لماذا أهدى ماركس رأسماله إلى دارون؟

في ميتافيزيقا التطور

تكوين

قصةُ آلةٍ بلا إلهٍ

مما أُخذَ على سبيل المسلمة، دون تحقيق نقدي كافٍ يستند إلى الوثائق على مستوى المثقف الشَعْبي، أنَّ كارل ماركس (+1883) قد أهدى الجزء الثاني من “رأس المال”، كتابه الأساسي، إلى تشارلز دارون (+1882)، الذي رفضَ الإهداء على سبيل التقية، في سياق تحريم نظريات كل منهما من قِبل المؤسسات الدينية في أوروبا في ذلك الوقت. وقد بُنيَ ذلك الاعتقاد اعتمادًا على المراسلات بينهما، بالذات خطاب من دارون إلى ماركس بتاريخ 1880، قبيل وفاة كل منهما بفترة وجيزة. وقبل كل شيء، وكيلا نخدع القارئ أكثر من ذلك، فهذه المسلمة غير صحيحة بالتحقيق التاريخي. ونحيل القارئ بهذا الشأن إلى أحد الأبحاث المنشور عام 1978 بقلم مارجريت فاي،[1] وهو البحث، الذي وجدناه مِن أفضل ما نقدَ هذا الاعتقاد بناءً على الوثائق، ومِن أجوَد ما يوضح لنا أصل هذا الخلط.

وبرغم ذلك فمن المحقق أن ماركس حمل تقديرًا كبيرًا لدارون، ليس لمكانته العلمية فحسب بطبيعة الحال، بل كذلك لأن دارون قد استطاع أن يجمع الأدلة المادية المعززة لفرضية تطور الكائنات الحية على نحو متسق للمرة الأولى في التاريخ، وهو عمل يوازي عمل ماركس في محاولة البرهنة على تطور المجتمعات. وبينما اعتمد دارون على الصراع البيولوجي في مبدأ الانتخاب الطبيعي، الذي يفسر به التنوع الحيوي، فإن ماركس اعتمد على الصراع الطبقي؛ ليفسر به تطور أنماط الإنتاج، والتي هي مبدأ الحركة في التاريخ الإنساني. يعتمد كل منهما إذن على مبدأ الصراع، بما هو الوضع الطبيعي، والحالة الأوّلية، التي تؤدي إلى تطور بلا غاية محدَّدة، وبلا قصد مسبَق، وبلا منظِّم عاقل، في تصور ميكانيكي-ديناميكي، هو امتداد متطور في الحقيقة للميكانيكية النيوتونية الفيزيقية. بالأحرى كان بعثًا لهذه النظرة الميكانيكية، التي دخلت مرحلة ركود، وتراجُع قرب منتصف القرن التاسع عشر، ومعها أوشك أن يتأخر التصور العلمي للحياة، والتاريخ.

يفترض التصور الميكانيكي أنّ فرضية الغائية، الفرضية الأرسطية المعهودة منذ حوالي ألفي عام ممتدَّيْن منذ عصر أرسطو إلى القرن السابع عشر، غير صحيحة في محاولة فهم الطبيعة. لقد حاول أرسطو عن طريق فرضية المحرك الأول Prime Mover، الذي لا يتحرك، أن يوفق بين طرفَي المحور الفلسفي القديم المتوتِّر حتى عصره، المحور البارمنيدي-الهيراقليطي، الممدود بين بارمنيدس القائل بالثبات، والذي تبعه أفلاطون قديمًا، والاتجاهات المحافظة اليمينية عمومًا في السياسة، والاقتصاد، والنظرية الاجتماعية، وبين هيراقليطس القائل بالتغير، والذي اتبعه الجدليون في العصر الحديث كهيجل، وماركس، وإنجلز، ولينين، والاتجاهات اليسارية التقدمية بوجه عام. ببساطة يعتقد أصحاب الفرضية البارمنيدية أن الحالة الأصلية للكون هي الثبات الناجم عن التوازن الحتمي، بحيث يُعَدّ التغير (“الحركة” بالمصطلح الفلسفي) من قبيل الاستثناء، أو الوهم الناتج من قصر النظر، وبحيث لا يلبث الكل إلا أن يعود، ولو على المدى البعيد، إلى حالة التوازن، والسكون، الأصلية. أما أصحاب الفرضية الجدلية، الهيراقليطية، فيعتقدون في العكس، في أنَّ الطبيعة في الأصل قائمة على مبدأ التغير، وصراع الأضداد، وأن التوازن، الذي نلاحظه فيها أحيانًا، ما هو إلا مرحلة أصيلة من مراحل الصراع؛ فإن تلك الحالة المتوازنة لا بد من أن تظهر فيها تناقضات تدريجية، تؤدي إلى صراع جديد بعد بلوغها حدًا معينًا من التراكم، وهكذا. كما يؤمنون أن سبب استمرار أوضاع اجتماعية معينة لفترات طويلة، وبقوة كافية لمُعادلة أثر أيِّ محاولةٍ لتغييرها، عادةً ما لا يكون طبيعة أساسية، لا يقوم النسق الاجتماعي بدونها، بل إرادة أقلية متماسكة محتكرة للقوة في يدٍ، وللحقيقة في اليد الأخرى، وذات مصلحة راسخة في ثبات الوضع القائم.

وقد وقف كل من الطرفين عند حدود معينة من الطاقة التفسيرية؛ فبينما لم يستطع البارمنيديون المُحافظون تفسير الصراع، والتغيّر، في الطبيعة، من أين جاء؟ ولماذا يحدث؟ فإن الهيراقليطيين التقدميين لم يستطيعوا تفسير نشوء الطبيعة المتغيرة. بعبارة أوضح: إذا فرضنا أن الحالة الأصلية للطبيعة هي الثبات، والسكون، فإن القول بأزلية الطبيعة، باعتبارها موجودة هكذا منذ الأزل، بلا خالق، لا تَناقضَ فيه، حتى إن لم يصدق في الواقع. أما إذا فرضنا كونها متغيرة، متحولة باستمرار، فسوف نتساءل: كيف تكون أزلية، وهي في حالة حركة؟ ذلك أن ما هو متحرك لا يمكن أن يكون متحركًا منذ الأزل، ولا بد أنه في مرحلة معينة قد تعرض إلى قوة جاذبة، أو طاردة، ومِن ثَم نعود تلقائيًا إلى السؤال: طالما هي غير أزلية، فما القوة، التي استحضرتها في لحظة معينة إلى الوجود؟ وكيف حدث ذلك؟

رأي أرسطو بالطبيعة

وحين جاء أرسطو افترض –ضمنًا- أن الرأيين على صواب في مجالين مختلفين متكاملين؛ فالطبيعة في رأي أرسطو بالفعل أزلية، لكنها ليست ثابتة. وسبب تغيرها الأزلي هو وجود محرك أول أزلي، أي الإله نفسه، الذي تدور حوله المادة بطبيعتها، باعتباره هو غايتها الأصيلة. وهكذا استطاع تفسير التغير، مع توفيقه مع مبدأ أزلية الطبيعة، وبحيث يفسر دوران المادة حول الإله كل ما نراه من تفاعلات على مستوى التعليل الأقصى للظواهر. ولأن هذا التفسير في الواقع قادر على التوفيق بين الطرفين، بين أزلية المادة من جهة، وبين تغيرها من جهة أخرى، بين المكان محل وجود المادة الأزلي، وبين الزمان، الذي هو مجال التغير، فقد صمدت طبيعيات أرسطو لألفَي عام بقدرتها على تفسير الزمان، والمكان. ومع ذلك كانت لها حدودها: ففرضية وجود المحرك الأول لا دليلَ من الطبيعة عليها، كما أن دوران المادة حوله يعني أن للمادة طبيعة شبه حية، أو حية، ولها إرادة، ولها غاية. ومع ذلك توافقت طبيعيات أرسطو من جهة أخرى مع مبدأ أساسي في اللاهوت الإبراهيمي في الديانات الإبراهيمية عمومًا، وخاصة المسيحية والإسلام، ألا وهو مبدأ وجود إله ذي تأثير حاسم في الطبيعة. لكنها اختلفت مع هذا اللاهوت في كون إله أرسطو ذا صفات ثلاث بسيطة فقط: لا يخلق العالَم من عدم، لا يعلم شيئًا محددًا عنه، ولا يعتني به (لا يتدخل بإرادته فيه). وكلها خصائص تتناقض جوهريًا مع طبيعة الإله الإبراهيمي، تلك الخصائص، التي اضطر لها أرسطو؛ لأن الإله، إذا كان يخلق من عدم، أو يعلم شيئًا عن جزئيات العالم، أو يتدخل فيه، فهو إذن قابل للتغير. وما هو متغير لا يمكن أن يظل هو هو، بمعنى ثبات الماهية، من الأزل إلى الأبد، وإلا وقعنا في التناقض الهيراقليطي نفسه: لا يمكن لما هو متحرك أن يكون متحركًا منذ الأزل.

هنا حان دور فلاسفة الإسلام المشائيين، خاصة الفارابي، وابن سينا، اللذين وجدا في فرضية أفلوطين (ت 270 م) المتعلقة بالفيض Fluxus توفيقًا بين لاهوت أرسطو، ولاهوت الديانات الإبراهيمية. المهمة الأساسية لنظرية الفيض هي تفسير التنوع الطبيعي، أي تفسير التغير، باتساق مع فرضية الإله الواحد الأزلي، الذي لا يتغير، والذي هو السبب في وجود العالم المادي المتغير. بكلمات أوضح: تفسير صدور الكثرة والتنوع عن الواحد المتجانس. يفترض أفلوطين أن الإله، أو الواحد (البروتون) prôton في اصطلاحه (والذي استوحَى اسمه رذرفورد عام 1920 ليطلقه على نواة ذرة الهيدروجين) موجود في زمان يختلف عن زماننا، هو السرمدية، زمان لا يحدث فيه شيء، ولا يتغير؛ ومع ذلك فهو خالق كل شيء، ولكنْ ليس بإرادته، ولا بعلمه. يعني “الفيض” أن العالَم فاض عن الإله على مراحل تدريجية، كما يفيض الماء من الكوب الممتلئ أكثر من الحدّ. لكن هذه الطبيعة، وخاصة حين تصل إلى مرحلة ظهور الوعي الإنساني بالتدريج، مسكونة بهاجس أساسي يحكم وجودها الحيّ، هو رجوعها في مسار تدريجي صاعد إلى مصدرها الأول الواحد. الفارق بينه وبين إلهيات أرسطو أن الطبيعة الفائضة عن الإله عند أفلوطين تتحرك “نحو” الإله، إذا كانت تتحرك “حوله” في اللاهوت الأرسطي. الطبيعة عند أفلوطين، وعلى رأسها الإنسان، تتوق إلى مصدرها الأول بحكم تكوينها. ولهذا صار أفلوطين مصدر أغلب النظريات الصوفية في العصر الوسيط، بالذات لدى المسلمين.

إقرأ أيضاًًً: نظرية العقل عند الأصوليين

تحل فرضية الفيض مشكلة التناقض الأرسطي بين فعل الخلق، وبين ثبات ماهية الخالق، لكنها بالطبع لا تتسق تمامًا مع اللاهوت الإبراهيمي؛ حيث إنها تنكر إرادة الخلق، وتعتمد على أن الخلق تم بالطبع، لا بالإرادة. كما أنها لا تحل مشكلة العلم الإلهي، الذي سيظل مقصورًا على الكليات دون الجزئيات. وهو من أسباب تكفير الفارابي وابن سينا على يد أبي حامد الغزالي. بيد أن دمج نظرية الفيض مع لاهوت أرسطو قد بدا حلاً لبعض المشكلات على الأقل، مما أدى بالقديس ألبرت الأكبر (+1280م)، أستاذ توما الأكويني، إلى الاعتقاد في اللاهوت المشائي، المأخوذ عن الفارابي، وابن سينا. ولكن توما الأكويني نفسه رفض هذا الحل؛ بسبب تناقضه الواضح مع تصور الإله في الكتاب المقدس.

نلاحظ في التسلسل السابق للنظريات كيف أن فرضية وجود الإله الواحد نشأت في الفلسفة قبل المسيحية بقرون، ولغرض محدد، هو تفسير التنوع الطبيعي، والتغير في الطبيعة، دون التضحية بأزليتها، وإلا وقعنا في مأزق سؤالٍ من اثنين: كيف نشأت الطبيعة؟ أو: كيف بدأت فيها الحركة؟ وهو ما يعني أن فرضية وجود الإله الفلسفية إنما ظهرت في الأصل كمحاولة للإجابة عن سؤال فيزيائي بالأساس. الملاحظة الثانية هي أن كل تلك التصورات غائية، بمعنى أن الطبيعة لا تتحرك بعلة مادية، بل بسبب وجود إله مفارق واعٍ، على نحو أو آخَر. بعبارة أخرى: ظلت للطبيعة غاية، وهدف، فيما وراء الطبيعة نفسها. واعتمد ذلك التصور على أن للمادة وعيًا بشكل ما، أو شعورًا، يوجهها لتدور حول الإله، أو لتتوق إلى الرجوع إليه رجوعَ الطفل إلى الرحم.

انقطاع الحبل السري

وفي القرن السابع عشر ظهر التصور النيوتوني، وحقق نجاحًا ساحقًا، وكافيًا ليقضي على هذا التصور الأخير، وليقطع الحبل السري بين السماء والأرض للمرة الأولى في التاريخ على هذا النطاق. ذلك أنه بناء على قوانين الحركة الثلاثة، وقانون التربيع العكسي، نحيط علمًا من حيث المبدأ بكل حركة ممكنة، كل تغير في العالم المتوسط، الذي يخبره حدسنا، وحِسّنا اليومي المشترك، والذي يعلوه عالَم النسبية الهائل السماوي، ويسكن في خلاياه، وذرّاته كل ما لا يرى بالعين المجردة، نزولاً إلى عالم الكوانتم الدقيق المدهِش. وهي قوانين لم يكتشفها نيوتن من العدم، لكنه طورها، ومنحها الصيغةَ الرياضية، التي تُمكّننا من اختبارها، وبناء تنبؤات محددة ودقيقة على أساسها اعتمادًا على مبدأ التكميم في العلم. ومبدأ التكميم Quantification في حد ذاته ليس جديدًا بدوره، وظهر لدى فلاسفة المسلمين المبكرين، لدى الفارابي مثلاً، الذي اعتقد أن ما لا يمكن تكميمه من المعارف، كالسحر، والعرافة، والأثر، والأبراج، لا يمكن أن يكون علمًا. ولكننا مع نيوتن نصل إلى اجتماع مبدأ التكميم مع قوانين الحركة الأساسية المعبر عنها رياضيًا، بحيث يمكن لنا من حيث المبدأ حساب مستقبَل الطبيعة كلها، مهما تعقدتْ مكانًا، ومهما امتدّتْ زمانًا، سَيْرًا على تلك القوانين، بشرط معرفة خصائص محدودة عن الحالة الأولية لكل جسم في الكون في لحظة الحاضر: موضعه، ومحصلة القوى الفيزيائية العاملة عليه. وبهذا اعتُبرت الطبيعة للمرة الأولى، وعلى نحو مختبَر علميًا، قاصرة ذاتيًا، لا عقل لها، ولا وعي، ولا تتحرك نحو غاية معينة. هذا القصور الذاتي هو جوهر التصور الميكانيكي للطبيعة. صحيح أن ذلك التصور قد ضحّى بالغائية، ولم يدَع مكانًا شاغرًا للإله، ولا ضرورةً له في تفسيرنا للطبيعة، لكنه، بسبب دقته، وقدرته على بناء تنبؤات محددة، يضعنا نحن في موضع التحكّم الأقصَى في الطبيعة، حتى لو لم نكن خالقيها.

ثورة الرومانسية

ولقد ساد التصور الميكانيكي بعد نيوتن حتى مطلع القرن التاسع عشر لدى الفلاسفة التجريبيين، والوضعيين، وفلاسفة التنوير، حتى جاء فلاسفة الرومانسية ليعيدوا التصور الغائي إلى مكانته. وحين نتحدث عن الفلسفة الرومانسية، فنحن نتحدث عن عقلها المفكر، ذروة ما وصلت إليه الفلسفة في مقاومتها للفكر الوضعي الميكانيكي: جيورج فلهلم فردرش هيجل (+1831). يعتقد هيجل –باختصار بالغ- أن الطبيعة تنفضّ unfolds\entfaltet ليتولد منها الوعي، أو الروح Geist، الذي يتجلّى في أشكال مختلفة، تدريجية، ينفضّ بعضها من بعض، إلى أن نصل إلى أشد أنماط الوعي موضوعية، وهو الدولة القومية. الدولة القومية عند هيجل هي أشد أشكال الوعي وعيًا بذاته من جهة، وأكثرها قابلية للتعين الموضوعي، أي قابليتها لتكون موضوعًا لوعينا، من جهة أخرى.  ولهذا هو فيلسوف الدولة.  وقد حققت فلسفة هيجل انتشارًا غير مسبوق في العصر الحديث، حتى اكتمل عقدٌ كامل تقريبًا بعد وفاة هيجل، وذلك يعود لعدة عوامل، من أهمها أنها دمجت التاريخ بالطبيعة، فالتاريخ الإنساني عند هيجل استئناف لمسار الطبيعة نفسها، وبحيث تنطبق قوانين التطور الجدلي نفسها على الطبيعة، والتاريخ كليهما، في حين ظل للتطور التاريخي قوانين مستقلة في النظريات السابقة جميعًا. بيد أنه من أهم العوامل كذلك أنها توافقت مع الدين في تصوره العام، وتصوره الصوفي خاصة، نعني تصور وحدة الوجود Pantheism؛ فالروح في ذاته، الوعي في ذاته، هو الإله نفسه. وهو مندمج في الطبيعة والتاريخ بحيث لا يمكن فصله عنهما. وهو “يتطور” على نحوٍ ما؛ فهو يظهر لنفسه، وللعيان، عبر مراحل متدرجة، هي مراحل انفضاضه. ولكنه لا يتطور ككائن حي في الطبيعة وحسب، بل كذلك في مراحل التاريخ المختلفة ككائن حيّ واعٍ بذاته. هكذا تصدعت النظرة الميكانيكية المادية، وحلت محلها نظرة روحية غائية هي الأولى في التاريخ الحديث من حيث درجة شمولها، وتفصيلها. هكذا كادت النظرة الميكانيكية تلقى حتفها النهائي على يد هيجل، وهنا جاء كارل ماركس لينقذها.

كيف حقق ماركس قفزة نوعية في الفلسفة المادية؟

كانت اليد، التي مدّها ماركس للبروليتاريا، هي نفسها، التي انتشل بها التصور الميكانيكي قبل أن يغرق في النسيان، والشكّ. صحيح أن العلم الطبيعي لم يكن ليتراجع، لو لم يكن هناك كارل ماركس، ولكن التصور الميكانيكي ليس هو العلم الطبيعي، بل هو تصور فلسفي، يستند إلى مبدأ شمول العلة الفاعلة، التي لا يعرف العلم الطبيعي سواها، أي دون العلة الغائية، والمادية، والصورية، وبحيث يعبر الشمول هنا عن قدرة العلة الفاعلة على تفسير الطبيعة دون الحاجة إلى الاستعانة بغيرها من علل أرسطو الأربع. وهو يعني أن تطور العلم الطبيعي التجريبي في القرن السابع عشر قد دعم التصور الميكانيكي، لكنه لا يفترضه بالذات، ولا يضطرنا بذاته إليه. بيد أن أهمية التصور الميكانيكي تكمن في كونه الشكل النهائي، الذي استقرت عليه الفلسفات المادية حتى وقته، كما أنه، برغم كون ارتباطه بالعلم الطبيعي غير لازم، فقد قدم خدمة جليلة للعلم؛ فقد دافع عنه، وعن العلماء، وأيدهم بتصورٍ للعالَم متسق مع أسس منهجية العلم التجريبية، ونتائجها.

ولنفهم أهمية إنجاز ماركس الفلسفي، الذي عادة ما يتم التركيز بشأنه على أثره الأيديولوجي، والسياسي، والاقتصادي، علينا أن نحدد أولاً نقاط ضعف المادية الميكانيكية الكلاسيكية سابقة الذكر. أولاً: لا تفيدنا المادية الكلاسيكية بصدد السؤال عن منشأ الطبيعة، وعن منشأ الحركة فيها، حتى وإن كانت تستطيع بناءً على فيزياء نيوتن حساب تلك الحركة من حيث القوة، والاتجاه. وثانيًا: لا تقدم تصورًا ملتئمًا للعالَم، أي أنها لا تنطبق على كافة الظواهر، وأهمها هنا الظواهر الإنسانية. وبالتالي فهي لا تصل إلى مستوى المذهب الفلسفي المتكامل. وثالثًا: تبدو النظرة الميكانيكية للطبيعة تصورًا ساذجًا وسطحيًا إلى حد ما؛ لأنه كيف يمكن اعتماد تلك النظرة إلى الطبيعة، وهي عاجزة عن تفسير مصدر الطبيعة، ومصدر الحركة فيها، وغير قادرة على احتواء المجال الإنساني المعقد؟ هذه الجوانب الثلاثة، التي تمثل أهم أوجه ضعف النظرة الميكانيكية، هي التي استغلها الفلاسفة المثاليون عمومًا، والرومانسيون خاصةً، لإعلان الثورة عليها.

وقد تمكن ماركس عن طريق المادية الجدلية من سد تلك الثغرات الثلاث، فأولاً: يمكن عن طريق هذا الشكل الأخير من المادية استبعاد السؤال عن مصدر الطبيعة على نحو مشروع، مع إمكانية تفسير الحركة فيها، بناءً على التفاعلات الجدلية، التي تتضمن مبدأ الحركة على نحو محايث في نفسها، هو تناقضها الأصلي، دون الحاجة إلى محرك أول، أو تدخل خارجي بشكل عام. فإذا استطعنا تفسير علة الحركة، دون اللجوء إلى فاعل خارجي مفارق، فإن السؤال عن مصدر الطبيعة غير ضروري، فهي موجودة –طبقًا للمادية الجدلية- منذ الأزل، في حالة صراع أزلي-أبدي، حالة تفاعل دائمة، وبحيث يعتبَر الصراع، والتغير، في هذا السياق من خصائص الطبيعة الأوّلية جدًا. وثانيًا: لا يمثل عالم الإنسانيات عند ماركس مجالاً مستقلاً، له قوانينه الخاصة، بل هو تطور نوعي بناء على تراكم كمي، يمكن فهمه، وتفسيره، من حيث المبدأ ارتكانًا إلى القوانين الأساسية نفسها، التي تحكم حركة المادة. فالوعي في هذه النظرية نتيجة عمل الدماغ، والدماغ تركيب بالغ التعقيد، لكنه لا يتجاوز في تركيبه، وفي عمله، قوانين الطبيعة، ولا يتطلب لتفسيره قوانين جديدة. وبالتالي يمكن بناء علاقة مستقرة بين مجال الطبيعة، ومجال الإنسانيات، في تصور مذهبي. وبحل المعضلتين الأولى، والثانية، لا تعود النظرة المادية الحديثة، الجدلية، قابلة للوسم بالسطحية، ومحدودية الأفق، وهو ما يحل المعضلة الثالثة.

على ماذا تقوم النظرية الماركسية؟

وعن طريق الشق الثاني للفلسفة الماركسية، أي المادية التاريخية، يمكن تفسير التاريخ الإنساني، بكل ظواهره المعقدة، اعتمادًا على تحديد المتغير المستقل في معادلته (وليس العامل الوحيد كما شاع على المستوى الشعبي) وهو الاقتصاد. لا تتطلب القرارات الاقتصادية تعليلًا، فعلّتها في نفسها؛ لأنها تطلب المنفعة المادية البحتة، والمنفعة كلها مرغوبة في ذاتها، لكنها من ناحية أخرى تُوظِّف كل الوسائل، كل متغيرات المعادلة المتبقية، لكي تفرض نفسها على الواقع من جهة، ولكي تبرر وسائلها غير المشروعة أحيانًا بحجج مناسبة، وبغطاء أيديولوجي معين، من جهة أخرى. وعن طريق علاقة معينة بين البنية التحتية، المتمثلة في النشاط الاقتصادي، والبنية الفوقية، المتمثلة في كافة الشئون الإنسانية سواه، كالقانون، والأيديولوجيا، والسياسة، والفن، .. إلخ، يمكن تفسير لماذا صارت عناصر البنية الفوقية إلى ما هي عليه في الحاضر، وبالتالي يمكن التنبؤ بما سوف تصير إليه في المستقبل. ونلاحظ استعمال فعل الصيرورة، فالكل كما قلنا في تحولٍ دائم، وصراع أضداد. ويقوم جانب جوهري من الماركسية على محاولة استبصار نمط حركة معين في حركة الكل، أو بالأحرى اتجاه محدد لتلك الحركة. وهي أسئلة فلسفة التاريخ الأساسية من ناحية، كما أنها الأسئلة الأساسية كذلك في البيولوجيا التطورية من ناحية أخرى، والتي يجب إقرار نظرية محددة فيها أولاً من أجل أن نتمكن من عقد الصلة بين جدل الطبيعة، وجدل الإنسان، أو –بكلمات أخرى- فيما بين المادة من جهة، والتاريخ من جهة أخرى؛ لأن البيولوجيا هي المجال المتوسط بين كيمياء المادة، وبين فلسفة التاريخ؛ فهي التي تُنتِج لنا عن طريق الدماغ الوعي الإنساني ذاته. ومن هنا العلاقة القوية بين تطور التاريخ عند ماركس، وتطور الأحياء عند دارون. ذلك بحيث يمكن القول أن الماركسية قد اكتملت من جهة بناء هيكل المذهب، فيما عدا قطعة واحدة ثمينة، هي تفسير التنوع الحيوي بناء على سبب مادي، وبتصور قائم على الصراع، مبدأ الجدليين بصفة عامة. فلما ظهرت نظرية دارون للنور ، كان من المنطقي أن يتحمس لها ماركس، حتى لو لم يكن لها جمهور سواه في العالم، فقد  كانت بالتأكيد أجمل هدايا القدر، التي ربما لم يحلم بها. وإن كان العمل على نظريات التطور لم يتوقف في العالم تقريبًا منذ طاليس، أول فلاسفة الإغريق، ولكن مراكز العلم والحضارة، التي تطورت فيها تلك النظريات، كانت تتنقل على الخارطة. ومن أشهر محطاتها الحضارة الإسلامية، حيث قدم كل من إخوان الصفا، وابن مسكويه، وابن خلدون، وغيرهم، تصورات مباينة عن التطور الحيوي.

من التطور الفيزيقي إلى ميتافيزيقا التطور

ربما يكون أفضل دليل مبنيّ على المشاهدة، يعزز فرضية التطور الحيوي بناء على مبادئ محددة، أهمها الانتخاب الطبيعي من جهة، والتفاعلات الجدلية من جهة أخرى، هو أن كوكب الأرض أصلاً مؤهَّل للتنوع الطبيعي-الفيزيقي، قبل أن يكون موطنًا للتنوع الحيوي من الأساس، فقد بدأت الحياة على الأرض بعد أن استقر التنوع المناخي لمليارات السنين بحسب السجلات الحفرية، ولم تظهر حياة على القمر برغم تشابه كثير من الظروف، لأن مناخه –بسبب غياب غلاف جوي وعوامل أخرى- شديد التطرف على نحو لا اتصال فيه بين القوى الأساسية ليقع فيه تفاعل جدلي قابل للاستمرار بإيقاع شبه منتظم. الإيقاع هو الذي سيسمح بنقل صفات ما إلى المستقبل، كشفرة خاصة جدًا وخفية على الناظر، لكنها هي التي قام عليها الوجود، والتاريخ. ولأنه “شبه” منتظم، فإنه يسمح بحدوث الطفرات، مما يصنع مستوى أنطولوجيًا بين النظام والفوضى، وهو مبدأ الإبداع، والتطور الخلاق. ولو كان إيقاعًا منتظمًا كالساعة، لما سمح بذلك.Bottom of Form

 

التطور مفهوميًا هو التنوع، حين نفهمه على محور الزمان؛ فالتنوع مفهوم مكاني، لا يُقصَد به بذاته الإشارة إلى أي حدَث، أيًا ما كانت أسبابه، وعواقبه. التطور مفهوم أوسع بكثير؛ لأنه يضيف بُعدًا من طبيعة أخرى: الزمان، يسمح بالحدَث، بالتغير، ومن ثم مزية القدرة على توريث الصفات المتماسكة في وحدة مستقلة، قادرة –في مرحلة قصية من دَرج تطورها- على فهم مبدأ التطور ذاته يومًا، وربما استغلاله تقنيًا. وفي صراعات القوى الفيزيقية البسيطة جدًا، وحين تتشابه الوحدات الجزيئية في صفات أساسية عديدة، يمثل تشابه البعض منها بازدياد في صفة مختلفة عما حولها عاملاً أساسيًا، ومطردًا للتحول في اتجاه واحد مركّز كالبؤرة في نظام علاقات بين القوى، نظام تآلف جديد بين الألوان، من صفاته البنيوية القدرة على توريث ذاته عبر الزمن عن طريق توريث صفاته لأطول فترة ممكنة. بعبارة تستعمل المصطلح الفلسفي بدلاً من البيولوجي: القدرة على أن يوجَد لأطول مدة ممكنة بما هو كذلك، أي بماهيته، ولوازم كينونته الأساسية.

ومع هذا فلولا التنوع أصلاً كإمكانية متاحة في الطبيعة والوجود لما كان هناك بالتأكيد أي تطور. ويترتب عليه أنه إذا، وطالما، وُجدَ ما يسمح بالتنوع فيزيائيًا، وحيويًا من جهة المبدأ، فإنه يعني، بمجرد وجوده، أن التطور ممكن، ولا مبرر لاستبعاده، وأنه التفسير الأقرب إلى بيانات سجلات الحفريات المتراكمة عبر عشرات السنين من عمل علماء الأحياء على عدد مهول من نماذج الأحافير في كل مجال بيولوجي مباشر، أو ذي صلة غير مباشرة. واستطاعت هذه النظرية أن تفسر لنا كثيرًا من ألغاز الحياة، كاختلاف الصفات، ومثل السبب في أننا لا ندرك التطور الحيوي بشكل مباشر، فهو تدريجي جدًا، وبطيء جدًا. وهو تدريجي جدًا؛ لأنه لو كان مفاجئًا لمات الكائن، أو تفكك النظام، قبل أن يجد الفرصة لإعادة إنتاج نفسه عن طريق التكاثر. وهكذا يمثل التطور الرأسمالي تحديدًا نموذجًا للتطور الداروني والانتخاب الطبيعي، وتفسيرًا لإمكانية قوع طفرة تطورية مفاجئة في مرحلة متأخرة زمنيًا من عمر أي نظام جدلي، بشرط وحيد هو وجود التفاوت من البداية في صفة واحدة على الأقل بين مكوناته الأساسية. من هذا المنطلق يمكن من حيث المبدأ تفسير الطفرة الاقتصادية النيوليبرالية، والمتمثلة في التراكم السريع الضخم شبه المفاجئ لرءوس أموال شركات التقنية مثل سامسونج، وآبل، وفيسبوك، وجوجل، وغيرها.

وهو كذلك ما يفسر ظاهرة، مثلت إلى وقتنا هذا ثغرة اعترف بها دارون نفسه، الذي لا يفسر تطوره الانتخابي كيف أن غالبية التنوع الحيوي على الأرض وقع بكثافة هائلة مقارنة بسائر تاريخ الكوكب منذ 500-600 مليون سنة فقط؟! وهو كذلك ما تكشفه بوضوح ملغز سجلات الحفريات. لكن المادية الجدلية تزيل كل الحواجز ضد التطور إلا حاجزين فقط، يمثلان الحدود القصوى، التي ينتهي عندها أي تطور: وجود مستمر لتفاوت في القوى المتصارعة في أي نظام، بما يؤدي إلى تركيزها نحو غاية، أو في اتجاه، وتحقق مستمر لشرط المَكَانِيّة Locality أي تحقق شرط انتقال الطاقة الأساسي في الفيزياء الحديثة، اتصال المكان. طالما وجد تفاوت أصلي، يفترضه أصلاً وحالةً أوليةً الديالكتيكُ، في اتصال مكاني، أمكن من حيث المبدأ تفسير ظهور ولو كوكب واحد، يتمتع بصفات نادرة، هي التنوع المناخي المستقر لفترات معتدلة، ولا يسمح بتطرف المناخ في أغلبه، مما يسمح كذلك بالتنوع الحيوي، قاعدة التطور، ونتيجته في الحياة، والتاريخ.

ويري الماديون الجدليون كل الظواهر الإنسانية بلا استثناء أشكالاً متطورة، ومتقدمة للغاية من التطور الحيوي، الذي هو تركيز للقوة في بؤر معينة على المستوى الكيميائي، وذلك عبر مسار معقد طويل جدًا من أبسط وحدات المادة إلى المخ البشري نفسه، لكنه في الحقيقة –مهما تعقّد ومهما استمر- تكرار لنفس الحلقة في سلسلة جدلية، تمثل التصور الهندسي للديالكتيك عمومًا. إن تركيز القوى مكانيًا، على المستوى الفيزيقي البحت، إذا انتشر في نظام ما كالموج في البحر، صار صفة سائدة، لا تفاوتًا، مما ينتج وضعًا لا يسمح بعد ذلك بهذه المعايير من التفاوت في إحداث بؤرة من تركيز القوة، مما ينتج في النهاية، ومع تكرار العملية، وحشًا أقوى بتكاليف أقل، وسرعة مباغتة. بعبارة أوضح: يتوازن النظام البيولوجي أو الاجتماعي بما لا يسمح بمزيد من الطفرات، التي قد تؤدي إلى التشوه، فالعجز، فالموت، وبحيث يصير الكائن البيولوجي أو الاجتماعي أقوى في تحدّى الظروف المحيطة. ولكن، وفي المحصلة النهائية، لا بد من أن تكون قوة الكيان الكلية قابلة للتفسير المادي.

حدود القوة المادية لشخص أدولف هتلر مثلاً أكبر مما نتخيل بنظرة مباشرة سطحية، وتصل إلى أبعاد قارية، وبالتأكيد انتشرت في مطلع الأربعينيات على قارات العالم القديم الثلاث. ونحن نقصد هنا القوة المادية فقط. الفرق بين هتلر وبين مواطن عادي في بلده مثلاً، أو أي مواطن في العالم في وقته، أنه أحد الأفراد القلائل في التاريخ المعروف كله، الذين وصلوا إلى هذا الحد من القدرة على تركيز القوى المادية البحتة في جهة واحدة، أو نحو غاية واحدة، وخاصة بالنظر إلى السرعة التي تم بها كل هذا، والظروف المعادية، التي وصل بها إلى سيطرة جغرافية، وصناعة إمبراطورية، كانت مثالاً في لحظة من اللحظات لكل عالِم أو عامل في كل مجال، لدرجة أنها بنَت حرفيًا قدرًا ضخمًا وهامًا من معارف عالمنا المعاصر، وتقانته كنتيجة جانبية لمحاولة التفوق العسكري النوعي الخاطف. الفرق الصارخ في تركيز القوة عبر نسيج المجتمع الواحد في الأيديولوجيات المتطرفة، أيْ كونها أشد ميلاً بوضوح إلى نظام حكم فردي شمولي، هو السبب في إقرار قواعد جديدة للسياسة، قواعد عصر الجماهير، الذي سمح به ظهور الراديو، والذي منح الإعلام الحكومي القدرة على قيادة العميان، عشرات الملايين منهم، كمن يصف للضرير ما لم يره أصلاً ربما في حياته، ليتحكم بولاءاته، وكلماته، وأفكاره.

البكتيريا أقوى من النازيين

تفسر المادية الجدلية كيف يؤدي انتشار صفة معينة، مع تنوع الظروف عبر الزمن، أي استمرار عامل التفاوت الكمي، واتصال المكان، إلى تغيير قواعد اللعبة كيفيًا، التي صاحبها في الرايخ الثالث مثلاً تطوير استراتيجية الجيل الثالث من الحروب. غيرت ألمانيا بهذا معايير التفوق العسكري على أرض المعركة، من العامل الجغرافي-العددي إلى العامل الزمني: السرعة التي تتطلب تطورًا تقنيًا في الغالب، والمرونة التكتيكية، وتعاوُن أسلحة متنوعة، يمكنها بذل جهد مركز لفترة قصيرة، وبهذا تنتصر على قوة كبيرة مع أول مبادرة وبتكتيك هجومي مفاجئ، حتى وإن كانت قوتها في الاستمرار في التركيز، في إحداث التفاوت بدرجة تكفي لشل جيش الخصم، غير كافية للاستمرار في حرب طويلة كالحرب العظمى مثلاً. يمكن تخطي الفارق بعيد المدى بين ألمانيا وفرنسا، الذي هو لصالح فرنسا، بتركيز أكبر للقوة لفترة قصيرة، فأكبر الجيوش يمكن حصاره بقوة لا تتناسب مع حجمه، لكنها لا تكفي إطلاقًا لهزيمته لو تعادل الجيشان من حيث مميزات الموقع، والعدد، وكمية الذخائر، والإمداد عمومًا، وكلها ترجع لعامل المكان. بيد أننا عن طريق إبطاء الزمان، أي الإسراع في الحركة، يمكننا أن نربح الكثير جدًا من السيطرة على عامل المكان، وبالتالي القوة. وكل قوة تبدو لنا معقدة ملغزة وربما مقدسة لشخص أو مؤسسة هي في حقيقة تكوينها ما هي إلا تكرار لوحدة التصميم الجدلية الأساسية. ولذلك نجد أن أغلب عصور الحياة على الأرض لم يتطور فيها أكثر من البكتيريا.

والبكتيريا كائن فقير من حيث إمكانيات توريث التنوع في الصفات المورثة، لأنه ينسخ نفسه بتكاثر لا جنسي، لكنه مع ذلك يملك ميزة أخرى تسمح بتنوع أكبر، هي أنه سريع التكاثر جدًا، وقادر على التكيف في ظروف، بعضها يعتبر بالنسبة لنا غير أرضي .Alien صحيح أنه ضعيف في تنويع الصفات المورَّثة، لكنه يعوض ذلك بفرص كثيرة جدًا بالمقارنة لحدوث الطفرات في وقت وجيز. بعض أفراد البكتيريا المتحورة قد يعيش، برغم أن التحور عمومًا في الصفات الموروثة غالبًا ما يؤدي إلى موت الكائن قبل البلوغ، أو عجزه عن الإنجاب، ومن ثم عدم توريث صفاته. إن سرعة تكاثر البكتيريا (تبدأ في عمر نصف ساعة) أكبر من سرعة تغير أي نظام بيئي في الظروف العادية. فمن كل هذه الاحتمالات يظهر أفراد معدودون، مميزون في الصفات، وبتركيز أكبر للقدرات، لكنهم في حصيلتهم النهائية أيضًا كثيرون جدًا، لأن الجيل الأسبق، واحتمالات التنوع، كانت ضخمة جدًا من البداية، وهي طاقة مخزنة للتطور في أي نظام.

دارون نفسه هو الحلقة المفقودة

عند هذا الحد نفهم كيف أن اهتمام ماركس بعمل دارون كان أعمق من مجرد فكرة التطور، أو مبدأ الصراع، بل إن دارون هو الذي منح ماركس الحلقة المفقودة بين التفسير المادي للطبيعة، والتفسير المادي لعالم الإنسانيات، وعلوم الوعي (أي التي تدرس الظواهر الناتجة عن وعي الإنسان لا التي تدرس وعيه هو تجريبيًا)، ليبرز على أسلافه، وأقرانه من فلاسفة التاريخ، حتى أننا يمكننا بسهولة ملاحظة أنها أكثر فلسفات التاريخ في العصر الحديث، وربما في عمر الفلسفة المعروف كله انتشارًا، وأبعدها أثرًا إلى اليوم. ذلك أن معادلة الانتخاب الطبيعي هي التي كانت تنقص الماديين للربط بين المجال الفيزيو-كيماوي، وبين التاريخ، بتوسط البيولوجيا. وكان جهد ماركس نفسه منصبًّا في تطوير نموذج الجدل الهيجلي؛ ليقلب صفاته الأساسية غير الجوهرية، ويطوعه لبناء مذهب مختلف، هو آخر المذاهب الراسخة الكبرى في تاريخ الفلسفة حتى يومنا هذا، وأكبرها في الأثر. ويمكن تلخيص السبب الأساسي العائد إلى نظرياته نفسها، أي بغض النظر عن عوامل سياسية معينة كتبعات الحرب العالمية الأولى مثلاً قد تداخلت تداخلاً بنّاءً مع أفكاره، بقولنا: إن مادية ماركس، لأنها ربطت أولاً بين المادة، والفكرة من حيث النشوء، والتطور، فهي جدلية، ولأنها جدلية فهي تاريخية. هي جدلية لأنها ربطت بين المادة والفكرة تكوينيًا، وليس بناء على ماهية مشتركة ثابتة، أيْ لأنها عقدت صلة تكوينية بين الأشياء، حتى مع تبدل الجوهر الأصلي تمامًا من الحالة الأولَى إلى أحدث ما تطور منها عبر مراحل طويلة من التطور التدريجي.

ولولا ماركس لانقطع تصور الطبيعة الميكانيكي منذ صعود الرومانسية في أوروبا في القرن التاسع عشر، وربما لماتت لفترة طويلة الواقعيةُ في السياسة والاجتماع والتاريخ والأدب والفكر الاقتصادي؛ إذ كانت ستفتقر إلى نظرية تفسر لها كيف يتحول الواقع، باعتبارها أهم معلومة ذات قيمة مباشرة، وتتيح لها التنبؤ بالتاريخ للمرة الأولى في التاريخ على نحو علمي لا ديني، ولا أسطوري. وحتى من يرون أن تنبؤات الماركسية العلمية في القرن التاسع عشر قد ثبت خطؤها في القرن العشرين، فهم يتفقون على كونها تنبؤات علمية بالمعنى الدقيق الذي يشترط القابلية للتكذيب. ولكن الشواهد كانت تعزز فروض ماركس أكثر مما تكذبها في أوروبا في مرحلة ما يسمى أحيانًا بالرأسمالية غير المنظمة.

وتعني “الرأسمالية غير المنظمة” ذلك الشكل الاقتصادي، الذي ساد في البلدان الصناعية في القرن التاسع عشر، والذي افتقر إلى شروط عمل إنسانية، وقوانين تحظر عمل الأطفال، وتقر حد أدنى من الأجور، وتفرض الرعاية الصحية، والمعاشات، إلخ. وحين انتشرت الحركات الاشتراكية، وخاصة الأحزاب الماركسية في أوروبا بعد وفاة ماركس، ثم حين وقعت الثورة البلشفية، وفشلت محاولات التدخل العسكري الأوروبي والأمريكي في روسيا لنصرة المعسكر الأبيض، اضطرت القوى الصناعية الأوروبية والأمريكية إلى تغيير سياستها الداخلية، أي اضطرت إلى تنظيم رأسماليتها من جهة، كما رأت نفسها مضطرة إلى دعم الفاشيات الأوروبية، وخاصة بالطبع النازيين، الذين أعلنوا هدفهم مقاومة الماركسية منذ البداية، من جهة أخرى. هكذا تطور الوحش الأقوى في ألمانيا، الذي تكيف مع الظرف التاريخي على نحو أفضل من الليبرالية عالميًا، أو القوى الاشتراكية الألمانية محليًا. وأهم معالم ذلك الظرف التاريخي المستجد هو قيام الدولة السوفييتية في الشرق. إن محاولة الليبرالية في التكيف مع الظرف السوفييتي، أي اليسار المتطرف، قد أدت بها إلى محاولة “استعمال” اليمين العنصري المتطرف، الذي كان أذكى من ذلك كما يروي التاريخ، والذي سرعان ما عقد معاهدة عدم اعتداء مع اليسار المتطرف. هكذا ندرك أن الأوضاع الاجتماعية، والبيولوجية، أكثر تعقيدًا من مجرد شروطها المبدئية؛ فهي تتكون نتيجة الظروف، التي تضطر الكائنات إلى التكيف، بالإضافة إلى الطرائق، التي تسلكها تلك الكائنات في تكيفها. وبحيث يتكيف الوحش الأقوى بحق مع محصلة كل ذلك.

دارون لا يحتاج إلى ماركس

ومع ذلك نلاحظ كيف اختلف التطور الماركسي التاريخي عن التطور الداروني البيولوجي. إذا دققنا النظر، فسنجد أن تطور ماركس له اتجاه محدد، عبر مراحل التحول الاقتصادي-الاجتماعي الأساسية المعروفة لديه: من الشيوعية البدائية إلى الشيوعية المتحضرة، مرورًا بمراحل الرق، والإقطاع، والرأسمالية، والاشتراكية. على النقيض من ذلك لا يعبّر التطور الداروني عن أي اتجاه محدد؛ إنه مجرد نتيجة لحاجة الكائنات، لكيلا تنقرض، ولكي تورث صفاتها، إلى التكيف مع الظروف المستجدة في البيئة. لا يمكن، وبناء على دارون، أن نحدد أن المرحلة القادمة في تاريخ الأحياء سوف تشهد انقراض مختلف أنواع الفقاريات عدا الثدييات مثلاً. قد تقع غدًا كارثة فلكية تقضي على الحضارة، وتؤدي إلى انقراض أنجح الثدييات، أي البشر، وربما إخلاء الساحة تمهيدًا لعودة السادة الزواحف. لا يمكن استنباط مسار عام للتطور الأحيائي عند دارون، بل لا يجوز أن نحاول استبصار نظام أو اتجاه فيه؛ لأنه يقوم أصلاً على العشوائية الكاملة الأصلية لعملية التطور، وتأثرها بعوامل معقدة، لا يمكن حصرها، وفهم هيكلها الكامل، كما لا يوجد أي مانع طبيعي لدخول عوامل جديدة إلى المسرح البيولوجي والبيئي، ولا لخروج عوامل أخرى. والسبب في هذا الاختلاف الهام بين ماركس ودارون من حيث ميتافيزيقا التطور –في رأينا- هو أن ماركس يفسر ظواهر الوعي والإرادة، حين يفسر التاريخ، بينما لا يخضع التطور البيولوجي الداروني لأي وعي أو إرادة. استطاع ماركس أن يفترض اتجاهًا معينًا لحركة التاريخ؛ بسبب ثبات نسبي في السلوك الاقتصادي في عمومياته، والناجم عن ثبات نسبي في مبادئ وعي الإنسان، وميوله النفعية، مما يمكننا من حيث المبدأ من التنبؤ بتحولات اقتصادية معينة بناءً على ما نعرفه، ونعهده في السلوك الاقتصادي لكائن واحد نعرفه، ونعهده، وبناء على تكرار نمط شبه منتظم، في حين لا يمكن بطبيعة الحال رد التطور الحيوي الطبيعي إلى كائن معين، ولا إلى وعي ما.

وبينما يحتاج ماركس إلى البيولوجيا التطورية؛ ليكمل مذهبه، وليصير –كما صار لفترة طويلة نسبيًا- الوكيل الوحيد للفلسفة المادية في العالم، وبالذات التطور المبنيّ على مبدأ الصراع، كتطور دارون القائم على الانتخاب الطبيعي، فإن دارون لا حاجة به إلى الماركسية؛ لكي يعزز فرضيته الخاصة بآليات التطور الحيوي بالشواهد المادية. وهذا منطقي؛ فليس هدف دارون تشييد مذهب فلسفي متكامل، وليس هدف العلم الطبيعي عمومًا أن يؤسس مثل تلك الأبنية الشاهقة. وبرغم ذلك ثمة حاجة لدى دارون، ولدى العلماء الطبيعيين عمومًا، لحد أدنى من قبول النظرة المادية الميكانيكية في المجتمع العلمي، والثقافي، في صورتها الجدلية بالذات؛ لأنها أكثر وجاهة بوضوح من نسختها الكلاسيكية الساكنة، البسيطة، ولأننا لا يمكن لنا أن نبحث علميًا عن علل غير طبيعية، كالمحرك الأول، أو واحد أفلوطين؛ فلا يمكن أن نطبق المنهج العلمي التجريبي في مجال ما هو خارج الطبيعة، أي ما لا يمكن من حيث المبدأ تعيين مكان، وزمن، محددين لحدوثه، أو وجوده. ولم يزل العلم حتى يومنا هذا يبحث عن الأسباب المادية للظواهر، حتى وإن اختلف فهمنا لمعنى كلمة “مادة” بعد الكشوفات الفيزيائية الكبرى في القرن العشرين، وأهمها نظرية الكوانتم، التي تفسر لنا طبيعة كل من المادة والطاقة، ونظرية النسبية، التي تفسر لنا طبيعة المكان، والزمان. اختلف فهمنا للمادة اليوم عن فهم العلماء والفلاسفة في القرن التاسع عشر، ولكن المفهوم العام لها هو ما يمتد في المكان، ويستمر لفترة، مهما كانت وجيزة، في الزمان، ويمكن مبدئيًا رصده مباشرة، أو عن طريق آثاره؛ لأنه ليس كيانًا مفارقًا، بل يوجد كل مرة في إحداثيات مكانية، وزمانية.

بالتالي يمكن القول إن العلاقة بين الماركسية، وبين التطور الحيوي الداروني، كانت علاقة الكل بالجزء على الترتيب، وبحيث يقوم اعتماد متبادَل بين الكل، الذي لا يكون كلاً سوى باجتماع كل أجزائه، وبين الجزء، الذي يتطلب سياق الكل؛ لكي يوجَد، ولكي يكتسب مبرر وجوده، وما يدافع عن وجوده، وما يمنحه أهميته، التي يكتسبها من دوره في السياق. لكنها مع ذلك ليست علاقة صورية بحتة تحكمها قوانين المنطق الصوري. التطور الداروني، أو ما حل محله في وظيفته كتفسير أشمل للتنوع الحيوي فيما بعد: “النظرية التركيبية الحديثة”، جزء جوهري من الماكينة الماركسية؛ لكي تدور. وحتى النظرية التركيبية الحديثة المعتمدة من علماء البيولوجيا التطورية حتى اليوم لا تنكر أهمية الانتخاب الطبيعي، كمبدأ، وكعملية، لكنها تشرك معه عوامل أخرى مسئولة عن تطور صفات الأحياء.

دارون + ماركس = ابن خلدون؟

هذه العلاقة البنيوية بين الماركسية، وبين التطور الحيوي القائم كليًا أو جزئيًا على انتخاب طبيعي، يستبقى على قيد الحياة الأفراد والأنواع القادرة فقط بما يكفي للتكيف مع مستجدات البيئة، لا تقوم في تقديرنا كصلة خاصة بين الماركسية تحديدًا، وبين هذا النوع من نظريات التطور، بل تنسحب على التفسير المادي عمومًا للتاريخ، الذي يتطلب مسبقًا تفسيرًا ماديًا للطبيعة، ومنها الكائنات الحية. والمعنيّ هنا بالتفسير المادي للتاريخ ذلك التفسير، الذي يعتمد على عوامل متمكنة، ومتزمنة، بحيث يمكن ملاحظتها، وبحيث يمكن الاتفاق على نحو موضوعي على خصائص معينة للظاهرة موضوع البحث. ولهذا اجتمع التوجه المادي في تفسير حركة التاريخ مع التوجه التطوري في دراسة ظواهر الحياة لدى مفكر مبدع، بما هو درة ما أنجبته الحضارة العربية في مجال دراسة الإنسانيات عمومًا من جهة درجة الإبداع والسبق، ألا وهو ابن خلدون. فكما نرى في “مقدمته”، يعتقد ابن خلدون في عوامل مادية، من أهمها المناخ، والتوزيع السكاني، وطبيعة الروابط الاجتماعية، ونمط النشاط الاقتصادي، تمارس الدور الحاسم في طباع الشعوب، وأخلاقها، وسلوكياتها، وتتحكم حتى في ظهور الأنبياء في نطاقات جغرافية-مناخية معينة دون سواها، وذلك صعودًا إلى قيام الدول، وازدهار الحضارات، ثم ضعفها، وتحللها، في شكل الدورة الحضارية، أشهر نظرياته. وهو ابن خلدون أيضًا، الذي قدم أشد نظريات التطور الأحيائي عند المسلمين تطرفًا وحسمًا، إلى درجة قوله بما يمكن أن يعني صلة قرابة بين الإنسان، وبين القرد تحديدًا (في الطبعات غير المراقبة من “المقدمة”).

ختامًا حاولنا في هذه المقالة تقديم منظور لإعادة فهم العلاقة بين الفلسفة المادية من جهة، وبين نظريات التطور الحيوي من جهة أخرى. ونرى أنه اتصال عضوي، يتطلبه الطرفان؛ لكي يكتسبا صفة التأسيس النظري. ومع ذلك فقد جرى رد الفعل إزاءه في الاتجاهين على نحو متفاوت؛ فقد أنكر البعض الفلسفة المادية لتضمنها لعنصر التطور الحيوي، الذي يخالف ظاهر نصوص الديانات الإبراهيمية بالذات، لكن أغلب من اتخذ موقفًا بسبب تلك الصلة العضوية الموصوفة قد فعل العكس: رفض التطور كفرضية من الأساس؛ لأنه في رأيه مكوّن أساسي من مكونات الفلسفة المادية في كمالها المذهبي. من أهم النتائج كذلك ضرورة وضع ماركس، والماركسيين، في السياق؛ والسياق العام ليس هو السياق الأيديولوجي، السياسي-الاجتماعي-الاقتصادي، وكأن الماركسية أيديولوجيا لا مذهب فلسفي، أو كأنها ظهرت أصلاً لتبرير موقف سياسي. السياق العام هو –في تقديرنا- الأزمة، التي نتجت عن تعارض الفلسفة الأوروبية السائدة في القرن التاسع عشر (المثالية والرومانسية) مع منهجية العلم التجريبية، ومع مبدأ السببية، وهي الأزمة، التي نجم عنها ظهور وحوش أيديولوجية-فلسفية قوية فَتِيَّة، متمثلة بأوضح صورها في الفاشية، والنازية، واللتين اعتمدتا على شبه-العلم من جهة، وبالأخص ما تعلق منه بمبدأ تفاوت الأجناس البشرية، كما اعتمدتا من جهة أخرى على تصورات غير محددة، خرافية، عن روح الشعب، وقدَر الأبطال التاريخيين، ومَهمة الأمة، التي تتجاوز الحدود القومية للدولة، ونوع من الرؤى الفَنائية الأبوكاليبتية للعالَم، تلك التصورات، التي كادت تتسبب في تدمير، لم نعرفه من قبل، للحضارة الغربية، كما عرفناها فعلاً.

المراجع:

[1] Fay, Margaret A., Did Marx Offer to Dedicate Capital to Darwin?: A Reassessment of the Evidence, Journal of the History of Ideas, Vol. 39, No. 1 (Jan. – Mar., 1978), pp. 133-146.

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete