سبق أن ذكرنا أن المشكلة لا تكمن فى اعتقاد كفر المخالف من عدمه، فحرية الاعتقاد مكفولة لكل أحد، خاصة عندما تختلف الأديان؛ إذ يصبح من ضروريات الإيمان بدين ما، تصديقه، والكفر بما سواه، والعقائد لا تقبل المجاملة، ولا المغامرة، هنا تصبح عملية التكفير-خاصة بين الأديان المختلفة- قدر لابد منه، قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)سورة هود. فلكل دين سياج يحيط به، يدخل أفراده، ويمنع ما عداهم، فحينئذ، تكون المشكلة فى كيفية التعامل بين هؤلاء المختلفين، المشكلة فى إدارة هذا الخلاف، وهذا هو محل البحث الآتى:
ماذا يترتب على عملية التكفير، ونسأل:
1-هل كل كافر فى النار؟
2-وهل كل كافر مهدور الدم لا عصمة له؟
3-وهل الكفر يوجب الإحتقار والكراهية والإهانة؟
4-وهل الكفر يوجب التفرقة فى المعاملات المدنية والحقوق والواجبات؟
5-وهل يجوز الدعاء بالرحمة للكافر؟
1-الحكم بدخول الجنة أو النار .
أما عن الحكم لمن خالفنا فى العقيدة، بالجنة، أو النار، فأشد الفرق تعصبًا، لا تسطيع أن تحكم على شخص معين بالجنة؛ لكونه مسلماً، ولا بالنار؛ لكونه كافراً، فالجنة، والنار، هى ملك لله وحده، وليس لنا فيها شيئ، ومن ثم لايجوز الحكم بها على التعيين لأحد.
فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما قُتل أحد اصحابه شهيداً، قالوا قتل فلان، هنيئاً له الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يدركم – أى ما يدريكم أنه من أهل الجنة – فلعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا يغنيه . فمن أين لكم صك الجنة هذا اعتراض رسول الله على هذه الشهادة بالجنة لمسلم صحب النبى وقتل شهيداً وقال منكراً على من قررها ما يدريكم ؟!
وقولهﷺ فى الحديث الصحيح: والذي نفسي بيده، لا يدخل الجنة أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل.
كذلك لا يصح، ولا يجوز، الحكم بالنار على معين، وإن مات على الكفر، فالجنة، والنار، غيب ليس لنا فيه شيئ، والله عز وجل يقول :”وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(الأنعام:59) ويقول أيضاً :”عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(المؤمنون:92).
وقول الحق تبارك وتعالى مبينا أن لا أحد يعلم الغيب، وما هو صائر، وكائن على لسان نبيه: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (سورة الأحقاف آية 9) قال صاحب التحرير والتنوير[1]: فإن قُصَارَى مَا يَدْرِيهِ هُوَ اتِّبَاعُ مَا يُعْلِمُهُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِهِ، وَمِثْلُ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّارِ وَأَنَّ وَرَاءَ الْمَوْتِ بَعْثًا. وَمِثْلُ أَنَّهُ سَيُهَاجِرُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الْفَتْح: 1] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وقال تعالى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) قال الطاهرر بن عاشور[2]: هَذَا ارْتِقَاءٌ فِي التَّبَرُّؤِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ وَمِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْعَالَمِ، وَزِيَادَةٌ مِنَ التَّعْلِيمِ لِلْأُمَّةِ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، وَتَمْيِيزُ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا عَمَّا لَيْسَ مِنْهَا… وَخُصَّ هَذَا الْمَقُولُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَحْوَ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ لِيَقْلِعَ مِنْ عُقُولِ الْمُشْرِكِينَ تَوَهُّمَ مُلَازِمَةِ مَعْرِفَةِ الْغَيْبِ لِصِفَةِ النُّبُوَّةِ، إِعْلَانًا لِلْمُشْرِكِينَ بِالْتِزَامِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِطَاعِنٍ فِي نُبُوَّتِهِ حَتَّى يَسْتَيْئِسُوا مِنْ تَحَدِّيهِ بِذَلِكَ، وَإِعْلَامًا لِلْمُسْلِمِينَ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا تَقْتَضِيهِ النُّبُوَّةُ وَمَا لَا تَقْتَضِيهِ، وَلِذَلِكَ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِهِ الْمُغَيَّبَةِ، فَضْلًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُغَيَّبَاتِ مِنْ أَحْوَالِ غَيْرِهِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ.
فالحكم على العموم، مختلف عن الحكم على الخصوص، فحكم الجنة فى العموم مستحق للمتقينن، كما أن النار مستحقة فى العموم للكافرين، أما الحكم فى الخصوص، والأعيان، فلا ندرى هل هذا من المتقين، أم من الكافرين؛ لنحكم له بجنة، أو نار.
قال ابن مفلح فى الآداب الشرعية-بتصريف- قال الشيخ تقى الدين(ابن تيمية) والمنصوص عن أحمد الذى قرره الخلال: لا نشهد لمعين بجنة ولا نار.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في (طريق الهجرتين) بعد كلامه عن طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم، الذين هم معهم تبعا لهم، قال[3]: الله يقضى بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق. وأما كون زيد بعينه وعمرو بعينه قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله عز وجل وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب.
فلا يمكن لأى أحد أن يحكم على معين بلنار أو الجنة إلا من ورد فيه بنص صريح من الله تعالى أو من رسوله ﷺ مثل قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
قال ابنُ تيميَّةَ فى مجموع الفتاوى[4]: لا يُشهَدُ لِمُعَيَّنٍ بالجنَّةِ إلَّا بدليلٍ خاصٍّ، ولا يُشهَدُ على مُعَيَّنٍ بالنَّارِ إلَّا بدليلٍ خاصٍّ، ولا يُشهَدُ لهم بمجَرَّدِ الظَّنِّ من اندراجِهم في العُمومِ .
وقال أيضًا[5]: إنَّا نُطلِقُ القَوْلَ بنُصوصِ الوَعدِ والوعيدِ والتَّكفيرِ والتَّفسيقِ، ولا نحكُمُ للمُعَيَّنِ بدخولِه في ذلك العامِّ حتى يقومَ فيه المقتضي الذي لا معارِضَ له.
قالت طائفة من أهل العلم[6]: إن عقيدة أهل السنة والجماعة أن لا نشهد لمعين بجنة ولا نار ولو كان من أهل الكفر؛ لأننا لا نعلم حكم الله فيه، لكننا من حيث الحكم الدنيوي نحكم بكفره، وأنه من أصحاب الجحيم على وجه العموم، أما على وجه التعيين فنحتاج إلى نص ودليل.
فمن حكم بالجنة أو النار لمعين فقد تجرأ وقال على الله بلا علم، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}(الإسراء:36)، ومِن القول على الله بلا علم أن يُشهَدَ أوْ يقال أنَّ الله عز وجل لا يغفر لفلان، أو أنَّ فلاناً من أهل الجنة، أو أن فلانا من أهل النار، فهذه المسألة غيبية مدارها على قاعدة الإيمان بالأمور الغيبية، فعن جُندب بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنَّ رَجُلًا قال: واللَّه لا يغْفر اللَّهُ لِفلان، وإنَّ اللَّه تعالى قال: مَن ذا الذي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ، فإنِّي قدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ، وأَحْبَطْتُ عملك) رواه مسلم. قال النووي والقاضي عياض:” معنى (يَتَأَلَّى): يحلف، وَالْأَلْيَةُ اليمين، وفيه دلالة لمذهب أهل السنة في غفران الذنوب بلا توبة إذا شاء الله غفرانها”.
2-هل الكفر مبيح للدم؟
والنهى عن اهدار الدم والقتل لمجرد الخلاف فى العقيدة والكفر ينطق به القرآن فيقول : “وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ” سورة الاسراء آيه 33 ” ومن ثم لا يحق القتل والقتال إلا لمن اعتدى من مسلم أوغيره وبذلك قال جمهور أهل العلم ومنهم ابن تيمية الذى يتخذه الارهابيون شيخاً لهم وتلميبذه ابن القيم[7]: أن قتل الكافر هو فى مقابلة الحراب لا فى مقابلة الكفر .
وقد نهى رسول الله ﷺ عن قتل النساء، والصبيان، والمجانين، والشيوخ، والراهب، والمزارع حتى فى الحرب لأنهم لا يحاربون، فلا يصح قتلهم حتى وقت العداوة، وبذلك صرح الحنابلة وجمهور الفقهاء قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب ـ وقال الأوزاعي[8]: لا يقتل الحراث إذا علم أنه ليس من المقاتلة. اهـ وكل ذلك يدل على أن الكفر فى ذاته ليس مبيحًا للدم، فلو كان الكفر مبيحًا للدم ما استثنى رسول الله ﷺ هؤلاء.
3– هل الكفر يستلزم إحتقار وكراهية وإهانة الآخر؟
النصوص الصريحة الصحية ترفض الإحتقار والكراهية والإهانة للشخص المخالف لدينى لكونه فقط مخالف لدينى، رفضاً تاماً، لا مماحكة فيه، ولا تردد، فمن ذا الذى يجرأ على أن يحتقر الانسان الذى خلقه الله بيده فسواه ونفخ فيه من روحه.
من ذا الذى يجرأ أن يحتقر صنعة الله وخلقة، إلا من لا يقدر الله حق قدره، ولا يعرفه حق المعرفة، فحكم الكرامة للانسان، كل الانسان، ثابت مكفول، بنص مقدس لامراء فيه، قال تعالى: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا”سورة الاسراء آيه 70 ”
والقرآن نهانا بشكل واضح عن سب عقائد من كفر بدين الإسلام فقال “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” سورة الأنعام اية 108 ” .
ورسول الإسلام يقول:ليس المسلم بالسباب، ولا اللعان، ولا الطعان . ويقول أيضاً: المسلم من سلم الناس – كل الناس المسلم وغيره – من لسانه ويده ” فلا يؤذيهم بقول ولا بفعل.
وقد فرق أهل العلم بين اللعن العام، والخاص، أو المعين، فالأول، ممكن والثانى، ممتنع، فمثلًا ورد فى الحديث، لعن الله آكل الرِّبَا وموكله، وقوله، لعن الله الْمُحَلّل والمحلل لَهُ، وقوله لعن الله الْخمر وشاربها، فاللعن العام متعلق بنوعٍ ماغ؛ كالكافر أو الفاسق أو الظالم فى المطلق: فهذا جائزٌ؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [البقرة: 161]، وقال تعالى: ﴿لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [الأعراف: 44]، وقال تعالى: ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18
قال الإمام ابن حجر الهيتمى[9]: [أما لعن غير المُعَيَّن بالشخص، وإنما عُيِّنَ بالوصف؛ بنحو: لعن الله الكاذب: فجائزٌ إجماعًا] اهـ. كذلك يجوز لعن من ورد النص بلعنه مثل أبى لهب وغيره، ومع ذلك فالأولى تركه، قال العلامة ابن مفلح[10]:[يجوز لعن من ورد النص بلَعنِه، ولا يأثم عليه في تركه] اهـ. فالنبي صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّم لما قيل له: ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قال: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» رواه مسلم في “الصحيح”.
أما لعن المعين –أى الفرد الواحد المعروف من هذا النوع- رغم ورود النص باللعن العام فيه، فهذا غير جائز، سواء أكان المُعًيَّن من أصحاب الكفر أو المعاصي، فقد لعن عموما شارب الخمر، ، فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر في قصة “حمار” الذي تكرر منه شرب الخمر وجلده لما لعنه بعض الصحابة قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله”، فمع أنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لعن الخمر وشاربها،إلا أنه هنا نهى عن لعن هذا المعين، مما يدل على أن هناك فرق بين اللعن العام ولعن المعين.
روى الترمذي في “سننه” عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّم قال يوم أُحد: «اللَّهُمَّ العَنْ أَبَا سُفْيَانَ، اللَّهُمَّ العَنِ الحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ العَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ»، فنزلت: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [آل عمران: 128]، فتاب الله عليهم فأسلموا فحسن إسلامهم.
ولأن اللعن إبعادٌ عن رحمة الله، وهذا لا يجوز في حق مجهول العاقبة؛ قال الإمام النووي[11]: [واتفق العلماء على تحريم اللعن؛ فإنه في اللغة: الإبعاد والطَّرد، وفي الشرع: الإبعاد من رحمة الله تعالى، فلا يجوز أن يبعد من رحمة الله تعالى من لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطعية، فلهذا قالوا: لا يجوز لعن أحد بعينه مسلمًا كان أو كافرًا أو دابة، إلا مَن علمنا بنص شرعي أنه مات على الكفر أو يموت عليه؛ كأبي جهل وإبليس. وأما اللعن بالوصف فليس بحرام؛ كلعن الظالمين، والفاسقين، والكافرين، وغير ذلك مما جاءت به النصوص الشرعية بإطلاقه على الأوصاف، لا على الأعيان، والله أعلم] اهـ بتصرف.
ففى أحكام القرآن لابن العربي تعقيبًا على قوله تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} [البقرة: 161]. قال[12]: قال لي كثير من أشياخي: إن الكافر المعين لا يجوز لعنه؛ لأن عند الموافاة لا تعلم، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة الموافاة على الكفر.
الخلاصة كما قالت دار الإفتاء المصرية[13]: إن لعن المعيَّن سواء أكان مسلمًا عاصيًا أو غير عاصٍ أم كان كافرًا حرامٌ شرعًا، إلا مَن لعنه الشرع بخصوصه أو دلَّت النصوص الشرعية على أنه مات على الكفر أو يموت عليه؛ كأبي جهل وإبليس، وعلة التحريم أنه غير هؤلاء لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطعية. أما إذا كان اللعن لا يتعلق بمُعَيَّن، وإنما يتعلق بنوعٍ ما قد لعنه الشرع من غير تعيين؛ كقول: ﴿لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾؛ فهو جائز.
قال ابن نجيم فى الأشباه والنظائر[14]: من آذى غيره بقول، أو فعل، يعزر … ولو بغمز العين ولو قال لذمي : يا كافر يأثم إن شق عليه.
4-التفرقة فى المعاملات المدنية والحقوق والواجبات .
لقد رفض الاسلام، رفضاً باتاً، التفرقة بين الناس فى الحقوق على اساس عقائدى بقرآن لا يقبل التأويل ولا الرأى، حينما أنزل الله قرآناً من فوق سبع سماوات ينصف اليهودى المظلوم، وينتصر له على المسلم الظالم؛ ليكون قانونا أبدياً وثابتاً من ثوابت الاسلام.
حيث سرق رجل مسلم[15] يسمى بشير بن أبيرق درع رجل من الأنصار يسمى رفاعة بن النعمان ، ويبدو أن الناس تكلمت في الموضوع والسرقة، فخاف بشير -المسلم السارق-، فعمد إلى رمي الدرع في بيت يهودي (زيد بن السمين) ومضى إلى النبي صل الله عليه وسلم ليحكم ببرائته علانية وإدانة اليهودى الذى بحوزته الدرع بالفعل وهو ما فعله النبي صل الله عليه.
ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بما ظهر له من بينات، لكن الحق تبارك وتعالى أنزل
الله خمس آيات تنتصر لليهودى، وتعاتب رسول الله مع جلال قدره وتضع اُسساً متينة لكيفية التعاملات المدنية الصحيحة، فقال تعالى فى سورة النساء” إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (106) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109(
وفى ذات السورة يقول الله تعالى ” ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(135﴾
فالعدل العدل بغض النظر عن الدين والعقيدة يقول الله تعالى : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” المائدة اية 8″
5-إتباع جنازته والدعاء له والترحم عليه والاستغفار له .
أما اتِّباعُ جنازة من ثبت منه الكفر ففيه من النصوص قوله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: “مرَّ بنا جنازة، فقام لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقمنا به، فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي، قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا» متَّفَقٌ عليه.
وعن سهل بن حنيف، وقيس بن سعد رضي الله عنهما قالا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرَّت به جنازةٌ فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا» متفق عليه.
وشيَّع الصحابة رضي الله عنهم جنازةَ نصرانيَّة؛ هي أم الحارث بن أبي ربيعة رضي الله عنه؛ فعن الشَّعبي قال: “ماتت أم الحارث بن أبي ربيعة رضي الله عنه، وكانت نصرانيةً، فشيَّعها أصحابُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم” أخرجه محمد بن الحسن في “الآثار”، وابن أبي شيبة وعبد الرازق الصنعاني في “مصنفيهما”. فقد شيَّعها الصحابة رضي الله عنهم ولم تكن قريبةً لهم، وهذا يدل على جواز ذلك لغير الأقارب.
لذا قال صاحبب المبسوط[16]: ولا بأس بأن يغسل المسلم أباه الكافر إذا مات ويدفنه” لما بينا أن الغسل سنة الموتى من بني آدم وهو مع كفره منهم والولد المسلم مندوب إلى بر والده وإن كان مشركا. قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً}[العنكبوت: 8]، والمراد به الوالد المشرك بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي}[لقمان: 15] الآية، ومن الإحسان والبر في حقه القيام بغسله ودفنه بعد موته.
ولما مات أبو طالب جاء علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عمك الضال قد مات فقال: “اذهب فغسله وكفنه وواره ولا تحدث حدثا حتى تلقاني”. فلما رجعت إليه دعا لي بدعوات ما أحب أن يكون لي بها حمر النعم. وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى سأل رجل ابن عباس رضي الله عنه فقال إن أمي ماتت نصرانية فقال غسلها وكفنها وادفنها. وأن الحارث بن أبي ربيعة ماتت أمه نصرانية فتبع جنازتها في نفر من الصحابة.
وقال العلامة شمس الدين الرملي[17]: [(ولا بأس باتباع المسلم جنازة قريبه الكافر).. ولا يبعد كما قاله الأذرعي إلحاق الزوجة والمملوك بالقريب، ويلحق به أيضًا المولى والجار كما في العيادة فيما يظهر] اهـ.
قال العلامة الشروانى العلامة الشافعى[18]: وللمسلم زيارة قبر كافر قال في شرحه أي يباح له ذلك كما قطع به الأكثرون وصوبه في المجموع انتهى. وظاهر قطع الأكثرين هذا الذي صوبه في المجموع أنه لا فرق بين القريب والأجنبي ويؤخذ من ذلك عدم الحرمة أيضا في اتباع جنازته لقريب أو أجنبي .
الدعاء والاستغفارله.
أما عن الدعاء، والاستغفار له، والتأمين على دعائه، فالراجح من مذهب الشافعية جوازه كما قال الخطيب الشربينى فى حاشيته[19]: الراجح جواز الدعاء للكافر بأخروي وبالمغفرة خلافا لما في الأذكار اهـ
بل نقل الشرواني فى حاشيته الخلاف فى استحباب ذلك حيث قال[20]:في استحباب الدعاء للكافر خلاف واعتمد مر الجواز.
وفى حاشيتى قليوبي وعميرة[21]: وَفِي كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ حُرْمَةُ الدُّعَاءِ لِلْكَافِرِ بِأُخْرَوِيٍّ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالرَّاجِحُ خِلَافُهُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ، وَمِنْهُ جَوَازُ الدُّعَاءِ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ خِلَافًا لِمَا فِي الْأَذْكَارِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَيَجُوزُ الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ بِنَحْوِ صِحَّةِ الْبَدَنِ وَالْهِدَايَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّأْمِينِ عَلَى دُعَائِه[22].
وظاهر النصوص تذهب لصحة ذلك، خاصة إذا نوى من دعائه تجنب مغفرة الشرك وتفويض الأمر فى ذلك لله ، حيث رحمة الله وسعت كل شيئ قال تعالى: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
ومثل قول عيسي عليه السلام عن قومه فى سورة المائدة: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(118)
وذلك كان عقب شرك قومه به سبحانه حين قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
قال القرطبي فى تفسيره[23]: وَاخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِهِ فَقِيلَ: قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْطَافِ لَهُمْ وَالرَّأْفَةِ بِهِمْ كَمَا يَسْتَعْطِفُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ.
وأوضح من ذلك ما جاء فى تفسير المنار[24]: إِنَّ الْمَعْنَى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عَبِيدُكَ، وَالْمَالِكُ يَتَصَرَّفُ بِعَبْدِهِ كَمَا يَشَاءُ، فَلَا يُسْأَلُ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَذَّبَ أَكْمَلَهُمْ إِيمَانًا وَإِسْلَامًا وَإِحْسَانًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ فَإِنَّهُمْ عَبِيدُكَ الْأَرِقَّاءُ إِلَى أَسْرِ مُلْكِكَ، الضُّعَفَاءُ الْعَاجِزُونَ عَنِ الِامْتِنَاعِ مِنْ عِقَابِكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ مَا كَانَ مِنْ شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْقَوِيُّ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، الْحَكِيمُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَغْفِرَةَ مُسْتَحْسَنَةٌ لِكُلِّ مُجْرِمٍ: قَالَهُ أَبُو السُّعُودِ: وَقَالَ الْآلُوسِيُّ: وَالْمَغْفِرَةُ لِلْكَافِرِ لَمْ يُعْدَمْ فِيهَا وَجْهُ حِكْمَةٍ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ حَسَنَةٌ لِكُلِّ مُجْرِمٍ فِي الْمَعْقُولِ، بَلْ مَتَى كَانَ الْمُجْرِمُ أَعْظَمَ جُرْمًا كَانَ الْعَفْوُ عَنْهُ أَحْسَنَ لِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي الْكَرَمِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعُقُوبَةُ أَحْسَنَ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ اهـ.
وجاء على لسان إبراهيم عليه السلام، قوله، من الدعاء لأبيه: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86).
ودعاء إبراهيم أيضًا لأبيه فى آخر حياته : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) سورة إبراهيم.
وقوله فيمن عبد الأصنام: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)سورة إبراهيم
قال الطبرى فى تفسيره[25]: أضللن: يقول: أزلن كثيرا من الناس عن طريق الهُدى وسبيل الحق حتى عبدوهنّ، وكفروا بك.
وقوله (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) يقول: فمن تبعني على ما أنا عليه من الإيمان بك وإخلاص العبادة لك وفراق عبادة الأوثان، فإنه مني: يقول: فإنه مستنّ بسنَّتِي، وعامل بمثل عملي (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقول: ومن خالف أمري فلم يقبل مني ما دعوته إليه، وأشرك بك، فإنه غفور لذنوب المذنبين الخَطائين بفضلك، ورحيم بعبادك تعفو عمن تشاء منهم.
كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) اسمعوا إلى قول خليل الله إبراهيم لا والله ما كانوا طَعَّانين ولا لعَّانين، وكان يقال: إنّ من أشرّ عباد الله كلّ طعان لعان، قال نبيّ الله ابن مريم عليه السلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
مآلات الكفر والتكفير رؤية متسامحة من واقع تراثنا الفقهى
وأعترض جمع من الفقهاء والعلماء على ذلك بقوله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) سورة التوبة.
ورد من قال بجواز الإستغفار على أن المراد بالنهى عن الاستغفار فى هذه الآية، هو النهى عن الصلاة، جمعًا بين الأيات التى أجازت وبين هذه الأية وغيرها.
كما قال الفخر الرازى فى تفسيره[26]: الجواب أن من الناس من حمل قوله مَا كَانَ لِلنَّبِى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ( التوبة 113 ) على صلاة الجنازة وبهذا الطريق فلا امتناع في الاستغفار للكافر لكون الفائدة في ذلك الاستغفار تخفيف العقاب قالوا والدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى منع من الصلاة على المنافقين وهو قوله وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ( التوبة 84 ) وفي هذه الآية عم هذا الحكم ومنه من الصلاة على المشركين سواء كان منافقاً أو كان مظهراً لذلك الشرك.
وقال شيخ المفسرين الطبري[27] : وتأوّل آخرون “الاستغفارَ”، في هذا الموضع، بمعنى الصلاة. فعن سعيد بن جبير قال مات رجل نصراني فوكله ابنه إلى أهل دينه فأتيت ابن عباس فذكرت ذلك له فقال ماكان عليه لو مشي معه وأجنه -واراه في قبره- واستغفر له استغفر له؟ ثم تلا “وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعداها إياه”، الآية).
وفى النهاية.
ومما سبق يمكن القول إن نصوص الدين وروحه بجانب أنها كفلت حرية الإعتقاد، عصمت دم، ومال، وعرض كل من تلبس بالكفر، ورفضت التفرقة بينه، وبين غيره، فى المعاملات المدنية، والحقوق، والواجبات، أوالحكم عليه بدخول الجنة أو النار، أو سبه، أواحتقاره، أوإهانته قال تعالى: ۞ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)سورة الأسراء.
وعليه فيجب علينا بجانب محاربة ظاهرة التكفير، نشر ثقافة التسامح، والبعد عن إدانة الخلق، وإصدار الإحكام فى حقهم بالجنة أو النار، وتجريم الإحتقار، والكراهية، والإهانة، والتفرقة، فضلًا عن التحريض، والإغراء، بالآخرين على أسس إعتقادية، إنطلاقًا من كفالة عصمة الدماء وصيانتها بموجب نصوص الشريعة.
وربما يأتى أحد فيقول ليس الأمر كما ذكرت، فكتب التراث بها ما يخالف ذلك من كيت وكيت وأقول: نعم بها ما يخالف بعض ما ذكرت من آراء, فهناك رأى آخر، أو رأيين فى بعض ما ذكرت، وهنا تكون مهمتنا فى التعامل مع التراث، من تفصيل، وبيان، واختيار.
فإن هذا التراث ضخم كبير، ليس فيه قول فصل، ولا فصل واحد، لكن هناك قواعد، ومقاصد عامة، نحتكم إليها، من خلال قراءة مقاصدية، تكون هى مناط الإختيار، والترجيح، لما هو أجدى، وأنفع، وأرحب، وأكثر رحمانية، وتعبيرًا عن روح الشريعة الغراء السمحة، من خلال نقشات فقهية نقدية جادة، تعتنى بالتدبير الحضاري، والاجتماعي، والإنساني المعاصر، فتخرج من جذور تراثنا القديم، اجتهادات جديدة لعصرنا وزماننا.
بعيدًا عن روح الفقر الفقهى، المنتشر فى زماننا هذا، والذى لا يعكس حقيقة هذا التراث، بقدر ما يعكس مواقف أنفس متوترة متصلبة، أذاعها، ونشرها، مزاج متسلف غير المتسامح، ولا مراع لأدنى درجات اللياقة، واللباقة، والبعد الإنسانى فى معاملاته؛ مما يهدد للسلم، والأمن المجتمعى، ويشيع العدواة، والبغضاء بين الناس، مما يناقض معنى الإسلام، السلم، والسلام، ومعنى الإيمان، الأمن، والأمان، الذى أكده الرسول الكريم فى حجة الوداع حينما قال[28]: ألا أخبركم بالمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب.
قائمة المراجع:
[1] – التحرير والتنوير (26/ 17)ط: : الدار التونسية للنشر – تونس -سنة النشر: 1984هـ.
[2] – التحرير والتنوير (9/ 2069: 2070).
[3] – طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 610)ط: : دار ابن القيم – الدمام- الطبعة الثانية ، 1414 – 1994م.
[4] – مجموع الفتاوى (35/ 68)
[5] – مجموع الفتاوى (28/ 500 : 501)
[6] – شرح لمعة الاعتقاد لخالد المصلح (17/ 5،)
[7] – أحكام أهل الذمة (العلمية) (2/ 24).
[8] – أحكام أهل الذمة (1/ 64).
[9] – انظر: “الزواجر عن اقتراف الكبائر” (2/ 96، ط. دار الفكر).
[10] – انظر:”الآداب الشرعية”: (1/ 277، ط. عالم الكتب):
[11] -“شرح مسلم” (2/ 67)ط: دار إحياء التراث العربي – بيروت-الطبعة: الثانية، 1392
[12] -أحكام القرآن لابن العربي (1/ 60)ط: دار إحياء الثراث العربي بيروت، الطبعة الأولى.
[13] -انظر: فى ذلك فتوى دار الإفتاء المصرية رقم : 4699 بتاريخ 16-1-2019م للدكتور شوقى علام.
[14] -انظر: الْأَشْبَاهُ وَالنَّظَائِرُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِيْ حَنِيْفَةَ النُّعْمَانِ” لزين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجيم المصري (المتوفى: 970هـ)، وضع حواشيه وخرج أحاديثه: الشيخ زكريا عميرات، ص157: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان- الطبعة: الأولى، 1419 هـ – 1999 م.
[15] -انظر كتب التفسير فى ذلك وعلى سبيل المثال انظر: تفسير القرطبي (5/ 375، وما بعدها)ط: دار الكتب المصرية – القاهرة-الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964 م
[16] – للسرخسي ط الفكر (2/ 99).
[17] – في “نهاية المحتاج” (3 /22، ط. دار الفكر).
[18] – تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (3/ 200) ط: دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[19] – الغرر البهية في شرح البهجة الوردية (2/ 104) الشربينى فى حاشيته، ط: المطبعة الميمنية.
[20] –[حاشية الشرواني]: تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (3/ 75)ط: دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[21] – انظر: حاشيتا قليوبي وعميرة: (1/ 389) على «شرح العلامة جلال الدين المحلي على منهاج الطالبين للشيخ محيي الدين النووي» ط: دار الفكر – بيروت- ، 1415هـ-1995م
[22] – حاشية الجمل على شرح المنهج = فتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب (1/ 389) ط: دار الفكر.
[23] – تفسير القرطبي (6/ 378)، ط: الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب
سنة النشر: 1990م
[24] – تفسير المنار (7/ 225).
[25] – تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (17/ 18)
[26] – تفسير الرازي = مفاتيح الغيب = التفسير الكبير (16/ 167)
[27] – تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (14/ 516).
[28] -أخرجه الإمام أحمد ابن حنبل في مسنده ج 6/ ص 21 حديث رقم: 24004، انظر: موسوعة التخريج (ص: 18537).