تكوين
مقدمة
في ظل الأوضاع الراهنة التي تعصف بالمنطقة العربية من اضطرابات سياسية وتحديات أمنية وأزمات اقتصادية التي تُتَابِعُها شعوب المنطقة من طريق جميع وسائل الإعلام المتاحة، سواء كانت عن طريق الجهات الإعلامية الرسمية مثل: قنوات الأخبار التلفزيونية أو عن طريق الصحف الإلكترونية في الشبكة العنكبوتية أو عن طريق الجهات غير الرسمية مثل: حسابات من سمُّوا بـ “المؤثرين” في وسائل التواصل الاجتماعي، الذين استغلَّ بعضهم أحداث غزة بعد ما سُمي بعملية “طوفان الأقصى” يوم 7 أكتوبر و حوَلوا قنواتهم إلى منصات إخبارية و ترويجية، لدعم القضية الفلسطينية حتى تظلَّ قنواتهم تحصد أعلى نسب من المشاهدات (أعتقد أن هذه الحالة تحتاج إلى دراسة خاصة)، و جزء آخر يُطلق دعوات مختلفة، إما للشعوب أو للحكومات أو لشعوب العالم، وبكل تأكيد كان لهذه الفيديوهات تأثيرًا بالغًا في نسبةٍ كبيرة من المشاهدين بمختلف انتماءاتهم وعقائدهم وأعمارهم، كما أننا نستطيع أن نستشف أي من العقليات والتيارات الفكرية المسيطرة على العقل العربي خصوصًا عن طريق الدعوات المختلفة التي تنتشر في تلك الوسائل مثل: دعوات المقاطعة لبعض من المنتجات والسلع والشركات الأجنبية التي تُمارس أنشطتها التجارية في الدول العربية (بطريق مباشر أو عن طريق وكلاء معتمدين) أو الترويج إلى جماعة مُسلحة تعمل خارج إطار الدولة مثل: حماس أو حزب الله أو جماعة أنصار الله (الحوثيين) سبق لها أن قتلت كثيرًا من أبناء وطنهم وأبناء دول عربية أخرى، عن طريق نشر فيديوهات لمقاتلين وهم يُطلقون قذائف ال آر بي جي على دبابات القوات الإسرائيلية أو فيديوهات السبِّ تجاه شعوب معينة أو حكومات معينة واتهامهم بالتخاذل أو حتى الصراعات الافتراضية في التعليقات والتغريدات، وعادة يطغى على تلك الصراعات طابع أيديولوجي وفي بعض الأحيان عقائدي.
ولا يَخفى علينا أن هناك عديدٌ من الجهات الدولية و الجماعات و الحكومات يوظفون كمية كبيرة من اللجان الإلكترونية، للتأثير في الرأي العام في أي دولة أو حتى لإثارة الرأي العام وخلق الفتن وعلى سبيل المثال: هناك وحدة في الجيش الإسرائيلي يُطلق عليها الوحدة 8200 مُهمتها الأساسية إحداث الوقيعة بين الشعوب العربية1، وعلينا أن نعترف أن لتلك اللجان وغيرها دورًا بارزًا في التأثير في الرأي العام في الشارع العربي، و قد يُتَّهم كثيرون من أصحاب الرأي بأنهم يعملون لصالح تلك اللجان و يبدأ بعضهم في تراشق الاتهامات، لذلك علينا بوصفنا باحثين أو قراء أو حتى إن كنا من هؤلاء الذين يهتمون بالشأن العربي، أن نحاول القيام بعملية تصفية أو فلترة التعليقات والمحتوى المنشور من أعمال اللجان قدر المستطاع، في محاولة لجس نبض الشارع العربي ومحاولة فهم الدعوات والأفكار التي تسيطر عليه وعلى سلوكه العام أيضًا، وسواء كنت عزيزي القارئ تتفق أو تختلف مع أي من تلك الدعوات، عليك أن تُقر وتعترف أن هناك صخبٌ كبيرٌ يصعب على المرء أن يتجاهله ويصعب عليه أن يُكوِّن صورة واضحة تمام الوضوح أمامه، لكن المثير للاهتمام في هذا الصدد أن الغالبية العظمى من الشعوب العربية عندما تتعامل مع أي مشكلة أو خبر أو حدث، فهي تُكوِّن رأيها بناءً على القناعات الشخصية وعلى ما تُمليه عليهم مشاعرهم في تجاهل واضح وصارخ للحقائق وللواقع وللتاريخ، وهنا يأتي دور التيارات الفكرية المسيطرة والمهيمنة بدرجة كبيرة على العقل العربي، وفي هذا البحث سأحاول
- أولًا، تعريف التيارات الفكرية الأساسية لدى الشارع العربي.
- ثانيًا، سأحاول أن أوضح تأثير تلك التيارات في الفكر السياسي والاقتصادي في العالم العربي، وسأستعين ببعض الأمثلة والأحداث التاريخية في أثناء العصور الإسلامية في قمتها، كما سأستعين أيضًا ببعض الأمثلة والأحداث في التاريخ العربي والإسلامي المعاصر، خصوصًا من المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية وجمهورية العراق والجمهورية العربية السورية، لأن تأثير هذه الدول كان هو الأكبر في جميع قضايا المنطقة بالإضافة إلى خروج أغلب التيارات الفكرية في العالم العربي منها.
تعريف التيارات الفكرية المعاصرة
ظهر في العالم العربي عديدٌ من التيارات الفكرية، وفي أثناء القرنين الماضيين نتيجة الاستعمار والصراعات والتراجع فكري والثقافي نتيجة سقوط الحكم العربي وانهيار المؤسسات العلمية، خصوصًا بيت الحكمة بعد سقوط الدولة العباسية وغزو عديدٌ من الجيوش في القرون اللاحقة، وجاء بعدها إهمال تطوير المنطقة العربية وتهميش الدولة العثمانية للعرب وعزلهم عن العالم، بحجة الحماية من الاستعمار الأوروبي، ولكن لا بد أن نعترف أنهم نجحوا بعض الشيء في هذا الهدف على مدى قرنين أو أكثر، و لعل أفضل مثال على هذا هو: الصراع العثماني البرتغالي في مصر والجزيرة العربية والمحيط الهندي2 الذي لم يحدث فقط من أجل حماية العرب، ولكنه كان في مصلحة الدولة العثمانية أولًا، فقد كانت البرتغال تحاول الهيمنة على المسارات التجارية البحرية في المنطقة مما يهدد سلطة العثمانيين في الإقليم.
تراكمت الأحداث والحروب والصراعات في المنطقة حتى في أثناء حكم العثمانيين، فقد بدأت الإمبريالية الأوروبية في استعمار عدد كبير من الدول العربية، خصوصًا بعد أن بدأت قوة الدولة العثمانية بالتراجع، ثم جاءت حروب الاستقلال أو التوحيد واضطرابات السياسة وتغيير الأنظمة الملكية إلى جمهوريات اشتراكية أو عسكرية أو غيرها، ومن الطبيعي أن تُترك كل هذه الأحداث المتعاقبة وهذا التاريخ الكبير أثرًا في الشعوب، بل ويمكننا أن نزعم أنها العامل الأساسي لنشأة عديد من التيارات الفكرية في أثناء الألفية السابقة، ولكن مع مرور الوقت وزيادة الفعالية والتأثير في القرن الماضي نتيجة الثورة التكنولوجيا التي تشهدها الإنسانية، اندثرت بعض تلك التيارات، ولكن في نظري هناك على الأقل ستة تيارات فكرية تتصارع في عقول الشعوب العربية.
التيارات الفكرية التي تصارعت في العالم العربي في القرنين الماضيين صراعًا شرسًا، كان له بالغ الأثر في عقلية كل مواطن ومواطنة في الدول العربية وهم كالتالي:
- التيار الإسلامي الأصولي (السلفية)
- التيار الإسلامي المعتدل
- التيار القومي العربي الاشتراكي
- التيار القومي العربي الليبرالي
- التيار الشيوعي/اليساري
- كما انتشر وبقوة تيارٌ جديدٌ، وليس بجديد في العقود الأخيرة، هو الوجه الآخر للإسلام السياسي، ولكن بالمشروع الشيعي.
التيار الإسلامي الأصولي/التيار الإسلامي السلفي
هناك عدة تيارات فكرية إسلامية ظهرت في القرنين الماضيين في منطقتنا العربية، بعضها اندثر وبعضها انتشر انتشارًا واسعًا ساحقًا، وأحد تلك التيارات هو التيار السلفي الذي يعد أكثر تيارات الاسلام السياسي أصولية، لنبدأ أولا بتعريف المعنى المقصود بالسلفية، يدعو التيار السلفي المسلمين إلى اتباع صحيح الدين (منهج الحق) من الكتاب والسنة كما اتبعها المسلمون الأولون (سلف الأمة) من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين (الشخصيات التي لها أثرها في الإسلام، لكنهم لم يعاصروا النبي محمد ﷺ) وأتباع التابعين (الشخصيات التي عاصرت وتعلمت من التابعين) الذين عُرف عنهم الصلاح والاستقامة.
يربط أغلب الناس نشأة السلفية بظهور المُلقب بشيخ الإسلام الإمام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية (المعروف بابن تيمية) في القرن السابع من الهجرة (القرن الثالث عشر ميلاديًّا) وهو الذي تستند الجماعات السلفية إلى تعاليمه وكتبه ومؤلفاته وأفكاره، لكن يتضح لنا أن نشأة هذا التيار يرجع إلى أيام رسول الله محمد ﷺ ولكن أول شخصية بارزة نادت بهذا التيار كان الإمام أحمد ابن حنبل (780 إلى 855 م) بسبب كثرة الصراعات والنزاعات السياسية في محاولة منه لإعادة وحدة صف المسلمين واعتقادًا واجتهادًا منه، بأن المشاكل السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، يُمكن حلها عن طريق الإيمان بالإضافة إلى مواجهة أفكار جماعة المعتزلة التي اتهمها بتعكير صفاء الإسلام، بسبب تأثرهم بالحضارة الإغريقية وأزمة خلق القرآن الكريم في عصر العباسيين، ثم نادى بها ابن تيمية (1263 م إلى 1328 م) حينما تعرض المسلمون لهجوم التتار على الدولة العباسية التي كانت تمر بأضعف مراحلها، بسبب كثرة الصراعات والانشقاقات في محاولة منه لوحدة صف المسلمين ضد الغزو الذي لا يرحم، ثم حمل رسائل من سبقه ونادى بها محمد ابن عبد الوهاب (1720 م إلى 1792 م)، في حقبة تراجعت فيها قوة الدولة العثمانية وبدأ الهجمات الأوروبية على المنطقة العربية التي عدها غزوًا عقائديًّا، كما أنه رأى انشغال المسلمين بالبدع وأن المسلمين أصبح لديهم مشكلة اخلاقية، لكن لم تكن هناك جماعة سُنية سلفية قاتلة بالشكل الحالي، على الرغم من تشدد أراء العلماء الذين سبق ذكرهم، إذًا علينا أن نسأل أنفسنا كيف تحول تيار فكري بهذا المعنى السامي والنبيل نظريًّا إلى رمز أساسي للتعصب والتطرف الديني في العصر الراهن؟
عندما نقرأ عن المعنى النظري للسلفية، نجد أنه من الممكن أن يكون هذا هدف كل مؤمن وهو أن يتحلى المرء بأخلاق رسول الله ﷺ والصحابة والصالحين، بل يمكن عده من أنبل الأهداف لأي انسان مؤمن بدينه أن يتحلى بأخلاق الأنبياء والرسل والصالحين، لذلك لا تعد السلفية تنظيمًا سياسيًّا مثل: جماعة الإخوان المسلمين على سبيل المثال، بل تيارًا فكريًّا لا يُلزم صاحبه الانضمام إلى جماعة أو إلى تنظيم ما، كما أنه تيارٌ ينتقل من جيل إلى جيل، خصوصًا وأنه كما ذكرت يبدو لدى كثيرين أنه صحيح الدين في أنقى صوره وأطهرها وأبهها، لذلك يُمكننا أن نستنتج أن هذا هو السبب الرئيس الذي أبقى هذا التيار على قيد الحياة على الرغم من مرور السنين والقرون والعصور، بناءً على ما سبق يمكن للسلفية أن تصبح أرض خصبة للتطرف والتعصب، يتبناها أصحاب النفوس والعقول المريضة بالاستعلاء الديني والأخلاقي، واستغلال جهل العامة واليقين بأن أفعالهم مهما كانت هي بالفعل ما يأمر به الدين وأن من له رأي آخر فهو في حكم الكافر ولا بد من إباحة دمه.
هناك أيضًا سببٌ آخر لاستمرار وجود هذا التيار، وهو الاستغلال السياسي من الدول على مر التاريخ الإسلامي من أجل الوصول إلى أهداف سياسية وعسكرية، وتبرير كل مساعيها في الوصول إلى هذا الهدف بالإضافة إلى مواجهة أي جماعة أو تنظيم أو أفكار مناوئة للنظام السياسي، خصوصًا تلك الحركات التي كان يطغى الطابع الديني على خطابها، على سبيل المثال: إذا بدأت أصوات المعارضة تعلو فيبدأ النظام السياسي بترديد قوله سبحانه وتعالى من سورة النساء
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ)
وهنا علينا أن نُلاحظ أن كلا الطرفان يرددون هذه الآية الكريمة على اتباعهم، ولكنهم يتجاهلون تكملة الآية إلى آخرها حتى يستطيعوا أن يفرضوا سيطرتهم بدرجة كاملة على أتباعهم
(ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)
وترتكب ولا تزال أشنع الجرائم باستخدام آيات كريمة من القرآن الكريم والسنة، سواء من جماعات متطرفة أو أنظمة سياسية، استخدامًا باطلًا لتبرير تلك الجرائم المُشينة.
السبب الثالث، من وجهة نظري هو الحنين إلى أمجاد الماضي العربية الإسلامية، وأخص بالذكر عصور الخلافة العربية بداءة من عصر الخلفاء الراشدين مرورًا بالدولة الأموية والعباسية وبعض النقاط المضيئة تاريخيًّا بعدها مثل: صلاح الدين الأيوبي وتصديه للحملات الصليبية وهزيمة التتار على يد المماليك بقيادة سيف الدين قطز والظاهر بيبرس وغيرهم، والمثير للاهتمام هو أن الشعوب العربية لا تهتم سوى بالإنجازات أو الانتصارات العسكرية التاريخية، غير معنيين بأي انجازات أخرى لا العلمية ولا الثقافية ولا الفلسفية ولا الاقتصادية، وهنا لا بد أن نسأل، هل يمكن أن تكون هذه هي المعضلة فيمن يتبعون هذا التيار؟ هل المعضلة في أسلوب السرد وتمجيد الشخصيات العسكرية التاريخية التي لها ما لها وعليها ما عليها؟ أم المعضلة تكمن في أن العقل العربي الذي لا يرى سوى الأمجاد في صورتها العسكرية فقط؟ وهل هذا نتيجة لاستمرار الغزو لقوى غير إسلامية على بلاد المسلمين؟
كل ما سبق يمكننا أن نعده مقدمة الإجابة عن سؤال “كيف تحول تيار فكري بهذا المعنى السامي والنبيل إلى رمزٍ أساسيٍّ للتعصب والتطرف الديني في العصر الراهن”؟ ولكن قبل الإجابة عن هذا السؤال علينا أن ندرك أن هناك عدة اتجاهات أو أفرع لهذا التيار حتى تكتمل لدينا الصورة وهم كالتالي:
- السلفية التقليدية: هو الفرع الأساسي والمصدر الرئيس لدى التيار السلفي بكل أطيافه وينتمي إليهم كبار العلماء السلفيين مثل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله مُفتي المملكة العربية السعودية الأسبق وسماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عضو هيئة كبار العلماء السعودية.
- السلفية التجريحية/الجامية: تُسمى بالجامية نسبة إلى الشيخ السعودي محمد بن أمان الجامي وهي امتداد المدرسة الوهابية، يُؤمن هذا التيار الفرعي باتباعه الطريق الصواب إيمانًا منقطع النظير وسُمي بالتجريحية بسبب انشغال علماءه بالتجريح والتعديل (أحد علوم الأحاديث) والتبديع (الفعل المُخالف للسنة “البدعة“) للعلماء والدعاة الذين لا يتبعون هذ التيار، كما أن اتباعها يؤمنون بأهمية طاعة ولاة الأمر.
- السلفية الحدادية: نسبة إلى مؤسسها للشيخ المصري محمود الحداد الذي اختلف مع التيار الجامي في مسألة تعميم التبديع وانتقاد أي من العلماء دون مراعاة المراحل الزمنية واختلاف العصور، فلا يفرقون بين علماء الماضي وعلماء الحاضر، عندهم يُمكن تبديع الجميع، وعلى سبيل المثال: اتهموا الإمام أبو حنيفة بالتبديع وهو ما لم تفعله الجامية.
- السلفية الحركية: يختلف اتباع هذا التيار الفرعي عن بقية التيارات السلفية في أنهم يتبعون منهجًا مُستحدثًا من السلفية، وهو الانخراط في عالم السياسة، لذا يمكن القول بأن هذا التيار هو خليط بين السلفية التقليدية (بخاصة الوهابية) وجماعة الإخوان المسلمين، والجدير بالذكر أن أحد مؤسسي التيار الفرعي هو الشيخ السوري محمد سرور زين العابدين الذي كان ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وبعد نكبة الإخوان المسلمين في ستينيات القرن الماضي انتقل إلى المملكة العربية السعودية وعمل مدرسًا في المعهد العلمي التابع لجامعة الإمام حمد ابن سعود الإسلامية (فقد تتلمذ على يديه عديدٌ ممن برزت أسمائهم مثل سلمان العودة)، لذلك تَبنى الفكر الجهادي الاخواني لسيد قطب وتَبنى الفكر السلفي الوهابي، مما أتاح لهذا التيار المرونة الكافية في العمل الدعوي والعمل السياسي.
- السلفية الجهادية: التيار التكفيري الأكثر تعصبًا وتطرفًا ودمويةً، التي انبعثت في الأصل من السلفية الحركية (السرورية) وأبرز قادتها أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبو مصعب الزرقاوي وغيرهم، فمن شدة تطرف اتباعها وتعصبهم، انسلخت السلفية الجهادية عن جميع التيارات السلفية الأخرى، حتى التقليدية كما أنهم نبذوا جميع المشايخ السلفية عدا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبناء على ما سبق يُكفر أتباع هذا التيار جميع الحكومات والمؤسسات الإسلامية ويكفرون جميع من لا ينتمي إليهم، كما أنهم يريدون إعادة إنشاء الخلافة الإسلامية التي تمدد حدودها من الأندلس إلى الصين، أبرز الجماعات المسلحة التي تتبنى هذا الفكر هي تنظيم القاعدة وطالبان.
- السلفية العلمية: يهتم أتباع هذا التيار الفرعي بالمسائل التعليمية الدينية وعلوم القرآن الكريم والسنة النبوية، لذلك ينصب تركيز أتباع هذا التيار في نشأة أجيال جديدة مُلتزمة دينيًّا، ولم يكن لهم أي اهتمام بالعملية السياسية، لذلك لم يدخل اتباع هذا التيار في أي صدام سياسي مع الحكومات العربية والإسلامية، والجدير بالذكر أن هناك بعض حالات الانحراف عن هذا المسار حينما مرت المنطقة بما يطلق عليه الربيع العربي، فقد بدأ أتباع هذا التيار في تكوين أحزاب سياسية والمشاركة في الانتخابات البرلمانية وغيرها، ولعل أبرز هذه الأحزاب هو حزب النور الذي تأسس في جمهورية مصر العربية بعد ثورة 25 يناير عام 2011.
نلاحظ أن ترتيب التيارات المذكورة متسلسلٌ زمنيًّا، ونلاحظ أيضًا أن العنف السلفي التكفيري (السلفية الجهادية) بدأ بعد الاحتكاك مع جماعة الإخوان المسلمين وبعد توغل أتباعها ونجاحهم في التأثير أتباع التيار السلفي، والآن حان وقت الإجابة عن السؤال ” كيف تحول تيار فكري بهذا المعنى السامي والنبيل إلى رمزًا أساسيًّا للتعصب والتطرف الديني في العصر الراهن”؟ بدأ هذا التحول الخطير في سبعينيات القرن الماضي في جمهورية مصر العربية (بعد خروج أعضاء جماعة الإخوان المسلمين من المعتقلات لمواجهة الشيوعية) عندما ظهرت بعض التشكيلات والتنظيمات السلفية الجهادية بهدف قلب جميع أنظمة الحكم في العالم العربي، وكان لدى تلك المجموعات كُتيب يستندون إليه باسم “الفريضة الغائبة” كتبه الإرهابي محمد عبد السلام فرج الذي تأثر بالسلفية التقليدية (خاصة الوهابية) والفكر الجهادي لسيد قطب، دعا في كتابه المسلمين إلى إقامة الفريضة التي غيبتها عنهم الحكومات والقادة الذين وصفهم بـ “العدو القريب” الذي يجب قتله قبل قتل “العدو البعيد” أي العدو الخارجي.
عملت تلك الحركات لعسكرة السلفية الحركية وأنشأت الأجنحة العسكرية بخبرة الإخوان المسلمين الواسعة في هذا الشق، كما أنهم نشروا الدعوات المعارضة للرئيس الراحل الشهيد محمد أنور السادات، خصوصًا بعد إبرام اتفاقية كامب ديفيد وزيارة الرئيس الراحل للكنيست الإسرائيلي، واتخذت تلك الحركات وعلى رأسها جماعة الجهاد الإسلامي المصرية النهج الانقلابي على الدولة بجميع مؤسساتها التي تطمح في أن تضربها ضربةً تقصم الظهر، بدلًا من أن تكون حركة ممتدة مثل جماعة الإخوان المسلمين، بناءً على ذلك يمكن للمرء أن يفهم أن تلك الجماعات التي تتخذ النهج المباشر (العنف) في مواجهة السلطة السياسة، وبالفعل في يوم 6 أكتوبر عام 1981م نَفذت الجماعة الخُطة التي وضعها محمد عبد السلام فرج لاغتيال الرئيس الراحل محمد أنور السادات بنجاح.
اعتقلت السلطات المصرية مُنفذي عملية اغتيال الرئيس وعلى رأسهم المنفذ خالد شوقي الإسلامبولي وأمير الجماعة والمُخطط للعملية محمد عبد السلام فرج وحاكمت جميع المنفذين، أدركت السلطات المصرية الخطر الكبير التي تُمثله تلك الجماعات على الأمن الداخلي وأمن الدولة لذلك أطلقت مصر حملة أمنية شرسة ضد الجِهاديين، مما دفعهم إلى الهروب من مصر إلى أفغانستان التي تحولت في تلك الفترة إلى مركز جهادي بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية (التي كانت تخوض حربًا باردةً مع السوفييت) ودول الخليج العربي (التي كانت تحارب الفكر الشيوعي) ضدَّ غزو الإتحاد السوفييتي الذي بدأ عام 1979 وانتهى عام 1989، في تلك الفترة انتشرت فتاوى الجهاد في الدول العربية والإسلامية التي تُحرض الشباب على السفر إلى أفغانستان للجهاد ضد السوفييت.
بعد أن انتهى الغزو السوفييتي على أفغانستان عام 1989 بدأ أفراد الجماعات الجهادية بالرجوع إلى أوطانهم بروح المنتصر على جيش إحدى القوى العالمية، فما كان لهؤلاء أن يكتفوا بما حققوه، بل أرادوا أن يستمر جهادهم وينتشر حول العالم، فبدأوا باستهداف القطاع السياحي في مصر ونفذوا عدة عمليات إرهابية ضد الشرطة والشعب على حد سواء، ونفذوا عدة عمليات إرهابية أخرى في ليبيا ووصلت أذرعهم إلى المملكة العربية السعودية (أحد الأطراف الذين قدموا لهم الدعم في أفغانستان) فقد قاموا بتفجيرات عدة، كما خلقوا بعض الاضطرابات في الأردن وعانت جمهورية الجزائر القتال الدموي العنيف مع هؤلاء الجهاديين، الذي استمر لعقد من الزمن، بالإضافة إلى جهاديين آخرين أرادوا تصدير التجربة الجهادية في أفغانستان فشاركوا في عمليات التال في البوسنة والشيشان وطاجيكستان.
استمرت هذه الجماعات في الانتشار وكونت عديدًا من الأذرع والأفرع للشجرة التكفيرية بمسميات عديدة في مختلف أنحاء العالم تتبع الفرع الرئيس لها في أفغانستان التي تحمل اسم “القاعدة” تحت قيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري الذين دشنوا “الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين” عام 1998م، فقد حولوا البوصلة الجهادية قليلًا نحو السفارات الامريكية عندما فجروها في تنزانيا وكينيا ووصلت حدة عملياتهم إلى ذروتها صباح يوم 11 سبتمبر عام 2001م، عندما اختطفوا أربع طائرات مدنية وصدموهم في بُرجي مركز التجارة العالمي بنيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية وراح ضحيتها أكثر من 3000 شخص.
أدَّت تلك العملية إلى حرب أفغانستان حينما هاجمت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها أفغانستان في حرب استمرت 20 عامًا، في أثناء تلك الأعوام استمرت القاعدة في القيام بالعمليات الإرهابية والجهادية وانشأت عديدًا من الفروع في شتى أنحاء العالم لكنها كانت أكثر نشاطًا في البلاد العربية والإسلامية، وعلى الرغم من اتساع رقعة العمليات الإرهابية، إلا انه حدث تطور خطير جدًا بعد غزو القوات المسلحة الأمريكية وحلفائها للعراق عام 2003، الذي أسهم إسهامًا مباشرًا في ظهور جيل جديد من الجهاديين التكفيريين أكثر تعصبًا وتطرفًا وعنفًا ووحشيةً، تحت قيادة الجهادي الأردني زعيم القاعدة في العراق أبو مصعب الزرقاوي، ظهر هذا التطور الخطير عندما بدأت تنتشر في الإنترنت مقاطع وتسجيلات لعمليات الذبح والنحر والعمليات الانتحارية وعمليات الاختطاف، كان هذا التطور الخطير يُمثل نقطة البداءة لظهور داعش في الأعوام اللاحقة، وبهذا السرد للتسلسل الزمني تصبح الصورة أوضح عن كيفية تحول السلفية من تيار فكري ديني أصولي تنظيري إلى منبع ورمز للعنف والتطرف والتعصب.
المصادر:
الدكتور عمار علي حسن. (2013). التيار السلفي: الخطاب والممارسة. مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.
الدكتور عمار علي حسن. (2020). العرب: تيارات فكرية وسياسية. مركز الإتحاد للأخبار.
الدكتور طه حسين. (1947). الفتنة الكبرى (الجزء الأول): عثمان. مؤسسة هنداوي عام 2013.
الدكتور أنور الزعبي. (2005) تيارات الفكر العربي المعاصر إلى أين؟ صحيفة الرأي الأردنية.
الدكتور جورج مقدسي. (2004) أحمد بن حنبل. موسوعة بريطانيكا
مراد بطل الشيشاني. (2014) تسلسل تاريخي: الحركات السلفية الجهادية. موقع عربي BBC.
أ.م.د تغريد حنون علي. (2021) السلفية: دراسة في نشأتها التاريخية وتياراتها. كلية العلوم السياسية فرع الفكر السياسي – جامعة بغداد.
محمد يسري. (2017) بين العلمية والجهادية والجامية: من هم السلفيون اليوم؟ صحيفة رصيف 22 اللبنانية
أ.م.د حسين كليبان الزهيري (2023) فلسفة الإصلاح بين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده دراسة مقارنة. كلية الآداب – الجامعة العراقية.