تكوين
في زمنٍ اكتسح فيه يقينُ الفكرِ الساحات العامة، وعمت التقوياتُ (جمع تقوى) مظاهر السلوك، وملأت الثقةُ بتفوق النموذج الديني وفرادتِه أوراق الكتب ومنابرَ الكلمة. في قلب هذا الزمن النبؤي والوثوق المقتحم كالسيل الجارف، كنا نسمعُ ترداداتِ صوتٍ آخر ذي إيقاع مختلف ، بل مناقض ومُشوِّش ومشاغب وصادم وحتى منغص، يحذر من علامات موت (حضاري وفكري وروحي) حالةٍ فينا، من ارتكاسٍ محصنٍ بالمحرمات، من عدميةٍ مزينةٍ بالزهدِ والمُثُل، من غفلةٍ مُسوَّرة بالطمأنينة، ومن دمار وشيك تحمله رايات الجهاد وطهريات الشهادة، من يقين ساذج بأن زمن أسلمة العالم قد آن أوانُه، من نرجسية عدوانية واغتراب طوعي عن الواقع وتنكرٍ لضروراته الموضوعية. كان هذا صوت محمد أركون.
لم يكن أركون مجردَ صوتٍ احتجاجي، أو داعيةً لنبؤةٍ أو مُثُلٍ بديلة، بل راكم رصيدَ تجاربٍ واختبارات ومقترحات حل، ورسم خارطة طريق لإطلاقِ طاقة التفكر والتقصي إلى أقصاها بدل الامتثالية الجافة والإذعان الطوعي، وتحفيزِ الحياة الروحية وإغنائها بدل الشكلانية المسطحة والجوفاء، وتفعيل الرغبة الإنسانية التي لا تهدأ في الإتصال باللامتناهي وحيازة الأبدية والخلود، لكن هذه المرة:
على ارضية البحث في الكيف لا البحث في الماهو، أي البحث في نظام الأشياء وقواعد اشتغالها واستراتيجيات عملها، لا الغوصُ في جوهرها.
أرضيةِ البحث في شروط الإمكان، أي التحقق من الشروط البشرية والطبيعية للظواهر، لا ادعاء المعجزة والتفنن في صياغة الأيديولوجيات والشموليات.
أرضية الشفافية في النظر إلى المرآة، من دون أوهام الاصطفاء أو الفرادة، والعيشِ في الحاضر لا الاغتراب عنه، فهمِ التاريخ وتأويلِه لا العيشِ في ماضيه أو توهم استحضارِه.
تميز فكر محمد أركون بإيقاع مزدوج: إيقاع التعرية والتفكيك من جهة، وإيقاع الاستكشاف والتركيب من جهة أخرى.
ففي ايقاع التعرية والتفكيك، اعتبر أركون أن البداية تكون في نقد النظام الفكري المُوَلِّد لهذا للترث التكراري، وتفكيك بناه التركيبية والتكوينية، والكشف عن وظائفه النفسية، وتعرية إسقاطاته وتلاعباته وممارساته الإيديولوجية، وزحزحة مسائله الإنغلاقية والحرفية والجوهرانية، وتخطي نظرياته الاختزالية إلى إطار آخر من “الأشكلة التعددية والمتنوعةِ” التي تمهد “لولادة فكر تأويلي جديد” .
الفرق بين الظاهرة القرآنية والإسلامية
ميز أركون بين الظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية، فالظاهرةُ القرآنيةُ عبارة عن “العبارات الشفهية التي تلفَّظ بها النبي لتبليغ القرآن”، وهي ظاهرة كانت في لحظات ظهورها الأولى، بنظر أركون، متحركةً ومتموجةً ومفتوحةً ومليئةً بالاحتمالات.
أما الظاهرة الإسلامية فهي التجسيد النظري والعملي للظاهرة القرآنية داخل حيز الإسلام التاريخي والاجتماعي، تمثلت في بلورة مبادئ وقواعد لاهوتية مشتركة بين المسلمين تُحكِم توثيق الوحي وتداوله وتفسيره، وتمارس دورا مُوجِّهاَ يتحكم بكل مجالات الفكر العربي. وهي مبادئ وقواعد اتخذت، بفعل التضامن بين الدولة والثقافة الرسمية، وعبر عملية “تاريخية بطيئة من الإنتقاءات والحذف ونشر بعض الاسماء والمؤلفات والمدارس والأفكار دون غيرها”، وضعيةً أرثودكسية صارمة، أخذت تضغطُ بكل ثقلها على القراءات والتفاسير، وتعمل على ترسيخ سلوك تكراراي في إعادة الإنتاج السكولاستيكية للمعايير والتعاليم التي حددها الفقهاء المؤسسون.
ترسخ داخل هذه الأرثودكسية، اعتقادٌ بأنّ النظام للاهوتي الموجِّه والمنظِّم لتداول القرآن وقراءته يمتلك وحده المبادىء والمنهجية “الصحيحة”، وصاحب الصلاحية المطلقة في ممارسة أستاذيته العلمية ومرجعيته الشرعية في تقديم أجوبة منسجمة مع القيم والعقائد الإِيمانية ومع نماذج الممارسة التي تجعل المؤمنين يسيرون دائماً على الطريق المستقيم المؤدي إلى النجاة. وهي وضعية أدت إلى التعالي بمبادئ وقواعد قراءة النص القرآني باعتبارها ذاتُ قِوامٍ متماسكٍ ودلالاتٍ ومعانٍ فوق تاريخية، وإلى تحصينها داخلَ سياج دوغمائي يحرم السؤال أو التفكر في فرضياتها المسبقة، وإلى سيادة حقلٍ معنويٍ سيمانتي ثبَّتَ نهائية وآحادية معنى النصوص الدينية، وأكد مطابقة التفاسير التفاسير التي وصلتنا عبر التراث لها.
وهو أمر أضعف التنظير الفكري والحس النقدي، وأسهم في هيمنة الدوغمائية الحرفية للدين، وفي تعميم الثقافة الأصولية الشعبوية وتقويات التبجيل وطقوسيات الأسطرة وفنون الإنبهار بالنص القرآني، بالإضافة إلى رواج الوعي بأن أداء الفرائض يعفي المؤمنين من أي فهم عقلاني للدين.
كل ذلك تسبب بتسطيح أبعاد القرآن، وطمس طبقات معناه، وتعطيل استراتيجيات تواصله مع العالم. بل جعله عرضة لتسييس معاصر، واستعمال فوضوي واعتباطي لتسويغ معارك سياسية وتبرير مطامح وأهواء وحاجات شخصية وتأكيد تفوق هويات جماعية، وتغطية كل تصرف إرهابي وإجرامي.
أما إيقاع الاستكشاف والتركيب: فقد عمد فيه أركون إلى شق الطريق باتجاه أفق تفكير مختلف ورهانات إنسانية تسمح بتولد تأملية ثيولوجية جديدة، تمكن الفكر من التخلي عن وثوقيته، ومن الدخول في قلب المغامرة الحداثوية، بأن يتلقى أسئلتها ويعيش تحدياتها ويتكيف مع قلقها ولايقينها، ويكون لدى هذا الفكر، جرأة مواجهة الذات، ونزع أقنعتها أمام الملأ، والرغبة الدائمة في تجاوزها.
آمن أركون بأن الكتابات المقدسة (توراة إنجيل وقرآن) عموماً والقرآن خصوصاً، تملك التحفيزات والبذور الأولى التي يمكن الاعتماد عليها لإلهام الفكر والحياة الروحية وإغنائهما.
لكن ذلك لا يتحقق إلا بتموضع الذات الباحثة داخل موضوع البحث الذي هو الخطاب أو النص القرآني، والتسلح بعدة اشتغال مركزة ومكثفة تشمل كل زوايا التفاعلات والإدراكات البشرية، بالأخص المنهجية التاريخية –النقدية والمنهجية السيميائية-الألسنية. كل ذلك لغرض إفساح المجال لمتلقي النص في توليد المعنى القرآني واستجلاء إثاراته المتنوعة، فلا يعود النص يتفرد بملكية المعنى، بل يصبح جزءاً من جماليات التلقي التي تعطي جمهور المتلقين حصة ودوراً في تشكليه.
عمد اركون إلى العبور من الإبستمولوجيا إلى الإبستمية، أي العبور من منطقة الثنائيات والتضادات، التي يحكمها منطق الصحة والخطأ، أو الإستقامة والانحراف، إلى أنظمة التفكير وأطر الوعي ونظام العلاقات وآليات الربط والإنتاج والمسلمات. لذلك لم يقتنع أركون بالوقوف عند حد تفكيك منظومة الوعي الديني القائم، أو الإكتفاء بضخ كم هائل من منهجيات التحليل والكشف داخل فضاء التفكير الإسلامي بهدف إغرائه واستدراجه إلى ساحة الحداثة. بل تجد أركون يصر على الدور الإستكشافي الذي لا يكتفي بالزحزحة، أو تفكيك منظومة الوعي وترك عناصرها مبعثرة ومرمية في كل اتجاه، بل ينزع، إلى العبور بك إلى الأزمنة الممتلئة، ويجول بك داخل منطقة العجيب المدهش والخلاب، ليعيد مسائلة شروط تحققها الراهنة، ويعيد صياغة رهانات الدين ووعيه الخاص بالعالم.
فالبحث الجدي في خصوبة راهنة للنص الدين، يتحقق أولاً بالتفلت من قبضة ورقابة الدوغمائية المتحكمة بالوعي الجمعي والمُوجِّهة له، وثانياً بالتحرر من سلطة النص القرآني نفسه، الذي لا سبيل للكشف عن رهاناته الكبرى وإثاراته الروحية، إلا بالوقوف على صلاحية نطقه بإسم الله أو نقله وتعبيره عن واقعة الوحي، وبالإشتباك معه والكشف عن ألاعيبه وتحويراته وتنكيراته وتساميه وتقنيات تفلُّتِهِ من أسر التاريخية وحدود الزمكان الخاص.
بذلك، لم يكتف أركون بتعرية التحويرات والتحويلات الفكرية والابتكارات الطقوسية التي مورست حول النص القرآني ونزعته من سياقه التاريخي وسهلت إسقاطه الساذج على الأزمنة اللاحقة. بل ألقى أركون كماً هائلاً من المفاهيم وأدوات التفكيك وعدة الإشتغال والمقاربات واستراتيجيات الكشف، التي ابتكرتها ساحة العلوم الإنسانية الحديثة. وهو جهد نقل البحث القرآني من العمل التفسيري الذي ينحصر نشاطه بمعرفة أوامر الله ونواهيه، إلى البحث الذي يقتحم مناطق اللامفكر فيه، ويقف على خطط خطابه الخفية والمضمرة، وينتهك محرماته، ويقفز فوق اسوار القداسة التي شُيِّدَت حولُه، كل ذلك لغرض إظهار خصوبة القرآن وديناميته وسحره وحيويته الراهنة في إثارة المعنى الراهن، والكشف عن الرهانات الأنطولوجية الكبرى والإثارات والمؤثرات والإكراهات والتحكمات التي يمارسها النص على المتلقي. (تمايز عن المنهج الاستشراقي الذي وقف عند حدود البحث الفيلولوجي التاريخاني، الذي يكتفي بالدراسات الوصفية والسردية للوقائع وللأحداث وللنصوص الإسلامية ولا يقوم بحفر أركيولوحي للكشف عن الأعماق المختبئة وراء خطابات الفاعلين الاجتماعيين أي المسلمين أنفسهم).
أحدث اركون قطيعة شبه كاملة مع آليات وعدة اشتغال الفكر الكلاسيكي، وهي قطيعة لا تقتصر على منطلقات التفكير، بل تطال المفردات والمصطلحات نفسها. فصار هنالك لغتان ومنطقان وفضاءان منعزلان، لا لغةَ تفاهمٍ أو تحاورٍ مشتركة بينهما، ولا إمكانية لتواصل وتفاعل ما بينهما. ما يضعُنا أمام دائرتين متضادتين من التفكير في النص القرآني، الدائرة الأرثودكسية (بتعبير أركون) المؤطرة تأطيراً قروسطياً، والدائرة ما بعد الحداثوية، ولا سبيل للإنتقال من الأولى إلى الثانية، إلا بالقفز فوق الفجوة السحيقة الفاصلة بينهما، أو زحزحة الاولى بالكامل لصالح الثانية. ما يضعنا، لا أمام مسار انتقالي، تتعاقب فيه الأطر الفكرية، بل أمام جزر فكرية متجاورة تنمو وتستمر بشكل متزامن، من دون أي اتصال تحاوري، أو تغذية متبادلة بينهما.
مشروع أركون، إعلان صريح بأن القطيعة الابستمولوجية مع التراث التفسيري والتأويلي، لم تعد خياراً بل باتت ضرروة حتمية، للخروج من السبات الدوغمائي، الذي ما يزال الكثيرون يرون فيه ميزةَ تفوقٍ وعلامةَ اصطفاء.