تكوين
اطلعت على كتاب محمد أبو زيد الدمنهوري “الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن” الجزء الأول منه، بفضل الصديق جمال عمر، بعد أن بلغني صدور الطبعة الأولى من كتابي “القرآن ومطلب القراءة الداخلية سورة التوبة نموذجا” من لدن دار النشر المكلفة بذلك، وقد أشرت من خلال الكتاب لأهمية القراءة الداخلية لآيات القرآن بعضها ببعض، مع مراعات منظومة القيم العليا في القرآن الكريم في مقدمتها قيمة الرحمة، وأشرت بأن القراءة الداخلية للقرآن ليس المقصود منها عزل القرآن عن المحيط الذي نزل فيه. ففهم القرآن داخليا لا يعفينا من فهم محيطه التاريخي والاجتماعي والثقافي الذي نزل فيه، والمحيط الذي نحن فيه. أُذكّر بهذا الأمر لأنني وجدت الدمنهوري حريصا كل الحرص ليفسح المجال أمام القرآن ليقول كلمته ويتحدث حول مختلف المواضيع التي يضمها، وهو بهذا الحرص يدور في فلك تقديم قراءة داخلية للقرآن الكريم، تكون الآيات والسور هي التي تتحدث بنفسها، بهدف تحريرها من حالة الاستدلال بها، في كثير من الأحيان، على أمور لا تتوافق مع روحها وغايتها التي جاءت من أجلها.
عندما اطلعت على كتاب محمد أبو زيد الدمنهوري، رجعت بالذاكرة الى الوراء للتفتيش عن ورقة كتبتها حول سورة الفاتحة، وذلك بقراءة مفرداتها الأساسية (الحمد، رب العالمين، الرحمة، ملك يوم الدين، الصراط المستقيم…) من خلال آيات القرآن فقط.
أبو زيد الدمنهوري والحضور المتجدد
يعود الفضل للباحث المصري الجاد، جمال عمر في دراسة وإعداد تفسير محمد أبو زيد الدمنهوري “الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن” بعدما أن ظن خصومه من الذين يكرهون التجديد ويكرهون الرأي ويتحاملون على أصحابه، بأن هذا التفسير قد اختفى بشكل نهائي ولا أمل في ظهوره من جديد، فجمال عمر منذ سنة ثلاثة وتسعين من القرن الماضي وهو يبحث عن قصة محمد، أبي زيد الدمنهوري، ليس عن قصة التفريق بينه وبين زوجته سنة 1918م ثم رد المحكمة الشرعية العليا الحكم. بل اهتمام جمال عمر انصب حول البحث عن تفسير “الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن” لمحمد أبوزيد الذي صدر له عام 1930م، وقد تم مهاجمة التفسير من قِبل مشايخ ودعاة، وتمت مصادرة الكتاب. ليختفي الكتاب وذكر صاحبه من المشهد العام.[2] فالقليل من الباحثين والدارسين من يعرف محمد أبو زيد الدمنهوري، ومن يعرفه لا يجد طريقا للوصول الى مؤلفه.
يقول جمال عمر، لكن مع فورة ثورة التواصل والتشارك عبر قارة النت خلال العقدين الماضيين، فقد ظهرت نسخ من هذا التفسير كانت موجودة بالهند، وتم توفيره كملف مصور على النت. وقد أنزل جمال عمر ملف الكتاب وجلس يدارسه، فوجد أن أبا زيد الدمنهوري قد أتى بنسخة مصحف كاملة كما هي وعلى هامشها يكتب تفسيره، الذي هو عبارة عن مقدمة قدم بها، ويكتب في التفسير على الهامش عود إلى الآيات كذا وكذا من سورة كذا، وأحيانا يضيف عبارة “لتجد أن”، ويعطي معنى كلمة أحيانا، أو معنى في سطر واحد.[3]
كتاب “الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن” يضم عشرة مجلدات وهو متاح على الأنترنت كنسخة إلكترونية، ولا شك أن خصوم الدمنهوري من المشايخ وغيرهم، هذه المرة لا قدرة لهم على منع الكتاب من أن يصل الى أيدي القراء والمهتمين في العالم، فحضور الكتاب وتداوله، في حد ذاته حضور لفكر الدمنهوري ومنهجه في فهم القرآن. لا شك بأن هذا العمل قد كلف جمال عمر كثيرا من الوقت والجهد، وقد ذكر أنه استثمر لحظة الحجر الصحي الذي تسبب فيه كوفيد 19 سنة 2020م في دراسة وإعداد الكتاب.
من اقوى انواع التفسير تفسير القران بالقران؟
بالنظر الى القرآن الكريم نجده لم يطلب منا تفسيره، فأحسن التفسير يعود إلى الله وكتابه، بينما طلب منا تأويله، فمفردة “تأويل” في مختلف مداراتها في القرآن ارتبطت بالأنبياء والرسل وبالناس جميعا، بينما مفردة “تفسير” التي وردة مرة واحدة ارتبطت بالله جل وعلا (أي بالقرآن) قال تعالى: “وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)“(الفرقان)، فعملية الفهم التي نبذلها وفق مختلف مقاماتنا العلمية والادراكية في قراءة القرآن وتلاوته وتدبره…من الأولى أن نطلق عليها تأويل القرآن بدل تفسير القرآن، وهذا موضوع يطول الحديث بشأنه.
تم تقسيم التقسيم بشكل عام الى تفسير بالمأثور وتفسير بالرأي، فالغاية من هذا التقسيم مفادها، تقسيم التفسير الى تفسير مبني على دليل (التفسير بالمأثور) وتفسير آخر اعتباطي قائم على الآراء الشخصية الغير الموثوقة (التفسير بالرأي)، “بينما في واقع الأمر هذا تقسيم ينبني على أيدلوجية مفادها التحيز لتفاسير السنة؛ وتقويض غير التفاسير والتأويلات غير السنية. ولا شك أن هناك فرقة المعتزلة والإباضية…وحقيقة الأمر أن مختلف التفاسير التي توصف بأنها تفسير بالمأثور، ما هي إلا تفسير بالرأي، وفي الحقيقة أن الحديث عن التفسير بالمأثور في مقابل التفسير بالرأي، اتجاه تأسس بعد الهرمينوطيقا الراديكالية التي دعا إليها ابن تيمية”[4] وقد حرم ابن تيمية التفسير بالرأي يقول ” فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام…ودليله على ذلك ما نسب الى الرسول صلى الله عليه وسلم: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ “.[5]
المقصود من تفسير القرآن بالقرآن، فسح المجال لفهم القرآن من خلال القرآن ذاته، بربط وفهم آيات القرآن كله ببعضها ببعض وفق وحدة الموضوع، القول بهذا النوع من التفسير ليس بالقول الجديد، فهناك من يعتبره أحد أنواع التفسير بالمأثور. ويعد بعض العلماء تفسير القرآن بالقران أول الطرق التي يلجأ إليها المُفسر وأنهُ أبلغ التفاسير، يقول ابن تيمية ” إن أصح الطرق [في تفسير القرآن] أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أُجْمِلَ في مكان فإنه قد فُسِّرَ في موضع آخر، وما اخْتُصِر من مكان فقد بُسِطَ في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له… والسنة أيضا تنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن”.[6] يعترف ابن تيمية بأن تفسير القرآن بالقرآن أصح الطرق في التفسير، ولكن هذا الاعتراف سينقضه كليا، من خلال كلامه في الأخير الذي يرى بأن تفسير القرآن بالقرآن ينبغي أن لا يخرج عن التفسير بالرواية والحديث، فهي مصدر العلم في التفسير فقط دون غيرها، فلا مجال للرأي على الإطلاق في الاجتهاد في فهم الآيات بربط بعضها وفهمها من خلال البعض الآخر من خلال مجمل القرآن الكريم كله. لا شك بأن ابن تيمية يرغب في قطع الطريق أمام كل محاولة قد تسمح بالرأي، ولهذا قيد تفسير القرآن بالقرآن بالرواية وهو يرى بأن الرواية (الحديث) وحي مثل القرآن، وفي هذه الحالة لا داعي للرأي فالوحي الثاني (الحديث) يفسر الوحي الأول (القرآن)، الغائب عن ذهن ابن تيمية حتى في هذه الحالة التي قال بها فهي تحت سلطة الرأي. رأي المفسر في تقديم رواية عن أخرى، وفي إزاحة رواية دون أخرى…لا مهرب من ذات المفسر ورأيه اجتهاده.
ما هي اصح الطرق التي يعتمد عليها المفسر؟
تفسير القرآن بالقرآن حاضر ومعروف في مصنفات القدماء، ولكن ليس هناك تصنيفات مستقلة بهذا الفن، من جهة التأسيس له والعمل به وبيان وجوه اختلافه وتميزه عن أنواع التفسير الأخرى، والدليل على هذا أننا لم نجد عند القدماء، الى الآن تفسيرا للقرآن بالقرآن ذاته.
الاقتراب من سؤال تجديد المنهج في فهم القرآن الكريم، وذلك باستثمار وتوظيف المعرفة المعاصرة، الى جانب مختلف المعارف في التراث الإسلامي، يسبب حساسية كبيرة جدا، عند جزء كبير من المشايخ الذين يرفضون بشكل قاطع، استحضار، المعرفة المعاصرة في فهم القرآن الكريم، ويصرون بشكل كبير على البقاء داخل دائرة العلوم الإسلامية لوحدها في فهم القرآن (علم أصول الفقه، علم الحديث، علم النحو، علوم القرآن، علم الفقه…)، وينظرون بعين الشك إلى كل من ينتمي لمختلف التخصصات العلمية في العلوم الإنسانية أو العلوم الطبيعية، وترتب عن اجتهاده فهم مخالف لما يعتقدون به. فتهمة كل من جاء بجديد، هي أنه ليس من أهل التخصص وليس من أهل العلم…وفي حالة إن كان من أهل التخصص في نظرهم وجاء برأي مخالف فهو خارج عن الاجماع وقليل العلم…فالمشايخ من هذا النوع ينصبون أنفسهم أوصياء على الدين باسم دريعة التخصص.
أبو زيد الدمنهوري وطريقته في تفسير القرآن بالقرآن
يلح أبو زيد الدمنهوري على ضرورة العودة الى القرآن الكريم “لمعرفة حقيقة الدين، فالقرآن هو الكتاب الذي حفظ بما لم يحفظ به غيره، وقد كانت الكتب السابقة في زمن أمم لم تنضج النضج الكامل، فكان التشريع على قدر عقول الاقوام التي جاءتها تلك الكتب وفق أحوالها الاجتماعية. وعندما نضجت الأمم وتم استعدادها جاءها القرآن بالتشريع الكامل فهذه هي الحكمة في حفظ القرآن وبقائه من غير نسخ ولا تبديل. وإنه فوق تشريعه الاجتماعي الكامل جاء بأصول الكتب السابقة كلها فهو مصدق لها وداع إليها، والذين يؤمنون بها يؤمنون به”،[7]وبعد هذا النص يدعو الدمنهوري القارئ لقراءة سورة الاحقاف.
أما عن موقف الدمنهوري من مدونة التفسير في الثقافة الإسلامية فهو يرى، بأن الدس والحشو بلغ مستوى كبيرا الى درجة أنه غطى على القرآن وحجب حقيقته وهديه، ففي جل التفاسير “أنك لا تجد أصلاً من أصول القرآن إلا وتجد بجانبه رواية موضوعة لهدمه وتبديله. والمفسرون قد وضعوا هذا في كتبهم من حيث لا يشعرون، وقد جعلوا الاصطلاحات والمذاهب الفقهية والكلامية أصولاً حكّموها في القرآن وأنزلوه عليها حتى صار ميداناً للجدل، وأصبح غير صالح للحياة بما حملوه من الأثقال، وبما وضعوا فيه من الجمود والعراقيل، ووسائل التفريق والشقاق. فهدايته فُقدت بالمجادلات في الألفاظ والمذاهب ومعانيه ومقاصده ضاعت بالروايات الناسخة، والتفسيرات المتحجرة العقيمة”.[8]
كيف نفسر القران بالقران؟
موقف الدمنهوري يضعنا أمام إشكالية كبيرة، مفادها، هل فهم القرآن وتأويله يعود بدرجة أولى الى خارجه؟ أي الاستناد بدرجة أولى على مختلف النصوص والآثار والروايات عن الرسول وصحابته وتابعيهم ومختلف شعر العرب… أم أن فهم القرآن يعود بدرجة أولى الى فهم معانيه ودلالته بشكل مباشر من خلال تدبر نظمه؟ بذور هذه الإشكالية تعود الى الزمن القديم زمن القرن الثاني الهجري وما تلاه، وهو زمن تميز في بعض من بعض جوانبه الثقافية بنوع من الجدال بين أهل الرأي وأهل الحديث، فلمن تكون الغلبة؟ صيرورة التاريخ الإسلامي وتطور الاحداث، أفرزت لنا تيارا توفيقيا بين الاتجاهين، فأصبح الرأي بشكل عام يستند على الحديث والرواية. وهذه العملية التوفيقية بدأت بشكل تطبقي، مع الشافعي وكتابه الرسالة، وهو أول كتاب ألف في علم أصول الفقه، العلم الذي بقي وفيا للتقعيد المنهجي الذي وضعه الشافعي لعملية البيان. وهي عملية تسري بدرجة أولى على فهم القرآن الكريم. ولم يتم الاهتمام بالشكل المطلوب بمختلف وجهات النظر الأخرى في الثقافة الإسلامية، التي اهتمت بموضوع اللغة ونظم القرآن، وأبرز من يذكر في هذا الاتجاه في زمن الشافعي، هو الجاحظ ومن سار على نهجه، على رأسهم عبد القاهر الجرجاني. والغريب اليوم أن ينظر لهؤلاء بكونهم مختصين في مجال اللغة والأدب فقط، كأن هؤلاء لا يهمهم ولا يشغل بالهم سؤال فهم القرآن. وقد زكت الدراسات الاستشراقية هذا الاتجاه الذي ينظر الى الجاحظ والجرجاني بكونهم علماء في اللغة فقط، كما ينظر لابن رشد بأنه عالم فلسفة في غفلة بأنه قاضي وفقيه زمانه بامتياز، ولا خلاف بأنه جمع بين الفقه والفلسفة، الان يختزل طه حسين بأنه عميد الادب العربي، كأنه لا علاقة له بسؤال فهم القرآن، والأمر نفسه مع نصر حامد أبو زيد بطريقة مختلفة، وحقيقة الأمر أن هؤلاء علماء ومفكرون باسم الإسلام، وليس بالضرورة أن يخضعوا لطقوس ارتداء الطربوش وما شابه ذلك.
لا شك بأن طريق الجاحظ والجرجاني وغيرهما كثير، يختلف عن طريق أهل الرواية والحديث في فهم القرآن. فالدمنهوري وغيره هو امتداد لإرث تاريخي في الثقافة الإسلامية وليس كما يدعي خصومه، الى درجة أن هناك من وصف تفسيره بالتفسير الالحادي.
أما عن طريقة الدمنهوري في تفسير القرآن بالقرآن، فطريقته تعتمد بشكل أساسي على ” كشف معنى الآية وألفاظها، بما ورد في موضوعها من الآيات والسور فيكون من ذلك العلم بكل مواضيع القرآن ويكون القرآن هو الذي يفسر نفسه كما أخبر الله، ولا يحتاج إلى شيء من الخارج غير الواقع الذي ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله في الكون ونظامه في الاجتماع. وقد اخترت أن يكون على عدد الآيات في المصحف لتبقى الهداية بالترتيب الذي اختاره الله، وليُمكِّن الباحث عن معنى الآية أن يلاحظ سياقها، فيقرأ ما سبقها وما لحقها من الآيات، ليكون على علم تام وهداية واعظة. بهذه الطريقة في التفسير لا تجد شيئا يشغلك عن القرآن، وإنما تنتقل منه إليه لتجمع مواضيعه، وتوفق بين آياته، فيكون كل تفكرك وتدبرك محصوراً فيه، فتعظم بمعلوماته، وتهدى بهداه”[9]
يذكرنا الدمنهوري بقاعدة بديهية عند الجميع على مستوى التصور العام، ولكنها غائبة بالنظر في مضمون مدونة التفسير في الثقافة الإسلامية ومدونة الفقه وأصول الفقه… وهذه القاعدة مفادها “أن القرآن فوق الأفهام والتفاسير جميعاً، بمعنى أنها لا يمكنها حصر معانيه ولا تحديد مراميه، فهي ترجمة له، وليست حجة عليه. وإن أراء المفسرين تابعة للبيئة والظروف المحيطة بهم، وهذه تتغير وتتجدد فالجمود على آراء فاتها الزمان مؤخراً للأمة، وجعل القرآن مقيداً بهذه الآراء ضار به، لأن ذلك يجعله غير صالح لكل وقت فيضيق سعته..”[10]
هذه مسألة نقدية ومعرفية في غاية الأهمية، فمن أبرز مشكلات الثقافة الإسلامية في الواقع الراهن أن جزء كبير من المحسوبين عليها، لا يستحضرون سياق الزمن والمكان والمحيط والثقافة والخلفيات الاجتماعية والسياسية، التي كانت من وراء تشكل مختلف المواقف و الاجتهادات والأثراء الفقهية في الثقافة الإسلامية، وإذا بهم يسقطون في فج التعاطي معها كأنها مسلمات مكتملة لا تقبل التجديد والمراجعة، الى درجة الخلط بين القيمة الأخلاقية التي جاء بها الإسلام، وبين المحيط الثقافي المتعدد الذي تشكلت فيه تلك القيم، وامتزجت به وتقيدت بظروفه ومتطلباته وخصوصياته. فمثلا لاستحضار بعض ما قال به القدماء، رأي فقيه أو مفسر حول قضية معينة في زماننا هذا، فمن الضروري فهم الخلفية التي كانت من وراء القول بذلك الرأي أو الموقف، أما استحضاره دون فهم تلك الخلفيات فهذا يعني أننا نسقط تصورات الماضي على الحاضر دون وعي، وهذه عين المشكلة في الوقت الحاضر، بالنسبة للذين اختلفوا مع الدمنهوري وطعنوا في تفسيره في حياته وبعد مماته. فقد اعترض عليه شيوخ الأزهر، واعترض عليه رشيد رضا، ووصفه، محمد حسين الذهبي، بأنه جامد على المحسوسات، وجاحد لكثير مما أخبر به القرآن ومنكر لأحكام قررها القرآن والسنة، وأجمع عليها الصحابة،[11] وكتب بشأنه علي جمعة، بحثا يصفه بأنه مبدد وليس مجدد، لأنه في نظره استهزأ بالعلماء وسخر من مجهودات المفسرين قديما وحديثا.[12]لا يهمنا هنا موقف المشايخ من تفسير الدمنهوري بقدر ما يهمنا، التعريف بجهده واجتهاده بمعزل عن خصومه، الذين ربما رأوا في أفكاره وتصوراته بأنها ستبعدهم عن احتكار فهم الدين بين الناس، بدعوى أنهم متخصصون فيه، وبدعوى حرصهم على حفظه وحمايته.
لا شك بأن الدمنهوري خلص من خلال طريقته في التفسير الى مفاهيم وتصورات تخالف ما عليه مدونة التفسير، من بيتها مثلا بأن القرآن لا يسمح بتعدد الزوجات، إلا في حالة التعدد بأمهات اليتامى وهي ضرورة اجتماعية. وقد عبر الدمنهوري عن موقفه هذا في خمسة أسطر فقط، وفسح المجال للآيات القرآنية لتقول قولها. ربما يتضايق البعض من طريقة الدمنهوري في التفسير، لأنه لا يستفيض في بسط رأيه، ولا يعلق على الآيات التي يدعوا الى العودة اليها لتفسير موضوع آية معينة، ربما أن الدمنهوري ترك هذه المهمة للقارئ وقدرته على تدبر الآيات والسور التي وضعها تحت موضوع أية من الآيات، خوفا من أن تكون تعليقاته وأراءه إن استفاض فيها، حاجزا بين القارئ وتدبر الآيات والسور التي يدعوا إلى العودة إليها. مما جعل تفسيره شبيه بالتفسير المعجمي، فمختلف مواضيع الآيات والسور ربطت بمختلف الآيات والسور التي ترتبط بها، وهذه مهمة منهجية مهمة للغاية، تسهل على القارئ والدارس الدخول لمختلف مواضيع القرآن من خلال القرآن ذاته، كما أن هذه الطريقة ستساهم بشكل منهجي في فهم التصور الداخلي للقرآن في نظرته للعالم والانسان والوجود، بمعزل مختلف التصورات التي الصقت به في مدونة التفسير المأخوذة عن مدونة الحديث.
ولا شك بأن الدمنهوري قد كلفه هذا العمل جهد كبير، في وقت لم تظهر فيه بشكل كبير معاجم مفهرسة لألفاظ القرآن الكريم تساعد وتسهل هذه العملية.
وهم الخوف على الإسلام
الأفكار الجديد الخارجة عن المألوف، كثيرا ما تصطدم بفئة من الناس نصبت نفسها وصية على قضايا الدين والدنيا والمجتمع، فالحياة بمختلف مجالاتها بوعي منهم أو بدونه، ثابتة ومكتفية بكل ما هو قديم، فليس بالإمكان إبداع مما كان. في الوقت الذي يتطلع فيه المجددون الى غد أفضل، يتمسك فيه خصوص التجديد بمقولة هذا ما وجدنا عليه آباءنا، وهذه المشكلة بين الطرفين ضاربة في القدم، وقد أشار القرآن لهذه المعضلة في أكثر من موضع قال تعالى: “قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)“(البقرة) القرآن دعوة إلى مراجعة مختلف المسلمات والأفكار والاعتقادات والتصورات التي ورثناها عن الآباء والأجداد، بالخروج عنها، أو نفخ روح الحياة فيها من جديد، لأنها فارقت الزمن الذي ظهرت وولدت فيه، وبمفارقتها تلك، تتحول الى أشكال وطقوس ميتة دون معنى ودون فائدة تذكر، والغريب أنك تجد الكثير من تلك الطقوس والعادات، اتخذت لنفسها مع مرور الزمن تقليدا محكما باسم العلم، فتم تصوير الفرد بداخلها كأنه داخل محراب العلم والمعرفة، ويتم تصوير كل من خرج عليها من المجددين وغيرهم بأنه خرج عن محراب العلم والمعرفة، والغريب أن يستحوذ ذوي النزعة الأبائية على مفهوم العلم، ويلبسونه لبوس الطاعة العمياء والاتباع دون برهان ودون دليل، بينما العلم في حقيقته يجلب معه الدراسة والتحليل والنظر والسؤال والاحتكام لملكات القلب والعقل. لبوس الطاعة العمياء يترتب عنها هجر العقل والتفكير والنظر، والاكتفاء بما يقول السداء والكبراء باسم الدين وباسم الحرص على مصلحة الانسان في الدنيا والآخرة قال تعالى: “وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)“(الاحزاب) طريق العقل والإيمان، النظر والفكر والتفكر…
طريق وسبيل لا سادة فيه ولا كبراء، فكل نفس بما كسبت رهينة قال تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)”(المدثر) والبيان في الطريق نحو الله هو كتابه قال تعالى: “ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) “(آل عمران) وبالرغم من أن القرآن لا يعترف مطلقا بسلطة دينية لأحد على أحد، فأمر الإيمان وقضاياه أمر موكول الى حرية الانسان قال تعالى: “ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)“(البقرة) أمر الاعتقاد في فهم الدين في الإسلام، لم يعترف فيه القرآن بأن تتخذ له مؤسسة دينية تتدخل فيما بين الناس وخالقهم، اللهم إن كانت تلك المؤسسات تعنى بتدبير دور العبادة وتبعاتها من قبيل العناية بطلاب العلم في مختلف ميادين المعرفة. وفي الأعم هذا ما كانت عليه دار الإسلام من قبل، من داخل الجامع الواحد تجتمع مختلف الفرق والمدارس يناقشون وجهات نظرهم حول العقيدة والايمان والقرآن، وبالرغم من اختلافهم تجمعهم الصلوات الخمس، ليست لأحد منهم سلطة على أن يقصي خصمه، من دائرة الإيمان أو يفرق بينه وبين زوجه بتهمة الردة، وحتى إن حدث ذلك في التاريخ الإسلامي، فقد حدث باسم السياسة بشكل أكبر وليس باسم الدين[13]، الناس تختلف في فهم وتأويل الدين، على مستوى التصور والعقيدة، وفي الأخير توحدهم مختلف الشعائر، لا أحد منهم يمتلك السلطة ليطرد مخالفه وخصمه من دائرة الدين والإيمان، فلا أحد يعرف مصيره في الدار الآخر بما فيهم الرسول الكريم قال تعالى: “ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) “(الأحقاف)
وقد يتدرع البعض بأن حفظ الدين، من الضروريات الخمس، فهنا ينبغي التمييز بين الدين، وبين الفهم والتصورات والاجتهادات والثقافة التي تشكلت على ممر التاريخ حول الدين، حفظ الدين بمعنى حفظ روحه وجوهره، المتمثل في حرية الاعتقاد وحرية الرأي والنظر والتفكير والتفكر، فلا إكراه في الدين قال تعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)“(البقرة) قال تعالى: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)“(يونس)
مع الأسف بدءا من أواخر القرن التاسع العشر، ومرورا بالقرن العشرين، اتسعت دائرة وهم الوصاية على أمر الدين، نتيجة وضع التخلف المدني والاقتصادي، أمام الغرب، وقد نتج عن ذلك وضع الاحتلال الأجنبي للعالم الإسلامي، ونتيجة هذا الوضع البئيس تضخمت داخل مختلف المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، حالة نفسية غير متزنة تميزت بوهم الحرص على الإسلام والخوف من ضياعه وزواله، وقد ساهم الإسلام السياسي بعد 1928م في تسويق هذا الدور ونسبه لنفسه، مع العلم أن الله جل وعلا لم يوكل مهمة حفظ القرآن لأحد من خلقه قال تعالى: “ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) “(الحجر) بينما أوكل مهمة حفظ ما قبله من الكتاب إلى الربانيين والأحبار قال تعالى: “ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ “(المائدة/44) والله متم نوره ولو كره الكافرون، ومفردة “الكافرون” و”المشركون” في القرآن لا تحمل القدح على الاطلاق، لأن الله فوق عباده جميعا قال تعالى: “ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) “(الصف).
فالإسلام الذي ينبغي الحفاظ عليه في نظر المؤسسات الدينية وفي نظر الإسلام السياسي، إسلام يكمن في التاريخ محصور في مختلف المتون والأقوال والاجتهادات التي قال بها الأقدمون، فكل من جاء بجديد يتهم بأنه ضد الإسلام، بدعوى تأثره بأفكار المحتل الأجنبي وبتصوراته، أي الغرب عدو الإسلام، فعلى غرار الغزو العسكري تشكلت مقولة الغزو الفكري، التي ترفض أي فكرة دخيلة ولو اتصفت بالكونية والعالمية، وترفض في الوقت ذاته مختلف الأفكار والاتجاهات في التراث الإسلامي ذات النزعة الإنسانية في مجال الفلسفة وعلم الكلام والتصوف والطب ومختلف الفنون…مع الأسف كان هذا الاتجاه الذي تقوى أكثر مع الإسلام السياسي اتجاها كالسيل الجارف يدفع أي شيء وجده أمامه، ولم تفلح جهود رجال النهضة والإصلاح في الحد من تأثيره على عموم الناس.
في هذا السياق وردت مشكلة، طه حسين، ومحمد أحمد خلف الله، نصر حامد أبو زيد، ومحمد أبو زيد الدمنهوري، ولا ندري لماذا تركزت هذه المشكلات وبلغت حدتها في مصر بدرجة كبيرة، بالنظر الى ما كان عليه الأمر في بلدان إسلامية أخرى، هل كان ذلك بفعل السياسة، أم باسم الدين، والظاهر أن المتحدثين باسم الدين لهم دور كبير في هذا الأمر. فالمشكلة هنا لا تعود لهؤلاء المثقفين الكبار الذي قالوا برأيهم، بقدر ما تتعلق بحالة من الوعي الجمعي الذي في حاجة الى ضخ أفكار جديدة وتصورات معاصرة في فهم قضايا الدين والدولة والمجتمع.
المراجع:
[1] كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.
[2] محمد أبو زيد الدمنهوري، الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن، مقدمة جمال عمر، الكتاب على الرابط : https://www.amazon.com/%E2%80%AB%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AF%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D9%81%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%AF-ebook/dp/B09YTNJMFB/ref=sr_1_5?crid=3T3QW25BMDUJ1&dib=eyJ2IjoiMSJ9.PLXLWGfCbZMvdrO4dQpWuzgeGaLKCktgfKhAi3jzjs3fOW3PExnHIvgHzlZcf5m_VMSC3bSAgGmiH5yQfnKUrgMFYuTtyTyZ1WnoCjGxu5HSb4S3SeulwEjbPM6IolngPfPZ7V8b4NX0CqpqLnexoxpYVg7QIWHqC1A5n6ETI_Y.EgsoG2J7Z7jgDaN5emJlZ1qUsisLZ720nfnLFtBOz2I&dib_tag=se&keywords=%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AF%D8%A7%D9%8A%D8%A9+%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D9%81%D8%A7%D9%86+%D9%81%D9%8A+%D8%AA%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%B1+%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86+%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86+%D9%88+
[3] نفسه
[4] وليد صالح “التفسير الكلاسيكي” تفسير للثعلبي (ت427ه/1035م) ترجمة محمد إسماعيل خليل، في منشورات مركز نماء للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى 2022م، ص.52 (بتصرف)
[5] محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (ت ٧٢٨هـ)، مقدمة في أصول التفسير، دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، الطبعة: ١٤٩٠هـ/ ١٩٨٠م، ص. 46
[6] نفسه، ص. 39-40
[7] الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن، م. س. (بتصرف) الكتاب على الرابط المشار إليه سابقا
[8] نفسه،
[9] نفسه
[10] نفسه
[11] محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرون، القاهرة: مكتبة وهبة، طبعة سنة 2000، ج 2، ص 399.
[12] علي جمعة، بين التجديد والتبديد، محمد أبوزيد الدمنهوري نموذجا، مجلة الفوائد الإسلامية والعربية، المجلد 24، العدد 1، مارس 2017م، ص.257 / الرابط: https://bfsa.journals.ekb.eg/issue_1516_4325.html
[13] وهذه فكرة لا يسمح المجال للتفصيل بشأنها