من النقدِ إلى سلطة السَّرْدِ المُقدَّسِ: كيف خسِر علمُ الحديث منطقه الأول؟

 تكوين
  • كيف نختبر النسبية التاريخية؟

في تاريخ العلوم الإسلامية كان هناك دومًا خلطًا كبيرًا بين العلم، بوصفه المعرفة الموثوقة والمنظمة التي تُكتسبُ من طريق الدراسة والبحث والتجربة، أو بتعبير أدق بوصفه مجموعة من المعارف المتراكمة التي تم التحقق منها عبر الملاحظة والكشف والتجربة الميدانية، والتي تتعلق بالظواهر الطبيعية، ويُستندُ إليها لتفسير الأحداث والظواهر المختلفة. وبين العلم الإنساني المخلوط بالظاهرة الإنسانية والمعرفة النسبية والتطور التاريخي، ولو انتسبت بطريقة من الطرق إلى نصوص مقدسة أو ظواهر الوحي المختلفة، لأن العلم مهما انتسب إلى المطلق لن يصير بالضرورة مطلقًا، إذ إن هناك فرقًا شاسعًا بين المقدس وما ينحدر من المقدس، وبين الدين كونها نصوصًا مصدرها الوحي الإلهي، وبين التدين بوصفه تجربة تجتمع فيها الوقائع التاريخية والظاهرة الإنسانية بكل تجلياتها.

وإذا أردنا أن نبحث عن عمق هذه الأزمة في تاريخ العلوم الإسلامية، فسنجدها تمتد بجذورها لتصل إلى سؤال التطور أو اختبار النسبية التاريخية وفق تعبير عبد الجواد ياسين[1].  فعلى الرغم من أن الدين قدم نفسه على مر الحقب التاريخية ليكون حقيقة مطلقة، إلا أن كل العلوم والمعارف المنتسبة إليه، عرفت بنيات متعددة وأجوبة مختلفة عن القضية الواحدة، مما يجعل من الواقع التاريخي مسرحا لبنيات تدين تختلف باختلاف أنساق وأيديولوجيات المنشئين لها، وبالتالي لا يُمكننا أن نتصور بأن الدين أو المجال الديني، يمكنه أن يسبغ إطلاقيته على ما يحتمل التطور أو التغير، لأن المصدرية الإلهية للنص أو الدين لا تعني أن يُنكر الإنسان الحضور المُكثف للاجتماع البشري، وتاريخية الفهم والتأويل والتمثل الإنساني للوقائع الإنسانية. ومهما حاولنا أن نقوم بالخلط بين تجربة النص والفهم أو بين الدين والتدين أو بين العلم والتأويل والمقاربة الإنسانية. فإننا سوف نخفق، لأن النص أو الدين هو بناء لُغوي يُفهم من طريق العقل الإنساني القاصر والمحدود بحدود اللغة والتاريخ والثقافة والفكر.

ما تزال هذه الإشكالية تُلقي بظلالها على فهم البنيات المتأتية من النص الديني، أو المتأصلة من جذور الدين نفسه، فالدين وإن كان يتضمن ما هو مطلق ثابت، فإنه من منظور آخر يتضمن ما هو اجتماعي وتاريخي وفكري متطور، أو على الأقل قابل للتطوير، بما في ذلك الجانب الأخلاقي أو القيمي. فالأخلاق من المنظور الديني هي كُليات مطلقة، ولكن حينما يُنزلها الإنسان إلى واقع متغير، فإنها تأخذ قالبًا إنسانيًا نسبيًا خاضعًا وقابلًا للتطور، وهذا ما يُطلق عليه عبد الجواد ياسين بالاجتماع المنصوص[2]. فالتدين أو الاشتغال على نصوص دينية من ناحية علمية هو نتيجة حتمية لتفاعل العقل البشري، والفهم الإنساني مع نصوص دينية، ومجتمع متحرك في الوقائع والإمكانات. وأي تغافل عن هذا المنظور يجعلنا نتخبط في إشكالات التقديس والتلبيس، الناتجة عن عدم إدراكنا لحقيقة التنوع داخل بنية النص نفسه، ومن ثم يحضر الدمج مُستجلبًا معه التطرف والتسلف والتخلف.

وبما أننا نقارب موضوع العلوم الإنسانية ونشأتها وعلاقتها بالمجال الديني، كونه موضوعًا لها ومسرحًا لتأويلاتها وفهمها، فإننا نستحضر جانب فلسفة التأويل أو الهرمينوطيقا التي مَثلت علامة فارقة في فهم الآليات التي تتيحها الأديان، والنصوص الدينية، وميزت بطريقة أو بأخرى بين كل ما يمكنه أن يُثير غموضًا في الظاهرة الدينية، ولعل أهم من حاول الفصل في هذه الإشكاليات في بنية النصوص الدينية، والعلوم المنحدرة منها نجد تأويلية هانز جورج غادامير (Hans-Georg Gadamer).

  • الهيرمينوطيقا مدخلًا لفهم العلوم[3]
  • تأويلية هانز جورج غادامير

هي فلسفة تأويلية (هيرمينوطيقا) تهدف إلى فهم كيفية تفسير النصوص والمعاني، من طريق الحوار بين الماضي والحاضر. فقد ركزت على دور التحيز (أو الأحكام المسبقة) والتقاليد في تكوين الفهم البشري، فيرى بأن الفهم ليس عمليةً عقلانية محضة، وإنما هو دائمًا متأثر بالظروف التاريخية والثقافية التي يعيشها الشخص، وهنا لا بُد من استحضار الأفق التاريخي في عملية التأويل، لأن كل فرد منا يعيش في أفق معرفي معين تكونه تجربته وتقاليده التاريخية. ولا بُد أن تختلط هذه التجارب في عملية الفهم، التي تتضمن التقاء أفق القارئ أو الباحث والمفسر والمؤول، مع أفق النص أو العمل الفني الذي يُفسر. وحينما يندمج الأفقان، فإننا نحصل على التفاعل بين الأفق التاريخي للقارئ، والأفق التاريخي للنص أو الظاهرة، ما يكون حوارًا دائمًا بين الماضي والحاضر، فيُعاد بناء المعاني بطريقة جديدة.

وحينما يستحضر غادامير التحيز والأحكام المسبقة في التجربة التأويلية للإنسان، فإنه يؤكد أن التحيزات ليست دومًا أمورًا سلبيًة، وإنما تكون جزءًا أساسيًا من فهمنا للعالم. فما نعده تحيزًا أو حكمًا مسبقًا يُمكن أن يكون نقطة انطلاق لفهم النصوص، لأنه يساعد في توجيه عملية الفهم. إنها اللعبة أو مفهوم “اللعبة” (Spiel) كما سماها غادمير، فهو يوضح باستخدامها كيف أن الفهم ليس عملية أحادية الاتجاه، بل هو عملية تفاعلية بين الذات والموضوع. الفهم يتم في إطار لعب الأدوار التي يؤديها كل طرف، مثل القارئ والنص، ومن ثم ففلسفة غادمير تركز في الطابع التاريخي والمعرفي للفهم، وتقول بأن الفهم الكامل أو النهائي غير مُمكن. بدلًا من ذلك هو عملية ديناميكية دائمة، قائمة على الحوار وتفاعل الأفقين.

ما قاله غادمير في هذا الصدد وهو يوضح أهمية الجانب التاريخي والأحكام المسبقة في عملية التأويل يختلف نسبيًا مع ما حُدد من شروط معرفية في فلسفة شلايرماخر.

  • تأويلية شلايرماخر[4]

إن هذه الفلسفة التأويلية، وإن كانت تلتقي مع فلسفة هانز جورج غادامير في بعض جوانبها، غير أنها تختلف اختلافًا كبيرًا عنها، رغم أنهما يشتركان في كون التأويل (الهرمينوطيقا) محور اهتمامهما. وإذا أردنا رصد مظاهر هذا الاختلاف، فيمكننا أن نقول بأن هدف التأويل في فلسفة شلايرماخر، هو استعادة الفهم الأصلي للنص كما كان يقصده المؤلف، فيركز على فهم المؤلف من طريق فهم عقله وروحه، ويعتقد أن على المفسر أن يسعى في فهم المؤلف أكثر مما يفهم هو نفسه. بمعنى آخر، التأويل عند شلايرماخر هو عملية “استعادة” أو “إعادة بناء” للمعنى الأصلي. أما غادامير فقد كان يرفض فكرة أن الفهم يُمكن أن يكون إعادة بناء نقي لمعنى النص الأصلي، بل على العكس من ذلك، فهو عملية حوارية تحدث بين المفسر والنص، متأثرة بظروف المفسر التاريخية. أي أن الفهم هو دائمًا نتيجة لقاء بين أفق المفسر وأفق النص، ولا يمكن أن يكون هناك فهم “محايد” أو “موضوعي” بالكامل.

أما عن الدور الذي تلعبه التحيزات أو الأحكام المسبقة، فشلايرماخر يسعى في التخلص من التحيزات والأحكام المسبقة للوصول إلى الفهم الحقيقي للنص، ويركز على محاولة الدخول في عقل المؤلف لفهم مقاصده، ويرى أن التحلي بالدقة والتخلص من التحيزات يساعد في الوصول إلى هذا الهدف. أما غادامير فيرى أن التحيزات والأحكام المسبقة ليست بالضرورة سلبية، وإنما جزءًا لا يتجزأ من عملية الفهم، وتوجيه المُفسر، فالفهم يحدث من طريق التفاعل مع التحيزات بدلًا من التخلص منها. وهذا يعكس نقد غادمير لفكرة الموضوعية المطلقة في الفهم. وإذا كان شلايرماخر يميل إلى رؤية الفهم بوصفه عملية تنطوي على استعادة معنى ثابت للنص، بغض النظر عن السياق التاريخي الذي يعيش فيه المفسر. فهو يركز على معنى النص الأصلي ويرى أن التأويل المثالي هو إعادة بناء نية المؤلف. بخلاف غادامير الذي يرفض فكرة أن المعاني ثابتة، أو أن الفهم يمكن أن يكون خارج السياق التاريخي للمفسر. فالتأويل بهذا المعنى هو عملية تاريخية دائمة، تتغير باستمرار مع تغير السياقات التاريخية للمفسر. ولا يمكن فهم النصوص فهمًا معزولًا عن التاريخ الذي يعيش فيه المفسر.

وبإيجاز يُمكن أن نُحدث هذا الفصل المنهجي بين تأويلية غادمير وشلايرماخر. ففي الوقت الذي يسعى فيه شلايرماخر في فهم النصوص عن طريق استعادة المعنى الأصلي المقصود من المؤلف، يرى غادامير أن الفهم هو حوار تاريخي مفتوح بين النص والمفسر، متأثر بتحيزات وتقاليد المفسر، ولا يسعى في الوصول إلى معنى “أصلي” ثابت. فهو يرفض فكرة الفهم الموضوعي أو “النقي” التي طرحها شلايرماخر، ويرى أن كل فهم هو دائمًا نتيجة للتفاعل بين الماضي والحاضر.

  • علم مصطلح الحديث، من المعرفة إلى القداسة

لا بُد من الإشارة إلى أن الخاصية الوحيدة التي تخترق كل شيء هي خاصية القداسة، فكما أن القداسة اخترقت عالم الإنسان المحسوس، فإنها بالدرجة نفسها قد اخترقت عالم الإنسان المتجاوز أو المتعالي عن عالم الحس: كالأفكار المجردة والعلوم والمعارف. إننا نتفق هنا مع ما قاله روجيه كايواه[5] بأن ليس هناك ما لا يصلح أن يكون مقرًا للمقدس، وليس هناك ما يتعذر نزعه منه. ليس المقدس إذن صفة تمتلكها الأشياء في ذاتها، بل هو ما يمنحه الإنسان إلى هذا الشيء أو ذاك، حتى إذا فاض على الأشياء أو الكائنات أو الأفكار، أصبح جزءًا يصعب عليه الانفصال منها. مفادُ هذا الكلام وفق روجيه كايواه أن المقدس هو خاصية ثابتة في الفكر الديني الإنساني منذ النشأة الأولى، وأنه ليس مفهومًا دينيًا فحسب، وإنما قوة غامضة ومؤثرة تكون البنية الأساسية للمجتمعات الإنسانية، سواء كانت بدائية أو متقدمة. فالمقدس يتميز بعنصرين رئيسين: الخوف والجذب، إذ إنه يحمل في طياته القوة الخارقة التي تفرض الاحترام والرعب في آن واحد. كما لا بُد أن نميز هنا بين: المقدس الإيجابي، الذي يُشير إلى كل ما يجلب النظام والخير في المجتمع: كالاحتفالات الدينية والطقوس التي تهدف إلى تعزيز الوَحْدة والاستقرار والترابط الاجتماعي وتقوية الشعور بالانتماء. وبين المقدس السلبي، الذي يشمل الفوضى والخطر: كالطقوس العنيفة مثل التضحية، فيكون هناك تواصل مع القوى الغامضة التي يجب الحذر منها أو تجنبها.

هذا إقرار من كايواه بأن الإنسان لا يستطيع العيش دون المقدس، لأنه يُمثل جزءًا من التوازن الضروري بين النظام والفوضى في المجتمع. فالمقدس يساعد الإنسان على تأطير تجربته الوجودية ضمن معايير مشتركة، سواء كانت هذه التجربة دينية أو دنيوية. لذا سعت المجتمعات دائمًا في تحديد ما هو مقدس وما هو دنيوي، لأن ذلك يُحدد كيفية تعامل الناس مع بعضهم البعض، ومع القوى الطبيعية والخارقة. كأن كايواه يربط المقدس بالحاجة الإنسانية إلى النظام والهيكلة الاجتماعية، ويرى أن الإنسان يعتمد على طقوس وممارسات، تحدد العلاقة بينه وبين القوى الخارقة التي تقوده في حياته الفردية والجماعية.

وبما أن مجال المقدس قد اخترق الحياة الإنسانية اختراقًا يبدو فيه استحالة الفصل بين المجال النسبي والمطلق، فإن العلوم الإسلامية والأفكار الدينية التي هي نتاج التفاعل بين الإنسان والنصوص الدينية أو بين الدين والاجتماع البشري، قد طُبعت بهذا الطابع المقدس. ولم يعد الباحث أو القارئ لهذه العلوم يستطيع أن يميز بين الديني والدنيوي فيها، وبين الثابت والمتحول في بنياتها، وعلى رأس هذه العلوم الإسلامية نجد مصطلح علم الحديث، الذي نسمع فيه مثل عبارة في علم الحديث” “قد جاوز القنطرة” للإشارة إلى مرحلة معينة من تحقيق الفهم والتمييز في نقل الأحاديث النبوية. فالعبارة تُستخدم لوصف المحدثين أو العلماء الذين تجاوزوا مرحلة الفحص السطحي للأحاديث، وبلغوا مستوىً عميقًا من النقد والتحقيق، أي أن الراوي أو المحدث قد تخطى مرحلة التحقق البسيط من الأحاديث، وانتقل إلى مستويات أعلى من الفهم والتمييز. كما أنها تُعبر عن القدرة على التمييز بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة، وفهم المسائل المعقدة المتعلقة بالسند والمتن.

وقد عبر الشافعي عن هذا الطابع الإطلاقي لعلم الحديث[6] في ديوانه حين قال:

كُلُّ العُلومِ سِوى القُرآنِ مَشغَلَةٌ      إِلّا الحَديثَ وَعِلمَ الفِقهِ في الدينِ

العِلمُ ما كانَ فيهِ قالَ حَدَّثَنا          وَما سِوى ذاكَ وَسواسُ الشَياطينِ

هذه النظرة المتحيزة للأبيات الشعرية للإمام الشافعي يُمكن أن نقرأ فيها نظرته للعلم كما يلي:

  • “كُلُّ العُلومِ سِوى القُرآنِ مَشغَلَةٌ” في هذا البيت يُعبر الشافعي عن رؤيته أن كل العلوم والمعارف التي لا ترتبط بالقرآن تعد مشاغل أو تشتتًا للذهن لا فائدة منها. فهو يُشير إلى أن المعرفة التي تنبع من القرآن الكريم تعد أساسية وذات قيمة عظيمة، أما سواها قد تؤدي إلى ضياع الوقت والجهد دون فائدة حقيقية.
  • “إِلّا الحَديثَ وَعِلمَ الفِقهِ في الدينِ” هنا يستثني الشافعي الحديث وعلم الفقه من تلك المشاغل. ويُبرز أهميتهما إذ يعدهما جزءًا لا يتجزأ من فهم الدين فهمًا صحيحًا. فالحديث هو المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن، وعلم الفقه يُساعد على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص.
  • “العِلمُ ما كانَ فيهِ قالَ حَدَّثَنا” يحدد الشافعي هنا معنى العلم الحقيقي، إذ يقول إن العلم هو ما يعتمد على السند التي تشير إليه عبارة “قال حدثنا“. هذا التعبير يُشير إلى ضرورة وجود سند قوي، ومصادر موثوقة في نقل المعلومات، خصوصًا في الحديث النبوي. فالعلم هنا يُفهم بوصفه معرفة مُعتمَدة على الأسانيد والروايات الصحيحة، مما يُعزز من موثوقية المعلومات المُعطاة.
  • “وَما سِوى ذاكَ وَسواسُ الشَياطينِ” يُختتم البيت بالتحذير من كل ما عدا العلوم الشرعية، إذ يشير إلى أن هذه الأمور تعد وساوس محضة من الشيطان. هذا التعبير يُظهر مدى أهمية الالتزام بالعلم الشرعي، والابتعاد عن المعلومات التي لا تستند إلى سند وموثوقية كما تُجسد في علم الرواية. كأنه يشير إلى أن ما يُتناول من معارف وأفكار لا تستند إلى القرآن أو الحديث الشريف يُمكن أن يُضلل الناس ويؤدي إلى الانحراف.

تؤكد هذه الأبيات للشافعي النظرة المطلقة لأهمية ما يُسمى بالعلم الشرعي، ناظرةً إلى القرآن والحديث وعلم الفقه بوصفهم المصادر الأساسية للمعرفة، وكل ما سوى هذه العلوم مهما كان فيها من الفوائد، فهو مضيعة للوقت، ومشغلة تنحرف بالإنسان عن جادة الصواب. فهي تدعو إلى التحلي بالتحقق والتمحيص المبني على ثقافة السند والرواية، مُحذِّرة من الانشغال بالمعارف التي لا ترتبط بهذه الأسس. وهي رؤية مبنية أساسا على رؤية الشافعي للسنة النبوية ومكانتها في المعرفة الإسلامية.

إقرأ أيضًا: حالة اللادولة في صدر الإسلام الجزء الثاني: التشريعات القرآنية وحالة اللادولة

فكما هو معروف فالشافعي يرى أن السنة النبوية أحد المصادر الأساسية للتشريع في الإسلام، ولها دور حيوي في فهم الدين وتطبيقه. ففي كتابه “الرسالة[7]، قدم رؤية واضحة ومُؤصلة للسنة ودورها في الشريعة. فقد عدها بمنزلة الوحي، فالنبي كان مُؤيدًا من الله في تعاليمه وأفعاله. ومن طريق هذه الرؤية فالسنة ليست تفاصيلَ إضافية تكميلية للقرآن فحسب، وإنما مصدرًا مستقلًا ومتكاملًا يُفسر ويُوضح معاني الآيات القرآنية، واستنباط الأحكام الشرعية المتعلقة بكل جوانب الحياة.

وإذا وصلنا إلى النقطة المفصلية في هذا المقال وهي تقديس العلوم الإسلامية في التمثلات الدينية، فإننا يُمكننا أن نطرح التساؤل التالي:

كيف تحول علم مصطلح الحديث إلى علم مقدس في الذاكرة الإسلامية؟!

للجواب عن هذا السؤال، يلزمنا الحديث الموجزُ عن تطور وتكون هذا العلم، فمصطلح الحديث هو أحد المعارف الإسلامية التي تطورت عبر حقب تاريخية مختلفة، حتى وصل إلى أوجه، مع بروزه علمًا يحافظ وينشر المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي، ألا وهو السنة النبوية.  في ظل انتشار الإسلام واتساع رقعة الدولة الإسلامية، ظهرت الحاجة الملحة إلى التأكد من صحة ما يُنسب إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال، خاصة في ظل ثقافة روائية تعتمد اعتمادًا أساسيًا على ثقافة السماع والرواية. فبعد أن كان الصحابة يعتمدون على ذاكرتهم وثقتهم المتبادلة في نقل الأحاديث، ومع زيادة عدد المرويات، نشأت ضرورات قوية لتطوير علم يتولى التحقق من صحة هذه المرويات، وتمييز الصحيح منها عن الموضوع والمكذوب.

مع مرور الزمن وظهور بعض الرواة الذين لا يتحروا الدقة والمصداقية والثبوت، وبروز روايات موضوعة ومكذوبة، استشعر العلماء خطورة الوضع، وأهمية وضع منهج علمي صارم لتوثيق الأحاديث النبوية. هذا المنهج العلمي الذي طوّره العلماء، صار يعرف فيما بعد بـ “مصطلح الحديث“، ليكون أداة منهجية تضمن نقل التراث النبوي، والروايات الحديثية بطريقة صحيحة ودقيقة. وقد تكوّن هذا العلم عبر مراحل زمنية طويلة، شَهِدَ فيها تحولاتٍ وتطوراتٍ مهمة أسهمت في نضوجه وازدهاره.

إذن علم مصطلح الحديث هو مجموعة من القواعد المنهجية التي تُمكّن العلماء من التفريق بين الأحاديث الصحيحة التي يُمكن اعتمادها في الفقه الإسلامي والتفسير والأصول، وبين الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة التي لا سند لها ولا أصل. وبالتالي فإن علم مصطلح الحديث، بمختلف فروعه ومناهجه، كان وما يزال ركيزة أساسية يعدها الدارسون من المباحث والأسس التي نقحت الإرث النبوي من التحريف وأكدت على دقة النقل عبر الأجيال.

الحاجة إلى تدوين مصطلح الحديث[8]

تعود نشأة علم مصطلح الحديث إلى الفترة المبكرة من التاريخ الإسلامي، وتحديدًا بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في عام 11 هـ. ففي عصر الصحابة، لم يكن علم مصطلح الحديث علمًا منفصلًا أو منظمًا كما هو عليه في العصور اللاحقة، بل كان الصحابة يعتمدون على معرفتهم الشخصية ببعضهم البعض، وثقتهم المتبادلة والقرب الزمني بينهم وبين النبي. كانوا يعرفون بعضهم، ويشهدون الأحداث التي رُويت، ويتميزون بالدقة الشديدة في النقل خوفًا من الوقوع في الخطأ عند نقل قول أو فعل منسوب إلى النبي، لكن مع مرور الزمن وتوسع الدولة الإسلامية إلى مناطق بعيدة عن مركز الإسلام في المدينة المنورة ومكة المكرمة، ظهرت الحاجة إلى تنظيم عملية نقل الأحاديث وضبطها. هذا التنظيم لم يكن ترفًا علميًا، بل ضرورة فرضتها عوامل متعددة، ويمكن تلخيص أسباب ودوافع تدوين علم مصطلح الحديث فيما يلي:

  • التمدد والتوسع الإسلامي، مع الفتوحات الإسلامية في القرنين الأول والثاني الهجريين، انتشر الإسلام في بلاد واسعة مثل: العراق والشام ومصر وبلاد فارس. ومع انتقال الصحابة والتابعين إلى هذه المناطق، بدأت الرواية الشفهية للأحاديث تنتقل بين أجيال لم تشهد العصر النبوي، ولم تكن حاضرة في أهم مشاهده وفصوله. ومع هذا الانتشار الجغرافي الواسع، لم يعد بالإمكان الاعتماد فقط على الثقة الشخصية بين الرواة، بل ظهرت الحاجة إلى ضوابط علمية دقيقة لتوثيق الأحاديث.
  • ظهور الفتن السياسية والمذهبية، في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، وخاصة بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، بدأت تظهر الفتن والصراعات السياسية، وأدت هذه الفتن إلى محاولة بعض الجماعات استخدام الأحاديث لتحقيق أهداف سياسية أو مذهبية. وظهرت جماعات بدأت في اختلاق الأحاديث لدعم مواقفها السياسية أو الفقهية، والبحث عن الشرعية الدينية والسياسية من داخل النسق الديني النصي. من هنا نشأت ضرورة التحقق من صحة الأحاديث ووضع منهج علمي لفحص الرواة ومروياتهم.
  • ظهور الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ، مع انتشار الإسلام وتوسع الرقعة الجغرافية ومع تعدد المدارس الفكرية والفقهية، ظهرت آفة الوضع في الحديث، أي اختلاق الأحاديث ونسبتها إلى النبي محمد. وبدأ بعض الناس يختلقون الأحاديث لدعم مصالح شخصية أو مذهبية، ما استدعى العلماء إلى التحرك سريعًا لوضع معايير دقيقة للتفريق بين الأحاديث الصحيحة والمكذوبة. وقد كان هذا الخطر أحد أهم الدوافع لتطوير علم مصطلح الحديث.

في تلك الفترة المبكرة كان للصحابة دورًا محوريًا في الحفاظ على السنة والتصدي لأي محاولة لتحريفها. فقد كانوا حريصين على توثيق الأحاديث، وتصحيح الروايات عند سماعهم لأي خطأ أو اختلاف. وقد اشتهر بعضهم بالدقة في نقل الحديث والتحقق من صحة المرويات، مثل: عبد الله بن عباس الذي كان يحرص على السؤال عن سند الحديث والتحقق من مدى صحة الرواية. وعبد الله بن عمر بن الخطاب الذي كان يُعرف بتحري الدقة في نقل الحديث، وكان يقول: “لا تحدثوا إلا بما صح“. وعندما بدأ الصحابة في نشر الإسلام في الأمصار المختلفة مثل: العراق والشام ومصر، كانوا يُعلمون التابعين ويؤكدون أهمية الدقة في النقل. وكان من الطبيعي أن يتبنى التابعون هذا النهج، فبدؤوا أيضًا في تمييز الأحاديث بناءً على السند، وهو ما يُعرف اليوم بسلسلة الرواة، إذ بدأ العلماء يهتمون بمنهجية نقل الحديث منذ وقت مبكر.

إقرأ أيضًا: كتابة السنة ورواة الحديث

مع تدوين الحديث وتوسيع دائرة البحث في الأحاديث المروية، ظهر جيل من العلماء الذين بدؤوا في وضع القواعد لتحديد صحة الحديث وضعفه. في البداءة كانت هذه القواعد بسيطة وتعتمد على أحوال الرواة وسلامة السند. ومع مرور الوقت تطورت هذه القواعد وأصبحت أكثر تفصيلًا. ومن أبرز العلماء الذين أسهموا في وضع أسس هذا العلم:

  • الإمام الشافعي (150 هـ – 204 هـ)، يُعد الشافعي من أوائل العلماء الذين وضعوا أسس علم مصطلح الحديث بطريق منهجي في كتابه “الرسالة“. ففي هذا الكتاب تحدث عن أهمية السند وكيفية التحقق من الرواة، ووضع معايير لقبول الحديث.
  • الإمام البخاري (194 هـ – 256 هـ) والإمام مسلم (206 هـ – 261 هـ): قاما بجمع الأحاديث وتصنيفها وفق معايير دقيقة جدًا في كتابيهما “صحيح البخاري” و”صحيح مسلم“، وهما أشهر الكتب التي جمعت الأحاديث الصحيحة. البخاري ومسلم لم يكتفيا بجمع الأحاديث، وإنما وضعا شروطًا صارمة لقبول الحديث، مما أدى إلى وضع حجر الأساس لكثيرٍ من القواعد التي استُخدمت فيما بعد في علم مصطلح الحديث.

هكذا تطورت نشأة علم مصطلح الحديث عبر مراحل مختلفة، من الاعتماد على الثقة المتبادلة بين الصحابة إلى تطوير نظام متكامل يقوم على دراسة أحوال الرواة وفحص السند. ومع اتساع الدولة الإسلامية وزيادة التحديات التي واجهتها السنة النبوية، أصبحت الحاجة إلى تدوين الأحاديث وتنظيم عملية الرواية أكثر إلحاحًا، مما دفع العلماء إلى إنشاء هذا العلم الذي أصبح لاحقًا أحد أهم العلوم الإسلامية وأداة أساسية لحماية التراث النبوي من التحريف.

مراحل تطور علم مصطلح الحديث

عرفنا سابقا بأن علم مصطلح الحديث من العلوم الإسلامية التي حافظت على الموروث النبوي وأسهمت في توثيق سيرة النبي وأقواله وأفعاله، وأحوال المحيط الذي عايشه وصاحبه. وقد شهد هذا العلم تطورًا ملحوظًا عبر العصور، فقد بدأ بنقل الأحاديث نقلًا شفهيًا على أيدي الصحابة، ثم تطورت عملية حفظ الأحاديث مع تزايد الفتن واختلاط الرواة في مختلف الأمصار الإسلامية. هذا ما دفع العلماء إلى تدوين السنة ووضع قواعد دقيقة تهدف إلى ضمان صحة ما يُنقل عن النبي محمد. ومع مرور الزمن صارت الحاجة ماسة إلى تأسيس علم خاص يدرس الحديث من جميع جوانبه، ويمحص صحيحه من سقيمه. فظهرت علوم عديدة مثل: مصطلح الحديث وعلم الرجال وعلم الجرح والتعديل. وقد كانت الغاية منها وضع معايير صارمة لتوثيق الحديث النبوي الشريف، وتحديد درجة صحته، مما جعل هذا التراث محفوظًا وموثوقًا به. في هذا السياق نتحدث بإيجاز عن أهم المراحل الرئيسة التي مر بها علم الحديث وتطوره، ونتعرف على أبرز جهود العلماء في جمع وتدوين السنة النبوية وضمان صحتها للأجيال اللاحقة.

  • مرحلة الرواية الشفهية (عصر الصحابة والتابعين)، هذه المرحلة تُعَدُّ البداءة الفعلية لتداول الأحاديث النبوية، وهي تمتد من عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم حتى نهاية عصر التابعين. في هذه الفترة كان الاعتماد على الرواية الشفهية هو الأساس. لم يكن الحديث النبوي مدونًا بطريقة رسمية، وكان الصحابة يعتمدون على ذاكراتهم ودقتهم الشخصية في نقل الأحاديث. وفي عصر الصحابة كان الناس يعتمدون على الصحابة المقربين من النبي مثل: أبي هريرة وعائشة وغيرهما من كبار الصحابة المعروفين بحفظ الأحاديث، لرواية الأحاديث شفهيًا في المجالس والمنتديات الدينية، ويتناقلونها بينهم.

في عصر التابعين الذين جاءوا بعد الصحابة، استمر تداول الحديث بالطريقة الشفهية نفسها، لكن مع تزايد انتشار الإسلام وبُعد المسافات بين مختلف الأقطار الإسلامية، ظهرت بعض الصعوبات في التحقق من صحة الأحاديث، مما دفع العلماء في هذه المرحلة إلى وضع أسس ابتدائية للتحقق من سند الأحاديث ومن عدالة الرواة. في هذه المرحلة برز مفهوم السند لأول مرة، إذ أصبح المسلمون أكثر حرصًا على ذكر سلسلة الرواة لضمان موثوقية الأحاديث. وكما قال ابن سيرين -وهو من التابعين-: “لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم”، مما يدل على بدء الاهتمام بتوثيق السند والتفريق بين الرواة.

  • مرحلة التدوين الرسمي (القرن الثاني الهجري)، مع نهاية القرن الأول الهجري وبداءة القرن الثاني، ظهر خطر جديد يتمثل في انتشار الأحاديث الموضوعة. هذا الانتشار دفع العلماء والخلفاء إلى اتخاذ خطوات جادة لحفظ السنة النبوية من الضياع والتحريف. في هذه المرحلة بدأت عملية تدوين الأحاديث بطريقة رسمية ومنظمة. كان أول من أمر بتدوين السنة هو الخليفة عمر بن عبد العزيز (99-101 هـ). فقد أرسل رسائل إلى العلماء والولاة في مختلف الأقطار الإسلامية يأمرهم بجمع الأحاديث وتدوينها. كان هدفه الأساسي حماية السنة النبوية من التحريف والضياع بسبب وفاة الصحابة والتابعين الذين كانوا يحملون علم الحديث في صدورهم. من أبرز العلماء الذين لبوا هذا النداء هو ابن شهاب الزُهري (58-124 هـ)، الذي يعد من أوائل العلماء الذين شرعوا في تدوين الأحاديث بطريقة منظمة. وقد لعب دورًا كبيرًا في جمع الأحاديث وتوثيقها في هذه الفترة. في هذه المرحلة كانت الكتب التي جمعت الأحاديث ما تزال مختلطة بالفقه وآراء العلماء الشخصية، كما كان الحال مع كتاب “الموطأ” للإمام مالك. لم يكن الهدف في هذه المرحلة تصنيف الأحاديث بناءً على درجات الصحة أو الضعف، بل كان التركيز على جمع الأحاديث وحفظها في السجلات المدونة.
  • مرحلة التصنيف والتفريق بين الأحاديث (القرن الثالث الهجري)، يُعد القرن الثالث الهجري العصر الذهبي لعلم الحديث، فقد شهد تطورًا كبيرًا في منهجية التعامل مع الأحاديث. في هذه المرحلة لم يكن الهدف جمع الأحاديث فحسب، وإنما تصنيفها وفقًا لدرجات صحتها. فقد بدأ العلماء بتطوير قواعد منهجية صارمة للتفريق بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة. في هذه المرحلة برزت أسماء لامعة مثل الإمام البخاري (194-256 هـ) والإمام مسلم (206-261 هـ)، اللذان وضعا شروطًا صارمة لقبول الأحاديث في كتابيهما “صحيح البخاري” و”صحيح مسلم“، اللذان يُعدان من أشهر كتب الحديث في تاريخ الإسلام. هذان العالمان طورا منهجية علمية تقوم على فحص سلسلة الرواة والتأكد من عدالتهم وضبطهم، وكذلك دراسة انقطاع السند أو وجود أي شذوذ في متن الحديث.

في هذه المرحلة ظهرت أيضًا كتب السنن مثل سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه التي كانت تُصنّف الأحاديث بناءً على الأبواب الفقهية، وتجمع الأحاديث المتعلقة بكل باب فقه على حدة، مع تمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها. بالإضافة إلى التصنيف بناءً على الموضوعات الفقهية، بدأ العلماء يهتمون بدراسة أحوال الرواة دراسةً منهجيةً، فظهر علم الجرح والتعديل، وهو العلم الذي يهتم بتقييم الرواة وبيان مدى صدقهم وضبطهم.

  • مرحلة التقعيد والتأصيل (القرن الرابع الهجري وما بعده)، في هذه المرحلة أصبح علم مصطلح الحديث علمًا مستقلًا ومنهجيًا، إذ وضع العلماء القواعد والتعريفات الدقيقة لكل مصطلح من مصطلحات الحديث، مثل: الحديث الصحيح الحسن الضعيف الموضوع المرسل والموقوف. وصيغت هذه القواعد صياغةً واضحةً، لتكون مرجعًا لكل من يريد التحقق من صحة الحديث. من أبرز العلماء الذين أسهموا في تأصيل هذا العلم وتقعيده هو الإمام ابن الصلاح (577-643 هـ)، الذي كتب كتابه الشهير “مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث” وهو من أهم الكتب التي وضعت أسس علم مصطلح الحديث. هذا الكتاب جمع خلاصة القواعد والمبادئ التي توصل إليها العلماء في هذا المجال، وأصبح مرجعًا أساسيًا لكل من جاء بعده. بعد ابن الصلاح جاء علماء آخرون شرحوا وطوروا ما كتبه مثل: الإمام النووي (631-676 هـ) الذي شرح مقدمة ابن الصلاح وكتب كُتبًا أخرى في مصطلح الحديث، وكذلك ابن حجر العسقلاني (773-852 هـ)، الذي شرح صحيح البخاري في كتابه “فتح الباري“، وكتب كُتبًا أخرى في علم الحديث مثل “نخبة الفِكَرْ” و”تقريب التهذيب“.
  • علم مصطلح الحديث، العيوب والثغرات

مما كتبتاه سابقًا في هذه المقالة نريد أن نصل إلى أن البداءة الفعلية لعلم مصطلح الحديث، كانت الغاية منها هو تنقيح الموروث الديني، والنبوي منه بخاصة مما يُمكن أن يعتريه من نقص، وإزالة الشوائب العالقة في أذهان الناس نتيجة الصراعات السياسية الموجودة حينذاك، لكن مع مرور الزمن تحول هذا العلم، وهذا الفرع المعرفي إلى قواعد مستحكمة في العقل المسلم، تسهم في تكلسه وجموده، وبذلك تحولت المسيرة من التنقيح إلى التقديس وهو شيء ملازم للأفكار والأشياء والأشخاص، وهو الغاية الأساسية من هذا المقال، أي نزع القداسة على هذه القواعد وهذه الأصول لتأخذ حجمها الطبيعي والإنساني من النقد والبحث والتطوير والدراسة. ولعل المدخل الأساسي لتطوير المنظومة الدينية والفكر الإسلامي هو النقد والدراسة والبحث، فلا إصلاح إلا ما يستهدف دراسة هذه العلوم في بنيتها وأسسها وقواعدها وتأصيلاتها المختلفة.

إقرأ أيضًا: قضية الدلالة و السياق في التعامل مع الحديث النبوي

ومحاولةً منا الخروج من أسْر ثقافة أثرية نقوم بهذه الدراسة النقدية لأهم القواعد المؤسسة لعلم مصطلح الحديث، لنرى مدى علميتها ومطابقتها للواقع، ومصداقية فرضياتها ونتائجها، عبر محاكمتها لمنطقها نفسه، ومحاكمتها للقرآن باعتباره أحد الأصول التي تزعم هذه العلوم القيام عليه. وستكون مقاربتنا لهذا الموضوع من خلال النقاط التالية:

  • القرآن ومفهوم السنة[9]

كأي لفظ من ألفاظ اللغة العربية، هناك تباين في الاستعمال اللغوي والاستعمال القرآني لبعض المفردات الواردة في لسان العرب أو في العلوم الإسلامية. ولأن السنة النبوية من أهم المصادر التشريعية والمعرفية في العقل الإسلامي، فوجب تحديد هذا الفرق. هذا التباين هو ما أطلق عليه أبو القاسم الحاج حمد بالاستعمال الإلهي للغة[10]، فلديه يتميز القرآن كونه نصًا لغويًا فريدًا، إذ يتسم بتراكيب لُغوية وإشارات تعكس الوَحْدة العضوية الكاملة للمعاني. هكذا فاللغة القرآنية ليست وسيلةً للتواصل البشري، بل هي لغة إلهية ذات دلالات متعددة وأبعاد غيبية.

من هذا المنطلق فلنقم بوضع تعريفات للسنة عند المحدثين والفقهاء والأصوليين:

السنة عند المحدثين، تشمل كل ما أُثر عن النبي محمد ﷺ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية أو خُلقية. يُعنى المحدثون برواية السنة وتوثيقها وتحديد صحتها أو ضعفها، وذلك عن طريق علم الحديث.

السنة عند الفقهاء، تعني ما يُستحب فعله من أفعال الرسول ﷺ ولم يأتِ به أمر واجب. وهي ما يُثاب فاعلها ولا يُعاقب تاركها، فهي تأتي بدرجة أقل من الواجب.

أما السنة عند الأصوليين، السنة عند الأصوليين هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم. وهي ما صدر عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير وكان المراد منه بيان أحكام الشريعة الإسلامية. يستخدم الأصوليون السنة لتحديد الأحكام الشرعية والتفرقة بين ما هو واجب ومستحب ومحرم.

هكذا نرى أن هناك تباينًا في المفاهيم بين اللغة والاصطلاح، قد أملته ظروف اشتغال كل فريق والأدوات العلمية التي يشتغل بها. والكل كان في الحقيقة يوظف القرآن من أجل الانتصار إلى اتجاهه ومنطلقاته الفكرية. فهل فعلا أُسس لمفهوم السنة في الثقافة الإسلامية انطلاقًا من القرآن؟ أم انطلاقًا من تأثيرات كل مدرسة والاتجاه الذي تتبناه؟

استعمل القرآن لفظة السنة في عديدٍ من مواضعه وسياقاته. وقد كان المعنى الملازم لهذه الكلمة يُبين من طريقه أن الكون والتاريخ والنفس البشرية، وكل الأمور المرتبطة بالنسق الكوني تسري وفق سنن الله، ووفق نظامه القانوني المحكم غير المتأثر بالتغير والتبديل: “سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا”. هذه السنن المبثوثة في الكون بما يضمن للإنسان أن يسير على بصيرة من أمره في كل مجالات الحياة، هي المحرك الأساسي لحركة التاريخ والحضارة، في نسق واضح يجنب الإنسان مغبة الخروج عن نسقها. لأن أي خروج لقوانينها حسب الطرح القرآني، هو خروج عن السير والنظام العامين في تركيبة هذا الكون: “وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ”.

والسنن في القرآن ليست نسقًا واحدًا، بل أشكالًا متعددة، منها ما هو متعلق بالسير العام للكون، ومنها ما هو مرتبط بحركة التاريخ وتركيبة النفس البشرية، وغير ذلك من الأمور. وتتميز هذه السنن بخصائص تميزها عن غيرها، لعل أهمها التتابع والاطراد في نسق واحد: “وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا”. والمعطى الثاني أن هذه السنن مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالإنسان، فهي ملتصقة به غير بعيدة عنه. فسنن التاريخ والمجتمعات تحكمها علاقة تأثير وتأثر بالنسق الإنساني بكل تجلياته: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”.

هكذا فالقرآن يطرح مفهومًا نسقيًا لكلمة السنة من طريق استعمالاته المختلفة لها. وهو مفهوم بعيد كل البعد عن كل المفاهيم الثقافية، المرتبطة بواقع الرواية وتأثيراتها المختلفة. وعليه لم يبقَ أي مُبرر للقول بأن هذا المفهوم على الأقل قد أَسس قرآنيا. هذه المعاني أشار إليها محمد باقر الصدر الذي تناول موضوع “السنن الإلهية” في كتابه “السنن التاريخية في القرآن[11]، فقد قام بدراسة مفهوم السنن في القرآن الكريم بوصفها قوانين إلهية تحكم حركة المجتمعات والتاريخ. فهو يرى أن السنن الإلهية هي قواعد ثابتة وقوانين تحكم الطبيعة والوجود، لكنها ليست مقتصرة فقط على الكون المادي، بل تشمل كذلك حياة الإنسان والمجتمعات، ولعل ما يُميز هذه السنن:

  • ثبات السنن الإلهية، الصدر يؤكد أن السنن الإلهية هي قوانين ثابتة لا تتغير عبر الزمن أو بين المجتمعات، كما ورد في القرآن: ” وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا” (الأحزاب: 62)، وهو ما يعني أن كل ما يحدث للأمم نتيجة اتباعهم أو مخالفتهم لتلك السنن هو جزء من خطة إلهية ثابتة.
  • السنن الاجتماعية والتاريخية، وفق الصدر، فإن الله يضع قوانين اجتماعية تحكم صعود المجتمعات وانهيارها، وتلك السنن تتعلق بالإيمان والكفر، العدل والظلم. فهو يرى أن المجتمعات التي تتبنى القيم الإيجابية وتحقق التوازن الأخلاقي تنجو وتزدهر، بينما تلك التي تُخالف سنن الله تنتهي إلى الدمار، وهذا واضح من قصص الأمم السابقة في القرآن.
  • القدرة على معرفة السنن، يعتقد الصدر أن البشر يُمكنهم فهم تلك السنن واستقرائها بدراسة تاريخ الأمم السابقة والتأمل في القرآن الكريم، بمعنى أن السنن لا تقتصر فقط على العالم الغيبي، وإنما يمكن للإنسان عبر التأمل والدراسة استيعابها.
  • الاستجابة للسنن الإلهية، الصدر يرى أن البشر ليسوا مجبرين على اتباع مسار معين، بل لديهم حرية الاختيار، إلا أن نتائج اختياراتهم ترتبط بالسنن التي وضعها الله. فإذا اتبع الإنسان سنن الله نجح، وإذا خالفها واجه العقوبات نفسها التي واجهتها الأمم السابقة.

الثغرة الأولى، الصحابة ومفهوم العدالة

يحتل مفهوم الصحابي في الفكر الإسلامي مكانة خاصة، فقبل الخوض في تعريفه، وكيف تعامل معه المحدثون والفقهاء والأصوليون والمفسرون، لا بُد من إبراز الدور الفريد الذي مثله هذا الجيل في التاريخ الإسلامي وفي مرافقة كل مراحل العصر النبوي. الصحابة يُمثلون جيلًا مميزًا في الإسلام، فهم الذين عاصروا النبي محمد ﷺ وآمنوا برسالته وبلغوا تعاليمه وأخلاقه. ومن هذا المنطلق مثل الصحابة ركيزة أساسية في حفظ الموروث النبوي والقرآني، بشهادتهم المباشرة على كل الوقائع الحية التي عاصرت زمن النبوة، والمشاركة في بناء المجتمع الإسلامي منذ لحظة التأسيس الأولى، إلى غاية انتقال النبي عليه السلام إلى الرفيق الأعلى.

أما عدالة الصحابة فتعني أن الصحابة عُدول وثِقات كلهم، وقد تُحقق من ذلك من طريق معايير الشريعة الإسلامية. العدالة تُعد شرطًا مهمًا لتوثيق الحديث، إذ إن الأحاديث النبوية تُنقل من طريق الصحابة، ومن ثم يجب أن يكونوا موضع ثقة. والعدالة بهذا المعنى تعني استقامة الشخص في دينه وأخلاقه، وتجنب الفواحش والآثام. وقد استدل المحدثون على عدالة الصحابة بمجموعة من الشواهد القرآنية، أهمها: “وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ” (التوبة: 100)، مما يدل على مكانتهم العالية. أما الأحاديث النبوية: فالنبي ﷺ ذكر فضل الصحابة في عدة أحاديث، مثل حديث “خير القرون قرني“، مما يدل على مكانتهم السامية.

أما القرآن الكريم فقد أطلق الصُحبة بمفهوم مباين لما تُداول في الدراسات الحديثية من: “أن الصحابة هم الذين آمنوا بالله دون غيرهم، وماتوا على الإسلام”[12]. فقال في شأن الابن ووالدين مختلفين في الاعتقاد: “وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ”. وقال في شأن أصحاب الجنة: “قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا” وقال عن دعوة محمد وقومه: “مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى” “أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ۗ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ”.

وبناء على ما سبق فالصحبة غير عاصمة من الزلل والخطأ والنسيان، وغير عاصمة من كل العوامل المتدخلة في التركيبة الإنسانية. فالإنسان يصدر منه الخير والشر، والصحابة جزءًا من هذه المنظومة. فمجتمعهم هو من كانت فيه السخرية من الناس والتنابز بالألقاب، والظلم بأشكاله المتعددة: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ”. والكذب أيضًا كان ملازمًا للإنسان وفق الظروف والعوامل، وهذا هو الإنسان بطبيعته وسجيته: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ”. وقد يكونوا جاحدين لنعم الله نسيانا أو عمدا، حتى في أصعب الظروف: ” أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)” .

وهكذا فمفهوما الصحابة والعدالة لم يُؤسسا تأسيسًا قرآنيًا، بل أُسسا من طريق الثقافة الروائية التي أسس لها علم المصطلح. فغُيبت مجموعة من الحقائق التاريخية من هذا الاتجاه أو ذاك، ومُررت الأفكار والأيديولوجيات المختلفة باسم الصحبة وباسم العدالة، كما أن القائلين بعدم عدالة الصحابة يستندون إلى عدة حجج وأدلة وشواهد، تتعلق بعدم توافر معايير العدالة توافرًا كافيًا أو وجود ممارسات تنافي العدالة لدى بعض الصحابة. مثل بعض الاختلافات السياسية، والصراعات بين الصحابة بعد وفاة النبي، مثل معركة الجمل وصراع علي ومعاوية. هذه الاختلافات أثارت تساؤلات بشأن مستوى العدالة والتقوى. ناهيك عن أحداث الفتنة التي أُثيرت إثر مقتل عثمان بن عفان، وأثرت في صورة بعض الصحابة، كما أن هناك تباين كبير حد التناقض في الروايات المنقولة عن بعض الصحابة.

الثغرة الثانية، الاحتجاج بمراسيل الصحابة

في علم مصطلح الحديث يُعد الحديث المُرسل من الإشكاليات الكبيرة التي تتطلب مراجعة ودراسة. إذ يُعرف الحديث المُرسل بعدم وجود سند متصل ينتهي بشخص غير معلوم أو غير محدد، مما يجعله أقل موثوقية مقارنة بالأحاديث المسندة. ومع ذلك يحمل الحديث المرسل دلالات مهمة ويعدُّ من المصادر التي تُثري الفقه والعلم الإسلامي. ومن ناحية التعريف فالحديث المرسل هو ما يُروى عن النبي محمد ﷺ دون ذكر الصحابي الذي سمعه مباشرة. يُعرف بأن راوي الحديث هو تابعي، وهذا يجعل الحديث مُنقوصًا في إسناده. ويختلف العلماء في قبول الحديث المرسل بناءً على موثوقية الراوي ونوع الحديث. ويمكن تقسيم الحديث المرسل إلى نوعين رئيسين:

  • المُرسل الجائز، وهو ما يُقبل إذا كان الراوي من التابعين المعروفين بالعدالة.
  • المُرسل غير الجائز، يُرفض إذا كان الراوي غير موثوق أو يتعارض مع أحاديث أخرى معروفة.

من هذا المنطلق تعد حُجية الحديث المرسل مسألة خلافية بين العلماء. فإذا كان بعضهم يرى أنه مقبول في حالات معينة، فإن آخرين قد رأوا عكس من ذلك.

ومن التبعات الخطيرة لعدالة الصحابة المطلقة أن مراسيلهم قد أصبحت عند عديدٍ ممن أَصَّلوا لهذا العلم مقبولة دون ميزان أو فحص نقدي. وكي نفهم الأمور أكثر لا بُد لنا من تعريف عن هذا الاصطلاح الحديثي، فقد عرفه المشتغلون بهذا الاتجاه بأنه: “الحديث الذي انقطع إسناده من آخره أي انقطع فيما بين التابعي والرسول. وصورته أن يقول التابعي سواء أكان كبيرًا أم صغيرًا قال رسول الله كذا أو فعل كذا أو فعل بحضرته كذا أو نحو ذلك”.[13]  أما مراسيل الصحابة فتندرج ضمن هذا المفهوم العام للحديث المرسل. فهي رواية الصحابي لواقعة أو قول دون سماعها من المصدر نفسه، وإنما سمعها من جهة أخرى قد أُسقطت. والحقيقة أن مثل هذا الإسقاط من الصحابي لمحل سماعه، مثَّل وما يزال يُمثل مثار جدل في موضوعية هذا العلم، إذ أن منطقية علم الحديث نفسه تنبني على الإسناد بوصفه ركيزة أساسية في نقل الأخبار، ولكن تَبَنِّي مفهوم العدالة والصحبة المؤسَّسَين أساسا على ثقافة الرواية قد خرق النظام العلمي الذي يزعم صناع العلم شرعيته. فعديدٌ من الصحابة الذين اندرجوا تحت المفهوم الموسَّع للصحبة، كما أصَّل لها الروائيون لم يشهدوا عديدًا من الوقائع والأحداث والأقوال، لصغر سنهم كعبد الله بن عباس وأبو سعيد الخدري ومحمود بن الربيع وغيرهم كثير. وهذا كيل بمكيالين وخلط منهجي كبير في بنية تزعم أنها تقوم على أسس السند والدقة في التحري. وهي تؤسس لمنهجية بعيدة عن كل هذا إذا اقتضى الأمر غير ذلك، وتحاول قدر الإمكان أن تحافظ على شرعيتها عن طريق التوظيف الأيديولوجي للقرآن والقراءات الاعتباطية له.

الثغرة الثالثة، التدليس وتكريس الأزمة

في علم الحديث يُعد الحديث المدلس أحد المفاهيم الحيوية التي تُبرز أهمية التحقق من صحة الروايات النبوية. في سياق هذا التراث تأتي ضرورة التحقق من سلسلة الرواة وشروط قبول الروايات، مما يؤدي إلى تصنيف الأحاديث وفق معايير متعددة. وهذه قاعدة أسس لها علم المصطلح، لكن ظل تطبيقها على أرض الواقع رهين النظرية بسبب المفهوم الخاطئ لما أشرنا له سابقًا للصحبة والعدالة. فكان المفهوم الموسع للصحبة والعدالة أزمةً حقيقية مُرِّرَ منها عديدٌ من الأمور غير العلمية وغير المعقولة، على الرغم من القواعد التي كانت تحاول أن تؤطر هذه المسألة.

ويعني التدليس في عُرف المحدثين: “التدليس قسمان: أحدهما أن يروي عمن عاصره ما لم يسمع منه موهما سماعه قائلًا: قال فلان أو عن فلان أو نحوه. وربما لم يسقط شيخه وأسقط غيره لكونه ضعيفًا أو صغيرًا تحسينًا لصورة الحديث “[14]. وذِكر هذه القاعدة هنا كان من أجل النظر في إمكان تطبيقها في المستوى الواقعي والفعلي على نصوص روائية. فقد ظل التنظير بهذه القاعدة كما قلنا سابقًا، لا يجرؤ في كثيرٍ من الأحيان تطبيقها على مسمى الصحابة، للأسباب المذكورة في محلها من هذا المقال. وسنأخذ مثالًا على ذلك لنرى كيف كانت القواعد تقفز على حدود العلم، وتؤسس لمنطق الرواية ليأخذ مكانة الريادة والسبق في الثقافة الإسلامية.

وسنتحدث الآن عن تدليس الصحابة من طريق نموذج أبي هريرة، وقد روته الكتب المعتمدة في الرواية كصحيح مسلم: “فعن أبي بكر عبد الرحمن قال: سمعت أبا هريرة يقص. يقول في قصصه: من أدركه الفجر جُنبا فلا يصم. فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن الحارث فأنكر ذلك. فانطلق عبد الرحمن وانطلقت معه. حتى إذا دخلنا على عائشة وأم سلمة فسألها عبد الرحمن عن ذلك. قال فكلتاهما قالت: كان النبي يصبح جُنبا من غير حُلم ثم يصوم. قال: فانطلقنا حتى دخلنا على مروان فذكر ذلك له عبد الرحمن فقال مروان: عزمت عليك إلا ما ذهبت إلى أبي هريرة فرددت عليه ما يقول. قال: فجئنا أبا هريرة وأبو بكر حاضر ذلك كله. قال فذكر له عبد الرحمن فقال أبو هريرة: أهما قالتا ذلك قال: نعم. قال هما أعلم. ثم رد أبو هريرة ما كان يقول في ذلك إلى الفضل ابن عباس. فقال أبو هريرة: سمعت ذلك من الفضل ولم أسمعه من النبي. قال: فرجع أبو هريرة عما كان يقول في ذلك. ثم قال الراوي أبو بكر قلت لعبد الملك: قالتا في رمضان؟ قال كذلك. كان يصبح جنبا من غير حلم ثم يصوم”.[15]

إن الرواية تكشف عن تدليس خطير قام به صحابي بنسبة الحديث إلى غير قائله الحقيقي، مع عدم إمكان التأكد من صحة القول أساسًا، على افتراض أن الشخص الثاني الذي هو الفضل بن عباس شخص مُتوفى. فإذا كانت القواعد تمشي على كل واحد، ولا أحد يكبر أو يتجاوز تلك القواعد تحت أيَّ مسمى، لانسحب الأمر على هذا الصحابي.

وإليك مثال على صحة ما نقول: ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال:

ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخًا من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: “وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ”.[16]

ولن أخوض في الارتباك الخطير في مجموع الروايات التي أُسست لهذا المفهوم. فهي تارة تجمع بين عيسى وأمه، وتارة تنفرد بأحدهما مما يدل على التخبط والارتباك في رواية هذا الحدث، ولكن هذه الرواية تحمل مضامين على الأقل بعيدة عن المفهوم القرآني اتجاه عيسى وأمه، فهي قريبة من البعد المسيحي في التعاطي مع هذا الأمر الذي يرى أن مريم ذات طبيعة إلهية بولادتها المعجزة، وما عذراويتها الدائمة في العرف المسيحي عند بعض الطوائف، إلا دليلًا على الطبيعة الخارقة لهاتين الشخصيتين. وهي عقائد تأثرت بالفكر الغنوصي أو الدوسيتي الذي كان يعد جسد المسيح جسدًا خياليًا كالذي للشبح، وليس جسدا حقيقيا. وهذا ما لم يؤثر في عذرية مريم وعدم افتضاض بكارتها طبقًا للنصوص الأبوكريفية.

أما القرآن فقد كان موظَّفا لتمرير الرواية إذ الآية تقول: “إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) “. فالرواية تريد أن تمرر بأن حفظهما من نخس الشيطان كان بسبب الدعاء. غير أن الدعاء في الآية كان بعد الوضع وليس قبله. إضافة إلى أن استهلال المولود بالصراخ، لا علاقة له بالدعاء أو غيره، بل هو دخول الهواء إلى رئتيه خارج عالم الحمل الذي مكث فيه تسعة أشهر.

 

قائمة المراجع:

[1] – ياسين، عبد الجواد. الدين والتدين التشريع والنص والاجتماع. المركز الثقافي العربي، ط2، 2014، ص: 9.

[2] – المرجع السابق.

[3] – للاطلاع أكثر على يرجى الرجوع لهانز، جورج غادمير. الحقيقة والمنهج. الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية. ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح. دار أوبا،ط1،2007.

[4] – راجع المزيد بكتاب عادل، مصطفى. فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر. مؤسسة هنداوي، ط1،2018 .

[5] – كايواه، روجيه، الإنسان والمقدس. ترجمة سميرة ريشا. المنظمة العربية للترجمة. ط1، 2010.

[6] – ديوان الإمام الشافعي. https://www.aldiwan.net/poem24615.html

[7] – محمد، بن ادريس الشافعي. الرسالة. تحقيق أحمد محمد شاكر.

[8]– للتعرف أكثر على مقدمة مهمة بشأن التصنيف في المصطلح حتى عصر التدريب يرجى مراجعة تدريب الراوي في شرح تقريب النووي. جلال الدين السيوطي، دار ابن الجوزي، ط1،1431.ص:5.

[9] – انظر تعريف السنة لدى محمد، أبو رية. أضواء على السنة المحمدية. دار المعارف، ط6. ص: 11.

[10] – أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية جدلية الغيب والإنسان والطبيعة. دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع. الطبعة الأولى، 1991,

[11] – محمد، باقر الصدر. السنن التاريخية في القرآن. مؤسسة التاريخ العربي، ط1،2011.

[12] – ابن حجر، العسقلاني. نزهة النظر ل ص: 88

[13] – نزهة النظر ص: 60

[14] – مقدمة شرح صحيح مسلم للنووي 1/58

[15] – صحيح مسلم ح 75 كتاب الصيام/ باب من طلع عليه الفجر وهو جنب

[16] – البخاري ح 3431 كتاب الأنبياء/ باب قول الله تعالى:” واذكر في الكتاب مريم “

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete