تكوين

يَصعُب إن لم يكن مستحيلًا الإحاطة بالإنتاجية الفكرية لكبار الفلاسفة، من طاليس الإيلي (نسبةً إلى مدينة إيليا)، وصولًا إلى كارل ماركس. وتكمن صعوبة الإحاطة بإنتاجيتهم الفكرية في أن كلًّا منهم بنَى منظومة فكرية رباعية الأبعاد.

رُباعية الأبعاد بمعنى وجود ثلاثة أبعاد مكانية وبُعد رابع هو البُعد الزماني. وهذه الأبعاد تتضمَّن وتحتوي كل الوجود وما في الوجود، والإنتاجَ الفكري ضمناً، لأنه لا شيء يمكنه التفلُّت من هذه الأبعاد الرُّباعية، وإلا أصبحنا خارج الزمكان، وهو أمر مستحيل.

بينما فلاسفة اليوم -ويُقصد بـ ‘اليوم’ تلك الفترة الزمانية الممتدة منذ ما بعد ماركس وصولاً إلى الوقت الراهن- فإن معظمهم نهل وما يزال ينهل من أفكار كبار الفلاسفة، ليحفر له مجرى مائياً من أنهرهم الفكرية لريّ أرضه الفكرية الفلسفية. فاقتصرت معظم أعمالهم على جزء من منظومة من المنظومات التي أسس لها الفلاسفة الكبار. فتفرعت المدارس الفلسفية بتفرع مجاري المياه المحفورة، وأصبح لكل مجرى فرعي أرضه الفلسفية المروية من المنابع الرئيسة. فاستحال بناء منظومات فكرية متكاملة أو شبه متكاملة، رباعية الأبعاد كما بناها طاليس ومن أتى بعده وصولاً إلى ماركس.

مدارس فلسفية تفريعية عملت لمقاربات فلسفية لفرع محدَّد من هذا البناء الرباعي الأبعاد. فبعضها انصبَّ على محاولات تطوير فكرة من أفكار الفلاسفة الكبار، وبعضها توليفي عمل على محاولات الجمع بين أكثر من فيلسوف من أولئك الفلاسفة الكبار، وبعضها الآخر انشغل بمحاولة تأسيس فرع مستقل له.

الإنتاجية الفكرية

من هنا نبعت فكرة عنوان هذا المقال، لأن محاولة قراءة أي فيلسوف من كبار الفلاسفة لن تكون أكثر من قراءة الصفحة الأولى -وقد تكون في بعض الأحيان أقل من صفحة- من نتاجه الفكري لعمق أفكاره. ولا يعني هذا بتاتاً أن قراءة فلاسفة اليوم أسهل من قراءة أولئك الفلاسفة الكبار. بل لكل فيلسوف منهم ميزاته الفلسفية، لكن المقصود هو أن فهم الإنتاجية الفكرية لفلاسفة اليوم يقتضي الاطلاع، ولو بالحد الأدنى، على المنبع الذي نهل منه فيلسوف اليوم ليشق طريقه لري أرضه الفلسفية. وبهذا يمكن أن تتعمق قراءة أي فيلسوف من فلاسفة اليوم، خاصة بعد التفرعات التي أخذت بها الفلسفة المعاصرة إلى حد يبدو معه كل فرع من هذه الفروع الفلسفية كِياناً مستقلاً بذاته لا علاقة له بأي فرع آخر، ولا صلة له بأي منظومة فلسفية سابقة من منظومات كبار الفلاسفة.

فلسفة العلوم

فعلى سبيل المثال لا الحصر، يكثر الحديث اليوم عن فلسفة العلوم. وكما تعلمنا منذ الصغر أن لكل مادة ندرسها موضوعاً محدداً ندرسه عليه. ومن المفترض أن يكون لكل مادة دفترًا مستقلًا لا نخلط فيه مواد أخرى. فمادة التاريخ -وهذا مثال حي من الواقع ما نزال نمارسه يومياً- لها كتابها ودفترها وحصتها المخصصة، وكذلك الأمر مع مادة الجغرافيا والرياضيات والفيزياء… وهكذا نتعلم من هذه المنهجية التعليمية أن لكل مادة موضوعها المحدد، ولا يجوز الخلط بين هذه المواد، لأن ذلك يؤدي إلى فوضى في المواضيع المدروسة يضيع معها الموضوع المدروس.

لذا فإن من يدخل في دراسة فلسفة العلوم عليه أن يكون موضوعه مركباً من موضوعين أساسيين: الفلسفة والعلوم. وذلك بافتراض أن الفلسفة متفرعة بتفرع الموضوعات، ولكل دراسة موضوعها المحدد. فمن يدرس علم الأحياء يركز في دراسته على الكائنات الحية ولا يتدخل في دراسة الجماد! فكيف يُمكن لي أن أدرس أو أتفلسف، بل كيف يصح أن أصنف بعض فلاسفة اليوم على أنهم فلاسفة علوم؟ وهل يحق لهم أن يخلطوا الموضوعات، متجاوزين بهذه الفعلة مسألة تحديد الموضوع المدروس؟

إقرأ أيضًا: الفلسفةُ: بوابةُ الحياةِ الواعيةِ، ومعبرُ الألمِ إلى المعنى

إن دراسة فلسفة العلوم مسألة معقدة جداً، ويعود تعقيدها أساساً إلى مشكلة التسمية. فمصطلح “علوم” مصطلح فضفاض وإشكالي حتى يومنا هذا. إذ لا يوجد إجماع -ولو بالحد الأدنى- فيما يُمكن إدراجه تحت هذا المسمى. وها نحن نستمر في حواراتنا ونقاشاتنا وجدالاتنا في هذه الإشكالية، خاصة بعد إطلاق مصطلح “علوم” على عديدٍ من المجالات المتعلقة بدراسة الإنسان التي أصبحت تعرف بالعلوم الإنسانية. وهي تخصصات متعددة ومتشعبة للغاية، ومنها على سبيل المثال العلوم السياسية.

وهنا نجد أنفسنا أمام إشكالية: على أي أساس نمنح صفة “العلم”؟ فهل السياسة علم حتى نطلق عليها “علوم سياسية“؟ وينطبق السؤال نفسه على علم الاجتماع وعلم النفس… بينما نلاحظ غياب مصطلح “علم” عن تخصصات مثل: التاريخ والجغرافيا! فهل يعني هذا أن التاريخ ليس علمًا؟ أو أن الجغرافيا ليست علماً؟ ولكن كيف إذن نرى أن السياسة علماً؟ وما المعيار الذي يمكن أن نستند إليه لإضافة كلمة “علم” أمام أي مجال من المجالات المدروسة؟

هل الفلسفة علم محدد الموضوع؟

وهذا الأمر يأخذنا إلى سؤال فلسفي ما يزال الجدل محتدماً بشأنه: هل الفلسفة علم محدد الموضوع؟ أم هي ‘أم العلوم’، مما يخولها -بسبب انفتاح موضوعها- الدخول في جميع الحقول المعرفية، لتصبح بذلك “أم العلوم’؟ أم أنها ليست علماً بالمعنى الدقيق للكلمة، نظراً لانغلاق موضوعها (أي تحديد موضوعها تحديدًا كاملاً) ليصبح هذا الموضوع مقصوراً على الحقل الذي تدرسه؟ مما يحولها إلى ملحق بالموضوع المدروس، فيصبح لدينا فلسفة العلوم، والفلسفة السياسية، وفلسفة الأخلاق…

أي أننا أمام مواضيع تخصصية محددة تُدرس بموضوعاتها المحددة، بينما تظل الفلسفة خارج هذه الموضوعات، تنتظر أن تشق طريقها الخاص لريّ الأرض الفلسفية لهذا الموضوع المحدد أو ذاك الموضوع المحدد.

إقرأ أيضًا: الاقتصاد والفلسفة: حوار الضرورة والكرامة

كان هذا على صعيد الموضوعات المتعلقة بالعلوم الإنسانية أما على صعيد العلوم الطبيعية مثل الكيمياء والفيزياء والرياضيات وعلم الأحياء… فهذه التخصصات تُعد علوماً بإجماع شبه عام، إذ لا خلاف ولا جدال على صفتها العلمية. ويمكننا تأكيد علميتها بناءً على معايير محددة، أبرزها وجود قوانين علمية صارمة ودقيقة تحكمها. مثالًا على ذلك: سقوط الأجسام من الأعلى إلى الأسفل بفعل قانون الجاذبية، والانتظام شبه التام لدوران الكواكب في النظام الشمسي حول الشمس وفق قوانين محددة. وينطبق الأمر نفسه على علم الأحياء إذ تسبب فيروسات محددة أمراضاً محددة، وفي علم الوراثة مع انقسام الشريط الوراثي (DNA). وكذلك الحال في الكيمياء، فتخضع معظم الظواهر الكيميائية لقوانين ناظمة.

وهنا تبرز إشكالية أخرى عندما نتحدث عن “فلسفة العلوم“: أي علوم نقصد تحديداً؟ هل نعني فلسفة الفيزياء أم الأحياء أم الكيمياء أم…؟ وكيف يجوز لنا أن ندمج كل هذه التخصصات العلمية تحت موضوع واحد؟ خاصةً وأن الحديث عن فلسفة العلوم غالباً ما ينحصر في فلسفة الفيزياء. فهل تمثل الفيزياء العلوم الأخرى بحيث نكتفي بدراسة فلسفتها لتكون ممثلًا عن فلسفة العلوم كلها؟

إن كانت الإجابة بـ “نعم”، فإن الفيزياء تختصر موضوعات جميع العلوم الطبيعية الأخرى، فما الحاجة إلى بقية العلوم الطبيعية الأخرى، ما دامت موضوعاتها ما هي إلا تفرعات من موضوع الفيزياء؟ وهذا أمر غير صحيح، لأنها ليست كذلك! وما دامت ليست كذلك، فلماذا هذا الحصر والانحصار في فلسفة العلوم بالفيزياء؟

يبدو أن الحصر والانحصار في الفيزياء أتى نتيجة ما أحدثته قوانين الفيزياء، من كوبرنيكوس وصولًا إلى نيوتن ومن ثم ماكس بلانك وألبرت أينشتاين ونيلز بور، من تغيرات جذرية في نظرة الإنسان إلى الطبيعة وموقعه فيها. وقد حاول الفكر الفلسفي أن يحصر وينحصر بهذا العلم -أي الفيزياء- ليواكب كل هذه التطورات في الفكر الفيزيائي ومدى انعكاساته على الإنسان وموقعه وفهمه للواقع والوجود، لكنه في الوقت نفسه أقدم على تجنب أو إهمال متعمد لنظريات داروين وما أحدثته هذه النظريات من تغيرات في فهم الإنسان لعلاقته بالطبيعة المحيطة به وموقعه فيها.

ولا يختلف الأمر عن التفرعات الأخرى التي أصابت الفلسفة، فأصبح هناك فلسفة تتعلق بعلم الاجتماع، وأخرى تتعلق بفروع أخرى، وصولًا إلى حد أصبح فيه فرع يُعرف بـ “فلسفة السينما”!

المعضلات الفلسفية

وهنا نعود إلى أن ما يُصيب الفلسفة اليوم هو أن معظم فلاسفة اليوم يَنْهَلون ويشقون قنوات ريِّ أرضهم الفلسفية، مُتَناسين أو مُهملين قضية أساسية، ألا وهي أن كل ما يقعون فيه من اجتهادات فلسفية تنتمي إلى مكان واحد، وهو الكرة الأرضية. وريُّ أرضهم الفلسفية ينبع من نهر فلسفي أساسي، أي منظومة فلسفية أساسية يُمثل كبار الفلاسفة أساسَها. فأصبحنا اليوم كمن يتعامل مع نتاج هذه البقعة الفلسفية وكأنه نتاج مستقل عن المصدر الفلسفي الأساسي، أي النهر الأساسي الذي يَرْوي هذه البقعة.

وإذا تعمقنا قليلاً في التسميات: فلسفة الفيزياء، فلسفة علم النفس، فلسفة السينما… نرى عمق المأساة التي يضع فيها الفلاسفةُ الفلسفةَ. فهي دائمًا ملحقةٌ بموضوع ما، وهذا الموضوع قائمٌ سواء أدخلت عليه الفلسفة أم لا. فالسينما -على سبيل المثال- موجودةٌ بوجود الفلسفة أو غيابها، والفيزياء موجودةٌ بوجود الفلسفة أو غيابها… ليتبين وكأن الفلسفةَ قضيةٌ إضافيةٌ على كل هذه الموضوعات.

إقرأ أيضًا: مستقبل الفلسفة في مصر: عن أي فلسفة نتحدث؟

تفرعاتُ العلومِ صوَّرت “أم العلوم” وكأنها تلك الأم التي وصلَت إلى سِنِّ الشيخوخة المتأخِّر، وحانَ وقتُ بدايةِ صياغةِ ورقةِ نَعْوِها. وبدأتْ تظهرُ ورقةُ النعوةِ على معابدِ تفرُّعاتِ العلومِ، واستسهَلَ إعلانُ موتِها. لكنَّه حفاظًا على ذِكْراها، تُذكَر “أمُّ العلوم” في هذه المعابدِ (العلومِ المتفرِّعةِ) لتبدوَ وكأنها قطعة آثاريَة تُجمِّلُ هذه العلومَ المتفرِّعةَ فحسب.

حتى مَنْ يُطلَق عليهم فلاسفة اليوم ينكرون صفةَ أنَّهم فلاسفة! على سبيل المثال: ميشيل فوكو الرافض توصيفه فيلسوفًا! كما أخذتِ العلوم الطبيعيَّة تُعلِنُ وفاة الفلسفة، محاولة أن تجعل من الفلسفة علمًا! وذهبَ بعضهم إلى إعلان موتها، على سبيل المثال لا الحصرِ: ستيفن هوكينج وإعلانه موتَ الفلسفة وبقاء السؤال الفلسفي ليجيب عنه العلماء!

وهنا يُمكن أن تُطرَح الإشكالية الأساسية: هل الفلسفة محض ملحق بجميع هذه المواضيع المدروسة، ويُمكن إسقاطُ تأثيرها في الموضوع المدروس؟ الإجابة الأولية طبعًا هي ليست كذلك، بل هي “أم العلوم”، لكن مع تفريع وتقسيم العلوم والتطورات المتسارعة التي أصابت العلومَ الطبيعيةَ -لارتباطها بتطوير الصناعة الإنتاجية- جعلَتِ الفلسفةَ تبدو وكأنها ذلك الشيء الملحق بهذه الموضوعات.

كل هذه الموضوعات نبعت من تساؤلات فلسفية. فلنأخذ طاليس على سبيل المثال في بحثه عن الأصل، وكثيرين غيره! جميعهم عملوا على عدم الفصل بين الفلسفة والموضوع المدروس. وقد يكون رينيه ديكارت أحد أبرز النماذج، فحتى اليوم نستخدم “الإحداثيات الديكارتية” في الرياضيات، مع أن ديكارت لم يفصل بين إحداثياته الرياضية والفلسفة! وكذلك الحال مع أينشتاين والتغيرات الجذرية التي أحدثها في الفيزياء، خاصة فيما يتعلق بمفهوم الزمكان… ومن يقرأ كتبهم يلمس بوضوح البعد الفلسفي العميق في أعمالهم.

لا يعني هذا أن ما يحدث اليوم من فصلٍ بين الأراضي الفلسفية المروية هو الأمر الصواب. بل يبدو أن العمل – منذ فترة – على ما يُعرف بـ “تداخل الاختصاصات” (Interdisciplinary) بدأ يأخذ مجراه لشق قنوات بين هذه الأراضي الفلسفية المروية المنفصلة، ليعيد نوعًا ما صلة الوصل بينها وبين الأنهار الأم التي تَنهل منها. فهل سنشهد بعد فترة زمنية ليست بالبعيدة بداءة تكون منظومة فلسفية رباعية الأبعاد، لتُعيدَ الفلسفةَ إلى موقعها الأساسي بوصفها “أم العلوم“؟

كما لا يعني هذا التوجه إلغاء أي علمٍ وتفرُّعاتِه. كلا، بل التخصُّصية مسألة مهمة في عملية تطور كل المجالات، لكن هذا البَتْر الحاسم للتفريع وإقصاء الفلسفة والتنكُّرُ لها هو المشكلة. فعلى الرغم من كل ما لحق الفيزياء من تطورٍ، وفقًا للويس ألتوسير، استجابت لها الفلسفة. مع عدم نسيان مسألة أساسية وهي أنَّ الفلسفة، أيضًا وفقًا لألتوسير، في أحيان كثيرة تستبق أي طلب من أي علم، فتصنع مقولات لا تستخدم في العلم إلا بعد فترة زمنية طويلة. وهذا ما يذكِّرنا بمؤسسي الفلسفة الذرية في الفلسفة اليونانية.

وإذا ما أُخِذَت الفلسفة بوصفها “أمَّ العلوم”، تصبح الفلسفة ملامسة ومرافقة للإنسان، بغض النظر عن حرفته أو مهنته أو مستوى تعليمه أو أُمِّيَّتِه… وتخرج من أَسْرِ الجدران الأكاديمية التي وُضِعَت فيها. فكل إنسان منا فيلسوف وفقًا لأنطونيو غرامشي. بِخُروجِها من سجنها الأكاديمي، تعاود الفلسفة حياتها الطبيعية الدائمة التجدد، لأنها جزء من تفكير كل إنسان، مهما كان موقعه الاجتماعي والجغرافي والزماني. فهي الجزء المُعاش من حياة الإنسان ووعيه.

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete