تكوين
أثار مسلسل معاوية جدلًا ضخمًا بين المشاهدين في وسائل التواصل الاجتماعي. يناقشون المتابعون قضايا مختلفة: فهناك من تكلموا عن إمكان تصوير الصحابة وعرض حياتهم في عمل فني، وهم انقسموا إلى فريقين: الأول، يرفض تمامًا عرض حياة الصحابة في عمل فني، ويُمثلُ هذا الفريق (الأزهر) الذي حرَّم تجسيد الأنبياء والصحابة وتمثيلهم، أما الفريق الآخر، وهم بقية المُتلقين من الجمهور بمختلف تصنيفاته، فقد أقبلوا على العمل، وبدأوا يتجادلوا في الأبعاد السياسية لفترة حكم معاوية نفسه وتأثيرها في واقعنا السياسي الحالي، فالغريب أن المسلسل قد أعاد الصراع بين شيعة عليٍّ وأنصارُ معاوية وأظهرهُ بوضوح في مواقع التواصل الاجتماعي، فقد انقسم مشاهدو العمل إلى فريقين: فمنهم من يرى العمل مُسيئًّا إلى بني أمية، وهم سعيدون بذلك. وفريق آخر يرى أن العمل نفسه يمدحُ بني أمية وهم سعيدون بذلك أيضًا، بل نجدُ الفريقين ينشرُ كلٌّ منهما الصور نفسها ويكتبون عنها تعليقات مختلفة تُعبر عن وجهة نظرهم لا عما يرونه أمامهم، مثال ذلك صورة هند بنت عتبة الشهيرة التي ترفع فيها سيفها مبتسمةً! مما يدلُّ على هيمنة الأفكار المُسبقة لكل فريق وطغيانها على تلقيهم للعمل الفني، فأصبح العملُ بوصفه فنيًّا غير مهم، ربما كان هذا هو السبب في انعدام الدقة في التفاصيل التاريخية بعامة، والشكلية منها بخاصة، مثل: أزياء الممثلين ونمط معيشتهم الذي لا يوافق ما كان عليه الصحابة وقتها؟
ولنفهم سبب تلك الجدالات والنقاشات عن المسلسل، علينا أن نعود تاريخيًّا ونستعرض سريعًا الفترة التاريخية المؤسسة لهذا المسلسل والتاريخ الإسلامي بأكمله، وهي أحداث (الفتنة الكبرى)، لنسأل سؤالًا جوهريًّا: هل تؤثر أحداث الماضي في الحاضر الذي نعيشه اليوم؟ وهل ما حدث كان صراعًا دينيًّا أو سياسيًّا أو ربما كليهما معًا؟ هل انتهت الفتنة الكبرى، أم أننا ما نزال نعيشُ أحداثها إلى اليوم؟
إذا عدنا إلى أحداث الفتنة الكبرى، سوف نجدُ أن أحداث الماضي ما تزال مستمرة ولكن بصور مختلفة، فبعد أن وحَّد محمد -صلى الله عليه وسلم- رسول الإسلام العرب، بعد أن كانوا قبائل متفرقة ومتصارعة، ليتفرقوا مجددًا في عصر السلف الصالح، فبدأت بوادر الانقسام تظهر منذ حادثة مقتل عثمان بن عفان وصولًا إلى حكم يزيد بن معاوية العرب، وانقسموا إلى ما نصطلح على تسميتهم اليوم: (السنة والشيعة) بفرقهم المختلفة، تلك القسمة التي لا نزال نعيش تبعياتها إلى اليوم في مستويات عديدة منها السياسي والديني، لذلك تبرز أهمية العودة التاريخية وإعادة قراءة التاريخ الإسلامي بمناهج مختلفة، وما التمثيل الفني لهذا التاريخ سوى البداءة التي تفتح الباب الذي نعود منه إلى الماضي، لكنها بداءة غير كافية، فهي لن تؤدِّ إلى شيء طالما نحن مقطوعون الصلة بتاريخينا، بل وإن اتصلنا به وأعدنا قراءته، فإنما نقرأه قراءة تقليدية بالمناهج نفسها التي استخدمها السابقون، منتظرين استخراج مفاهيم مختلفة، وذلك بالطبع لن يحدث، فربما ينبغي لنا أن نُغير مناهجنا حتى تتغير مفاهيمنا، أو بمعنى آخر إذا أردنا الخروج بنتائج مختلفة، ومن ثم نتمكن من حل المشاكل التاريخية التي نرى آثارها في واقعنا اليوم.
من هو معاوية؟
اسمه ونسبه، هو معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي.
وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي، ويُكنى معاوية أبا عبد الرحمن. وتذكرُ الروايات التاريخية أنه كان يكتم إسلامه عن أبيه أبو سفيان، وأعرب عن إسلامه حين دخل رسول الله مكة عام الفتح يقول معاوية: (فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَكة عام الفتح، فأظهرت إسلامي ولقيته فرَحَّب بي). وروى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحاديث، وقد وَلَّاهُ عثمان بن عفان على الشام كلها أميرًا حتى قُتل عثمان. وظلَّ معاوية عشرين عامًا واليًا على الشام، ثم أصبحَ خليفةً للمسلمين بعد الصراع الشهير بينه وبين علي بن أبي طالب عليه السلام وتداعياته، ولم يزل خليفة عشرين سنة حتى مات سنة ستين وهو يومئذ ابن ثمان وسبعين سنة. أنظر (ص285 – كتاب الطبقات الكبرى).
بداية أحداث الفتنة الكبرى
يعدُ معاوية من أشهر الصحابة بسبب ما أحدثه في التاريخ الإسلامي من تغيير لا نزال نعيش آثاره حتى الآن، فبعد مقتل عثمان نجده قد نازع عليًّا في الخلافة مُتحججًا بدم عثمان، فقد أراد الاقتصاص من قتلة عثمان لأنه رأى أن عليًّا لم يفعل ذلك بالطريقة الملائمة، ورفع شعاره الشهير (القصاص أولًا ثم البيعة)، وبسبب ذاك الفعل الديني/السياسي الذي أحدثهُ معاوية، انقسم المسلمون انقسامًا حقيقيًّا ولأول مرة إلى فريقين: فريق يؤيدُ حقَّ عليٍّ في الخلافة ويدافع عنه، وفريقٌ آخر يؤيد حُجة معاوية ويُباعهُ، وسوف تُعرف الفرقتين فيما بعد باسم: السنة والشيعة.
وكان ذلك الانقسام هو السبب الأساسي والدافع الرئيس لكل الأحداث الأخرى الدموية المُتتابعة التي سوف تحدثُ في السنوات القادمة بين الصحابة، وهي ما عُرفت باسم أحداث (الفتنة الكبرى)، ونلاحظُ هنا استخدام مُصطلح الفتنة بدلًا من أي مصطلح آخر كالحرب، وذلك لأن الفريقان كانا فريقًا واحدًا، كانوا كأفراد العائلة الواحدة وقد اشتعل صراعٌ بينهم، لكن في هذا الصراع لا يوجد فريقٌ منهم على حقٍ والآخر على باطل، فكلاهما على حق! هكذا تعامل المؤرخون المسلمون مع تلك الأحداث.
لذلك نجدُ أن تسمية الفتنة ملائمةٌ أكثر لوصف ما حدث بينهم، لأن الحرب تحدث بين طرف نراهُ على حق ونرى الطرف الآخر على باطل، لكن الطرفان كانا من الصحابة كذلك من أيَّدهم كانوا من الصحابة، وذلك هو المفهوم الذي استنتجهُ المؤرخون المسلمون من رؤيتهم المنهجية لما حدث في التاريخ الإسلامي، منهج يُعالج تلك الأحداث التاريخية بوصفها مُقدَّسة وأنها أحداثٌ وقعت بين أشخاص مقدَّسين كذلك، ومن تلك الطريقة خرجت لنا مفاهيم كالصحابة وأن الصراع الذي حدث كان بين فريقين كلاهما على حق، ومن ثم ظلت المشكلة بلا حل واضح من وقتها إلى يوم عرض المسلسل، وسوف تظلُّ كذلك ما لم نُغير الطريقة التي ننظر بها إلى التاريخ العربي والإسلامي.
معركة الجمل (36هـ / 656م)
وبدأت تظهرُ أولى نتائج ذاك الانقسام في المعركة التي قادها كلٌّ من (طلحة والزبير وعائشة زوجة الرسول وابنة أبي بكر الصديق) ضد عليٍّ وشيعته، مطالبين بما دعا إليه معاوية، وهو القصاص من قتلة عثمان، لتنتهي المعركة بين الجيشين بمقتل اثنان من أهم الصحابة -المبشرين بالجنة- وهم طلحة والزبير، وانتصار عليٍّ وفريقه.
معركة صفين (37هـ / 657م)
لتبدأ الأحداث تتصاعد أكثر في السنة التي تليها، لكن تلك المرة تتنحى عائشة عن قيادة الجيش ليقودَ الجيش المضاد لعليٍّ معاوية نفسه، وظلَّ القتال بين الجيشين عدة أشهر، إلى أن رفع جيش معاوية المصاحف على أسنة الرماح مطالبين بالتحكيم، ويعني ذلك المصطلح أن يخرج من كلا الفريقين حَكَمٌ يرتضونه ليُحلَّ هذا الخلاف الذي كان سببًا في الحرب، وقد اترضى فريق عليٍّ بأبي موسى الأشعري، وارتضى فريق معاوية بعمرو بن العاص، لكن تفشلُ عملية التحكيم وينتصرُ معاوية فيها انتصارًا سياسيًا، مُستفيدًا بالانقسام الذي حدث داخل جيش علي، فقد ظهرَ حينها الخوارج، وسموا هكذا لخروجهم على الإمام عليٍّ، لأنهم رفضوا لجوؤهُ إلى التحكيم وكفروه بسبب ذلك، لينتهي الصراع في النهاية بمقتل الإمام عليٍّ عام 40 هـ على يد الخوارج في معركة النهروان، وتنصيب معاوية حاكمًا للمسلمين بعد تنازل الحسن بن عليٍّ عنها وفق شروط اتفق عليها كلاهما عام 41 هـ الذي سُميَ بعام (الجماعة) لأن الانقسام الذي حدث بين المسلمين قد انتهى وتوحد المسلمون مرة أخرى تحت حكم شخصٍ واحدٍ.
عودة الانقسام مرة أخرى، واقعة كربلاء الدامية (61هـ / 680م)
لم يمضِ على صلح عام الجماعة كثيرٌ من السنوات حتى يحدث الشقاق مرة أخرى بين المسلمين، والسبب في ذلك هو مخالفة معاوية لأحد شروط التنازل عن الخلافة التي وافق عليها مع الحسن بن علي، وهو ألا يُوَرِّثَ الحكم بعده، وأن تعود الخلافة شورى بين المسلمين.
لكن معاوية لم يلتزم بالاتفاق ونقلَ الحكم إلى ابنه يزيد بعد وفاته، وهو ما عارضه الحسين بن عليٍّ، ليبدأ بعدها الانقسام مرة أخرى الذي نتج عنه الصراع الشهير بين الحسين ويزيد، لنصل إلى قمة هذا الصراع في واقعة كربلاء (61هـ / 680م) ويبدأ القتال فيها بين جيش يزيد الضخم مقارنةً بالمجموعة الصغيرة التي كانت برفقة الحُسين والتي كان فيها أفرادٌ من عائلته، فالحسين لم يكن متوجهًا ليحارب، إنما ليُبايعه أهل الكوفة في العراق على الخلافة، لكن جيش الأمويين اعترض طريقهم وحاصرهم في منطقة كربلاء وبدأ يقاتلهم، يوم عاشوراء، الذي قُتل فيه الحسين وأنصاره واحدًا تلو الآخر، كما كان من بين الذين قُتلوا أفرادٌ من أهل بيته، وينتهي القتال باستشهاد الحسين مُدافعًا عن عشيرته، وقُطعت بعدها رأسه لتُرسلَ إلى يزيد في دمشق، وسبى جيش يزيد النساء والأطفال المتبقيين وكانت زينب ابنة عليٍّ ضمنهم.
خاتمة وتساؤلات
كانت تلك المعركة هي آخر أحداث الفتنة الكبرى من وجهة نظر المؤرخين المسلمين، لكن هل لا نزال نعيش أحداث تلك الفتنة إلى اليوم؟ فالانقسام الذي حدث بين المسلمين إلى شيعة وسنة، وتفريقهم في العقيدة والسياسة وكل أشكال الحياة الأخرى، فلا يكتفي المرء اليوم بإسلامه فحسب، بل يكون أمام المسلم خيارين أوليين: إما أن يكون مُسلمًا سُنيًا أو يكون مُسلمًا شِيعيًا، ثم يُقرر بعد ذلك انتماءه داخل الفرقة نفسها إلى أي شكلٍ عقائديٍّ وفقهيٍّ.
لكن هل كانت تلك التفرقة ستحدثُ لو لم يُقتل عليٌّ؟ ماذا لو كان انتصرَ على معاوية؟ بل ماذا لو لم يدخل بنو أميةَ الإسلام؟ هل سوف يتبدلُ شكل نظام العلاقات الدولية بالكامل؟ فلن تكون هناك إيران الشيعية في مقابل أهل السنة العرب؟
هل كانت ستتغير الطريقة التي يقرأ بها المسلمون تاريخهم؟ فلو ظلَّ المسلمون متوحدون ولم تحدث هذه الفتنة الكبرى، لو استمرَّ عليٌّ في الخلافة وانصاع له معاوية، ربما كانت استكملت الشورى ليأتي الخليفة بعد عليٍّ نتيجة لها بوصفها نظامًا سياسيًا يُميزُ العرب والمسلمين، تشبه الوسيلة السياسية الغريبة الأشهر وهي الديموقراطية، ولربما تطورت الشورى واختلفت أشكالها مع مر الزمان والأحداث التاريخية والاختلافات الدينية السياسية التي تحدثُ في الأمة العربية، ربما أصبحَ لدينا الآن شكلًا مختلفًا للحكم في دولنا العربية والإسلامية، بدل أن نستورد أنظمة حكم غربية نشأت وتطورت في بيئات مختلفة عنا، ربما كان لهذا التفاعل السياسي تأثيرًا في الوعي ومن ثمَّ يتكون لدى العرب والمسلمين اختلافات في منهجيات الوعي نتيجة التأثير التبادلي بين السياسية وباقي مجالات الحياة، فتغيير واحد صغيرٌ كهذا سوف يؤثر تأثيرًا كبيرًا في الوعي العربي نفسه وتكوينه وطريقه تفاعل هذا الوعي مع العالم حوله، وقبل ذلك طريقة تفاعله مع ذاته.
هل مسموح لنا بالقول بأن معاوية قد بدأ الصراع ورسخهُ؟ صراع أكدهُ بنو أمية بوصفه صراعًا مقدسًا حارمين المسلمين النظر في تاريخهم بطريقة مختلفة غير الطريقة التي ننظرُ بها إلى التاريخ الآن؟ هل ما حدث كان صراعًا بين الدنيا والآخرة أو بين السياسة والدين؟ ومن انتصر في النهاية؟ هل استخدمت السياسة الدين؟ وما هي الكيفية التي يمكنُ لها أن تحدث حتى ننظر إلى تلك الأحداث ونقرأها بطريقة مختلفة؟ هل كان لبنو أمية دورًا في دعم الطريقة المُقدسة وتأكيدها لإكساب حكمهم الشرعية بين عموم المسلمين؟
ماذا لو انتصر الحسين على يزيد؟ هل كان لمفهوم المهدي أن يظهر؟ فهو كان نتيجةً للطريقة التي رفض بها الشيعة ما حدث لعلي وبنوه، ولو لم يظهر مفهوم المهدي لن يظهر أيضًا مفهوم ولاية الفقيه؟ هل كنا سنشهدُ ظهور الشيعة الإسماعيلية التي خرجت منها فرقة الحشاشين الشهيرة التي صُورت عملًا فنيًا أيضًا كان مثارًا للجدل العام الماضي؟
حتى نُجيب عن كل تلك الأسئلة وغيرها الكثير، ينبغي لنا أن نعود إلى الوراء دائمًا، لنبحث عن أسباب المشاكل التي نعيشها اليوم، ومعالجة تلك الأسباب بطرق مختلفة ومتعددة، فتلك الطرق أو المناهج المختلفة في قراءة الماضي وأحداثه سوف تُعيد فتح إمكانات العرب المسلمين لخلق واقعٍ مُغاير ينطلقوا منه نحو مستقبل مختلف عن الماضي ذو الإمكان الواحد الذي عاشوا فيه لأكثر من 1400سنة! وإلى أن نفعل ذلك سوف تظلُّ أحداث الفتنة الكبرى وحضور معاوية مؤثرًا في واقعنا ومثيرًا للجدل والنقاش اليوم وغدًا!