تكوين
يلاحظ الناظر في سيرة حركات تحرير المرأة في العالم الإسلامي اختلاف مشارب تلك الحركات وتداخلها: مشارب اجتماعية وحقوقية ودينية…، ولئن كانت أولى محاولات تحسين أوضاع المرأة قد استندت إلى روح الإسلام وإلى بعض المقاطع القرآنية وروايات الحديث أو وقائع السنّة أو تاريخ بعض الصّحابيات أو تراجم بعض النساء الرائدات في التاريخ الإسلامي، فإنها لم تكن محاولات نسقيّة، أي أنها لم تدّع أنّ الإسلام – مهما كان فهمها لحدود الإسلام النصية والتاريخية- يكفل المساواة بين الجنسين، وإنما كانت واعية بجهدها الانتقائي وعملها التأويلي وهدفها التحديثي. ولم تظهر النزعة النسقيّة إلا مع ظهور تيّار النسوية المسلمة أو الإسلامية، وهو تيار يؤسس جميع مطالب الحركة النسوية الحديثة على النصوص الدينية الإسلامية، وعلى القرآن بصفة خاصة، متأثرا في ذلك بالنسوية الدينية المسيحية واليهودية[1]. وقد ظهر هذا التيار في الفكر الإسلامي نهاية القرن العشرين وانتشر مطلع القرن الحالي، مستفيدا من تخصّص عدد من النساء المسلمات في القضايا الدينية دراسة وتدريسا. وهو إلى ذلك تيار يرفض الاستناد إلى غير الدين في الدفاع عن حقوق النساء. فلا يحتج بحجّة الواقع، ولا بالنصوص القانونية الحديثة ولا بفلسفات التنوير، وإنما هو تيار يتشبث بإعادة تفسير القرآن تفسيرا يمكّن المرأة المسلمة المعاصرة من المساواة مع الرجل، وهو بهذا المعنى تيار نسوي إسلامي.
وقد اخترنا في هذا المقال تمحيص النظر في مدى جدوى هذا الاختيار بتقليب سؤالين اثنين هما:
– مدى وفاء القراءة النسوية الإسلامية للقرآن؟
– مدى وفاء القراءة النسوية الإسلامية للنساء في مطلبهن الأساسي وهو المساواة؟
وهو تمحيص سنعتمد فيه على كتاب أمينة ودود “القرآن والمرأة”[2] بوصفه من أكثر كتب النسوية الإسلامية رواجا وتأثيرا.
1-مدى وفاء النسوية الإسلامية للقرآن:
إنّ الحديث عن مدى وفاء تفسير ما أو تأويل ما للنص الأصلي يعني ضمنيا حيازتنا للمعنى الأصلي للنص وقدرتنا بالتالي على قياس درجة اقتراب تفسير ما أو تأويل ما من ذلك المعنى الأصلي. وهذ أمر لا يستقيم في ما يتعلق بجميع النصوص التي تستخدم الدوال الكثيفة ذات المعنى المتعدد كالنصوص الأدبية والنصوص الدينية. ولكن هذا التعدد لا يعني البتّة أنّ أمر المعنى موكول إلى حرية القارئ، ولا يعني البتة أنّ هذه النصوص سائبة المعنى، لا يحدها حدّ ولا يضبطها قانون. وإنما الراجح عندنا أنّ للمعنى ضوابط وللتأويل معقولية يستمدّها من درجة وفاء القراءة للألفاظ ولسياقاتها النصية والتاريخية. ويزداد هذا الأمر رسوخا في الباب الذي نحن بصدده، فالنسوية حركة حقوقية، ولا نعتقد أنّ الحقوق ميدان يخضع لحرية القراءة وتعدّد المعنى تعددا يبلغ درجة غياب الحدود الضابطة. وعموما، فباستثناء بعض الاتجاهات الغنوصية كالتصوف مثلا والحركات الباطنية، فإنّ جميع قراءات النص الديني تخضع لمعقولية التناسق بين النصّ المقروء والمعنى المستفاد منه. وقد نمثل لذلك في قراءة القرآن بمثال قضية الجبر والاختيار. فلا شك في أنّ انصار الجبر لا يمكنهم أن يحتجّوا بمثل الآية: “مَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شَاَء فَلْيَكْفُرْ” ( الكهف 18/29)، ولا شك كذلك في أنّ أنصار الاختيار لا يمكنهم الاحتجاج بمثل الآية: “ومَا تَشاؤُونَ إلّا أنْ يَشَاءَ اللهُ” (التكوير 81/29). وقد نمثل لذلك أيضا بمثال كراهة القرآن للميسر أو للخمر أو للزنى، فلا شك في أنّ لا أحد يمكنه عدّ الخمر والميسر والزنى من المندوبات في القرآن بحجّة تعدّد المعنى وحرية القراءة. إنّ قراءة تدّعي مثل ذلك ستكون معدودة ضمن القراءات المخالفة للقرآن نصّا وروحا. يفيدنا هذان المثالان في تقليب السؤال الذي انطلقنا منه وهو مدى وفاء القراءة النسوية الإسلامية للقرآن؟
إقرأ أيضاً: لماذا لا تكون المرأة نبيا أو رسولا؟
تتناول النسوية الإسلامية العلاقة الزوجية من منظور جديد هو المساواة في الحقوق والواجبات بين الزوجين. وفي هذا السياق تحاول هذه النسوية استخدام الآيات القرآنية وتطويعها لخدمة هذا المنظور الجديد. ومن هذه الآيات الآية: “واللّاتي َتَخافُونَ نُشُوزَهُنّ فعِظُوهُنّ واهْجُرُوهنّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ فإنْ أَطَعْنَكُمْ فلا تَبْغُوا عَلَيْهنّ سَبِيلا” (النساء4/34). وهي آية تبيح للزوج ضرب زوجته. بيد أنّ إصرار النسويات المسلمات على إنطاق القرآن بما يفيد عكس ذلك قد جعل بعضهنّ يذهبن في قراءة هذه الآية مذهبا يبدو لنا متهافتا، من ذلك قول أمينة ودود: ” لا يمكن إغفال أنّ الآية 4/34 ذكرت الاقتراح الثالث الذي يستخدم كلمة ضرب. وطبقا للسان العرب، فإنّ كلمة ضرب لا تعني بالضرورة القوة أو العنف، وقد تم استخدامها في القرآن على سبيل المثال في عبارة “ضرب الله مثلا” كما تم استخدامها أيضا عندما يهاجر المرء أو يضرب في الأرض…وفي ضوء العنف المفرط تجاه المرأة المبين في سِير الصحابة والعادات التي استنكرها القرآن (مثل وأد البنات) ينبغي أن تؤخذ هذه الآية على أنها تحرّم العنف الجامح ضد الإناث. وبالتالي لا يعتبر هذا إذنا وإنما قيدا صارما على العادات الموجودة”[3]. وتضيف إلى ذلك أن القرآن يفضّل حلّ الصلح في حال نشوز الزوج أو الزوجة، مستندة إلى الآيتين في سورة النساء 4/34 و128.
تبدو لنا هذه القراءة مثالا ساطعا على إهدار الدلالة القرآنية لصالح دلالة جديدة مسقطة على القرآن إسقاطا، فلا شيء في الآية يسمح بفهم الضرب بمعنى ذكر الأمثال والمواعظ، ولا بمعنى السفر والسياحة في الأرض، ثم لا شيء في الآية يوحي بتحريم ضرب الزوج لزوجته ولا بوضع قيد على الضرب. أما المقارنة بين الآيتين في سورة النساء 4/34 و128 فلا يمكن أن تقود إلا إلى ملاحظة التمييز القرآني بين حالة نشوز الزوجة، وحلّها: الوعظ/ الصلح، أو الهجر، أو الضرب، وحالة نشوز الزوج ، وحلها الصلح لا غير.
تقدّم أمينة ودود مثالا آخر لهذه القراءة التي تُنطق القرآن بغير ما نطق به، وتتعلق بالجزاء الأخروي. فالكاتبة تذهب إلى أنّ الجزاء الجنسي (المتعة الجنسية ) في الجنة لا تعني البتة تمتّع الرجال بالحور العين، وإنما تعني تمتّع كل المؤمنين رجالا ونساء بأزواج مطهّرة، مشدّدة على أن لفظ زوج في اللغة العربية يعني الذكورة والأنوثة. وبهذه القراءة، فإن أمينة ودود تسعى إلى التأكيد على المساواة بين الرجال والنساء في المصير الأخروي. أما حجّة امينة ودود على ما تذهب إليه فتتمثل في أنّ الحور العين من بنات القرآن المكّي، أما الأزواج المطهّرة فمن إحداثات القرآن المدني. ولعل خطأ المفسرين حسب رأيها كامن في مساواتهم بين الأزواج وبين الحوريات. ثم إنّ لفظ الأزواج المستخدم يعني في ما يعنيه ميل القرآن إلى التأكيد على تجاوز المتعة الحسية الجنسية : “يعني استخدام “أنتم وازواجكم” : أنتم وكل من هو متزاوج معكم بسبب الإيمان والأعمال والطبيعة المتشابهة…والتأكيد بعدئذ منصبّ على الشراكة والصداقة والترف والتآلف في الجنة، كمقابل للعزلة والوحدة والقنوط المتعلّق بجهنم”[4].
يبدو لنا أنّ كل قارئ للقرآن سيلاحظ بيسر أن هذه المعاني مسقطة على القرآن إسقاطا، فالحور العين، والمتعة الحسية بصفة عامة، جزء أصيل من صورة الجنة التي يعرضها القرآن. ولا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار اهتمام الخطاب القرآني بأماني الرجال على حساب أماني النساء في ما يتعلق بنعيم الجنة[5].
2- مدى وفاء النسوية الإسلامية للنساء في مطلبهن الأساسي وهو المساواة؟
إنّ كل جهد تبذله الحركة النسوية على اختلاف منطلقاتها في شتى أصقاع العالم المعاصر إنما الغاية منه تحقيق المساواة بين الرجال والنساء. وفي هذا الإطار تندرج محاولات النسوية الدينية، ومن ضمنها النسوية الإسلامية. بيد أننا قد لاحظنا تخليا عن هذا المطلب في تفاصيل ما كتبته أمينة ودود رغم تعلقها بمطلب المساواة، بل رغم أنها قد بنت كتابها على المساواة في مراحل الكينونة الثلاث الأساسية: في بدء الخلق، وفي الحياة الدنيا، وفي المصير الأخروي.
من مظاهر هذا التخلّي عن مطلب المساواة، الإقرار بعدم المساواة بين الرجال والنساء في إجراءات الطلاق. تقول أمينة ودود: “من الضروري دراسة الآية الوحيدة التي تميّز الدّرجة بين الرجال والنساء: “والمُطلَّقات يتربّصن بأنفُسِهنّ ثلاثة قروء ولا يحلُّ لهنّ أنْ يَكْتُمْنَ ما خلقَ اللهُ في أرْحامِهنّ إنْ كُنَّ يؤمنّ بالله واليومِ الآخرِ وبُعُولَتُهُنّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذلك إنْ أرادُوا إصلاحا ولهُنّ مِثْلُ الذي عليهنّ بالمعروف وللرّجالِ عليهنّ درجةٌ والله عزيزٌ حكيمٌ” (2: 228) . لقد نُظِر إلى هذه الآية على أنّها تعني أنّ الدّرجة توجد بين جميع الرجال وجميع النساء في كل بيئة، غير أنّ سياق العرض يعتبر بشكل واضح أنّه متعلّق بالطلاق، حيث للرجال ميزة على النساء. وفي القرآن تتمثل الميزة في القدرة بشكل فردي على تلفّظ الطلاق ضد زوجاتهم دون تحكيم أو مساعدة، وعلى الجانب الآخر لا تطلّق المرأة إلا بعد تدخّل السلطة (مثل القاضي). وإذا ما أخذنا التفاصيل المذكورة بعين الاعتبار، فلا بد من قصر لفظ درجة في هذه الآية على الموضوع المتناول حيث أنّ نسب قيمة غير مقيَّدة لجنس على الجنس الآخر يناقض المساواة القائمة في القرآن جميعه في ما يتعلق بالفرد”[6] .
ومن مظاهرها أيضا الإقرار بقوامة الرجال على النساء شرط الإنفاق، والإقرار بمضاعفة نصيب الرجال من الميراث مقارنة بميراث المرأة، والطريف أن تربط المؤلفة بين الأمريْن، فتقول: “ثمة علاقة متبادلة بين المسؤوليات والامتيازات. فالرجال مسؤولون عن الإنفاق من أموالهم لإعالة النساء، وبالتالي تم منحهم نصيبا مضاعفا من الميراث”[7].
يمكن أن نذكر صورا أخرى من مظاهر التخلي عن مطلب المساواة، وردت مبثوثة في كتاب أمينة ودود، شأن تعليقها على الآية: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه واسْتَشْهِدُوا شَهِيديْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فإنْ لَمْ يَكونا رجُلَيْن فرَجُلٌ وامْرَاتان مِمّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أنْ تَضِلَّ إحْدَاهُما فتُذَكِّر إحداهما الأُخْرى” (البقرة2/ 282) بالقول: “تعتبر الأهمية الخاصة بالشهود في هذه الآية مقصورة على أنواع معينة من العقود المالية، ولم يقصد تطبيقها كقاعدة عامة”[8].
لقد حرصت الكاتبة على تصوير بعض مظاهر التمييز بين المرأة والرجل بوصفها حالات خاصة جزئية تُطبّق في حالات بعينها دون أن تكون قاعدة عامّة. ولكنّ التفريط في المساواة في وجه من وجوه الحقوق والواجبات القانونية، يعني حتما فتح الباب للعبث بقيمة المساواة، وقد تتوسّع الاستثناءات لتعصف بقيمة المساواة عصفا فتقتلعها بحجّة الحالات الخاصة الجزئية الاستثنائية، فيصبح الاستثناء هو القاعدة.
قائم المراجع:
[1] – انظر: ايفون يازبيك وجون اسبوزيتو: بنات إبراهيم، الفكر النسوي في اليهودية والمسيحية والإسلام، ترجمة عمر بسيوني وهشام سمير، ابن النديم للنشر والتوزيع (الجزائر) ودار الروافد الثقافية – ناشرون (بيروت)، ط1 ، 2018
[2] – أمينة ودود: القرآن والمرأة، إعادة قراءة النص القرآني من منظور نسائي، ترجمة سامية عدنان، مكتبة مدبولي، القاهرة 2006
[3] – أمينة ودود: القرآن والمرأة، ص126
[4] – نفسه، ص ص 100-101
[5] – تنسب مدوّنة الحديث إلى أم عمارة قولها للنبي: “ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء”، ضمن سنن الترمذي، حديث رقم 3211
[6] – أمينة ودود: القرآن والمرأة، ص116-117، والتشديد من عندنا
[7] – نفسه، ص119
[8] – نفسه، ص138