من التنكيل، ولكنْ شريطة أن ينضموا إلى الاتحاد الاشتراكي، وأن يقودوا التنظيم الطليعي. ولا يمكننا، ونحن جالسون تحت مكيفات الهواء لنكتب هذا الكلام، أن نلومهم على الاستجابة الإيجابية لهذا الشرط، تلك الاستجابة، التي كانت بمثابة إعلان وفاة اليسار المصري، رغم أن الحركات اليسارية كانت الوحيدة، التي لم تقم بتشكيل ميليشيات، ولم تتورط في أعمال عنف، في مقابل ميليشيات الوفد، ومصر الفتاة، والإخوان المسلمين. وقد فشلت الخطة الخمسية الأولى المصرية على كل حال في استثمار فائض الإنتاج الزراعي لإحداث قفزة تصنيعية. ونتج عن فشلها تلك البطالة الخطيرة، مع التوسع في مجانية التعليم، والتركيز على التعليم العالي بمنطق الكم، لا الكيف، من دون سوق يستوعب كل تلك الآلاف من حاملي الشهادات العليا.
ورغم كل ذلك فمن العدل أن نقول إن الماركسية كفلسفة كان لها أثر عظيم على الفكر العربي المعاصر، كما كان لها أثر عظيم على مستوى العالم. ونحيل القارئ هنا إلى مقالتين، إحداهما لمحمد عابد الجابري بعنوان “الماركسية في الفكر العربي المعاصر”،[5] والثانية لكاتب هذه السطور بالعنوان نفسه.[6] ويمكن تلخيص رأينا في طبيعة أثر الماركسية على الفكر العربي المعاصر في ثلاث مراحل أساسية: مذهبية، وتفسيرية، واندماجية:
أولاً: المرحلة المذهبية: وهي التي جسّدها على سبيل المثال سلامة موسى، ولويس عوض، وسمير أمين، ومحمود أمين العالِم، ومحمد عابد الجابري، وحسن حنفي، وغيرهم. وهي مرحلة الاعتقاد في الماركسية كمذهب للتغيير الاجتماعي، وكمنهج لتحليل مكونات البنية الفوقية كالسياسة، والقانون، والأخلاق، والفن.. إلخ. وهي غالبًا أقرب إلى الاشتراكية الفابية، والاشتراكية الديمقراطية، من الماركسية الأرثوذكسية، لكنه مَيلٌ تكوّن فعلاً في سياق صعود الماركسية في الاتحاد السوفييتي، والصين، ودول الكتلة الشرقية، و”العالَم الثاني” عمومًا.
ثانيًا: المرحلة التفسيرية: وهي التي مثلها عدد أكبر من المفكرين، وإنتاج فكري أثقل، وأشمل، كحسين مروة، وجانب من أعمال حسن حنفي، وأدونيس، ونصر أبو زيد، والطيب تيزيني، وغيرهم. ففي هذه الأعمال ظهرت الماركسية كمنهج لتفسير عناصر البنية الفوقية (التراث العربي-الإسلامي)، وذلك بمحاولة ردها إلى عناصر البنية التحتية الاقتصادية، والاجتماعية. يظهر هذا في “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” لحسين مروة بأكبر درجة من الوضوح، كذلك قراءة أدونيس للتراث العربي الإسلامي في إطار مادي-تاريخي واضح في “الثابت والمتحول”، وكذلك تأويل المذهب الشافعي تأويلاً ماديًا تاريخيًا برده إلى الصراع الاجتماعي-السياسي الدائر آنذاك بين العرب والفرس في “الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية” لنصر أبو زيد. ومن الواضح أن حسن حنفي قد استعمل المادية التاريخية مرارًا لتحليل الصراع السني-الشيعي، والأشعري-الاعتزالي، والصوفي-الأصولي، والعقلي-النقلي، والتأويلي-التنزيلي، وذلك في أعماله المختلفة. وقد كانت هذه المرحلة هي الأكبر كمًا في تاريخ الفكر العربي المعاصر على مستوى الإنتاج النسقي، وبالتالي يمكن تحصيل نتيجة أن تأثير الماركسية الأكبر في الفكر العربي الحديث كان منهجيًا-تفسيريًا أكثر منه مذهبيًا-ثوريًا.
ثالثًا: المرحلة الاندماجية (اليسار الإسلامي والماركسية العربية): خطا الفكر العربي المعاصر في هذه المرحلة خطوة أبعد طموحًا، وأكثر جرأة، مقارنة بالمرحلتين السابقتين؛ فلم يتوقف عند مرحلة التسليم السلبي بالماركسية أوروبية كانت، أو سوفيتية، أو صينية. كما لم يتوقف عند حد اكتشاف العوامل المادية، التي تحكمت في نشأة نظريات التراث العربي-الإسلامي، وارتقائها، بل حاول من جهة تحويلَ العلوم الإسلامية نفسها إلى أيديولوجيات اشتراكية-ثورية من خلال مشروع “اليسار الإسلامي” لدى حسن حنفي، ومن جهة أخرى حاولَ الدمجَ بين الماركسية والقومية العربية، فيما عُرِفَ “بالماركسية العربية” لدى عابد الجابري. وقد امتدّ أثر اليسار الإسلامي (كما أسماه حنفي) إلى مساحة عريضة، من إندونيسيا شرقًا إلى المغرب الإسلامي، مرورًا بإيران، والشام، ومصر، والسودان، لكنه لم يحقق تغييرًا اجتماعيًا جوهريًا. هذا بينما لم يتأسس مشروع نظري على الدرجة نفسها من التكامل للماركسية العربية عند الجابري.
قلنا في مقالة سابقة بموقع (تكوين) “صراع الأيديولوجيات التقدمية”: “إذا كانت كل الأفكار التي نجحت غربًا قد فشلت أو تعثرت في البلاد العربية […] فإن الفاشية تبدو النزعة السياسية-الاجتماعية الوحيدة، التي اخترعها الغربُ، فاحترفها العربُ”، نضيف الآن إن هذه النزعة –الفاشية- على تعقيد عواملها، ونتائجها، كانت السبب الأساسي في إفشال الماركسية العربية، والإسلامية، مِن أن تتكون أصلاً. كما كانت العامل الأساسي في ظهور الدولة اللا علمانية-اللا إسلامية، النموذج الشائع للدول العربية، التي أدت إلى إخفاق مشروع التنوير العربي. وفي الختام نقف جميعًا أمام السؤال: كيف نكسر هذه الدائرة المغلقة؛ لنفسح المجال لتحرير الفكر من جهة، ولتفعيل دور الفكر في التغيير الاجتماعي من جهة أخرى؟
المصادر والمراجع
[1] في اللغة العربية يتم تذكير “الرُّوح”، إذا لم يدل على مبدأ الحياة.
[2] نعني هنا “مؤامرة الأكْفاء”، حين أعدمت الثورة الفرنسية جراكوس بابيف، ورفاقه.
[3] ضوء جديد على طبيعة كفاح المفكر العربي – تكوين (taqueen.com)
[4] الصياد، كريم: “صراع الأيديولوجيات التقدمية”- موقع تكوين، مؤسسة تكوين الفكر العربي.
[5] الماركسية في الفكر العربي المعاصر، بحث قديم للجابري – مفازة (sultan-alamer.com)
[6] الصياد، كريم: مرايا الأنا ونافذة الآخر- دراسات في الفكر العربي المعاصر، دار نيوبوك للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2020، ص 57-59.