تمكين
كتب المثقف المغربي عبد الكبير الخطيبي عن “النقد المزدوج” وهو نقد يتعلق بالذات ويتعلق بالآخر، ويهدف الى تفكيك وهم الوحدة المطلقة التي ترى بأننا متفقين في كل شيء، وبأن الآخر متفق في كل شيء. سواء كانت تلك الوحدة باسم الإيديولوجية الدينية أو العرقية أو اللغوية… ينبغي أن ندرك (غربا وشرقا) بأننا يسري علينا قانون التنوع والاختلاف وهو أمر لا يحيل بيننا وبين التفاهم والتعاون والتكامل سواء من داخل الشرق أو من داخل الغرب، أو ما بين الشرق والغرب معا.
معنى النقد المزدوج؟
هذا الطرح “النقد المزدوج” من بين أهم ما ميز مشروع المفكر المغاربي محمد أركون، وهو طريق صعب، لأن الأنصار والداعمين له قلة، وصاحبه تواجهه عقبات تحيل بينه وبين الهدف الذي يسعى من أجله، وقد تواجهه بشكل مباشر أو غير مباشر عقليات وثقافات وتصورات وأفكار الكثير من الناس، داخل مختلف مؤسسات المجتمع وخارجها، لم يتعودوا على النقد، فهدفهم هو الانتصار لمسلماتهم، كما ورثوها وفق تصوراتهم عن أجدادهم، بدل معرفة الحقيقة وبدل خوض غمار وتجربة التأويل، والبعض منهم يقدم مصاله الاقتصادية والسياسية…على حساب مختلف الحقائق العلمية حتى ولو كان ذلك على حساب القيم الإنسانية الفاضلة، والأمثلة كثيرة في هذا المجال، لا يهم الحرب وما تخلّف من ورائها من دمار، ما دامت المنفعة تقتضي الحصول على البترول، حتى ولو كلف ذلك قصف وإبادة شعب بأكمله. إنها مشكلة الإنسانية التي لا تتجزأ ما بين الشرق والغرب، فما دام الانسان يعيش على سطح كوكب واحد، فمصيره واحد، ولهذا فمآسي ومشكلات الجنوب تنتقل الى الشمال.
«إن الإنسان أشكل عليه الإنسان» التوحيدي
طفولة مشبعة بالنزعة الانسانية
خاض أركون مسار الفكر النقدي على جهتين اثنين لا جهة واحدة، جهة نقد العقل الإسلامي، وجهة نقد العقل الغربي. فالرجل يعد من كبار المحاضرين في العالم إلى درجة أن تنقلاته وأسفاره ساهمت في التقليص من مؤلفاته رغم تنوعها وتعددها، كما أنها حدت من اكتمال الكثير من المشاريع العلمية التي وضعها ليشتغل عليها. المحاضرة الأولى التي ألقاها أركون في شبابه كانت بالقرية التي عاش وتربى فيها، وقد ترتب عن محاضرته تلك نوع من الأخذ والرد… كان أركون متخصصا في الفلسفة إلا أنه كان يحب التاريخ وفلسفته وهذا ما جعل منه رجلا مهتما بنقد تاريخ الفكر الإسلامي ويعترف بكونه تأثر بمنهجية ميشيل فوكو إذ كان قبل التعرف عليه يمارس النقد والكتابة وفقا للمنهج القديم، لكن بعد التعرف على فوكو أصبحت كتاباته أكثر عمقا.[2]
لا شك أن مرحة الطفولة بشكل عام يكون لها أثر بليغ على ملامح مختلف الشخصيات في مختلف مجالات الحياة، إذ تلقى محمد أركون في طفولته تربية دينية منفتحة، فحفظ القرآن على ظهر قلب مع خاله وعمره لا يتجاوز ثلاثة عشر سنة وفي الوقت ذاته كان من حظه أن يتعرض لتأثير رجال الدين المسيحيين زمن الاستعمار في مدرسة دينية قريبة من قريته وكان عمره لا يتجاوز الخامسة عشر سنة،[3] القرية التي نشأ فيها تضم بقايا نوع من العقلية الإحيائية التي ترى بحلول الأرواح في الطبيعة إذ كان يصحب أمه إلى أحد منابع المياه لإرضاء تلك الأرواح وفقا لعادات أهل القرية. أما علاقته مع والده فقد كانت علاقة متينة، إذ كان يساعده في شؤون التجارة، وكان طموح والده هو أن يكبر ويساعده في شؤون المتجر داخل القرية…تجربة زمن الطفولة جعلت من أركون ذو مبادئ إنسانية عالية جدا، بقي لها صداها وتأثيرها في كل حياته ومواقفه.[4]
إقرأ أيضاً: المرأة المسلمة والعقل النقدي
استحضار خلفية الطفولة هذه، جعلت من صاحبها ذو تجربة تدعوا إلى الانفتاح على قراءة كل التجارب الدينية، بالانخراط المبكر في معرفة الأديان المختلفة، وهذا أمر يحيي فينا الوعي بقيمة التنوع والاختلاف الإنساني، فالجزء الكبير من مشاكل العالم الإسلامي مرهون بإعادة النظر في المناهج التعليمية الدينية وغير الدينية. بالعمل على استحضار منهج المقارنة وغيره من المناهج المعاصرة الى جانب المناهج الأصيلة في دراسة الدين والثقافة والحضارة. ولهذا فمختلف بحوث ودراسات أركون تحفر في البحث عن جوانب المشترك الإنساني بين الغرب والشرق، فالغرب ليس واحدا كما يتم تصويره، والشرق كذلك، فتاريخ الإسلام ليس كما صوته الكثير الدراسات الاستشراقية، فالذات متنوعة ومتعددة التجارب، وكذلك الأمر بالنسبة للآخر، الإسلام وتاريخه أكبر من أن يختزل في العروبة، وأكبر من أن يختزل في تصورات الإسلام السياسي.
بعد استقلال الجزائر كانت أول خطابات الرئيس “بن بلة” مخيبة للآمال محمد أركون لأن الرئيس لخص كل تاريخ البلاد المتنوع والمتعدد في هم إيديولوجي بقوله للجزائريين ” نحن عرب…نحن عرب” المشكلة هنا ليست في الانتماء الى العروبة والعربية، بقدر ما هي مشكلة المواطنة القابلة للتعدد والتنوع، وقد سار الرئيس “هواري بومدين” على نفس النهج، بينما في المغرب وتونس كان الأمر مختلف، فبدل أن تفتح الجزائر بعد خروج فرنسا صدرها لكل سكانها من أجل أن تصل بهم إلى مواطنة مشتركة ومتساوية سار العكس، بالتأكيد على نمط الهوية المنغلقة بدل الهوية القابلة للانفتاح والتنوع والتعدد.[5]
- النزعة الإنسانية بين الشرق والغرب
من المعلوم أن أركون تابع دراسته في السربون بفرنسا، ونال رسالة دكتوراه حول موضوع “النزعة الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري” وموضوع البحث هذا لم يأتي من باب الصدفة بل جاء نتيجة ارتباط أركون بهموم الواقع اليومي لدول شمال إفريقيا ولهموم العالم العربي والإسلامي.[6] وهذه الهموم لا تنفصل عن تجديد وإعادة قراءة الثقافة الإسلامية بعيون الحاضر لا بعيون الماضي، بعيون البحث عن الحقيقة الموضوعية لا بعيون المركزية الغربية التي تنفي كل ما هو إنساني عن مختلف الثقافات وتحتكره لنفسها.
يؤكد أركون بأن النزعة الإنسانية قد ظهرت في الثقافة الإسلامية قبل الثقافة الغربية بزمن طويل، “فالعالم العربي -الإسلامي شهد تيارا إنسانيا وعقلانيا مدهشا قبل أوروبا بسبعة قرون (القرن التاسع أو العاشر الميلادي/القرن السادس عشر الميلادي)”[7] ففي هذه الفترة الزمنية كانت أوروبا تعرف لحظة من الظلام والتخلف والجمود. فالغرب عليه أن لا يغفل أن الإسلام وتاريخه يعد وجها من وجود النزعة الإنسانية، التي كانت متمثلة في فكر نخبة واسعة من كبار المثقفين حينها، من بينهم أبو حيان التوحيدي كمثال بين وبارز، صاحب مقولة «إن الإنسان أشكل عليه الإنسان»[8] وهي العبارة التي نالت إعجابا بليغا من لدن محمد أركون نتيجة كثافتها وعمقها، فهو يستحضرها كثيرا، ومفادها، أن الإنسان يمثل مشكلة بالنسبة للإنسان ولغزا مجهولا، فالإنسان لا يعرف نفسه كما ينبغي، وكما يتوهم غالبا،[9] وهي حالة تقتضي من الانسان تجديد النظر فيما يقبل عليه، لأن الفعل الإنساني دائما في حاجة لنقد ومراجعة وتقويم.
يعترف محمد أركون بفضل النزعة الإنسانية في الإسلام، المتمثلة في تراث كل من ابن مسكويه والتوحيدي بقوله: ” لقد حررتني قراءة مسكويه والتوحيدي من العقلية الدوغمائية الضيقة، هذه العقلية التي لا تزال مسيطرة علينا للأسف حتى اليوم”[10] وهذا الاعتراف، لا شك بأنه اعتراف بنموذج (يتمثل في نموذج ابن مسكويه والتوحيدي) من بين نماذج كثيرة من ذوي النزعة الإنسانية في الثقافة الإسلامية، وهو اعتراف يتضمن نقد الثقافة الغربية المتمركزة حول ذاتها، والتي لا تولي اهتماما بليغا للاستفادة من مختلف الثقافات عبر العالم بما فيها ثقافة الاسلام، فالغرب في حاجة لمعرفة الشرق من جديد وبالأخص تراث الإسلام، ومن هذه الزاوية ينتقد أركون الدراسات الاستشراقية في الغرب؛ فكل العلم الاستشراقي في نظره” كان محصوراً بالتأريخ للوقائع الخام للتراث أو استعادتها من طريق استخدام المنهجية الفيلولوجية من نحوٍ وصرفٍ ومعاجم ودراسة تركيب الجمل… إلخ، وكان محصوراً بالمنهجية التاريخية التقليدية التي سادت في القرن التاسع عشر والتي كانت تحصر عملها بسرد الوقائع كما هي الواحدة بعد الأخرى أو الكشف عنها والتحقق منها”.[11] فمنهجية الاستشراق التي سادت في القرن التاسع عشر جعلته مهووسا بجمع المعطيات ومختلف المعلومات في مختلف المجالات عن الشرق، بشكل كمي وتراكمي، يفتقد القراءة والتحليل والنظر والنقد، فالاستشراق في هذه المرحلة وما تلاها كان منخرطا في خطة السلطة والهيمنة على الشرق، وهذه من بين مشكلات الاستشراق التي جعلت أصحابه “لا يبالون إطلاقاً بمصير المسلمين والمجتمعات الإسلامية عندما يدرسون الإسلام ويكتبون عنه، فهذه ليست مشكلتهم، كما يقولون صراحة حتى يومنا هذا، فعلى كاهل المسلمين أنفسهم تقع مهمة التجديد وزحزحة الحدود التقليدية لفكرهم ومعرفتهم”.[12]فنقد أركون للاستشراق لا يعني أنه، يقصد بأن الاستشراق لا فائدة منه، بل على العكس من ذلك، ولكن الاستشراق بكونه يمثل نظرة الغرب الى الشرق، في حاجة للمراجعة ولتبني مختلف العلوم الإنسانية في قراءة التراث الإنساني بما فيه الإسلام.
كما أن اعتراف أركون بفضل النزعة الإنسانية في الإسلام، يتضمن نقد واقع الدين والتدين والمؤسسات الدينية في العالم الإسلامي. فمع الأسف ليس هناك اهتمام واسع بتراث الفلسفة والأدب في التاريخ الاسلامي، بمعنى أنه ليس هناك وعي بأهمية العناية بالنزعة الإنسانية في الإسلام وتاريخه. ويمكن أن نجزم بأن لا أحد يستحضر في الدروس والخطب العامة في المساجد، أبي حيان التوحيدي أو للجاحظ أو لابن رشد أو لابن طفيل…قائمة طويلة من هؤلاء لا ذكر لهم ولا حضور لتراثهم، من داخل المؤسسات الدينية، وهو الأمر نفسه في مختلف الجامعات وبالأخص في شعب الدراسات الإسلامية وكليات الشريعة إلا فيما هو نادر.
إقرأ أيضاً: نقد النقد وما بعد المشاريع في الفكر العربي المعاصر
يمضي بنا أركون وهو يربط في حديثه بين الماضي والحاضر وآفاق المستقبل، ليحدث القارئ عن دعوته المنهجية للقراءة التزامنية للقرآن، بالعمل على قراءة النص وفقا للمعجم اللغوي في الزمن الذي ظهر فيه. بدل قراءته من خلال المعجم اللغوي للزمن الذي نحن فيه مبينا دور اللسانيات في هذا الأمر،[13] ومبينا كذلك الظروف التاريخية والسياسية التي كانت من وراء التقعيد المنهجي الذي وضعه الشافعي لفهم النص القرآني، مذكرا أن ما قام به الشافعي من دور منهجي تحوّل من بعده إلى طوق حديدي لا يسمح بالفكر الحر.[14] وفي الوقت ذاته ينتقد مختلف الدراسات الاستشراقية التي تعتبر القرآن نسخة طبق الأصل عن التوراة والإنجيل، وهو أمر مبالغ فيه جدا لأنه لا يعتني بخصوصية القرآن.[15] مع العلم أن القرآن يقدم نفسه بكونه مصدق ومهيمن على ما سبقه من الكتاب، وهو الأمر الذي لا يستسيغه المستشرقون.
مقولة النقد المزدوج التي بدأنا بها القول، حاضرة بقوة في فكر محمد أركون من خلال تبنيه للنزعة الإنسانية سواء في تراث الشرق أو في تراث الغرب.
المراجع:
[1] كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.
[2] التشكيل البشري للإسلام، محمد أركون، ترجمة هاشم صالح، إصدار، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المركز الثقافي العربي، ط.1، 2013م، ص. 41
[3] نفسه، ص.80
[4] نفسه، ص.10
[5] نفسه، ص.35
[6] نفسه، ص. 24
[7] محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، الطبعة الأولى 1997م، ص. 608.
[8] نفسه، ص. 18.
[9] محمد أركون، الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، ط. 1، 1990م، ص. 209
[10] محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة – بيروت، ط.1، 1998م، ص. 330
[11] محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل: نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الساقي، 1999م، ص.30-31
[12] محمد أركون، العلمنة والدين: الإسلام المسيحية والغرب، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، 1996م، ص. 38
[13] التشكيل البشري للإسلام، محمد أركون، م. س. ص.69
[14] نفسه، ص.77
[15] محمد أركون، الهوامل والشوامل، ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، ط.1، 2010م، ص.224