تكوين
تظهر عناية المفسرين والفقهاء بموضوع الناسخ والمنسوخ من كثرة المؤلفات التي أفردوها له، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: ابن الجوزي الفقيه الحنبلي (-597هـ) صاحب كتاب أخبار الرسوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ. وأبو جعفر النحاس محمد بن أحمد المرادي (-338هـ) صاحب كتاب الناسخ والمنسوخ. ومكي بن أبي طالب القيسي (-437هـ) صاحب كتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه. وكتب في الموضوع أبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو بكر بن العربي المعافري، وغيرهم كثير.
فالحديث عن النسخ من داخل القرآن؛ بمعنى نسخ الآيات القرآنية بعضها ببعض؛ أمر لا وجود له ولا حديث حوله من داخل القرآن؛ ولا ندري من أين جاء علماء القرآن وغيرهم بموضوع نسخ الكتاب بالكتاب أي نسخ آيات قرآنية بآية أخرى، وهو أمر لم يتطرّق إليه القرآن؛ كما أنه لم يتحدث على الإطلاق عن أضرب النسخ التي قال بها علماء القرآن وغيرهم. وفي تقديرنا، إن القراءة التجزيئية للآية (106) من سورة البقرة، وفصلها عن سياقها العام، قد يكونان سبباً من بين الأسباب التي جعلت الفقهاء والمفسرين يفهمون النسخ بما يتعارض مع رؤية القرآن الكلية. هذه الدراسة تحفر في معنى مفردة النسخ في القرآن الكريم.
-
1-النسخ كما يراه المتقدمون
النسخ من الآليات المعتمدة في تفسير القرآن عند جمهور المفسرين وكذلك الأصوليون والفقهاء وغيرهم، ويُعد من القواعد الأساسية التي انبنت عليها العلوم الشرعية، وقد عرفوا النسخ بأنه رفع حكم شرعي بدليل شرعي آخر، فالحكم المرفوع يسمى المنسوخ، والدليل الرافع للحكم يسمى بالناسخ؛ فالنسخ «يأتي بمعنى الإزالة، ومنه قوله تعالى: ﴿فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله﴾. ويأتي بمعنى التبديل كقوله: ﴿وإذا بدلنا آية مكان آية﴾، وبمعنى التحويل كتناسخ المواريث؛ يعني تحويل الميراث من واحد إلى واحد. ويأتي بمعنى النقل من موضع إلى موضع ومنه: “نسخت الكتاب” إذا نقلت ما فيه حاكياً للفظه وخطه»[2]؛ «فالتعاطي مع كتاب الله، في نظر مجمل المتقدمين، لا يكتمل إلا من خلال العلم بالناسخ والمنسوخ. يرى الشافعي أن “من جماع علم كتاب الله… معرفةُ بناسخ كتاب الله ومنسوخه“[3]. يقول القرطبي في فضل معرفة الناسخ والمنسوخ: “معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام”[4]. و”قال الأئمة: ولا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ. وقد قال علي بن أبي طالب لقاص: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: الله أعلم قال: هلكت وأهلكت”[5]. و”الصحيح جواز النسخ ووقوعه سمعاً وعقلاً”[6]، و”لا خلاف في جواز نسخ الكتاب بالكتاب”[7]. ويرى “الجمهور على أنه لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي، وزاد بعضهم الأخبار، وأطلق وقيدها آخرون بالتي يراد بها الأمر والنهي”[8]. والحقيقة أن هناك من ذهب مذهب إنكار النسخ؛ وقد احتفظ لنا التاريخ بموقف هؤلاء؛ وهو موقف تعرض للإهمال والتجاهل ولم يصل إلا النادر منه؛ وقد نقل الخطيب البغدادي (توفي 463ه) في كتابه أصول الحكم “أن أبا مسلم الأصفهاني[9] (توفي 322ه) يزعم أنه ليس في القرآن آية منسوخة ولا آية ناسخة”»[10].
أورد السيوطي في موضوع النسخ في القرآن ما مفاده: «قال أبو عبيد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: لا يقولن أحدكم: قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر. وقال: حدثنا ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن. وقال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن المبارك بن فضالة عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال: قال لي أبي بن كعب كأي تعد سورة الأحزاب قلت اثنتين وسبعين آية أو ثلاثة وسبعين آية قال إن كانت لتعدل سورة البقرة وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم قلت وما آية الرجم قال: “إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم”. وقال: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن مروان بن عثمان عن أبي أمامة بن سهل أن خالته قالت: لقد أقرأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الرجم: الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة. وقال: حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني ابن أبي حميد عن حميدة بنت أبي يونس قالت قرأ علي أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة “إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وعلى الذين يصلون الصفوف الأول” قالت قبل أن يغير عثمان المصاحف”[11]. فالقول بأن القرآن ذهب منه الكثير عن طريق النسخ له تبعات منهجية كبيرة جداً!!!
اقرأ أيضا: حتى لا تُخْتَطَف معاني القرآن الكريم: الجزء الأول نحو بناء وعي علمي غيرِ مُؤدلج بالقرآن الكريم
ونورد هنا كذلك ما أورده الزركشي بصدد اختلاف جمهور العلماء في نسخ الكتاب بالسنة: «واختلف في نسخ الكتاب بالسنة. قال ابن عطية حذاق الأمة على الجواز، وذلك موجود في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث)، وأبى الشافعي ذلك[12]، والحجة عليه من قوله في إسقاط الجلد في حد الزنا عن الثيب الذي رجم، فإنه لا مسقط لذلك إلا السنة فعل النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: أما آية الوصية فقد ذكرنا أن ناسخها القرآن، وأما ما نقله عن الشافعي فقد اشتهر ذلك لظاهر لفظ ذكره في الرسالة، وإنما مراد الشافعي أن الكتاب والسنة لا يوجدان مختلفين إلا ومع أحدهما مثله ناسخ له، وهذا تعظيم لقدر الوجهين وإبانة تعاضدهما وتوافقهما، وكل من تكلم على هذه المسألة لم يفهم مراده. وأما النسخ بالآية فليس بنسخ؛ بل تخصيص، ثم إنه ثابت بالقرآن الذي نسخت تلاوته وهو “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما”»[13]. فالحقيقة أن موضوع نسخ الكتاب بالسنة يعد معضلة منهجية ومعرفية كبيرة جداً؛ لكونها تتصل بطبيعة العلاقة التي ينبغي أن تتشكل بين الأصول المرجعية الفكرية والمعرفية لدى العقل المسلم.
وجعلوا النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب:
- الضرب الأول: ما نسخ في تلاوته وبقي حكمه، فيُعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول. كما رُوي أنه كان يقال في سورة النور “الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله”. ولهذا قال عمر: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي. رواه البخاري في صحيحه معلقاً…
- الضرب الثاني: ما نسخ حكمه وبقي تلاوته، وهو في ثلاث وستين سورة كقوله تعالى: ﴿والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا﴾ الآية، فكانت المرأة إذا مات زوجها لزمت التربص بعد انقضاء العدة حولاً كاملاً، ونفقتها في مال الزوج، ولا ميراث لها، وهذا معنى قوله: ﴿متاعاً إلى الحول غير إخراج﴾ الآية. فنسخ الله ذلك بقوله: ﴿يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا﴾، وهذا الناسخ مقدم في النظم على المنسوخ[14].
- الضرب الثالث: ما نسخ تلاوته وحكمه معاً. قالت عائشة: كان فيما أنزل (عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنّ مما يقرأ من القرآن) رواه الشيخان. وقد تكلموا في قولها: (وهن مما يقرأ) فإن ظاهره بقاء التلاوة وليس كذلك، وأجيب بأن المراد: قارب الوفاة أو أن التلاوة نسخت أيضاً، ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفي وبعض الناس يقرؤها؛ وقال أبو موسى الأشعري: نزلت ثم رفعت[15].
سنقف عند هذا الحد في تقريب الصورة المجملة لموضوع النسخ كما هو عند المتقدمين؛ فالغرض ليس عرض كل آرائهم وتصوراتهم حول الموضوع؛ بقدر ما نهدف إلى تقريب نظرة القرآن للموضوع من خلال القراءة البنائية والكلية للآيات الواردة في الموضوع؛ لنرى هل بالفعل مفردة النسخ تفيد ما قال به الأقدمون ومن سار على نهجهم من المحدثين من مثل نصر حامد أبو زيد وغيره؟ أَقال القرآن بأضرب النسخ أم أن ذلك من اجتهاد المتقدمين؟
-
2- مفردة «النسخ» تبعاً لآيات القرآن الكريم
قال تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آية أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[16]. قبل أن نتطرق إلى مفردة «النسخ» سنقف عند مفردة «الآية»؛ إذ لا يمكن الإحاطة بمفردة «النسخ» دون الوقوف عند مفردة «الآية»؛ فما هو المدلول الذي يعطيه القرآن للآية التي ورد بصددها مفهوم النسخ أو النسيان: «مَا نَنسَخْ مِنْ آية أَوْ نُنسِهَا»، وسيؤتى بخير منها أو مثلها «نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا».
وردت مفردة الآية في القرآن الكريم بصيغ متعددة نذكر منها مفردة «آية»84) ) مرة، و«آيات» (148) مرة، و»آياتنا»(92) ، و»آياته»(37) مرة… ومن الواضح أن هذه المفردة بكل صيغها تعود على الله فقط؛ فالآيات كلها له ومن صنعه، فالكون بما فيه كله آيات من الله لمن يتفكر ويتذكر ويعقل. قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)»[17]، فآياته لا تخلو من أيّ زمان ومكان.
ومن خلال تتبع هذه المفردة وما ارتبط بها من صيغ في سياق القرآن الكريم، اتضح أن مفردة الآية يستنبط منها البرهان والدليل والحجة القاطعة على صحة ما جاء به الأنبياء والرسل. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)﴾[18]. وقد جاء على لسان عيسى عليه السلام: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)﴾[19]؛ فالقرآن يخبرنا بأنه سبحانه قد أيد أنبياءه ورسله بآيات بينات، فالقرآن، وهو يتحدث عن الآيات التي أيد بها أنبياءه ورسله، يضم بداخله أقساماً وأصنافاً عن تلك الآيات، فليست بالضرورة الآيات التي أيد الله بها رسوله موسى هي الآيات نفسها التي أيد بها غيره من الرسل. ومن ثم علينا أن نتنبه إلى التقسيم والتصنيف الذي يضمه القرآن الكريم في حديثه عن الآيات التي أيّد بها رسله. وعليه، إمكاننا تقسيم الآية في القرآن الكريم إلى قسمين أساسين:
- القسم الأول: يتعلق بالآيات المتلوة والمقروءة لفظاً وحروفاً، وتجري عليها قواعد الكتابة (أي النسخ والتدوين)، وهي ما أنزله الله في كتبه، ومنها التوراة والإنجيل والقرآن.
- القسم الثاني: يتعلق بالآيات المبصرة؛ أي المحسوسة والمشهودة والمبثوثة في كل ما خلق الله في الكون، نبصرها ونكشف عنها بالنظر إلى سنن الله في خلقه، التي لا تبديل لها ولا تحويل إلا بإذنه. وقد تم خرق سنن الله بإذنه في زمان ومكان معلومين، وهذا أمر خاص بأنبياء الله ورسله قبل بعثة محمد (ﷺ)؛ ومن ذلك مثلاً: عصا موسى، وما أيد الله به نبيه عيسى من إبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك مما قصه القرآن الكريم من آيات مفادها خرق الله لسننه آية منه للناس لعلهم يهتدون، وقد انتهى هذا الطور والقسم من الآيات ببعثة محمد (ﷺ).
إن محمدا (ﷺ) بنص القرآن الكريم لم يؤتَ شيئاً من آيات خرق السنن؛ بل آتاه الله خيراً أفضل من ذلك بكون آيات القرآن تضم التذكير بالقانون الناظم لسنن الله في خلقه. قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)﴾[20]؛ فمصداقية ما أوحي إلى محمد (ﷺ) لا تنحصر في الأحرف والكلمات؛ بل تتعداها إلى آفاق الكون والإنسان. فكل ما يضمه القرآن من مداخل معرفية تتعلق بالعديد من الظواهر الكونية (سقوط المطر… الرياح…) يجد مصداقيته في الكون بالنظر فيه. فلا خرق لسنن الله ببعثة محمد (ﷺ)؛ فالآيات الدالة على صدقه وصدق ما جاء به تُؤخذ بالنظر في الخلق، وقد وصف الله الكون الطبيعي بما فيه الكتاب الذي تقرأ فيه آيات الله المبصرة، والقراءة تعبير يتسع لمعرفة أسرار الأشياء وفحصها وملاحظتها، وكشف علاقة بعضها مع بعض[21].
ودليلنا على ما ذهبنا إليه كون المشركين وأهل الكتاب وغيرهم طالبوا محمداً (ﷺ) بأن يأتيهم بصنف آيات خرق السنن التي جاءت الرسل قبله. قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)﴾[22]. قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آية كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾[23]. قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آية مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آية وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾[24]. قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آية قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾[25]. قال تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آية مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ * اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾[26]. والله جل وعلا لا يعجزه أن يأتي بهذا الطلب، وقد وجه الله أصحاب هذا الطلب إلى كون القرآن الكريم هو حجة رسوله الكريم بقوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القرآن مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)﴾[27]. والحكمة من هذا يشتمل عليها قوله سبحانه: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)﴾[28].
نأتي إلى مفردة «النسخ»؛ فالقرآن يخبرنا بأن المبطلين والمكذبين سيجدون أعمالهم منسوخة في كتاب يوم القيامة؛ فكل إنسان سيقرأ كتابه في ذلك اليوم، وهذا ما أشار إليه الحق سبحانه قال تعالى: ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الجاثية/ 29)، وفي هذا تقريب مجازي مفاده أن أعمال بني آدم (منسوخة في كتاب) وسيجزون عنها يوماً ما؛ والعلم لله بذلك اليوم.
إقرأ أيضا: الوقف والابتداء آلية تلاوة وإنشاء للمعنى في نصوص القرآن الكريم
والأمر نفسه كذلك ينطبق على الشيطان مثل بني آدم؛ إذ ينسخ الله كذلك (يسجل) ما يلقيه في أمنية رسله؛ وبعد ذلك يحكم آياته في صدورهم قال تعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (الحج/ 52)؛ فمفردة النسخ هنا تعود على الشيطان ﴿فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾؛ أي ما ينسخ (يسجل) في حقه من معاصٍ محاولة منه لاستغلال حالة التمني عند النبي أو الرسول ﴿مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى﴾ واستغلال حالة التمني هذه من لدن الشيطان تشكّل له فرصة ليلقي بأمور ترفع من قيمة ومكانة التمني عند النبي أو الرسول: ﴿أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾؛ مع العلم بأن الشيطان يعد من المنظرين إلى يوم البعث[29] ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾. قال تعالى: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(83)﴾ (ص). ومن البديهي جداً أن تكون للناس أمنيات؛ سواء تعلق الأمر بالفرد أم الجماعة؛ والمشكلة هنا عندما يرتهن الفرد أو الجماعة إلى ما يتمنى بالإعراض عن العمل وعن الحق والحقيقة؛ فالعلم بالكتاب بشقيه (كتاب الكون وكتاب الوحي) لا يمكن أن يرتهن في فهمه إلى أمنيات الناس وظنهم؛ ففهمه والإحاطة به يقتضيان الدخول إلى محراب العلم والعلماء على ضوء البحث النظري الكلي والنقد والسؤال. قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)﴾ (البقرة). كما أن القضايا المصيرية في الوجود، من مثل دخول الجنة، لا يمكن أن ترتهن إلى ما يتمناه الناس تبعاً لاعتقاداتهم ومذاهبهم الدينية والثقافية… بمعزل عن أعمالهم وأفعالهم في علاقتهم بالكون والكائنات. قال تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)﴾ (النساء). قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)﴾ (البقرة). ولكن الهم الأكبر عند الشيطان هو العمل ليغرق بني آدم في بحر الأماني والظنون والوهم… ويحول بينهم وبين العلم والعمل والخير والفضيلة. قال تعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)﴾ (النساء). قال تعالى: ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)﴾ (الحديد). فحتى الأنبياء والرسل لبشريتهم حاول الشيطان أن يدخل عليهم الباب من جهة حالة التمني عندهم؛ وهي حالة على وجه الاستثناء لديهم؛ وقد جاءت “إِلَّا” لتفيد الاستثناء؛ وجاءت “إذا” لتفيد الشرط ﴿إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾؛ وهدف الشيطان من ما يلقي أن يحول بينهم وبين قيمة العلم والعمل والخير والأخلاق والفضيلة؛ وهذا فحوى آيات الله لعباده؛ واقتضت حكمة الله في حق أنبيائه ورسله أن يحكم آياته في صدورهم: ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ وقد ختمت الآية بقيمة العلم والحكمة؛ تنبيهاً للمتلقي والقارئ إلى أن آيات الله تعد موضوعاً للعلم والحكمة، وليست موضوعاً للتمني؛ فالناس جميعاً، وعلى رأسهم الأنبياء والرسل، عليهم أن لا يتعاطوا مع آيات الله (المنزلة والمبصرة) بمدخل التمني بدلاً من العلم والحكمة؛ فالأمر هنا لا يتعلق على الإطلاق بكون الشيطان ألقى بأقوال في صدر الرسول لتختلط مع ما أوحى الله إليه به؛ ليتدخل الله جل وعلا، ويزيل ما ألقى به الشيطان ليحكم آياته من جديد؛ وهذا فهم من الخطأ الموروث، فيه إعلاء للفعل الشيطاني على حساب الفعل الرحماني؛ كما أن الروح هي قناة التواصل بالوحي بين الله وأنبيائه ورسله؛ والروح من أمر الله ولا قبل للشيطان بها. قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) ﴾ (الإسراء)
فالوحي، بكل أبعاده، مأخوذ من الأمر الإلهي. قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)﴾ الشورى. ففي إطار الكينونة والإرادة والأمر الإلهي، يحصل الخلق بواسطة الوحي. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)﴾ يس.
ويخبرنا القرآن كذلك بأن موسى -عليه السلام- عندما سكت عنه الغضب أخذ الألواح التي ضرب بها من قبل، وهي عبارة عن نسخ من التوراة، «وَفِي نُسْخَتِهَا» هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون قال تعالى: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ (الاعراف/ 154)
وقد ورد موضوع النسخ في سياق التـأكيد على الأخذ بقيمة «النظر» و«الاستماع» والإعراض في الوقت ذاته عن قيمة الرعاية؛ فمع الرعاية يتبلد حسّ النظر والنقد والتعبير عن الرأي وقول الحق… ويعيش الناس حياة العبيد، كالأنعام وهي ترعى في المرعى؛ حيث يقودها الراعي بعصاه. والتذكير كذلك بأن المشركين وأهل الكتاب غير راضين بالخير الذي ينزله الله (أي القرآن)، وهو كتاب يحث على النظر ويدعو إليه؛ وهذا وجه من وجوه خيريته على ما سبقه من الكتاب. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)﴾ (البقرة).
-
3-آية النسخ
نأتي الآن إلى آية النسخ؛ قال تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)﴾ (البقرة)، فذلك يعني أنه سبحانه وتعالى سجل (نسخ) تلك الآيات التي مفادها خرق السنن الخاصة بالرسل قبل محمد (ﷺ)، وأثبتها حروفاً وكلمات إخباراً لنا في القرآن، ولولاه لما كان لنا أن نستيقن أن الله أيد رسوله موسى بآية العصا، وعيسى بآية إحياء الموتى وغير ذلك. أما مفردة النسيان، فهي تعود على هذه الآيات (آية خرق السنن)، التي لم يعد لها وجود ببعثة محمد (ﷺ). أما مفردة المثلية فهي تعود على القسم الأول من الآيات الذي أشرنا إليه سابقاً؛ أي الآيات المدونة )المنسوخة) كتاب التوراة وكتاب الإنجيل ونسخة القرآن. فوجه المثلية هنا يتجلى في كونها كلها نصوصاً لغوية إلا أن كتاب القرآن مصدق مهيمن على ما قبله، فضلاً عن أن الله جل وعلا تكفل بحفظه. فالأفضلية (الخيرية) هنا تعود على القرآن وحده؛ وهو خير وأفضل مما أوتيه الأنبياء والرسل جميعاً؛ ونحن هنا نتحدث عن كتاب القرآن كما تحدث عن نفسه في علاقته بما سبقه من الكتاب؛ فأفضليته وخيريته تخصه وحده ولا تنسحب على الإطلاق على الذين آمنوا به.
النسخ | أي إثبات تلك الآيات التي مفادها خرق السنن قبل محمد (ﷺ)
حروفاً وكلمات إخباراً لنا بها في القرآن |
النسيان | نسيان وتجاوز آيات خرق السنن ببعثة محمد (ﷺ) التي لم يعد لها وجود ببعثته؛ وقد طلب أهل الكتاب من محمد هذا النوع من الآيات؛ مثل ما كان مع رسلهم. |
المثلية | الآيات المدونة حروفاً؛ أي كتاب التوراة والإنجيل؛ فوجه المثلية هنا كونها كتباً مثل كتاب القرآن؛ إلا أن كتاب القرآن مصدق مهيمن على ما قبله من الكتب. |
الخيرية | الأفضلية والخيرية هنا تعود على القرآن وحده؛ وهو خير وأفضل مما أوتيه الأنبياء والرسل جميعاً؛ وآياته تذكير بآيات الله في الخلق والوجود والأنفس والآفاق؛ وعليه فالقرآن دعوة للعبور من المشهود «عالم الشهادة» إلى غير المشهود «عالم الغيب» على أجنحة ملكة النظر والسمع والبصر والفؤاد. |
والجدير بالذكر هنا أن سياق الآيات يتحدث عن موضوع النسخ في صلته بموضوع الوحي؛ أي مجمل الرسالات في علاقة آخرها بأولها؛ أما الحديث عن النسخ من داخل القرآن؛ أي الحديث عن النسخ في علاقة الآيات القرآنية بعضها ببعض؛ فهو موضوع لا وجود له ولا حديث حوله من داخل القرآن؛ ولا ندري من أين جاء علماء القرآن وغيرهم بموضوع نسخ الكتاب بالكتاب؛ الذي لم يتطرّق إليه القرآن؛ كما أن القرآن لم يتحدث على الإطلاق عن أضرب النسخ التي قال بها علماء القرآن وغيرهم. وفي تقديرنا، إن القراءة التجزيئية للآية (106) من سورة البقرة، وفصلها عن سياقها العام، قد يكونان سبباً في ذلك.
القول بأضرب النسخ هذه وهي: (ما نسخ حكمه وبقي تلاوته؛ ما نسخ تلاوته وبقي حكمه؛ ما نسخ تلاوته وحكمه معاً) فيه طعن في كون القرآن كتاباً قد أحكمت آياته؛ قال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)﴾ (هود). كما أن ذلك فيه طعن في خاصية الحفظ المنوطة بالذكر قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)﴾ (الحجر)؛ وما الفائدة من تلاوة رفع حكمها؛ هل هذا يعني أن بعضاً من آيات القرآن عطلت ولا قيمة ترجى من ورائها؟ وكيف يمكننا معرفة أحد الأحكام والقصد والغاية منه برفع تلاوته؟ والعجيب: كيف يُعد من القرآن ما رفع حكمه وتلاوته معاً؟ إن القول بأضرب النسخ يترتّب عليه خلل منهجي في النظر إلى كتاب القرآن؛ وذلك بالتعاطي معه بانتقائية يحضر معها الحكم لتغيب التلاوة أو العكس؛ أو تغيب التلاوة والحكم معاً؛ وبهذا يتم تحويل القرآن إلى أعضاء متناثرة ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91)﴾ (الحجر)؛ وإلى جزر متباعدة؛ بالإعراض عن تحكيم السياق الكلي للآيات والسور تبعاً للنظرة الكلية والسياق الكلي الذي يتصف به القرآن في نظرته إلى الكون والإنسان…
وقد نبه القرآن وحذر من خطورة هذه الآفة؛ آفة تعضية القرآن في سياق التذكير بأن محمد (ﷺ) أوتي سبعاً من المثاني والقرآن العظيم؛ وقد جاء القرآن معطوفاً على المثاني السبع؛ قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾ (الحجر) «فالخلق قد خلق بالحق، والحق مبثوث في الخلق وكيفيته والمعاني المتولدة عنه، فالله كما هو خالق فهو عليم، وحين تتم المقابلة بين الخلق والعلم على مستوى العطاء الإلهي للإنسان، فتكون المنة الإلهية بقرآن عظيم يقابل بالوعي الخلق السباعي العظيم… فالسبع المثاني هي السماوات السبع وفي مقابلها السبع أرضين، والقرآن هو المعادل بالوعي لهذا الخلق الكوني»[30]. بعد كل هذا، يُعدُّ القول بأضرب النسخ من القول الذي يضيق له الصدر. قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)﴾ (النساء)
4- هل القبلة أول ما نُسِخَ من القرآن؟
يرى عموم المفسرين وغيرهم من المتقدمين أن القبلة تم نسخها من التوجه نحو بيت المقدس إلى التوجه نحو بيت الله الحرام في مكة بعد هجرة الرسول إلى المدينة، ونورد بهذا الصدد ما رواه الطبري في الموضوع:
«حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قال، كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود. فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم عليه السلام، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله تبارك وتعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ [سورة البقرة: 144] إلى قوله: ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [سورة البقرة: 144-150]، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ﴿مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [سورة البقرة: 142]، فأنزل الله عز وجل: ﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾، وقال: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾»[31].
«حدثنا المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: ﴿قد نرى تقلُّب وَجهك في السماء﴾ يقول: نَظرَك في السماء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقلِّب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس، وكان يهوى قبلةَ البيت الحرام، فولاه الله قبلةً كان يهواها. حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان الناس يصلون قبَلَ بيت المقدس، فلما قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ على رأس ثمانية عشر شهراً من مُهاجَره، كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء يَنظُر ما يُؤمر، وكان يصلّي قبَل بيت المقدس، فنسختها الكعبةُ. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُحب أن يصلي قبَل الكعبة، فأنزل الله جل ثناؤه: ﴿قد نَرَى تقلب وَجهك في السماء﴾»[32].
بعد أن أوردنا قول الطبري في القرن الرابع الهجري؛ نورد بعده رأي محمد الطاهر بن عاشور في زماننا هذا (القرن الرابع عشر الهجري)؛ أي بعد عشرة قرون من زمن الطبري. يرى شيخنا الطاهر بن عاشور، معلقاً على الآية (144) من سورة البقرة: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)﴾ (البقرة): «استئناف ابتدائي وإفضاء لشرع استقبال الكعبة ونسخ استقبال بيت المقدس»[33]. وبهذا القول يعود بنا الطاهر بن عاشور إلى القرن الرابع الهجري؛ وبالأحرى يمكننا القول إن التفكير حول موضوع نسخ القبلة بقي ثابتاً منذ القرن الرابع الهجري؛ ونحن هنا نتحدث عن الرأي السائد والغالب؛ بعد هذا سنعيد قراءة موضوع القبلة تبعاً لسياقات الآيات من داخل سورة البقرة؛ لنرى هل بالفعل تم تغيير ونسخ القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام؟
بينت سورة البقرة، بدءاً من الآية (124) وما تلاها، أهمية البيت الحرام الذي رفع قواعده إبراهيم وابنه إسماعيل عليهم السلام؛ وتطرقت الآيات إلى بيان ملة إبراهيم أبي الانبياء؛ وتبعاً لهذا السياق العام، الذي سلط الضوء على حقيقة ما كان عليه الرسل والأنبياء، وبالأخص إبراهيم ومن تلاه؛ ورد موضوع القبلة، وهو جزء من ذلك السياق من خلال سورة البقرة، تبعاً للآيات (من الآية 142 إلى الآية 150)[34]، موضحة ماهية القبلة التي كان عليها محمد (ﷺ) قبل هجرته إلى المدينة، وهي الاتجاه نحو البيت الحرام )الكعبة)؛ ونحن هنا في غنى عن أن نبين قيمة الكعبة عند العرب زمن البعثة وقبلها؛ ولا شك في أن محمداً بن عبد الله (ﷺ) من أولى الناس الذين هم على ملة إبراهيم، وهو يدعو إلى تلك الملة؛ ولا شك في أنه يتجه في الصلاة نحو البيت الحرام في مكة قبل هجرته؛ أي اتجاه الكعبة التي رفع قواعدها إبراهيم عليه السلام كما تقدم؛ ولكن بعد وصوله إلى المدينة وجد أهل الكتاب على قبلة مخالفة لقبلة البيت الحرام؛ وهنا طرح الإشكال المعرفي لدى الرسول الكريم ومن معه؛ يا ترى ما هو الصواب؟!! أَيكمن الصواب في القبلة التي كان عليها في مكة وهي البيت الحرام؛ أم يكمن في القبلة التي وجد عليها اليهود من أهل الكتاب؛ وهم يتذرعون بكونهم يمتلكون الحقيقة؛ حقيقة ملة إبراهيم تبعاً لتصوراتهم؟
والمشكلة هنا لا تنحصر في جماعة مخصصة من الناس لوحدهم؛ ولكن الموضوع له صلة بتاريخ وحقيقة ما عليه الأنبياء والرسل قبل بعثة محمد (ﷺ)؛ وهو موضوع يعني الناس جميعاً. وتبعاً لهذا المعطى الواقعي تدخل الوحي ليبين للناس حقيقة ملة إبراهيم. والذي يؤكد قولنا كون الرسول ومن معه كانوا يتجهون نحو البيت الحرام قبل الهجرة هو قول الذين سفهوا أنفسهم من اليهود والنصارى. قال تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)﴾ (البقرة)، فلو كان الرسول -عليه السلام- حقيقةً يتجه نحو بيت المقدس في مكة قبل وصوله إلى المدينة؛ لقال السفهاء (ما ولاهم عن قبلتنا)، كما أن هذا القول (ما ولاهم عن قبلتهم) قول سفيه؛ أي كاذب وباطل؛ لأنه ادعاء من السفهاء الذين سفهوا أنفسهم؛ وقولهم هذا يعبر عن أمنيتهم؛ ظناً منهم أنهم سيؤثرون في محمد (ﷺ) وأتباعه ليغيروا قبلتهم التي كانوا عليها في مكة؛ ادعاء منهم بأنهم أولى الناس بإبراهيم؛ بينما أولى الناس بإبراهيم هم الذين اتبعوه. قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)﴾ (آل عمران)؛ فأصحاب محمد (ﷺ) لم يتولوا أبداً عن قبلتهم وهي البيت الحرام؛ ومحمد (ﷺ) أولى الناس باتباع ملة إبراهيم.
والذي يؤكد كذلك عدم نسخ القبلة قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا﴾ (البقرة)؛ فالآية تفيد أن القبلة التي كان عليها الرسول في مكة، هي نفسها التي كان عليها في المدينة، فلو استبدل الله بالقبلة التي كان عليها محمد (ﷺ) في مكة قبلة أخرى لكان قوله تعالى مثلاً: (القبلة التي _جعلناك عليها_ فالفعل كنت يفيد الماضي ( في مكة)، والإشكال له صلة بالحاضر أي (المدينة)). وهنا أمر مهم جداً وهو اقتران القبلة بمفردة «جعل» «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ»؛ أي جعل الكعبة قبلة. قال تعالى: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)﴾ (المائدة). وقد سبقت الإشارة إلى أن مفردة «جعل» في القرآن تأتي مقرونة بما هو أعم بسنة الله التي تجري وتسري في الكون والاجتماع؛ فأوّل بيت وضع للناس يوجد ببكة (مكة) قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)﴾؛ فهو معلم من معالم الهدى والهداية، فمن خلاله نتذكر ملحمة أبينا إبراهيم، الذي هجر الأصنام والشرك ووسع أفقه الذهني والروحي بتفكره في الكون الفسيح، ووضع معالم الأمن والأمان والإعراض عن الظلم والفساد وسفك الدماء وكل ما يتصل به، وكانت وصيته لأبيه وقومه ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)﴾ (مريم/ 44). فبركة البيت ومكانته لا ترتبط به لذاته، بقدر ما ترتبط بالمعاني والقيم والفضائل التي نتذكرها من خلاله في شعيرة الحج والعمرة والصلاة، كما نتذكر من خلاله ملاحم كل الأنبياء الذين جاءوا بكتب وكلمة الهدى والهداية، وينبغي لنا اليوم ألّا نقف عند تجاربهم؛ بل المطلوب أن نتعدى تلك التجارب إلى ما بعدها في نحت المعاني والفضائل.
أما قوله تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)﴾ (البقرة)، فهذه الآية تعكس لنا طبيعة الوضع الذي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ في إشارة إلى اجتهاده وإلى تطلعاته الجغرافية التي قام بها وهو في المدينة؛ إذ وجد أهل الكتاب على قبلة تخالف تلك التي كان عليها في مكة؛ وتقلب وجه الرسول ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ﴾ بمعنى استفساراته وتساؤلاته؛ أَما كان عليه في مكة هو الحق، أم ما كان عليه أهل الكتاب في المدينة هو الحق؟ وأين هو الاتجاه الصحيح نحو المسجد الحرام؟ فتدخل الوحي هنا من أجل وضع حد للتضليل الذي قام به أهل الكتاب في حق محمد (ﷺ) ومن معه؛ وهو لا يرضى لنفسه أن يتبع قبلتهم بالتخلي عن الاتجاه نحو البيت الحرام، وهي القبلة التي يرضى بها؛ وجاء الوحي معبراً عن شعوره هذا ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾؛ أي الاتجاه نحو البيت الحرام، ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾؛ وحتى يضع القرآن حداً نهائياً لهذا الموضوع، وحتى لا يكرر هذا النقاش (نقاش القبلة) مع أناس آخرين ربما تكون لهم قبلة مخالفة وجه القرآن محمداً (ﷺ) ومن معه بأن يولّوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أيّ مكان كانوا فيه في الأرض، ﴿وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾، فأهل الكتاب يعلمون أن الحق هو الاتجاه نحو البيت الحرام؛ كما كان عليه محمد (ﷺ) وأصحابه قبل هجرتهم إلى المدينة ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾.
وصلنا إلى نقطة مهمة، وهي موقف القرآن من القبلة التي اتخذها أهل الكتاب لأنفسهم، قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)﴾ (البقرة) فالقرآن لم يعترف بالقبلة التي كان عليها أهل الكتاب؛ في حالة إن كانوا يتجهون نحو بيت المقدس؛ فهو يَعدّ ذلك من أهوائهم؛ بمعنى كون القرآن لا يعترف ببيت المقدس قبلة؛ وكيف لمحمد بن عبد الله (ﷺ) أن يكون في مكة على قبلة لا يعترف بها القرآن؛ وما دام الأمر من أهواء أهل الكتاب؛ فبيت المقدس لم يكن قبلة من قبل لأحد من الأنبياء والرسل، والقرآن لم يحدثنا عن كون بيت المقدس سبق له أن كان قبلة لرسول أو نبي؛ وقد وردت مفردة «العلم» مقابلاً لمفردة «الهوى» فأهل الكتاب اتبعوا ما تهوى أنفسهم؛ بينما محمد (ﷺ) اتبع العلم ﴿مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ لكون الموضوع ليس بالسهل إلى درجة تحذير الرسول بأن لا يتبع أهواءهم من بعد العلم الذي جاءه؛ لأن همهم الأكبر أن يخضعوا الرسول ومن معه لأهوائهم في موضوع مهم جداً هو القبلة بالاتجاه عكس البيت الحرام؛ مقام إبراهيم؛ فالحق الذي جاء إلى محمد (ﷺ) في هذا الموضوع هو نفسه الذي جاء في الكتب السابقة، وهي التوراة والإنجيل، لكنّ فريقاً من أهل الكتب يكتمون ذلك ويتبعون الهوى؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)﴾ (البقرة). وذكّر القرآن الكريم الرسول عليه السلام ومن معه، في حالة تكرار الخروج من المدينة إلى مكان آخر، كما هو من مكة إلى المدينة، بأن القبلة أو الوجهة هي المسجد الحرام؛ أي البيت الذي وضع قواعده إبراهيم وإسماعيل، وحيثما كان الإنسان في الأرض فهي وجهته؛ قال تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)﴾ (البقرة). تبعاً لما سبق؛ وأخذاً بالقراءة الكلية للآيات وتحكيم السياق؛ نخلص إلى أنه لا نسخ في موضوع القبلة.
المراجع:
[2] الزركشي، بدر الدين محمد بن عبد الله (المتوفى: 794هـ)، البرهان في علوم القرآن، تحقيق، محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، 1376 هـ/ 1957م، دار إحياء الكتب، ج2، ص29.
[3] الرسالة، الشافعي محمد بن إدريس (المتوفى 204هـ)، تحقيق أحمد شاكر، مكتبة الحلبي، مصر، ط1، 1358هـ/1940م، ص34.
[4] القرطبي، أبو عبد الله محمد شمس الدين (المتوفى 671هـ)، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2، 1964 م، ج2، ص62.
[5] البرهان في علوم القرآن، (م.س)، ج2، ص 29.
[6] المصدر نفسه، ج2، ص 30.
[7] المصدر نفسه، ج2، ص 32.
[8] المصدر نفسه، ج.2، ص 33.
[9] أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني هو من مفسري القرن الرابع الهجري، معتزلي المذهب، كان كاتباً، نحوياً، أديباً، متكلماً، مفسراً، ومن رجال الدولة العباسية. لم توجد معلومات كثيرة عن حياته (254هـ / 322هـ).
[10] ذويب حمادي، السنة بين الأصول والتاريخ، المركز الثقافي العربي، مؤمنون بلا حدود، الدار البيضاء، الرباط، ط2، 2013م.ص 258.
[11] السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الإتقان في علوم القرآن، ج1، تحقيق، محمد أبو الفضل إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، (د. ع. ط)، 1394هـ/ 1974م ، ج3، ص 81-82.
[12] انظر: الرسالة، الشافعي، (م.س)، ص 106. يقول الشافعي: «وأبان الله لهم أنه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، وأن السنةَ لا ناسخةٌ للكتاب، وإنما هي تَبَع للكتاب، يُمَثِّلُ ما نَزل نصاً، ومفسِّرةٌ معنى ما أنزل الله منه جُمَلاً».
[13] البرهان في علوم القرآن، (م.س)، ج2، ص 32.
[14] المصدر نفسه، ج2، ص35-37.
[15] الإتقان في علوم القرآن، (م.س)، ج3، ص 70.
[16] البقرة/ 106.
[17] الجاثية/ 12-13.
[18] هود/ 96.
[19] آل عمران/ 49.
[20] فصلت/ 53.
[21] أبو القاسم حاج حمد، محمد، منهجية القرآن المعرفية، دار الهادي، ط1، 2003م، ص84-92 (بتصرف).
[22] الإسراء/ 90-93.
[23] البقرة/ 118.
[24] الأنعام/ 37-38.
[25] الأنعام/ 124.
[26] الرعد/ 7-9.
[27] الإسراء/ 88-89
[28] الإسراء/ 59
[29] قال تعالى: ﴿قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)﴾ (الأعراف). قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)﴾ (الحجر)
[30] أبو القاسم حاج حمد، محمد، منهجية القرآن المعرفية، دار الهادي، ط1، 2003م، ص 86.
[31] الطبري محمد بن جرير أبو جعفر، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ/ 2000م، ج.2، ص 527
[32] المصدر نفسه، ج.3، ص173.
[33] محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، الدار التونسية للنشر، تونس، (د.ع. ط)، 1984م، ج2، ص26.
[34] قال تعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)﴾ (البقرة)