تكوين
مع تزايد الاهتمام بقضايا المرأة في العالم العربي، والاتجاه البحثي للدراسات والفلسفات النسوية، بات من اللزوم التساؤل بشأن دور المرأة الفاعل وحضورها في ميادين التفلسف، خصوصًا أن ثمة ما يؤكد التساوي في الإمكانات العقلية بين المرأة والرجل، وأن المكاسب التدريجية التي قد نعمت بها المرأة، مع التغييرات التي طالت أدوارها في حقب زمنية مختلفة، مكنتها من الوصول منذ قرون عدة، إلى لعب أدوار قيادية مهمة، والتقدم في مسيرتها التطورية على الصُعد الفكرية والعملية، حتى لم يعد هناك مجالًا لم تطرقه النساء في التساؤل والبحث والعمل. وفي سؤالنا بخصوص التفلسف، لا ننشد البحث عن اسهامات المرأة العربية في ميادين الكتابة والبحث الفلسفي، إنما نتوخى التصويب المجهري والحفر التاريخي لتوفير المعلومة بخصوص فيلسوفات العرب، في الوجود، ثقل الحضور، الماهية، الدور، المشاريع، النظريات، الأطروحات التي قُدمت عبرهن. غير أننا نُصدم في بحثنا الأولَي، بحقيقة اكتشاف غياب وجود أي فيلسوفة عربية، أي أنه من الأزمنة الفائتة إلى وقتنا الحاضر، لا يوجد فيلسوفة عربية واحدة. ما يطرح إشكالية جديدة وأهم، للبحث بشأنها وهي: لماذا غابت فيلسوفة العرب؟
المرأة في التاريخ الفكري الغربي
على مر القرون وُضعت العصا أمام عجلة التجلي الفكري للمرأة، لكنها اخترقت السائد في نماذج ريادية أثبتت فيها أن التاريخ المُغيِّب للنساء لم يكن يومًا سوى تقليل متعمد من شأنهن. وتأتي مقولة الروائية والكاتبة الأمريكية سيري هوستفيدت في ذاك السياق عند مقاربة التاريخ الفكري النسوي، لتؤكد تلك الحقيقة، فقد رأت أنه
” كان من السهل على الدوام الانتقاص من عبقرية النساء أو قمعها أو نسبتها إلى أقرب رجل”.
فلطالما كان يُنظر إلى الرجال بوصفهم وحدهم القوى التي تُفكر. وقد بُني هذا التصور في العصور القديمة في اليونانية منها خصوصًا، وهي الفترة التاريخية التي ألقت بظلها على كل ما لحقها من تصورات بنائية ذهنية متعلقة بالمرأة ودورها. ويُردُّ بناء هذا الحكم ردًّا مباشرًا إلى أرسطو الذي استبعد المرأة تمامًا من ميادين الفكر، كما استبعدتها سياسات تجمعات الأغورا من حواراتها ونقاشاتها الفلسفية، ليحدد وظيفتها الحياتية بالاقتصار على الإنجاب.
إقرأ أيضًا: المرأةُ: جدلية الذات واللغة في تكوين الهُوِيَّة
ويعلل أرسطو فلسفته هذه إلى التمايز البيولوجي بين الرجل والمرأة، والتمايز الإضافي في التكوين النفسي المختلف لهما،
“فالنفس تتألف من جانبين أو عنصرين: العنصر العقلي والعنصر اللاعقلي. ومن الطبيعي، بل ومن المفيد أن يحكم العنصر العقلي ويسيطر على الجانب اللاعقلي في النفس. وهكذا نجد أن من العدل أيضًا أن يحكم الرجال النساء، صحيح أن لديهن ملكة التروي العقلية، لكنها بلا فاعلية، ولذا فمن السهل أن يُسيطر عليهن العنصر اللاعقلي”(1).
ومن هذا المنطلق نفسه، يُبرر أيضًا سيادة الرجل، وتصدره للقيادة السياسية والفكرية. وتقوم مهمة الفلسفة لدى أرسطو، على فهم العلل الأولى والمبادئ الأساسية التي يقوم عليها العالم والتي في نظره لا سبيل إلى المرأة للخوض فيها. ورغم كل هذا، برزت في اليونان القديم فيلسوفات أثبتن جدراتهن، مثل: Theano de crotone، في القرن السادس قبل الميلاد التي تُعد عالمة وفيلسوفة الرياضيات الأولى في العالم، وArete of Cyrene ، ابنة الفليلسوف أريستوبوس التي كانت في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد، وAspasia of Miletus ، فيلسوفة البلاغة ومعلمة سقراط، وDiotima of Mantinea في القرن الخامس قبل الميلاد التي أسست لفلسفة خاصة بالجمال والحق والسعادة، و Hipparchia of Maroneia التي عُرفت بفلسفتها التشاؤمية، وAxiothee de Phlionte في القرن الرابع قبل الميلاد التي لمع دورها في أكاديمية أفلاطون الفلسفية.
وقد عَرَفَ العالم القديم في مختلف أرجائه وليس في اليونان القديمة فقط، بعض الفيلسوفات. غير أن أوضاع النساء على الصعيد الفكري، كانت في تراجع مستمر مع مطلع المسيحية في القرون التالية، فقد رُبطت المعرفة باللغة الدينية التي كانت حكرًا على الرجال، مع تبرير عدم حاجة المرأة إلى المعرفة والقراءة والكتابة. وإلى القرن الثالث عشر تمكنت فتيات الطبقة الأرستقراطية من تعلم القراءة والكتابة داخل الأديرة، ليُنتج القرن الخامس عشر بعض المفكرات في أوروبا. أما التحول الحقيقي في أوضاع المرأة فكان في القرنين السابع والثامن عشر، حيث ظهرت المرأة المتحررة التي احتلت مكانة مهمة في النخبة الاجتماعية، وبات بإمكانها إدارة الصالونات الأدبية والفكرية والعمل في الصحافة التي كانت من المهن الخاصة بالذكور، واتمام دراساتها العالية، بعد أن كان أقصى طموحها في السماح لها قانونيًا بإتمام دراسته للمرحلة الثانوية(2).
أما القرن العشرين فكان القرن الأكثر تقدمًا للنساء، وفيه ظهر لأول مرة مصطلح” النسوية” والفلسفات النسوية. والفيلسوفات المتمكنات اللواتي استطعن فرض الاعتراف بهن، أمثال: روزا لوكسمبورغ، سوزان لانغر، حنة آرنت، سيمون ديبوفوار، وغيرهن من اللواتي تخطت شهرتهن البلدان التي عرفتهن.
المرأة في التاريخ الفكري العربي
في مُستهل الحديث عن أوضاع المرأة في الفكر العربي، لا بُد من الإشارة إلى أن السياقات العالمية الحاكمة والمتحكمة بأدوارها ومكانتها، الاجتماعية والفكرية، كانت دومًا في حالات تجاذب وتأثير بين مختلف الأقطاب الجغرافية، رغم خصوصية البلدان وثقافاتها. وفي فترات الكبوة والأمية المقنعة -والمفروضة على المرأة- أُخرجت المرأة من التأريخ زمنًا، وهو ما حال في قطيعة معرفية مؤكدة وواضحة، دون الكشف والمقارنة بين أوضاعها التاريخية والمستحدثة على وجه الدقة. غير أن ما وصلنا من حال النساء في المستوى الفكري في الأزمنة القديمة، هو بعض الحضور والمشاركات الفلسفية لنساء برزن في عصرهن من طريق الأطروحات والمناقشات الفلسفية التي خضن فيها، لكنهن لم يُصنفن فيلسوفات في زمنهن، كما لم يُعترف بهن فيلسوفات في أزمنة لاحقة، مثال:
- مليكة بنت فاطمة الأندلسية التي كانت تهتم بالأفكار الفلسفية المتعلقة بالعقل والوجود، وتتناول قضايا فلسفية مُعقدة مثل: العلاقة بين المادة والروح. إلى جانب اهتمامها بتطوير الفلسفة العملية والتطبيقية ودراسة الفلك والرياضيات.
- والزهراء المغربية التي اشتهرت بتقديمها لآراء فلسفية تتعلق بالمفاهيم الصوفية والميتافيزيقية، والتي كانت تؤمن بأن الفلسفة لا يُمكن أن تكون مُوجهة للرجال، وإنما يجب على النساء أن يشاركن في نقاشات فلسفية عميقة.
- وست عجم البغدادية التي ولدت بعد ثلاثين عامًا من حكم هولاكو، والتي لم يذكرها التاريخ في المؤلفات التقليدية، “لكن عُرفت من كونها شرحت “مشاهد الأسرار القدسية“، أعقد كتب ابن عربي، وتجلت فيه صياغتها الفلسفية رغم أُميتها، فقد كانت تُملي أفكارها على زوجها محمد بن محمد الخطيب الذي كان يكتبها عنها، ولم يكن فكرها محصورًا في التصوف، وإنما امتد إلى فلسفة الجمال”(3).
إقرأ أيضًا: منظومة الإنسان المُتفلسف: الجزء الأول الطفل بما هو أقل من فيلسوف
وفي مستوى التصوف حصرًا، برزت متصوفات مثل:
- رابعة العدوية البصرية (من البصرة) التي صارت مرجعية رُوحانية لكبار الصوفيين الذين أتوا بعدها، كابن عربي وجلال الدين الرومي، اللذين تأثرا بنهجها. وعائشة الباعونية (السورية) التي تركت عددًا كبيرًا من الكتابات، والتي كان لها دورًا مهمًا في تاريخ المنطقة في مجالي التصوف والثقافة.
- وعلى الرغم من أن فاطمة الفهرية (المغربية)، كانت من بين أبرز النساء في التاريخ الإسلامي، فقد أسست جامعة القرويين في مدينة فاس المغربية عام 859 ميلادي، وهي واحدة من أقدم الجامعات في العالم والتي ما تزال قائمة حتى اليوم، إلا أنه ولقرون عدة، حُرمت الفتيات العربيات التعليم، إلى أن “بدأ الاهتمام بتعليم المرأة في العصر الحديث على يد محمد علي في مصر الذي سعى في إنشاء مدرسة للحكيمات، ولم تُقبِل عليها المصريات بسبب الأعراف والتقاليد السائدة التي كانت تمنع تعليم المرأة، وجلب محمد علي لها السودانيات “فلم يصادف تعليم البنات تسهيلًا في عصره، حتى اضطر إلى إصدار أمره في نوفمبر 1831 بشراء عشر جواري سودانيات صغيرات السن، ينتخبن بمعرفة كلوت بك، لتلقي فن الولادة”(4). وبعدها بمدة أقدمت بنات الذوات على تعلم فن الولادة، والإقبال على التعليم، لكن تعليم البنات تعليمًا عامًا وليس في الطب فقط، كان في زمن الخديوي إسماعيل (1879-1863)، حيث تم إنشاء أول مدرسة لتعليم البنات. وبرزت عدة أسماء مُهمة من أقطاب الحركة النسائية في هذه الفترة، وكان لهن إسهامات فكرية وكتابية مهمة ودورًا أساسيًا في الدفع لتعليم المرأة وحصولها على حقوقها، منهن: زينب فواز، نظيرة زين الدين، مي زيادة، لبيبة هاشم، هدى شعراوي، نبوية موسى، باحثة البادية، درية شفيق، وعائشة التيمورية.
إقرأ أيضًا: لماذا لا تكون المرأة نبيا أو رسولا؟
وفي العصر الحديث كان لكتابات بعض المفكرات العربيات الأثر المهم في تطوير الفكر الاجتماعي والنسوي، ومنهن:
- فاطمة المرنيسي (المغربية) التي كتبت عديدًا من الأعمال التي تناولت مكانة المرأة في المجتمع العربي، ودور الثقافة والسلطة في تكوين تلك المكانة.
- ونوال السعداوي (المصرية) التي تركزت أعمالها في موضوعات حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين.
ومن الملاحظ أن قوة المرأة العربية وحضورها في الكتابات الأدبية الإبداعية، دومًا ما يُهيمن على انتاجاتها المعرفية، منذ الحقب الزمنية الفائتة وحتى الآن.
العرب في التاريخ الفلسفي (الاعتراف المحدود)
وفي واقع الأمر، لم يكن للعرب قبل اتصالهم بالحضارة اليونانية فلسفة معينة، حتى أن كلمة فلسفة -وهي تدل على علم الأشياء بمبادئها وعللها الأولى- ليست كلمة عربية، وإنما هي من الدخيل، وأصلها في اليونانية (فيلو صوفيا) أي محبة الحكمة. وإذا كان معظم المؤرخين العرب يسمون العلوم الفلسفية بالعلوم الدخيلة، فمرد ذلك إلى أن تلك العلوم لم تزدهر في الإسلام، إلا بعد ترجمة كتب اليونان(5).
وقد عرف التاريخ الفلسفي العربي عدة فلاسفة اعتُرف بهم عالميًا مثال:
- ابن باجة (1109م – م1085) الذي كان لُغويًا وشاعرًا وموسيقيًا وفيلسوفًا، والذي نَظَّر في علم النفس أو بشكل أوسع في علم الإنسان.
- ابن رشد، وُلِدَ في قرطبة سنة (1126 م) الذي يُعد في المقام الأول الشارح الأكبر لأرسطو، والذي وُشِيَ به عند السلطان أبو يوسف يعقوب الذي حاكمه على نصوص كتبها وأخرجه مُهانًا من مجلسه، ما أدخله في محنته المعروفة.
- الكِنْدِيُّ المُلقب بـ “فيلسوف العرب” الذي اشتهر في عهد خلافة المأمون سنة (833م)، والذي كان أول من دمج بين الفكر اليوناني والفكر الديني الإسلامي وفلسفات العلوم، تاركًا رسائل وشروحات عديدة في الكيمياء.
- الفارابي الذي تفلسف في الإلهيات وتحدث عن المدينة الفاضلة بوصفها نظامًا سياسيًا.
- ابن سينا (1037 م- 428م ) الذي برز في الطب ولُقِّبَ بجالينوس العرب.
- البيروني (1050م-441م) الذي نَظَّرَ في الكيمياء.
- الرازي الذي تُوفي عام (925م) والذي اشتغل في الطب والكيمياء والفلسفة(6).
يذكر أنّنا اخترنا أبرز الفلاسفة في تلك الحقبة، وبقي عديدٌ منهم لم نأتِ على ذكرهم.
وقد انقطعت صلة العرب بتراثهم الفكري بعامة والفلسفي منه بخاصة، في أعقاب أفول نجمهم السياسي، حتى قبل انهيار الإمبراطورية العباسية وسقوط بغداد سنة 1258 م. ومع ذلك فقد كان هذا الحدث التاريخي المهم مرحلة حاسمة في تاريخ العرب السياسي والفكري، لأنه اقترن بتقلص ظل السلطة التي بسطوها على معظم أصقاع الشرق، وتفكك تلك المجموعة السياسية التي طبعوها بطابعهم منذ أواسط القرن السابع، والتي ازدهرت في ظلها الآداب والعلوم والفلسفة مدى نحو خمسة قرون. هذا في الشرق، أما في الغرب فقد كان سقوط قرطبة سنة 1237 م بمنزلة إيذان بانطواء تلك الصفحة السياسية والفكرية المجيدة التي سطرها العرب في الأندلس(7).
وفي التاريخ الحديث عمل العرب في الفلسفة والتفلسف، غير أن أحدًا منهم لم يُصنف فيلسوفًا، ويلاحظ في هذا الصدد أمرين:
- أولهما، هو في كون تعريف الفيلسوف إنما بات مُعطى وصفة تأخذ شرعيتها ومشروعيتها من الغرب الذي تقدم فلسفيًا وعلميًا.
- وثانيهما، وإلى جانب الانسياق إلى نظرة وتصنيف الغرب، ابتعاد العرب عن التوجهات الفلسفية العالمية الراهنة، التي أخذت في تصنيف الفلسفة بوصفها فعلَ مراقبة يومي للحياة المُعاشة، وفي كون الفيلسوف الشخص الأجدر على مقاربة مشاكل وقضايا عصره. ومن هنا برز بعض الفلاسفة الغربيين أمثال: لوك فيري وميشال أونفري وغيرهم… فيما بقيت الفلسفة العربية في جمودها لناحية التمسك بالمسائل التاريخية التي تُصنفها فلسفةً، ورفض كل ما عداها من تصنيفات لموضوعات فلسفية.
في المخلص يظهر أن غياب فيلسوفة عربية بارزة يعكس تحديات معقدة تتداخل فيها العوامل الثقافية الاجتماعية والتاريخية، السبب الرئيس في عدة عوامل مترابطة، مثل:
- تدهور دور المرأة الفكري عالميًا في فترات تاريخية كبيرة
- وإقصاء المرأة عن التعليم لعدة قرون
- والتحولات السياسية والاجتماعية التي أثرت في الفلسفة العربية بعامة.
وتبني التصنيفات والفلسفات الغربية على حساب الفلسفة العربية، وإلى جمود التفكير الفلسفي العربي في ناحية التصنيفات الفلسفية، في حين كانت المرأة العربية قادرة على الإسهام في عديدٍ من المجالات الفكرية والاجتماعية، رغم غياب تمثيلها الفلسفي بوصفها فيلسوفة مقارنة بنظيراتها في الغرب. ومع ذلك يبقى الأمل في أن يشهد المستقبل ظهور مزيدٍ من الفلاسفة والفيلسوفات العربيات اللواتي يُمكن أن يُسهمن إسهامًا كبيرًا في تطوير الفكر الفلسفي العربي والعالمي.
المراجع:
إمام عبد الفتاح إمام، أرسطو والمرأة، مكتبة مدبولي، ط1، 1996، ص87.
انظر، Les grandes Penseuses, les grands dossiers Sciences Humaines, Trimestriel N.71- Juin-Juillet-Aout 2023.
جمار- jummar، موقع صحافي عراقي Jummar. Media :
أحمد سالم، المرأة في الفكر العربي الحديث (قراءة في معارك عصر النهضة)، روابط للنشر والتوزيع، ط1، 2018، ص17.
جميل صليبا، تاريخ الفلسفة العربية، الشركة العالمية للكتاب، ط3، 1995، ص14.
انظر، عبد الرحمن بدوي، الفلسفة والفلاسفة في الحضارة العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1987.
ماجد فخري، دراسات في الفكر العربي، دار النهار، 1970، ص198.