الحكماء السبعة لقب كان يطلَق في اليونان قديمًا على أهم سبعة من الفلاسفة والمشرِّعين والسياسيين الإغريق كطاليس، وصولون، اتحاد المعرفة بالقوة، وأزعم أن الإسلام تميز كذلك بسبعة حكماء، ارتبطوا بالسياسة إلى حد تولي الوزارة لدى أغلبهم، رغم قصر عصر الإسلام الذهبي (القرون الهجرية من الثالث حتى الخامس)، وهم: الكندي-الفارابي-ابن سينا-الغزالي-ابن باجه-ابن طفيل-ابن رشد.
عهد المستشرقون على أن يحذفوا الغزالي غالبًا من دائرة الفلاسفة لأنه قام بتكفير الفارابي، وابن سينا، ومن اتبعهما. ولكني أرى أنه كتب ذلك بنيّة مسبقة للتكفير، وكأن تهافت فلاسفة، والمنقذ من الضلال، وفضائح الباطنية وفضائل المستظهرية، الذي كلفه الخليفة المستظهر بالله بوضعه، لو نظمنا تلك الكتب في خيط واحد، لوجدناها في فترة صعود الغزالي، ولم تكن سبب صعوده، كما أنه أنتج أعمالاً إبداعية أصيلة في التصوف، وأصول الفقه، بالإضافة إلى أن نقده للفارابي، وابن سينا، الذي تطرف هو في تحديد نهايته، هذا النقد في حد ذاته، دون تطرف، وجيه، وجادّ. يعني هو أراد التكفير من البداية، كما تم توجيهه، لضرب أسس الباطنية الفلسفية، التي تعتبرها الإسماعيلية عمومًا، ومنها النزارية، الحشاشون كما اشتهروا، فلسفتها العميقة، وحين بحث عن حجج لتخطئة آراء أساسية للفارابي، وابن سينا، وجد حججًا منطقية بالفعل..
يقول في “تهافت الفلاسفة” إنهما منعا ما هو جائز، وأجازا ما هو ممنوع. يعني سارا في الاتجاهين بلا تمييز إلا صورة متخيلة عن الميتافيزيقا، التي لا يمكن للعقل البشري أن يفهمها أصلاً، ولا حقيقة فيها إلا بالوحي الإلهي. وأفاد بوضوح أن المعجزة ليست شرطًا للإيمان؛ لأن الإيمان لديه يقع بالنقد التاريخي! تصور هذا عند الغزالي، الذي قال عنه دي بور إنه الذي قضَى على الفلسفة في المشرق. الفكرة كلها أنه تصادف وجود قامة عليا مثل الغزالي بحدة نقدية، ووضوح عبارة، وصلابة منطق، في وقت أفول الحضارة الإسلامية في المشرق ثقافيًا، وعلميًا، وهي تستعد بعد عقود لتلقي أكبر ضربة تلقتها إمبراطورية في رأسها مباشرة، وقضت عليها رسميًا، أي دخول المغول لبغداد، وقتل الخليفة، والحدث الثالث الذي يذكَر بهد هذا مباشرةً هو إلقاء الكتب في ماء نهر دجلة حتى اسودّ بعد أن كان يشوبه لون الدم، من كثرة القتل، والجرح، والنزف. يعني هو كان الشعلة الأخيرة قبل الانطفاء النهائي في المشرق، حتى عصر محمد علي في مصر في القرن التاسع عشر الميلادي. ولم يقضِ قطّ فيلسوفٌ على فلسفة، ولا رجل دين على فكرة. و لا يوجد مثال واحد من التاريخ على هذا
وقد اتبع بعض العلمانيين العرب، النظرية الاستشراقية في ترتيب الأحداث، قالت بأن التكفير قضَى على التفكير، وبالتالي قضَى على الفلسفة، وربما بدا هذا الكلام معقولاً بصورة عامة، وعلى مستوى المفاهيم، بيد أن الترتيب البديل كذلك ممكن: التفكير والتكفير متوازيان وربما متكافلان لفترة ما، إذا لم يمثلا خطورة على الدولة. وقد انطفأ المشرق مع قدوم التتار. وهي أيضًا النظرية التي تفترض فرضًا أساسيًا هو أن رجلاً واحدًا قضى على كل الرجال. ولو أنه كذلك فهو بالتأكيد أحد عباقرة التاريخ الكبار.
وقد قال أحد الأساتذة المقربين الكبار تعليقًا ذات مرة على ورقة تقدمتُ بها في أحد المؤتمرات بعد الثورة، إنه يخشى “على الخطاب الفلسفي العربي” من كريم الصياد! كنت في ذلك الوقت في سن التاسعة والعشرين، شابًا نحيلاً مكتئبًا، طموحًا، لم أكمل الماجستير بعد، ونشرت خمس ورقات بحثية جيدة، وكان هو أستاذًا وعميدًا. فقلت ردًا عليه بسماحة لو كان هذا بالإمكان، لفرحتُ، فلماذا أنا مكتئب؟ لو أن خصمي هو “الخطاب الفلسفي العربي”، الذي أنا على وشك اختراقه، أو على الأقل أملك فرصة جيدة لتدميره، فأنا إذن عظيمٌ جدًا إلى درجة اللامبالاة بالنقد ممن لا يملكون هذه القدرة. لا أنا، ولا الغزالي، نملك قدرة أن نحيي، أو نميت، أو أن نطفئَ الشمسَ في المغرب، أو أن نشعلها في المشرق، أو العكس.
اندلعت بعد وفاته شعلةٌ نقية في المغرب، في دول سلفية، المرابطين، ثم الموحدين، وفي مثلها لا يمكن للفيلسوف، أو المتصوف، أن يستعمل القرآن استعمالاً باطنيًا، يعتمد على الرمز. لكن المجاز جازَ في نظرية ابن رشد الواضحة في التأويل، التي هي بالضبط نظرية المعتزلة في التفسير، والتي أنتجوا عن طريقها تفاسير كاملة، منشورة، ومحققة، للقرآن، كلها تفاسير لسانية تعتمد على تقنية المجاز للانتقال من معنى إلى معنى عبر نفس اللفظ، في حدود التداول العربي، أو ما يعرف في لسانيات اليوم بالاستعمال Pragmatics. منها مثلاً تفاسير كل من أبي مسلم الأصفهاني، وأبي بكر الأصم.
والمشكلة أنهم _العلمانيينَ العرَب_ رددوا هذه النظرية كصدى صوت، يروح من المشرق العربي، إلى المغرب الأوروبي، ويجيء بالعكس. كلٌّ منهما يعتمد على الآخَر في إثبات رأيه. يقول الغربي عن العرب إنهم هم من يرون ذلك، ويقول العلماني العربي الكلاسيكي، مراد وهبة، والجابري، وعاطف العراقي، وعدد غفير من المثقفين المحترمين الذين لم يرَوْا حتى غلاف “مُستصفَى” الغزالي في حياتهم المديدة، واتبعوا أكابرَ العلمانيين العرب الكبار في تجسيم لصدى الصوت في أبعاد أعلى قائلين إن الغربيين المتقدمين يؤيدون ذلك، وإن هذا مبدأ لا خلاف فيه قبل أي تفكير: “لا تفكير بعد تكفير” وهو مبدأ مستحيل، ولا يوجد عليه مثال واحد من التاريخ. لم يحدث أن انتصر التكفير على التفكير، إنْ نشطَ الأخير.
وعلينا أن نكسر هذه الدائرة بتحليل موقف الغزالي، وكيف أن آخر مؤلفاته “المستصفَى في علم الأصول” كتابه الأساسي في أصول الفقه، يبدأ بالمقدمة المنطقية، التي ينبني عليها القياس فيما بعد. وليست مجرد زينة، أو حلية، كما يظن البعض، الذي لم يرَ غلاف الكتاب. فلو رآه، لاسترعَى انتباهه أن يبدأ الغزالي تأسيس الأصول من القياس، صعودًا إلى الإجماع، ثم السنة، ثم الكتاب. محاولة واضحة هي لإعادة تأسيس الأصول على أساس منطقي في القياس، وعلى أساس تجريبي في مبحث السبر والتقسيم. ومشكلة الكتاب أنه قام بذلك بتهميش نظرية المقاصد، الموروثة في التراث الأشعري من الأشاعرة الأكابر الأوائل، الجويني أساسًا، في صورة مكتملة، هي صورة معدلة من نظرية المقاصد الاعتزالية، التي وضعها أبو زيد الدبُوسيّ في “تقويم الأدلة” قبل الجويني بأربعة عقود تقريبًا في صورة تفصيلية تشي بتراث من التراكم الاعتزالي غير المنقول.
وبذلك يكون المعتزلة، عكس الظن الشائع، الذي غلب حتى وصل إلى إرضاخ رأس أحد الأصوليين الكبار في القرن العشرين، محمد الطاهر بن عاشور، المتوفي في 1973م، حين اتبع الرأيَ القائل بأن الأشاعرة هم واضعوا نظرية المقاصد. والكارثة هنا أنهم غفلوا أصلاً بذلك عن الدور الهائل الذي لعبه الأشاعرة في تحوير نظرية المقاصد، وتهميشها؛ لينحصر دورها في الترجيح بين المعقولات المتعارضة. وأوضح صورة لهذا الهامش هو “مستصفَى” الغزاليّ.
ولكن التاريخ يثبت أن المعتزلة هم واضعوا أسس نظرية المقاصد، التي يمكن مقارنتها حتى بأهم تأسيس أشعري لها، في “موافقات” الشاطبي، المتوفَّى في 790 هجرية. وهي في أصلها من الأدلة لا من الاستدلال، وأحد مصادر التشريع بالعقل. وهم كذلك واضعوا نظرية التفسير اللسانية، ونقاد أساسيون لكلٍّ من مفسري الرواية، كالطبري، وابن كثير، المؤرخين، وكذلك مهاجمون فصحاء ضد الباطنية، والتصوف الإسماعيلي، ومُلّاك ناصية اللسان، كالزمخشري، وأبي حيان الأندلسي.
وبهذا نكتشف أن دور الغزالي كان أكبر مما نحسب، ولكن في الاتجاه المضاد: في اتجاه إشعال الفلسفة في المغرب! اتبع الغزالي المنطقَ، والتجربة، والموازنة بين المعقولات، والنقد الذاتي، وأنكر حتى أهمية المعجزة في الإيمان، واعتمد فقط على النقد التاريخي ليثبت نبوةً، أو رسوليةً ما، في نقطةٍ زمنيةٍ ما. وهو بذلك سابق لفلسفة المغرب، التي آمنت في مرحلتها الأخيرة بـ”معجزة التشريع”، في “تهافت التهافت” لابن رشد!
لهذا فهو فيلسوف مهم، ولكنّ فيلسوفًا واحدًا لا يمكن أن يقضي على الفلسفة، وهي في ازدهارها كَبَرْق، يلمع من الشَّرق.
ولو استطاعَ، فلماذا يتم ربطه بخمود الفلسفة في المشرق، ولا يمكن لكم ربطه باندلاع الفلسفة العقلية في المغرب، وهو بينهما على مسافة واحدة، هذا إذا افترضنا أنه ليس أقرب إلى منهجية تفسير القرآن لابن رشد مثلاً؟ هذا هو الخطأ المنهجي للمستشرقين: الانحياز إلى ما يكمل صورتهم المتخيلة عن أنفسهم، تجميل الأنا بتشويه الآخَر، التشويه، الذي يساعد على التدمير، الجسم المشوَّه، والمدن المشوَّهة، ليست نظامًا ليمنعنا من عمل شيء. وهكذا يتصاعد الغرور لجلب المزيد من الغرور، ومعه يتصاعد التشويه، فيتصاعد الدمار. وهي استراتيجية الاستعمار العنصرية الأساسية : [نحن أجمل؛ لأنكم أقبح. ونحن أقوَى؛ لأنكم بلا شَكْلٍ].
أَفَلا ينظرون إلى دوَلهم، كيف خُلِقَتْ، وعلى الخرائط -منذ سِنينَ- رُسِمَتْ؟
رُفِعَت الأقلامُ، يا دكاترة..
رُفِعَت الأشياءُ، فصار اللهُ وحيدًا.
أليسَ شيئًا؟
أم أنه لا شيء؟
أم أن مستوى وجوده يعلو برتبةٍ كاملةٍ أي محاولة لتَصَوُّره، حتى لو كان الواحد منّا في قوة الجبل، وحاملاً للضوء.
حتى لو وصلنا إلى قمة التجريد في المقولات: الوجود والعدم، الشيء واللا شيء؟
الفوضَى قدَرُنا، والتشوُّه مصيرنا، ولا بقاء لنا إلا باستيلاء قويٌّ عاقلٌ على مقاليد الحكم، ومفاتح الخزائن، ليحكم النظام بكفاءة في الداخل، وينتهز فرص ضعف خصومه في الخارج، بكفاءة لبعض الوقت، ما يكفي من الوقت لكي يؤسس دولة حديثة، وينقل المنطقة نقلة كاملة، تقدمت الزراعة في مصر، وتضاعفت إنتاجها ثلاث مرات. وأضيف إليها القطن. قُدّمَ الكيف على الكم، وركَّزَ على الخبرات في مجالات معينة، كالبعثات الدراسية، وتأسيس قصر العيني (في الأصل مستشفى عسكري)، وكلية الألسن، ومدارس البنات، بعبارة أخرى: تم إنشاء نظام موازٍ للأزهر، هو التعليم المدني، أو العلماني. وهكذا انقسم الفكر العربي المعاصر إلى أطروحتَي الأصالة والمعاصرة، ونظائرها: المأثور والرأي، النقل والعقل، القديم والجديد، الاتباع والإبداع، النقل والإبداع، .. إلخ. السبب الداخلي هو أن رجال الدين، مع خلق مجال علماني مناقض، تبلوروا، تميَّزُوا كرجال دين بالفعل بين الناس، وصارت لهم قوة فوق قوتهم، لكنهم لم يتعلموا العلوم المدنية بنفس الكفاءة، ولا حتى العلوم الدينية، التي لا تركز إلا على فرقة واحدة، هي الأشعرية! وليست لهم الصورة العامة التي يتمتع بها المتخصص المدني كأمثالي، ممن درسوا نشأة الفرق الإسلامية، ووَصفُوا نظرياتها في سياق مقارن، بتنوع، لا يعرف قدره من الأزاهرة إلا المتخصص الجيد في كلية أصول الدين. ولكن هذا الجانب المميز في المتعلم المدني هو بالتحديد ما يرفضه رجل الدين: لا تَنَوُّعَ في الدين!
ومن هنا تنشأ سلطة دينية متركزة في الأزهر بسلطانه المعنوي المحلي، والإقليمي، والعالمي، يعتمد عليها محمد علي؛ ليوازنها مع صحوة المتعلمين، وجرأتهم الثورية، بحيث يخشى الطرفان منه، ويحرص كل منهما على عدم كسر التوازن؛ كيلا ينتقم منه هو، فيتّحدا عليه. وبهذا يستمر الاستبداد لأطول فترة ممكنة، وبأقل تكاليف ممكنة. التكاليف الوحيدة ربما، بعد الوصول إلى مرحلة التوازن، هي دعم متطرفي العلمانيين، عن طريق قنوات صفراء، وصحافة شمطاء، مع دعم المتطرفين غير الخطرين على الجانب الآخَر. وذلك كل حين؛ لأن المتطرفين غير الخطرينَ هم من سيهاجمون من الطرفَينِ.
لهذا صارت في رأيي معضلة “التنوير العربي” مركَّبة، فكل طرف “محمد علي، الأصوليين، العلمانيين” يواجه طرفين، يتمتع محمد علي بميزات جوهرية في السيطرة على التوازن، وبقوة وشراسة؛ بحيث يكاد لا يفكر في مضايقته العلماني، أو الأصولي. إذا كان التنوير الأوروبي منذ عصر النهضة يواجه اتحاد الحقيقة بالقوة، الدين بالدولة، الكنيسة بالقصر، فإن التنوير العربي يواجه طرفين، لا يرى اتجاهَ كلٍّ منهما أصلاً بوضوح.
.
أفَلا تَرَوْنَ يا دكاترة؟
أفَلا تَرَوْنَ بوضوح