تكوين
التسمية وإخفاء الاسم
لا ينفصل الاسم عن صاحبه، فهو جوهر الشخص وكنهه، يكفي أن ننطق ببعض حروفه حتى يتبادر إلى الذهن شخص المُسمى وقد رافقته أحاسيس المحبة أو الكراهية، أو ذكريات سعيدة أو مؤلمة. وفي كل الأحوال يفرد الاسم الشخص الذي يحمله ويجعله فردا فريدا لا تختلط هُويته بهُوية الآخرين وإن تشابهت الأسماء. لذلك لا تجمع في كل اللغات ولا تثنى، فهي بطبيعتها لا تلائم سوى فرد واحد لا يتغير اسمه في هذا العالم وكل العوالم الممكنة. فهو يحيل دائما إلى الفرد بواسطة عمل من أعمال القول يُسمى “عمل التسمية” به نتعرف إلى المُسمى على نحو دائم. ولما كانت طرق تسمية الأفراد تختلف باختلاف المجتمعات والحضارات نشأت الأسماء بالتواضع والاتفاق حتى يمكن الزج بها في نظام العلاقات الإنسانية. ومن ثم اكتست التسمية أهمية بالغة سواء عندما يُطلق الاسم أو عندما يُستقبل.
فشخص لا يحمل اسمًا هو الطامة الكبرى لأنه يُحدث فوضى عارمة يفقد فيها المرء غير المسمى مكانه في نظام العلاقات. فلكي يكون المرء موجودًا وجبت تسميته، فالأسماء حمَالة معانٍ ودلالات تُوحي بقَدَر من يحملها ومصيره. لذلك كانت تُختار بعناية، فهو الهبة الأولى التي تُقدم إلى الوليد الجديد، مانحة إياه تاريخ عائلته الخيالي والرمزي. فهذه الهبة تدرجه في سلالة وتقربه من نسبه الأبوي والأمومي وتبعده عنهما في آن. فالاسم يجعل من هذا المخلوق الصغير كائنا لا يعوض ولا يلتبس بغيره من أعضاء السلالة. ففي هذه الهبة شيء مقدس لا يُبادل ولا يوهب ولا يُباع. فهبة الاسم تُعطى لتحفظ.
ولحفظها وضعت الكنايات لإخفاء الأسماء الأولى حتى تبقى سرية. من ذلك أن “الأسماء في الفكر السحري أو البدائي ليست رموزًا اعتباطية، وإنما هي جزء حيوي من المسميات التي تعرف بها. وعلى ذلك النحو كان سكان أستراليا الأصليون يتلقون أسماء سرية ينبغي ألا يسمع بها أعضاء القبيلة المجاورة. ونجد عند قدامى المصريين عادة مماثلة جارية بينهم، يتلقى كل شخص اسمين، الاسم الصغير يعرفه الجميع، والاسم الحقيقي أو الاسم الكبير هو الذي يتعين إخفاؤه. وفي الأدب المأتمي تتعرض النفس للخطر بعد موتها أكثر من الجسد: فنسيان الاسم (فقدان الهُوية الشخصية) قد يكون أسوأ الأمور. ومن المهم أن نعرف أسماء الآلهة الحقيقية والشياطين وأبواب العالم الآخر. فقد كتب جاك فنديي Jacques Vandier في كتابه الديانة المصرية
“من كان يعرف اسم إله أو كائن ألوهي ما كان له عليه سلطان مكين”.
وشبيه بذلك ما ذكرنا به دو كوينسي De Quincey من أن اسم روما الحقيقي قد كان سرا. وفي أيام الجمهورية الأخيرة، اقترف كينتوس فاليريوس سورانوس Quintus Valerius Soranus جريرة تدنيسه بالجهر به، فمات وقد أجهز عليه”([1]).
يخفي البدائي اسمه حتى لا تُجرى على هذا الاسم أعمال سحرية من شأنها أن تجلب الموت والجنون أو الرق على صاحبه، ولكن في بعض الأحيان يُخفق في إخفاء الاسم فيُفشي سره للغريب. في هذا السياق يذكر عالم الإتنوغرافيا الشهير كلود لفي ستراوس Claude Levi-Strauss في كتاب المداران الحزينان الحادثة التالية لما تحدث عن هنود نمبكوارة Nambikwara بمنطقة الأمازونيا. فقد ذكر أن أفراد هذه القبيلة لا يستعملون في مخاطباتهم اسم العلم، ويفسر هذا الامتناع على النحو التالي:
“قبل كل شيء، يحظر عندهم (هنود نمبكوارة) استعمال اسم العلم، وللتعرف إلى الأشخاص، ينبغي أن نتبع صنيع رجال الخط (يعني الخط التلغرافي)، أي أن نتفق مع الأهالي على أسماء مستعارة بواسطتها نعينهم، سواء أكانت أسماء برتغالية كخوليو Julio، وخوزي–ماريا José-Maria، ولويثا Luiza أم كُنى مثل: الأرنب Lebre – Lièvre والسكر Assucar – Sucre. وإني لأعرف واحدا قد عمده رندن Rondon أو أحد أصحابه باسم كافنياك Cavaignac بسبب عثنونه، وهو شيء نادر عند الهنود الذين هم في الغالب جُرْد. وذات يوم وأنا ألاعب جمعًا من الصبيان، ضربت إحدى الصبيات صاحبتها فأقبلت نحوي محتمية بي، وبكل سرية بدأت تهمس بشيء ما في أذني لم أفهمه، مما اضطرني إلى أن أجعلها تعيده علي مرارا وتكرارا إلى حد أن خصيمتها اكتشفت مكيدتها فأقبلت بدورها وهي بادية الغضب لتودعني ما بدا كأنه سر عظيم. وبعد أخذ ورد وأسئلة بان لي بما لا يدع مجالا للشك تأويل ما جرى. لقد أقبلت الصبية الأولى بدافع الانتقام لتُفشي اسم عدوتها، ولما وقفت عدوتها على جلية الأمر أطلعتني على اسم الصبية الأخرى على سبيل الاقتصاص. ومنذ ذلك الحين، ورغم أني كنت مترددا بعض التردد، أمسى من أيسر الأمور إثارة الصبية بعضهم على بعض، ومعرفة أسمائهم جميعا، ومن ثمة كانوا -وقد نشأ على ذلك النحو تواطؤ صغير- يسلمونني دون كبير عناء أسماء الراشدين. ولما تفطن هؤلاء لتآمرنا وبخوا الصبية، فنضب معين أخباري”([2]).
لا يُفصح هذا النص الجميل عن الأسباب الداعية إلى حظر ذكر اسم العَلم عند هنود نمبكوارة، بيد أنه ينبغي مقابل ذلك أن نفهم أن الحظر لا يؤسسه قانون، بل لا يؤسسه شيء سوى عبارة كلود لفي ستراوس التالية “يحظر لديهم (هنود نمبكوارة) استعمال اسم العلم“. ويُفهم من النص أن ما يؤسس هذا الحظر هو حضور الغريب ذاته، فشرط وجود الحظر هو الغريب الذي يؤسس الحظر لا بقانون وإنما كسر يُمْنَعُ فضحه أو إفشاؤه، لكن متى يزول الحظر فيفضح الاسم ويشهر به؟
الاسم السيئ
عندما يقترف المرء جناية عظيمة يمكن أن تسلط عليه شر العقوبات حتى يكون العقاب على قدر الخطأ. وأشد العقوبات ما كان منها رمزيًا لأنه يتعلق برأسمال الشخص الرمزي المتكون من حسبه ونسبه ومنزلته وألقابه وكل ما يجعله متميزا في المجتمع مرموقا، فيكون هدف العقاب هو الحط من مكانة الشخص المعاقب في بورصة القيم بوصمه على نحو دائم لا يزول. وأقسى عقاب يُمكن أن يسلط هو تجريد الاسم من كل ألقاب الشرف والنبل أو تعويضه باسم سيئ يُشتهر به يخفي اسمه الأول إلى الأبد.
يقدم لنا تاريخ الرقابة أمثلة مثيرة في هذا المجال. ففي الحضارة الرومانية كانت وظيفة الرقيب الروماني Censor لا تقتصر على الإحصاء، فقد كانت وظيفته تخول له مراقبة أخلاق الناس وتقويمها ومعاقبتها إن لزم الأمر، كأن يجعل الجاني أو المتهم موصومَ الحسب والنسب بأن يشنعه ويشهره ويفضحه ويحمله وصمة الخزي والعار والشنار، فيوسم بتلك الوصمة التي تسمى Ignominia / Ignominie عند الرقيب الروماني. ويترتب على تلك الوصمة تجريد المتهم أو الجاني من اسمه الشريف ما أن يدون الرقيب الروماني هذا الوسم Ignominia الملطخ للشرف بجانب اسم ذاك الذي سوف يضحي بالتشهير والفضيحة حاملا لاسم سيئ Malum nomen. ولما كان هذا الوسمIgnominia المدون مرتبطا بنيويا بالإحصاء Census – Cens فإن هذا الوسم المدون لا ينبغي أن يُختزل في إجراء من الإجراءات المعمول بها عند الإحصاء بوصفه وضعَ الأختام في الأيدي والأعناق، وإنما هو يمثل الوصمة Ignominia ذاتها. فما أن يُسمى المتهم باسمه حتى يُجرد من نفسه قبل كل شيء ومن منزلته وأملاكه.
إقرأ أيضا: أي معنىً للجاهلية؟
ونتبين من هذه الممارسة أن علامة الرقابة المتجسدة عمليا في وسم Ignominia تتعلق بصفة خاصة بسلالة المتهم ونسبه، فحينما يُصرح بأن اسم المتهم إنما هو اسم سيئ Malum nomen بحكم خطأ ارتكبه أو جرم اقترفه في حق المبدأ الجنيالوجي، فإن هذا الجرم يصيب في المقام الأول نظام الأمة الاجتماعي برمته، ولرأب الصدع الذي جعل نسب المواطن المتهم موصومًا وجب الحط من منزلته وخلعه من مرتبته بنقله من عشيرة لها مكانة اجتماعية وسياسية مرموقة إلى عشيرة أخرى أدنى منزلة أو أحط مكانة، وبهذا الإجراء يظل إلى الأبد ممزقا بين عشيرة لا تعترف به وأخرى تنكره ولا تعرفه، لكنه يظل رغم هذا الإقصاء الذي خسر فيه دوره ومنزلته محافظًا على مكان في قلب المجمع العشائري فيبقى مواطنًا وعضوا في الأمة، فما يدفع الرقيب إلى التشنيع بوصمة Ignominia يتعلق بإعادة توزيع الأدوار والوظائف لا بإقصاء حقيقي من الأمة. وبذلك نتبين أن موضوع الإحصاء الرومانيCensus لا يهدف إلى معاقبة المواطن بالحط من منزلته وإنما يرمي إلى إعادة النظام إلى مجرى الحياة الاجتماعية وتنظيمها بعد الاضطراب الذي أصاب ناموسها بإنزال الشخص الذي روقب المنزلة اللائقة به وفق حجم الأخطاء التي اقترفها وخطرها ().
وإذا انتقلنا إلى العالم الإسلامي سيعترضنا “الاسم السيئ” في أيام الردة وحروبها، عندما تشتت مركز الوحي وتفرق بين قبائل انشقت عن دولة المدينة بقيادة زعامات ادعت النبوة. ولعل وصفهم بأنهم “أدعياء النبوة فحسب” ([3]) قد زج بهم في دائرة “الخارجين عن القانون” والمرتدين عن الإسلام من الذين سجل التاريخ بعض أسمائهم. وقد اجتهد الأدباء والمؤرخون والمحدثون والقصاص في الحط من أصالة نبوتهم بجعلهم في مرتبة المقلدين. ولم يكن الوعي بأنهم مجرد أدعياء مقلدين لمنوال النبوة المحمدية صريحا في المصادر التي تحدثت عنهم. فقد نُظر إليهم بوصفهن كانوا منافسين لنبي الإسلام لا يمكنهم “بلوغ السلطة المنظمة إلا من خلال الحركة النبوية” ([4]). ولأجل ذلك توجبت محاربتهم وإبطال نبوتهم والقضاء على “ثوراتهم” في معارك شرسة دون شفقة ولا رحمة انتهت بعودة كثير من القبائل المرتدة إلى الإسلام “وأذعنت لدفع الصدقة واعترفت بولائها وطاعتها لدولة المدينة.” فقد كان الأمر لدى المدينة “يتعلق بالقضاء على الردة في سبيل إعادة توحيد العرب في عقيدة واحدة وتحت ظلال الدولة عينها”([5]).
وقد برز وجه التقليد في نبوتهم بصورة ملموسة عندما أوردت المصادر المختلفة نماذج من وحيهم بدت فيه محاكاتهم الوحيَ القرآني ولغته سخيفة. ويبدو أن أقاويلهم قد تعرضت مثل أصحابها للسخرية، فأعيدت صياغتها بضرب من التلبيس الهزلي travestissement burlesque قُصد منه الحط من منزلة مدعي النبوة بجعل كلامه “الوضيع” غير ملائم لمقام النبوة “النبيل”. وعندما يطغى الإسفاف على عبارتهم يصبح من اليسير إخراج وحيهم من دائرة البيان والإعجاز التي تنفرد بها عبارة القرآن، فيضحي كلامُهم ضربًا من الكذب وما يوحى إليهم غير بريء من التخليط.
اسمان سيئان: مسيلمة الكذاب وسجاح الكذابة
ولعل أشهر من تعرض لعنف هذه المؤسسات هو مسيلمة وسجاح. وقد تجلى ذلك صريحًا في اسم “مسيلمة” الذي كان يُسمى “الرحمن” قبل مولد الرسول، ثم صار يُذكر في قريش مقترنًا بـ “رحمان اليمامة”([6]) قبل أن يلتصق به نعت “الكذاب” الذي وصمه به الرسول في رسالة بعثها له([7]) حتى بات لا يُعرف إلا به. فوصمة “الكذاب” شبيهة بوصمة الخزي والعار التي تسمى ignominia / ignominie عند الرقيب الروماني. فهي إذا التصقت بالشخص الموصوم، لطخت اسمه وحسبه ونسبه وشرفه وعرضه، ويضحي بالتشهير والفضيحة حاملا لاسم سيئ Malum nomen.
فوصم اسم مسيلمة بوصمة “الكذاب” قد قضت على اسمه المقدس “رحمان اليمامة”. ذلك أن الاسم nomen قد كان له لدى القُدامى مقامًا محمودًا وقيمة دينية مقدسة لها صلة وثيقة بشخصية الفرد ذاته ومروءته. فاسم الشخص هو الذي نذر للآلهة وصار حَبْسًا لها ووَقْفًا. فما أن يوصم اسمه بوصمة العار “حتى يُجرد من نفسه قبل كل شيء ومن منزلته وأملاكه”([8]). وعندما تنقطع علاقة الاسم بالمقدس الإلهي تفقد عبارته “السلطة ـ Auctoritas, Autorité” أو القوة التي تُجري تغييرًا في العالم وتخلق شيئا ما. وهي قوة من أصل إلهي بها تحدث الوجود وتجعل الشيء كائنًا، ويُعبر عنها بلفظ Augeo أو السلطان الذي يجعل النبت ينجم ويمنح الوجود القانون. وعندما يفقد الاسم صلته بـ “رحمان اليمامة” يفقد سلطة إنتاج الوجود و”الهبة التي تجعل الشيء ينجم”([9]).
إقرأ أيضا: الدلالات الرمزية لبيئة الصحراء وأثرها على فضاء المتخيل الديني
ويبدو أن هذا التصور الذي يجعل قلة من الناس يتمتعون بهذه الهبة، أي سلطة إنتاج الوجود، شائع في العالم القديم الذي لم يزل السحر عنه. هذه الهبة يتمتع بها الأنبياء ثم الأولياء من بعدهم بكراماتهم. ويبدو أن النبي محمد كان متمتعًا بهذه السلطة أو القوة التي تنمي الوجود. وهي السلطة التي حُرم منها مسيلمة فجعلت فعله قبل قوله لا ينتج شيئًا سوى الطامة والنوائب. وقد صور الطبري في سلسلة من الأخبار هذا الفارق بين سلطة النبي محمد التي تجعل الشيء ينجم ويكون وفقدان سلطة مسيلمة لكل نجاعة، نقتصر على مثال واحد منها، يقول في بعض الروايات: ” قال: وأتته امرأة من بني حنيفة تُكْنَى بأم الهيثم فقالت: إن نخلنا لسُحُقٌ (سُحُق، جمع سحوق، وهي الطويلة من النخل) وإن آبارنا لجُرُزٌ (الجرز: الأرض المجدبة)، فادْعُ اللَه لمائنا ولنخلنا كما دعا مُحَمَد لأهل هزمان. فقال: يا نَهار (رحال بن عنفوة) ما تقول هذه؟ فقال: إن أهل هزمان أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فشكَوْا بُعْدَ مائهم، – وكانت آبارهم جرزا- ونخلهم أنها سُحُقٌ، فدعا لهم فجاشت آبارهم، وانْحَنَت كل نخلة قد انتهت حتى وضعت جِرانها لانتهائها، فحكَت به الأرض حتى أنشبت عروقا، ثم قُطعت من دون ذلك، فعادت فسيلا مكمَما يَنْمَى صَاعِدا. قال: وكيف صنع بالآبار؟ قال: دعا بسَجْل (السجْل، الدلو العظيمة إذا كان فيها ماء قل أو كثُر. ولا يقال لها سجْل إذا كانت فارغة)، فدعا لهم فيه ثم تمضْمَضَ بفمه منه، ثم مجَه فيه، فانطلقوا به حتى فرَغُوه في تلك الآبار، ثم سَقَوْه نخلهم، ففعل النبي ما حدثتك، وبقي الآخر إلى انتهائه. فدعا مسيلمة بدلو من ماء فدعا لهم فيه، ثم تمضْمَضَ منه، ثم مج فيه فنقلوه فأفرغوه في آبارهم فغارت مياه تلك الآبار، وخَوَى نخلهم، وإنما استبان ذلك بعد مَهْلَكِهِ. وقال له نهار: بَرِكْ على مولودي بني حنيفة، فقال له: وما التَبْرِيك؟ قال: كان أهل الحجاز إذا ولد فيهم المولود أتَوْا به محمَدا صلى الله عليه وسلم فحنَكه ومسح رأسه، فلم يُؤْتَ مسيلمة بصبي فحنكه ومسح رأسه إلا قرع ولثغ واستبان ذلك بعد مَهْلَكِهِ” ([10]). فحينما تفقد الكلمة السلطة المنتجة للحياة تصبح عبارة الوحي مجرد كلمة خالية من كل نجاعة لا صدق فيها. وربما استمد نعت “الكذاب” الذي التصق بالاسم السيء قوة الوصم من فقدان عبارته وأسجاعه كل سلطة.
ولما كان “الشِكل يدعو إلى شِكله” كما يقول الجاحظ
“استضاف مسيلمة إلى ضلاله في دين الله وتكذبه على الله ضلالة سجاح” ([11])
ثبت ارتباط نبوته بامرأة “كذابة” من تميم اسمها سجاح، المرأة الوحيدة التي تنبأت في حروب الردة، وصمة “الكذاب” في اسمه، فصار كلاهما يحمل اسما سيئا. بل إن اقتران اسمها باسم “مسيلمة” قد جعلها ممثلة لأنموذج “المرأة السيئة” التي تضافرت جهود الأدباء طوال أجيال متلاحقة لصناعة تخييلها sa fiction. وهو تخييل “المرأة المكروهة” الذي سُوِي في شكل عبارات وجيزة: “أعلم من سجاح” أو “أزنى من سجاح” جرت مجرى الأمثال في كتب الأدب ([12]) ومدونات الأمثال ([13]) وموسوعات المعاجم ([14]) والتراجم ([15]).
وسواء أصُنع تخييل “المرأة المكروهة” بما في سجاح، أم بما ليس فيها من عيوب، فإن وظيفة هذا التخييل ظلت واحدة هي شطب rature سمة “النبوة” منها بتحويلها إلى امرأة سيئة مكروهة حتى يتيسر إقصاؤها من فضاء الذكورة، طالما أن بقاءها فيه يهدد كينونة النبي الفحل عنوان القوة الحربية.
المراجع:
[1] انظر،Jorge Luis Borges, (1967-1992) Enquêtes, traduit de l’espagnol par Paul et Sylvie Bénichou, suivi de Georges Charbonnier, Entretiens avec Jorge Luis Borges, Paris, folio-essais, p.p 212-213.، والتعريب تعريبنا.
[2] انظر، Claude Levi-Strauss, (1955-1984) Tristes tropiques, Paris, Presses Poket, p326.، والتعريب تعريبنا.
[3] إحسان صدقي العمد، “أدعياء النبوة في صدر الإسلام. طليحة بن خويلد الأسدي”، دراسات تاريخية، جامعة دمشق – سوريا، العددان 31-32، آذار- حزيران،1989، ص123-153.
[4] هشام جعيط، الفتنة، جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، بيروت، دار الطليعة، الطبعة الثالثة، 1995، ص40.
[5] هشام جعيط، م.ن، ص41.
[6] أَبُو الْقَاسِم عبد الرَحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد السُهيْلي، الرَوْضُ الْأُنُفُ والمَشْرَعُ الرِوَى في تَفْسِير ما اشتمل عليه حديث السِيرَة واحْتَوَى، تحقيق محمد إبراهيم البنا، دبي – الإمارات العربية المتحدة، جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، وحدة البحوث والدراسات، سلسلة دراسات السيرة النبوية، الطبعة الأولى، 2021، الجزء السابع، ص426، “وَكَانَ يُسَمى بِالرحْمَنِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ الزهْرِي قَبْلَ مَوْلِدِ عَبْدِ اللهِ وَالِدِ رَسُولِ اللهِ – صَلَى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ – وَقُتِلَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَكَانَتْ قُرَيْشٌ حِينَ سَمِعَتْ بِسْمِ اللهِ الرحْمَنِ الرحِيمِ قَالَ قَائِلُهُمْ دُق فُوك، إنمَا تَذْكُرُ مُسَيْلِمَةَ رَحْمَانَ الْيَمَامَةِ“. والإبراز إبرازنا.
[7] أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق أبو الفضل إبراهيم، مصر، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، 1969، الجزء الثالث، ص146، “[…] ثُمَ كَتَبَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ: بِسْمِ اللَهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ، مِنْ محمد رسول الله إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَابِ سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَبَعَ الْهُدَى، أَمَا بَعْدُ، فإِنَ الْأَرْضَ لِلَهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَقِينَ قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي آخِرِ سَنَةِ عَشْرٍ”. والإبراز إبرازنا.
[8] العادل خضر، الأدب عند العرب، سننه ووظائفه ومؤسساته، مقاربة وسائطية، تونس، دار ميسكلياني للنشر، الطبعة الثانية، 2017 (الطبعة الأولى 2004)، ص562.
[9] انظر،Émile Benveniste, (1969) Le Vocabulaire des instututions indo-européennes., T2 Pouvoir, Droit, Religion., Paris, Les Éditions de Minuit, Paris, p143.
[10] أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، م.م، الجزء الثالث، ص284-285.
[11] أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي، الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، تحقيق محمد كمال الدين عز الدين علي، بيروت – لبنان، عالم الكتب، الطبعة الأولى، 1998، المجلد الثاني، الجزء الأول، ص41.
[12] أبو منصور الثعالبي النيسابوري، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، م.م، ص258-259.
[13] أبو الفضل النيسابوري الميداني، مجمع الأمثال، حققه محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السنة المحمدية، د.ت، الجزء الأول، ص326-327.
[14] لسان العرب، مادة [س.ج.ح].
[15] خير الدين الزركلي، الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، بيروت – لبنان، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشرة، 2002، الجزء الثالث، ص78.