تكوين
مقدمة
مائة عام مرت على صدور كتاب علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم (1)، وذلك في نيسان من عام 1925م، وما زالت المناقشات على أشدها حول مفهوم علاقة الدين بالدولة والسياسة، ومفهوم الحاكمية في الاسلام، هل الاسلام دين ودولة؟، وهل الشريعة هي القانون الإلهي الواجب تطبيقه في الدنيا؟ وهل أن رجال الدين هم المكلفون ربانيًا في قيادة الدولة وتطبيق الشريعة الإسلامية؟ أسئلة كثيرة مازالت عالقة منذ ذلك الوقت، وتجتذب مناقشات حامية لم تحلها او تقللها المائة عام الفائتة، حيث تغير العالم في كل شيء.
إن كتاب الإسلام وأصول الحكم هو من أبرز الكتب التي أثارت جدلا واسعا في الفكر الإسلامي الحديث، إذ شكل نقطة تحول في النقاش حول العلاقة بين الدين والدولة، وقد واجه ردود فعل مختلفة، فقد وقف ضده فقهاء الأزهر في حين رحب به الفكر الحداثي، ومازالت اطروحاته تثير النقاش حول دور الدين في السياسة، وحول طبيعة الحكم في الاسلام، حيث ان تجربة مائة عام مضت لم تؤثر كثيرًا في فهم تلك العلاقة، وما زالت المراهنات على إمكانية قيام حكومة دينية ورجوع الخلافة شائعة، وتثير المناقشات الحادة والجدل حول الدساتير التي تتقاطع الرؤى حولها، وتطرح عنها بحوث كثيرة، وتظهر آثارها في المناقشات، مثل النقاش الدائر حول قانون الأحوال الشخصية في العراق، والجدل الدائر عن جدوى تطبيق الشريعة الإسلامية في الحياة العامة. ومازالت بعض خطوط الإسلام السياسي والحركات السلفية تتحدث عن أن الإسلام يقدم نموذجا للحكم يناسب جميع الأقطار والأزمان، وتجربة سوريا ماثلة أمامنا.
شهدت المائة سنة الماضية عنفًا ومحاكمات كثيرة يصمت بعض رجال الدين عن تذكرها، ويخجل البعض الآخر منها، وتتبرأ منها مجموعة أخرى منهم، وخلال القرن الماضي قدم لنا الإسلام السياسي نموذج الدولة الإسلامية في السودان، وتجربة طالبان في أفغانستان، وتجربة داعش، وتجربة الدولة السورية بعد سقوط بشار الأسد، وبينهما التجربة التركية والإيرانية، وانشغل المفكرون الإسلاميون بالبحث عن وجود جميع العلوم الحديثة بين ثنايا الآيات القرآنية، وما علينا إلا البحث عنها لإظهار نظرية علمية وتكنولوجية واقتصادية واجتماعية وقانونية نابعة من النص القرآني، ونقدمها للعالم لكي تحكم بواسطتها الدول.
لقد تفاجأ الأزهر من طباعة وصدور كتاب الإسلام وأصول الحكم، ورفض مباشرة رفضًا قاطعًا التطاول على حقوقه والاستقلال عنه في التفكير، وعارض إبداء أي رأي له علاقة بالدين من خارجه، واعترض على كل من قال بأن الدولة هي شأن مدني لا علاقة لله فيها، وهيأ على عجل محكمة دينية كبيرة لمناقشة وتأديب هذا الشيخ الشاب الذي تخرج من الأزهر وفكر بشكل مستقل، ولم يسأل مرجعيته الدينية قبل طباعة الكتاب… فتمت محاكمته، ومصادرة كتابه، وفصله من وظيفته، ونزعت منه شهادة العالمية(الأستاذية المعادلة للدكتوراه)، وكفره بعض آخر عام 1925، وجند الأزهر لتلك المحاكمة 24 فقيهًا ازهريًا، لكي يدين الكاتب ويخطّئ الكتاب، ويثبت خلال المحاكمة بأن الإسلام دين ودولة، وأن عدم الإيمان بالإمامة /الخلافة هو عدم الإيمان بالتوحيد، وأن عدم الإيمان بالتوحيد يعني الكفر، وتطور هذا الموقف انطلاقًا من تلك القاعدة فيما بعد، فقد قال المودودي(أن كلا من الألوهية والسلطة تستلزم الأخرى، فالذي لا سلطة له لا يمكن أن يكون إلها، ولا ينبغي أن يُتخَذَ إلها!!!، أما من يملك السلطة فهو الذي يجوز أن يكون إلها، وأن أصل الألوهية وجوهرها هو السلطة )(2)، والله ارسل شريعته لكي يتقيد بها البشر، ولا يمكن تقييدهم إلا بسلطة يقودها الخليفة وقانون مستمد من الشريعة، يتعارض مع التشريع الإنساني الوضعي، وبارك الملك فؤاد هذا المسعى، وما على المؤسسة الدينية إلا التنفيذ وقطع هذا الفرع المريض عن الأصل السليم، فأبعدوه عن القضاء، وصادروا كتابه، وحاولوا بمختلف الطرق تشويه سمعته، وبثوا عنه مختلف التهم الشنيعة، و أشاعوا بأن الكتاب ليس من تأليفه، وهو يعود الى المستشرق توماس أرنولد، وقال آخر بأن الشيخ علي عبد الرازق أسر له بأن طه حسين هو الكاتب الأصلي للكتاب، وما دور الشيخ فيه إلا وضع اسمه على الكتاب …الخ.
استمرت المحاكمات بقيادة الأزهر على نفس المنوال، ففي السنة التالية حوكم د. طه حسين على إصداره كتاب في الشعر الجاهلي وتمت مصادرته وسحبه من التداول، ومنع تدريسه في كلية الآداب(3) كما قابلته نفس التهم، وكفره البعض الآخر، وأعاد طبعه عام 1927 لكنه قام بحذف أربعة نصوص من الكتاب، وتغيير عنوانه إلى (في الأدب الجاهلي)، وفي الفترات التالية تمت محاكمة محمود محمد طه (1985) التي انتهت بصدور فتوى من الأزهر بكفره ومن ثم إعدامه، وحكمت المحكمة على الدكتور نصر حامد أبو زيد بكفره ايضا، وتفريقه عن زوجته، ومن ثم هجرته إلى هولندا. وخلال هذه الأعوام المائة تم اغتيال فرج فودة (1992)، وشكري بلعيد(2013)، وتهديد معظم الكتاب الذين اختلفوا كثيرا أو قليلا عن التدين السياسي أو الفقهي، كما تم تكفير الشيخ الأزهري خليل عبد الكريم (2002)، وتهديد المفكر الكبير محمد أركون (2010)،وسيد القمني (2022)، وعشرات غيرهم، واغتيال حسين مروة (1987)، ومهدي عامل (1987)، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ عام (1994)، وتهديد جورج طرابيشي (2016)، وصادق جلال العظم (2016)، وفاطمة المرنيسي (2015)، ومازال سيف التهديد والقتل مسلطًا على مجموعة كبيرة من التنويريين في المنطقة العربية وفي البلدان الإسلامية الأخرى.
إقرأ أيضًا: منهجية طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى الجزء الأول
لقد أدت هذه المحاكمة والمحاكمات التي أعقبتها إلى ظهور تيار ديني/سياسي متطرف، وبعد تلك المحاكمة بأقل من ثلاث سنين ولدت حركة الإخوان المسلمين، التي استقلت برؤيتها السياسية والدينية عن الأزهر، وظهرت قيادات جديدة تخرجت من الأزهر، وقادت حركات العنف الديني مثل عبد الله عزام الذي أسس التنظيمات الجهادية في أفغانستان، وأبو بكر شيكاو زعيم جماعة بوكو حرام، وسلامات هاشم رئيس حركة مورو في الفيليبين، وأبو أسامة المصري أحد قادة تنظيم ولاية سيناء، وعبد رب رسول سياف أحد قادة الإخوان في أفغانستان، وأبو ربيعة المصري رئيس منظمة القاعدة في البصرة، وبرهان الدين رباني رئيس أفغانستان السابق، ومولوي قاسم حليمي أحد قادة طالبان، وعمر عبد الرحمن المتورط في تفجيرات نيويورك 1993، وتلقفت حركة الإخوان من تلك المحاكمات مفهوم ارتباط الخلافة والإمامة بالتوحيد. ومن المعلوم أن الامامة هي من فروع الدين عند كافة المذاهب عدا المذهب الإمامي الذي يعتبرها من أصول الدين، والذي لا يؤمن بفقرة واحدة من أصول الدين(التوحيد، والنبوة والامامة عند الشيعة ، والمعاد) فإنه يخرج من الإسلام ويحكم بكفره، كما أن الخلافة والامامة حسب هذا المفهوم مقدرة من الله، فاستلهم مؤسس ومرشد الإخوان هذا المفهوم وتبناه، واعتبر الخلافة من أصول الدين، وكان حسن البنا أول من قال من أتباع المذاهب غير الشيعية بأن(الحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع)(4)، ويتيح له هذا المعتقد التحرر من أخذ الوكالة والتفويض من الأمة، لأنه مفوض من الله، ويصبح بالتالي ممثلا عن الله، ولا حق للبشر في الاعتراض عليه .
بماذا أثارهم هذا الكتاب؟
صدر هذا الكتاب بعد سقوط الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة عام 1924 على يد مصطفى كمال أتاتورك(1938). لقد تركت الدولة العثمانية وراءها بعد سقوطها من يطمع في منصب الخلافة ويتمناه، تركت وراءها دينًا تنقصه الامامة الكبرى(السلطة)، تركت وراءها سلطات دينية محلية. تركت فترة من التسلط غنية، وتجربة للحكم لاتبرح مكانها، تركت وراءها أوقافا كبيرة تثير الشهية، وقد صعب على فقهاء المسلمين ممن كانوا يحتلون الصفوف الأولى سقوط الخلافة أمام قوى استعمارية صاعدة تتميز بالسبق المعرفي والاقتصادي والتقني والعسكري .
لم تدرس المؤسسة الدينية سبب إخفاق نظام الخلافة الإسلامية وسقوطها أمام حركة التقدم العسكري الاستعماري، ولم تدرس المتغيرات التاريخية الحادثة، ولم تستنبط نظاما بديلا يلبي متطلبات الحاضر، بل قامت بتأثير من ثقافتها الموروثة بنفس الطرق التحريضية البدائية وقالوا أن الدين في خطر، وشاركوا الحركة التحررية الوطنية نضالاتها، لكنهم سرعان ما انفصلوا عنها فهم يسعون لإعادة الخلافة الإسلامية والحكم (بما أنزل الله)، وقد واجهتهم مشكلة كيفية عودتهم للسلطة، فمنهم من تصالح مع الحاكم غير المسلم ومع الحكومات الظالمة والجائرة، وبرروا ذلك فقهيا وجوزوا العمل مع الحاكم الجائر وغير المسلم، وكان معظم هؤلاء من المراجع الكبار الذين لم يفرطوا بمواقعهم المالية والاجتماعية، واتخذ آخرون مواقف مناهضة للحكومات غير الإسلامية أو التي لا تتخذ الإسلام منهجا لعملها، وهم في الغالب من صغار رجال الدين من الذين لم يحصلوا على ميزات المراجع الكبار، ودعت هذه الفئة بعد سقوط الخلافة الإسلامية إلى تسييس الدين للانطلاق إلى السلطة، وشرعت في تأسيس الجمعيات والأحزاب الإسلامية، وأسست هذه الفئة حركة الإخوان المسلمين، والتحرير، وحزب الدعوة، والنهضة، والإنقاذ الجزائرية، وقامت بالثورة الإيرانية . وستصبح هذه الفئة قوة المواجهة الرئيسية التي تأخذ دور السياسي والديني وتدمجهما معا متمثلة بالسلطة النبوية في المدينة، ويكون رجل الدين هو المشرع والمنفذ والحامي حمى الدولة والدين.
إقرأ أيضًا: في مناهج دراسة الأديان: الجزء الثاني الوحي تحت مجهر التحليل اللساني لنصر حامد أبو زيد
في تلك الفترة رغب الازهر والملك فؤاد في استمرار الخلافة الإسلامية وعدم التفريط بها ونقلها إلى مصر، وعقدوا لذلك مؤتمرا، وبعثوا ممثلين لهم في أنحاء مصر وبعض الدول ذات الاكثرية المسلمة، لكن الحضور الهزيل للمؤتمر ومنافسة الشريف حسين في مكة على الخلافة، وتطلع البعض الآخر لها، وضعف إمكانية الدولة المصرية في مد نفوذها الى الدول الاسلامية الاخرى كان قد أسقط طموح الملك فؤاد الأول، ولم يتحمس له أقرب الأحزاب التي يستند عليها في الحكم، كما انقسم المفكرون المسلمون بين من يدعو الى إحياء الخلافة باعتبارها ضرورة دينية، وبين من يرى أن الإسلام لا يفرض شكلًا محددًا للحكم، وهم يتركون المجال مفتوحًا لاجتهاد المسلمين وفق مصالحهم السياسية والاجتماعية.
درس علي عبد الرازق(1888- 1966)في جامعة الأزهر وحصل على الليسانس، وذهب الى بريطانيا (جامعة اكسفورد)لإكمال الماجستير في الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1912، لكنه عاد الى مصر قبل إكمال دراسته بسبب قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914، وخلال تلك الفترة كان قد درس الأعمال الفكرية والاستشراقية وحالة الحكم والسياسة في بريطانيا وطالع عددًا من دساتير أوروبا، وشاهد مدى التطور الحاصل جراء ابتعاد السياسة عن الدين.
كان ينتمي سياسيًا إلى حزب الأحرار- حزب الملاك الكبار-، وهو الحزب المساند للملكية الدستورية، وانحاز هذا الحزب الى مساندة الشيخ في مواجهة حملة عاصفة ضده، و انحازت جريدة السياسة ومحررها محمد حسين هيكل، ومجلة الهلال إلى صف الشيخ وقالت “إن كل أمة إسلامية حرة في انتخاب من تريده حاكمًا عليها، وسواء كان الأستاذ على عبد الرازق قد وفق في أن يسند نظريته إلى الدين – كما يعتقد – أم لم يوفق، فإن هذه النظرية تتفق وأصول الحكم في القرن العشرين الذي يجعل السيادة للأمة دون سواها من الأفراد مهما كانت ولادتهم وميزاتهم الأخرى(5) . وكتب سلامة موسى في الهلال أيضًا نصًا يقول”لعلي عبد الرازق الحق في أن يكون حرًا يرتئي ما يشاء من الآراء دون أن يقيد بأي قيد سوى الإخلاص”(6)، ووقف معه الشاعر أحمد شوقي ونظم قصيدة طويلة في تلك المناسبة جاء فيها:
مضت الخلافة والإمام فهل مضى
ماكان بين الله والعباد
والصوم باق والصلاة مقامة
والحج ينشط في عناق الحادي
وفي الجانب الآخر وقف الملك فؤاد ضد الكاتب والكتاب، وقادت مشيخة الأزهر حملة قوية ضدهما، وشارك محمد رشيد رضا الأب الفكري للإخوان المسلمين، وافتى بارتداد علي عبد الرازق عن الإسلام(7)، وهاجمه الإخوان فيما بعد، واصطفوا مع تلك الحملة، وادان سعد زغلول الكتاب، واتهم علي عبد الرازق بالجهل بقواعد الدين!!، وأصدر عدد من شيوخ الأزهر كتبا لمناقشة الكتاب وإنكار مافيه، فقد كتب الشيخ الخضر حسين كتابا بعنوان نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم8 ، وكتب الشيخ محمد بخيت المطيعي كتابا آخر بعنوان حقيقة الإسلام وأصول الحكم (9)، وتصاعدت الحملة ضد الشيخ وضد كتابه لتظهر بعدئذ مئات المقالات السلفية والاخوانية والأزهرية ضد هذا الكتاب ومؤلفه، وتمت في النهاية مصادرة هذا الكتاب، وفصل الشيخ علي عبد الرازق من وظيفة القضاء.
أهم الأفكار التي طرحها الكتاب
تأثر الشيخ علي عبد الرازق مبكرا بالشيخ محمد عبده(1905)، وسمع الكثير عن صراعاته مع الأزهر، وقد تأثر بقوله المشهور في مناقشته الشيخ محمد البحيري(إذا كان لي حظ من العلم الصحيح الذي تذكر، فإنني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ماعلق به من وساخة الأزهر، وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة)(10)، فاتهمه الأزهر بالعمالة للإنجليز والفرنسيين ومراسلاته مع (الكافر) تولستوي .
كما قرأ الأصول التي يمكن بها تخليص الإسلام من عوامل قصوره الذاتية للإنتقال إلى النهضة، وقد لخصها محمد عبده بالنقاط التالية : العقل الذي يجب أن يقدم على النقل في حالة التعارض، والبعد عن التكفير، والاعتبار بسنن الله في الخلق، ولا وجود للسلطة في الإسلام، واقتصار القتال على الدفاعي فقط، ولا إكراه في الدين، ومَوّدَة المخالفين في العقيدة . وهي أصول مكثفة توفر الأساس الفكري للنقلة الحضارية.
وقد وضح الشيخ علي عبد الرازق في كتابه استنادا إلى آراء محمد عبدة مجموعة من الأفكار الجريئة وكان من أبرزها :
- الخلافة ليست جزءا من العقيدة الإسلامية، وهي غريبة عن الإسلام، ولا أساس لها في المصادر والأصول المعتمدة من كتاب وسنة وإجماع، وان الاسلام لم يعرف الدولة الدينية ولم يذكر شكلا محددا لنظام الحكم، كما أن الخلافة ناسبت زمن الصحابة وهي تجربة اجتهادية تاريخية قابلة للنقد والمراجعة .
- أكد بأن النبي محمد لم يكن سياسيا ولا رئيس دولة بقدر ما كان نبيا و مرشدا دينيا، وان الدولة الإسلامية التي قامت بعده لم تقم على أساس ديني بل قامت على أساس اعتبارات سياسية واجتماعية ومصلحية.
- لا تستند السلطة الى نصوص دينية تفرض نظاما معينا، بل تستند الى ارادة الامة التي تقرر شكل نظامها الحاكم.
ماهي الاسس التي اعتمد عليها المؤلف
واجهت علي عبد الرازق مشكلة إثبات عدم وجود دولة إسلامية في وقت النبي محمد، و(نقض غير الموجود) غير ممكن منطقيا، فتحول مباشرة من النقض الى الرفض، بحيث يمكن رفض او انكار فكرة حتى لو لم توجد فعليا .
وبهذه الحالة ذهب الى الفكرة نفسها، وبسط امامه جميع الروايات التي ذكرتها، وجعل ازاءها الروايات المخالفة، وذهب اولا الى القرآن وبحث فيه عن أي ذكر للدولة فلم يجده، وبحث في الآيات المؤولة التي يفهم منها مفهوم الدولة والملك، فوجد عاهات عديدة في تفسيرها، كما ذهب الى السنة النبوية التي ادعى اصحاب فكرة الخلافة الدينية وجود روايات يصل مفهومها إلى مفهوم الدولة، فكشف عن وهنها. وقال( ان الكتاب الكريم قد تنزه عن الاشارة اليها، وكذلك السنة النبوية قد اهملتها، وأن الإجماع لم ينعقد عليها) وتساءل( فهل بقي لهم من دليل في الدين غير الكتاب أو السنة أو الإجماع ؟)(11)فتش المؤلف في آيات القرآن ووجد ما يناقض فكرة الدولة والملك، وبرهن على أن كلمة الدولة المذكورة في القرآن تعني التقلب والتعاقب، وبمعنى الشيء الذي يُتداول وينتقل بين الناس من يد إلى اخرى، وورد لفظ الدولة بضم الدال اشارة الى قوة المال( كي لايكون دولة بين الأغنياء منكم )(12)، وبفتحها اشارة الى التأثير البشري(وتلك الأيام نداولها بين الناس)(13)،كما نفى القرآن عن النبي محمد صفات الجبار، و الوكيل، والمسيطر، والحافظ والحفيظ، وثبت صفات المبلغ، والشاهد، والنذير، والهادي، والمبشر، وكل تلك الصفات النافية والمثبتة هي صفات تنفي اندماج الدين مع الملك، بل ان كامل القرآن وقف بالضد من الملوكية، وذم القرآن الدولة في الآيات التي تعرضت للفراعنة، واعتبرها رمزا للمظهر اللاديني( قال فرعون آمنتم بهِ(بالله) قبل أن آذَنَ لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون)(14)، و( قالت (ملكة سبأ) إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلةً وكذلك يفعلون )(15)،وضرب الأمثال السيئة عن الدول البائدة عاد وثمود وإرم ذات العماد، كما أن رسائل النبي -التي ذكرتها بعض المصادر- التي أرسلها إلى كسرى وقيصر والنجاشي- لم تدعوهم للرضوخ إلى سلطته ودولته بل إلى الدخول في دينه. وقد لاحظ ابن الطقطقي المتوفى عام 709 هجري خلو الفترة النبوية من الدولة، وقال(أما الدولة الأولى وهي دولة الأربعة، فإن ابتداءها كان منذ قبض رسول الله..)(16)، واعتبر أول دولة إسلامية هي دولة الخلفاء الأربعة التي بدأت بعد وفاة النبي . كما أهمل كتاب السير الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني المتوفى عام 189 هج، وكتاب الأحكام السلطانية للماوردي(ت 450 هج )، والفراء( ت 458 هج)في الأحكام السلطانية الإشارة إلى تأسيس النبي محمد دولة . وأشار الشيخ علي عبد الرازق إلى مفارقة مهمة هي: وجود دين واحد ارتضته مجموعة كبيرة من البلدان مع وجود حكومات مختلفة، وسأل هل يمكن ان نجمع الدين مع وحدة سياسية مختلفة ومتناقضة في أحيان كثيرة؟ وذكر بهذا الخصوص آية من سورة هود رقم 118( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) ، وأكد بأن الدين الاسلامي بريئ من الخلافة، ومن القضاء، ومن وظائف الحكم، ومراكز الدولة، ولا شأن للدين في تدبير الجيوش، وعمارة المدن، و نظام الدواوين .
إن تفسير(الأمر)الوارد في(وأمرهم شورى بينهم)(17) وفي(وأطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله ورسوله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر …)(18)هو خلط بين معنى الأمر والإمرة، فقد غلطوا في موضع اللفظ المشترك حسب قول إبن أبي الحديد في نهج البلاغة، والأمر هو الفعل والشأن والوعد ويقابل النهي، وورد في القرآن بمعنى الدين( حتى جاء الحق وظهر أمر الله)(19)، أما الإمرة فهي الرئاسة والزعامة والسلطنة والملك ومنها الإمارة، وعندما رفع الخوارج( المحكمّة )شعار الحاكمية، وقالوا للإمام علي: لِمَ حَكَمْتَ الرجال، لا حكم إلا لله، أجابهم قائلا : إنها كلمة حق يراد بها باطل، نعم لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون : لا امرة، فانه لابد للناس من أمير بر أو فاجر(20) .
إن اصحاب فكرة الخلافة الدينية يعتمدون على آيات ثلاثة من سورة المائدة هي :
إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ (44) وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَيۡنَ بِٱلۡعَيۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصٞۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٞ لَّهُۥۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ (45) وَلۡيَحۡكُمۡ أَهۡلُ ٱلۡإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ (47)
إن نص الآيات(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، والظالمون، والفاسقون )هي حسب سياق تلك الآيات مخصص ومحدد باليهود والمسيحيين، وقد قام أصحاب فكرة الدولة الدينية بتحرير تلك الآيات من النص الواردة فيه، وإخراجها من سياقها حسب قاعدة عموم اللفظ وخصوص السبب، واستعملوها في تثبيت قول الله وحصره في حدود أهدافهم ومصالحهم، وكأن الله كان قد أنزل تلك الآيات لكي تقوم حكومة دينية يكونون هم على رأسها .
إن كلمة الحكم المذكورة في القرآن وردت بمعاني القضاء، والفصل في المنازعات، وهو ما ذهب إليه غالبية الفقهاء، ولم يقصد القرآن من لفظ الحكم معنى السلطة للحاكم بل معنى القضاء، ولو عنى القرآن بأن يكون النبي محمد رئيس دولة كانت الصيغة القرآنية تنص على : فاحكمهم بما أنزل الله وليس فاحكم بينهم. والصيغة الأولى تصلح لرئيس دولة والثانية للقاضي.
الأزهر يتراجع لكنه لا يعتذر
يلاحظ تذبذب موقف الأزهر وتماهيه مع سياسة رئاسة الدولة، فقد تحمس لمحاكمة علي عبد الرازق وطه حسين وغيرهم، بما يرضي السلطات ويتوافق مع منطلقاته الدينية، لكن المدهش أن رضا السلطات ظل قائما لكن منطلقاته الدينية قد تبدلت، وتغير تبعا لذلك فيما يبدو الأساس الديني الذي تم الافتاء بموجبه، بحيث تجد مواقف وفتاوى متعارضة تنسخ أحكامه الأولى، وتتفق مع آراء من اتهمته نفس المرجعية بالكفر، وأصبحت دعاوى (الكفر السابقة) مستساغة ومقبولة، وبين الموقف الاول والثاني كانت أحكام هدر الدماء، والفصل من الوظيفة، ومصادرة الكتب، والتهديد، ولجوء البعض لدول أخرى، وكذلك مساحة كبيرة من المسؤولية المرتكبة تجاه تلك الشخصيات الثقافية والتنويرية والناس، ولم يجر الاعتذار ولا التعهد في عدم العودة الى تلك السياسة. إن من يقرأ النص التالي يلاحظ مدى تناقض مواقف مرجعية الأزهر .فقد أصدر بيانا في 19/ 5/ 2011 يبين موقف الدين من الدولة، وقال( الدولة في الإسلام هي : الدولة الديمقراطية الدستورية. والأزهر -ممثلا في علماء المسلمين اليوم – يقرر أن الإسلام لايعرف ما يسمى بالدولة الدينية، حيث لا دليل عليها في تراثنا..، وأن الخلافة نظام حكم ارتضاه صحابة رسول الله ص ناسب زمانهم، وصلح عليه أمر الدين والدنيا، ولا يوجد في نصوص الكتاب والسنة ما يلزم بنظام حكم معين.. وأن الحاكم في الإسلام: هو من ارتضاه الناس حاكما بالطريقة التي يحددها دستور الدولة… كما أن المواطنة الكاملة هي حق أصيل لجميع مواطني الدولة الواحدة، فلا فرق بينهم على أساس الدين أو المذهب أو العرق أو اللون، وهو الأساس الذي قامت عليه أول دولة إسلامية، و تضمنته صحيفة المدينة المنورة، وعلى المسلمين أن يعملوا على أحياء هذا المبدأ)(21).
إن من يقارن بين ما قاله الأزهر في وثيقة التجديد وبين ما طرحه الشيخ علي عبد الرازق ومحمود محمد طه(1909-1987)وفرج فودة وغيرهم يجد تطابقا واضحا، فقد قال الشيخ علي عبد الرازق بأن الخلافة لم يقررها القرآن ولا السنة، ولا يعرف الإسلام ما يسمى بالدولة الدينية… .
لقد مرت تسعة عقود قبل أن يدرك الأزهر خطأه الذي كلف الشعوب الإسلامية كثيرا، وبعد تجارب دموية عنيفة ونتائج فاشلة أحست الحركات المتولدة من تلك المحاكمة مثل حركة الإخوان المسلمين بحركة الفناء القادمة إلى صفوفها جراء تبنيها العنف، وشعرت من خلال تلك التجارب أنها أساءت إلى الإسلام، وفشلت في إقناع الناس بالالتفاف حولها، وشعرت بعض قياداتها التي هاجرت إلى أوروبا بأن تَبّني العنف لم يعد مستساغا، ويؤدي إلى التضييق عليهم أو طردهم من تلك البلدان، وشعر الكثير من مثقفيهم بالذنب الذي اقترفته داعش – وهم زملاء الأمس- في المناطق التي سيطروا عليها، فحاولوا تبرئة أنفسهم من تلك الجرائم، وجرّموا تلك الأفعال لكنهم لم يجّرموا ويكّفروا أفكار داعش، فانسحبت بعض فصائل الإخوان وبعض أحزاب الإسلام السياسي الأخرى وبعض المثقفين من الحقل الفكري العنفي الذي غرقت فيه فترة طويلة، وبدأت تفكر في طريقة أخرى تتناسب مع الحاضر .
طوى بعض أقسام تلك الحركات كتب الفقه القديمة، وتركوا التثقيف بنظرية الخلافة، وتخلوا عنها وعن تلك المحاولات التي زجت القرآن بالسياسة ونظام الحكم، ونظروا حولهم ووقفوا أمام المرآة وقرأوا الفشل الذي صاحب استنباطاتهم الفكرية طيلة تسعة عقود، و شخصوا مناطق ضعف النظرية، وأدركوا أن متابعة نظرية الخلافة هو جهد يؤدي إلى خسارة النتيجة.
ترك معظمهم الاستدلال بآيات القرآن في البرهنة على أصول الحكم، واعتبروه كتابا لا ينطق عن متبنياتهم الجديدة في نظام الحكم، ولا يمكنه تزويدهم بمقترحات لإدارة الحكم في الدولة الحديثة، فهو خالٍ منها، فغادروا مبدأ الخلافة، وذهبوا إلى وثيقة المدينة، واعتبروها أساسَ الحكم الإسلامي الصحيح، فالوثيقة تضمن السلام بين أديان المجموعات الدينية المختلفة في المدينة، وتكفل التعددية الدينية دون جزية، وتدعوا إلى أمة المدينة التي يوجد فيها اليهودي والكافر والوثني والمسلم، حيث يدافع الواحد منهم عن الآخر، ويمكن توسيع وترجمة بنودها إلى واقعنا الحالي ليعيش الناس بسلمٍ وأمان، وما زالوا في مواجهة عاصفة مع الشريعة ومع التيارات السلفية والعنفية، فهاهو الشيخ القرضاوي يتنازل عن دار الإسلام ودار الحرب، ويترك الجهاد الإبتدائي(جهاد الطلب)، وتفاعل مع الهضيبي والغزالي وأبي الحسن الندوي في انتقادهم نظرية الحاكمية التي اقترحها المودودي وتفاعل معها سيد قطب، وفتح ذلك المجال لتبني نظرية الدولة المدنية.
إن على شعوبنا العربية والاسلامية الاطلاع على هذه التجربة المريرة، لاتخاذ العبرة مما وقع فيها، واستلهام الدروس، للانطلاق الى المستقبل، لأن هذه المواقف أدت إلى تأخر كافة شعوبنا، وجعلتهم من شعوب الماضي.
——————————
المراجع:
- علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم، محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2000 .
- المصطلحات الأربعة في القرآن ص 23 . أبو الحسن الندوي ، التفسير السياسي للإسلام ص 64 و ص 94 مطبعة المنصورة، القاهرة
- هادي العلوي ، فصول من تاريخ الإسلام السياسي ص
- مجموعة رسائل حسن البنا، بند الاخوان المسلمون والحكم ص
- مجلة الهلال ص 83– تموز
- الهلال-ص 55 تشرين الأول
- المنار، 18 /9 / 1925.
- محمد الخضر حسين،نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، ط1 القاهرة 1344 هج .
- محمد بخيت المطيعي، حقيقة الإسلام وأصول الحكم، ط1، القاهرة، 1344 هج
- الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده ج 3 ص 194،دار الشروق، بيروت، تحقيق محمد عمارة،ط 1، 1993
- الإسلام وأصول الحكم، د محمد عمارة ص
- الحشر
- آل عمران 140 .
- الاعراف
- النمل
- ابن الطقطقي ،الفخري في الآداب السلطانية ص 65 ،مطبعة الموسوعات، مصر ، 1317 هج .
- الشورى 38 .
- النساء 59 .
- التوبة 48 .
- نهج البلاغة خطبة رقم 40
- وثيقة الأزهر للتجديد في الفكر والعلوم الإسلامية في 19 ماي 2011 فقرة (12 و 13 و 14 و 15).