جاءت مقولات المفكر السوري الراحل، محمد شحرور، لتفتح الطريق أمام إمكانية استخدام آليات جديدة للتعاطي مع النص المؤسس، والخروج بتفسير أو تفاسير جديدة للقرآن، ارتكازاً على قاعدة حركة المحتوى وقدرته على الإفصاح عن معاني جديدة باستمرار؛ تبعاً لتراكم المعارف وتطور مناهج البحث وأدواته.
راهن شحرور على اللغة، واعتمد على المنهج اللغوي في تحديد معاني غير مألوفة للألفاظ، نافيًا وجود الترادف في اللغة، وفق مفهوم: “إذا اختلف المبنى اختلف المعنى”، لأنّه إذا اختلف المبنى (حروف الكلمة) فإنّ المعنى حتما سوف يتغير بالتبعية، وعلى أساس ذلك وضع شحرور تفسيراً مغايراً للكثير من آيات القرآن، يفصح فيه النص، بحسب المفكر السوري الكبير، عن مضامين جديدة، تخترق بدورها بنية الطروحات التراثية الكلاسيكية، عبر جملة من المكونات التأويلية المختلفة، والتي ظهرت في كتابه المؤسس: “الكتاب والقرآن”، والتي ربما أحدثت ثورة على صعيد القراءة والتفسير.
قاعدة محمد شحرور للتحرر من أفكاره
شحرور ضدّ الشحرورية
يمكن القول، إنّ شحرور وضع قاعدة للتحرر من أفكاره فيما بعد، فلم يقل أبداً بتأبيد التفسير ولا حتى أدواته، بل على العكس من ذلك، لفت إلى أنّه بتغير الزمان وأدوات البحث، ينبغي للنص أن يفصح عن المزيد من المعاني، وبالتالي تصبح قراءته متغيرة المعنى، فهي في كل مرحلة؛ تدل على تصور محدود لفهم لا يكتمل إلّا مع قيام الساعة.
ومن ثمّ فإنّ أيّ محاولة لتثبيت طروحات شحرور، أو القول بالشحرورية كمذهب، لهو من قبيل العبث، ويحمل نوعاً من التجني على الرجل نفسه، فالشحروروية الحقيقية، في ظني، هي القدرة على الدخول إلى النص بميكانيزمات جديدة باستمرار، والدفع تجاه توليد المزيد من المعاني، بشكل تراكمي، ينسخ ما قبله في دينامية يفرضها التطور على مستويين: مستوى الواقع، ومستوى القدرة على التفاعل مع النص في ضوء هذا الواقع. وفي ذلك يقول شحرور: ” لست مفتياً يقدم المخرج لشرب الخمر أو خلع الحجاب، وما أقوم بفعله، هو تقديم منهج لقراءة التنزيل الحكيم، باعتباره كتاب الله للناس جميعاً، وليس لمن درس في كليات الشريعة والأزهر وقم، وهو من حي لأحياء، علينا قراءته بأعيننا لا بعين القرن السابع الميلادي، ووفق الأرضية المعرفية التي نحن عليها، في جميع نواحي العلوم، وإلا لاعتبر كتاب تاريخ محلي يصلح لظروف زمانية ومكانية محددة”.
نقد محمد شحرور
هيراقليطس وشحرور وجدل الزمان
لعل أبرز أوجه النقد التي يمكن الاشتباك معها في مشروع شحرور، باعتباره منجز معرفي فريد، يستمد من النقد فعالية أدائية شديدة الأهمية، ضمن المشاريع الفكرية البارزة، في عالمنا العربي المعاصر. هو إحالته الدائمة على الزمن، باعتباره العامل الحاسم في إنتاج المفاهيم الجديدة، باستمرار، تأثراً بمقولة هيراقليطس ” لا تستطيع أن تنزل في نفس النهر مرتين”.
رفض هيراقليطس الوجود الأبدي داخل حدود الزمان، وكذلك فعل شحرور، وفق تصور بديهي حول حتمية التفاعل بين الذات والمعرفة وعناصر الوجود الموضوعي للزمن، لكنّه ربما أهمل عن غير قصد، أنّ الزمن لا يمكنّه أن يتجرد من ذلك الارتباط الفاعل بالمكان.
في اشتباكه مع جدل العلاقة بين الإنسان والمكان، تبدو مقاربة عز الدين إسماعيل، شديدة الأهمية، لفهم هذه النقطة بالتحديد، ففي معرض حديثه عن أهل الكهف، يرى أنّ الزمن وحده لم يكن هو العامل الحاسم في انسحابهم من الحياة، وعودتهم إلى الكهف، حيث كان الزمان ملتبساً في المكان؛ “فالتغير الذي أصاب المكان من محايثة الزمان له، هو الذي واجه أهل الكهف، وهو الذي ردهم”[1].
وعليه يمكن القول؛ إنّه إذا كانت قراءة شحرور ابنة زمانه، فإنّها ربما افتقدت إلى الإحالة بشكل ضمني على عامل المكان، فاختلاف المكان، يفضي حتماً إلى اختلاف الأولويات، وتباين معطيات الواقع، وأدوات الناس ومناهجهم في التفكير، ممّا أفقد القراء المعاصرة بعداً شديد الأهمية.
وبشكل عام، فإنّ القراءة المعاصر في إحالتها الدائمة على النص، فيما يتعلق بالأحكام والمواريث والأحوال الشخصية وغيرها من القضايا، بما في ذلك إخضاع النص لنظرية التطور، أهملت كون النص خطاب، يتكون من صاحب الخطاب، والمحتوى، والمتلقي، وعليه فإنّ الخطاب في تماهيه مع حال وواقع المتلقي، ربما لا يحتاج إلى هذا التقسيم الذي وضعه شحرور، للتفريق بين أم الكتاب، وتفصيل الكتاب، والسبع المثاني، والقرآن[2]. ذلك أنّ الهدف الذي يرمي إليه، من تحرير بعض الآيات، وإخراجها إلى فضاء إرادة الإنسان، يتحقق بالتاريخانية، وموضعة النص كخطاب منتج للثقافة، ومتأثر بها في نفس الوقت، في زمان ومكان واحد. بل ويتناقض مع رؤية شحرور نفسه، حول تدرج التشريع القرآني، وعدم ميله إلى حرق المراحل، حتى لا يهتز الاجتماع وتعم الفوضى، وهو ما جرى في مسألة الرق، وفي توريث المرأة، ذلك أنّ النص وفقاً لرأيه يمنح الحق الأول، لا الحق الأخير، ويضع التشريع الأول وليس الأخير، حيث يترك الاجتماع فيما بعد، ليتفاعل إيجابا مع النص، وينطلق منه إلى نهاية الطريق.
التأويل القسري وأطلقة اللغة
وعليه، فإنّ ما ظهر من النص، في لحظة التنزيل، هو ما طرحه النص على الأفهام، أو كما يقول سارتر؛ فإنّ ” كينونة أي موجود، هي بالتحديد ما يظهر به إلى ذلك الوجود”، فالنساء في القرآن، هن الإناث، والرجال هم الذكور، لا محالة، والقول بأنّ النساء صفة من النسيئ أي التأخر، تطلق على كل ضعيف أو فاشل من النوعين، والرجال صفة تعني التقدم، تطلق على الناجحين من النوعين، في محاولة لحل إشكالية المساواة؛ يتجاهل تماماً طبيعة المحيط الزماني والمكاني الذي احتوى الخطاب القرآني وتفاعل معه، وكذا السياق التاريخي الذي استقبل الرسالة الخاتمة؛ التي اعتمدت بعض القوانين والتشريعات والطقوس القائمة، وتدرجت في تحريم الخمر وحضت على تحرير الرق دون تشريع.
ورغم ذلك، فالنص يحمل مساحات كبيرة من الجدل والاختلاف في تفسيره، ويحمل كذلك عدة أوجه تجعله قابلا للاستمرار؛ دون لي عنقه أو تأويله بشكل قسري، وذلك عن طريق فك الارتباط بين النص والأطلقة. وفي ذلك يمكن القول أنّ شحرور في تأويله اللغوي، تمسك باللغة كمطلق؛ بوصفها حامل المقدس، أي النص.
ولعل طرح على مبروك، حين اشتبك مع سؤال الأطلقة، وارتباطه بالسياسة، يلقي الضوء بشيئ من الإيضاح على تلك القضية، وذلك بوضع النص داخل تحديدات الشرط الإنساني، انطلاقا من اللغة، حيث تصبح ” تحولات الوضع الإنساني، هي الأساس المنطقي للانتقال من لحظة إلى أخرى في تركيب ظاهرة الوحي، فتنزيل الوحي داخل لغة ما، إنّما ينطوي على تحدد الوحي بهذا النظام الكامن، وفضلا عن ذلك، فإنّ كون الوحي يكون حوارا مع واقع المخاطبين به، إنّما يكشف عن تحدده بما يمثل التاريخ الحي الذي يعيشونه بالفعل” [3]. هذه الروح التي تخاصم الأطلقة وتأباها، وترفض اعتبار الوحي هو الأصل المنتج لها كآلية تفكير، تقتضي التمييز بين المطلق الإلهي الذي انفتح – في رأيه- بوحيه على البشر تفكيراً وتاريخاً، وبين فعل الأطلقة؛ بما هو آلية يسعى بها البعض إلى وضع كل ما يدخل البشر في تركيبه على نحو جوهري، ضمن مجال يخرج فيه عن التحدّد بما يخص البشر تفكيراً وتاريخاً، وهو ما أدركه الجيل الأول[4]. بحسب رأيه.
ويتوقف على مبروك عند المأزق الذي انتهت إليه أطلقة اللغة، ويرى أنّ من ذهبوا إلى أطلقة اللغة حرفاً وصوتاً ورسماً، هم الذين لا يقولون في القرآن إلا بالدلالة الظاهرة أو بنص التنزيل، لا بتأويل ولا تفسير، وكون اللغة مطلقة أمر يلزم عنه بالضرورة أن تكون الدلالة التي تتماهى معها مطلقة مثلها، إذ أنّ التأويل والتفسير يرتبطان بتصور للدلالة، لا يمكن أن تكون فيه مطلقة ونهائية، وهو التصور للدلالة الذي لا يمكن أن يتوفر إلا في حالة لغة مفتوحة غير مطلقة ولا مقدسة.[5]
وعليه فإنّ تحرير قراءة النص، يلزمه بالضرورة فهم المجال التداولي الذي تم فيه استلاب القرآن، ذلك أنّ مضاهاة الواقع في لحظة التنزيل، كانت السمة الأبرز التي استوعبها مجال مفتوح من ناحيتي اللغة والسياسة؛ أمّا المفاهيم النهائية والناجزة التي صنعها الفقه وأدلجتها السياسة، قطعت الطريق أمام التشكيلات الخطابية المتعددة التي اشتمل عليها النص.
لقد استغراق شحرور، في محاولة جادة، في عملية الاستنطاق الأنطولوجي لبحث مجهولات اللغة، وإعادة طرح النص المؤسس في قالب جديد، لكنّه للأسف لا يختلف عن الاستنطاق الأيديولوجي الذي قام بتنميط وتوظيف النص، وأهمل قبليات المعرفة التي تشكلت في إطارها عملية التفسير.
لا يمكن بحال، إهالة التراب على الجهد المعرفي الهائل، الذي قدمه المفكر الراحل محمد شحرور، وقد شرف صاحب هذه الأسطر بصحبته والعمل رفقته لسنوات، وأجد نفسي مدينا له بالفضل الكثير، وأجد أنّ رد الجميل يكمن في توضيح رسالة شحرور الحقيقية، وهي الابتعاد عن التمذهب وتقديس الفهم البشري، والبناء لا التحوصل، حيث كان رحمه الله، وهو يخوض في حقول ألغام حقيقية، منفتحاً على كل الأفكار والآراء، لا يقصي ولا يدين، ولا يطالب المتفقين مع بأنّ يكونوا حواريين أو أتباع، وإنما يطلب منهم العمل بدأب على فهمه، ثم البناء على ذلك الفهم من أجل تجاوزه نحو فهم جديد.
المراجع:
[1] عز الدين إسماعيل: قضايا الإنسان في الأدب المسرحي المعاصر، الإدارة العامة للثقافة، القاهرة، ص 250.
[2] محمد شحرور: الكتاب والقرآن، الأهالي للنشر، دمشق، ص 157.
[3] على مبروك: نصوص حول القرآن، في السعي وراء القرآن الحي، المركز الثقافي العربي- مؤمنون بلا حدود، الدار البيضاء، 2015، ص ص 13-14.
[4] نفس المرجع؛ ص 15.
[5] نفس المرجع؛ ص37.