تكوين
في هذه الورقة سنعمل على فهم المنطلقات الأولى لمحمد عابد الجابري وبالأخص كتابه “نحن والتراث” مرورا بما كتب بعده أي رباعية العقل العربي، وسنقف عند ما ختم به مشروعه الفكري، وقد سماه “فهم القرآن الحكيم التفسير الواضح حسب ترتيب النزول” فالجابري هنا يتحدث عن الفهم والتفسير الواضح للقرآن، فبأي معنى يتم لرجل الفلسفة أن يكون مفسرا للقرآن؟ هل سيحضر في تفسيره المتن الفلسفي؟ أم تحضر فيه علوم القرآن بما فيها أسباب النزول كما يبدوا من العنوان؟
في الجزء الأول من هذه الورقة سنجيب على سؤال محوري مفاده، هل كان الجابري في بداية مشروعه، كان له اهتمام بتفسير القرآن؟ أم أن الاهتمام بالتفسير جاء نتيجة ما طرأ على فكر الجابري بعد أن أنهى مشروعه رباعية العقل العربي؟
- الفلاسفة والتفسير
المختصين بالفلسفة أو الحكمة، في المجال التداولي العربي الإسلامي، أمثال الفرابي والكندي وابن سينا وابن طفيل وابن رشد وغيرهم، لم يشغلوا أنفسهم بكتابة تفاسير للقرآن الكريم رغم انخراطهم واشتباكهم مع مختلف القضايا الفكرية والأدبية في مجالهم الثقافي. إذ نجدهم حريصين كل الحرص على أن يوفقوا بين قضايا الدين وفهم الفلسفة، وهي مسألة تقتضي التوفيق بين نصوص القرآن والنظريات الفلسفية، بالقول برأيهم في هذه الآية أو تلك من القرآن، أو في هذه القضية أو تلك من الفلسفة في علاقتها بالقرآن، وهذه مسألة يصدق معها القول، بأن هناك منهج للتفسير الفلسفي للقرآن لدى فلاسفة الإسلام، إن تتبعنا مختلف القضايا والتصورات لمختلف القضايا والآيات التي توقفوا عندها. ولكن السؤال الذي نحن بصدده لماذا لم يخصص بعضهم وقتا لكتابة تفسير كامل للقرآن الكريم؟ وهذه مسألة في حاجة للبحث ولتدقيق والنظر، عن ماهية الموانع التي جعلت المختصين بأمر الفلسفة، لا يقبلون على كتابة تفسير كامل للقرآن. هل الأمر يتعلق بموقفهم من التفسير كعلم ينهض بالعمل على فهم القرآن؟ أم أنهم يعترضون على منهج وطريقة المفسرين في التفسير، باعتمادهم على مختلف الآثار والروايات؟
في القرن العشرين نجد مختلف التفاسير المشهورة لم يكتبها مختصين بشأن الفلسفة. وفي هذا السياق نذكر على سبيل المثال: تفسير المنار، لمحمد عبده وتلميذه رشيد رضا. تفسير التحرير والتنوير، لمحمد الطاهر بن عاشور. التفسير القرآني للقرآن المؤلف: عبد الكريم يونس الخطيب. لكن في النصف الأخير من القرن العشرين، من البين أن جزءا كبيرا من المختصين في الفلسفة، إهتموا بسؤال المنهج في فهم وتفسير القرآن الكريم، بشكل مباشر، أو بشكل غير مباشر، نتيجة شغلهم على سؤال المنهج في التعامل مع التراث، في هذا السياق نذكر محمد أركون، حسن حنفي، محمد عابد الجابري…
يعد الجابري من أهم المختصين في الفكر الفلسفي في القرن العشرين، ولا منازع في القول بأن مشروعه من بين المشاريع التي أثرت بشكل كبير في المحيط الثقافي العربي والإسلامي، إذ انصبت كتاباته على دراسة التراث وقراءته قراءة معاصرة، بغية أن يصبح التراث معاصرا لنا، وهو الحلم الذي جد واجتهد الجابري قصد التأسيس له. وعندما نتحدث عن التراث، فمن المعلوم أن القرآن الكريم هو النص المؤسس للتراث العربي وللثقافة العربية الإسلامية في الماضي وفي الحاضر.
- الجابري وسؤال كيف نتعامل مع التراث؟
لقد كان سؤال المنهج في التعامل مع التراث العربي الإسلامي من أبرز الإشكالات المعرفية التي بنى عليها الجابري مشروعه، ويبدو هذا جليا من خلال أهم كتبه ” نحن والتراث قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي” الذي أصدره في طبعته الأولى سنة 1980، وهذا الكتاب يعد بحق، الأرضية الكلية التي بنى عليها الجابري مشروعه الفكري، كما أنه يؤرخ لطبيعة الوعي المعرفي وحتى الأيديولوجي الذي كان عليه المؤلف في تلك الفترة، حول نظرته لماهية التراث وماهية النص الذي تشكل حوله التراث (القرآن).
فقد سعى من خلال هذا الكتاب، إلى بناء العلاقة المنهجية التي ينبغي أن نحدثها اليوم مع التراث، ولو أن مواضيع الكتاب أسهبت بشكل كبير في الحديث عن التراث الفلسفي بدل التراث الفقهي وغيره، لكن يفهم من مدخل الكتاب أن المؤلف يستحضر في ذهنه المنظومة التراثية كلها، فهو حريص كل الحرص أن يقرأ التراث قراءة يحضر فيها الفصل والوصل معا، الفصل بقراءة التراث من خلال محيطه الخاص الذي ظهر وتبلور فيه، والوصل بأن نجعل المقروء من التراث معاصرا لنا على صعيد الفهم والمعقولية، بنقل المقروء إلى مجال اهتمام القارئ قصد توظيفه في إغناء ذاته وبنائها[2]
التراث وكيفية وجوب التعامل معه
بقي الجابري وفيا لهذا المبدأ من خلال رباعية نقد العقل العربي التي انتهى منها سنة 2001، وبعدها تفرغ لمشروع الكتابة حول النص القرآني، فأصدر سنة 2006 كتاب “مدخل إلى القرآن الكريم”، وتلاه بثلاثة أجزاء أخرى تحت عنوان: “ فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول” ، وبهذا اكتمل مشروع الجابري حول التراث. ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة ما جاء في رباعية نقد العقل العربي التي أجريت حولها الكثير من الدراسات والأبحاث النقدية الجادة، من أبرزها كتاب ” نقد نقد العقل العربي” لجورج طرابشي، بقدر ما نذكر بأمر بديهي، وهو أن الجابري قد كرس كل جهده في الاشتغال على ما كتب حول النص المؤسس (القرآن الكريم) الكتاب الذي تأسست عليه الحضارة العربية الإسلامية.
نعود إلى كتاب نحن والتراث، لنكشف عن نظرة الجابري للقرآن في تلك الآونة التي كتب فيها هذا الكتاب؛ فمن خلال الكتاب نستشف أن المؤلف مسكون بسؤال المنهج حول التراث بشكل عام وخاصة الشق الفلسفي منه، ولا يظهر من نصوص الكتاب أي هم معرفي في بناء منهج معاصر في فهم النص القرآني، كبنية مستقلة عن التراث. فالسؤال الذي يطرح نفسه هو، هل في وعي محمد عابد الجابري لحظة كتابته لكتاب نحن والتراث، أن القرآن منفصل عن المنظومة التراثية، أم إنه يعد القرآن جزءا من التراث ككل؟ هذا السؤال بقي ملغوما من داخل كتابه نحن والتراث، إذ لم يقرر فيه الجابري لا بالنفي ولا بالإيجاب، ولكن المتتبع لنصوص الكتاب، ستأخذه إلى أن المؤلف يعتبر النص القرآني جزءا من المنظومة التراثية، تجاهلا منه لأي حديث عن القرآن وماهيته وطبيعته.
- نقد القراءات السلفية للتراث
قدم الجابري نقدا منهجيا لأصحاب القراءة السلفية للتراث و” يتعلق الأمر هنا بالتيار السلفي في الفكر العربي الحديث والمعاصر، التيار الذي اشتغل أكثر من غيره بالتراث وإحيائه واستثماره في إطار قراءة أيديولوجية سافرة، أساسها إسقاط صورة (المستقبل المنشود) المستقبل الأيديولوجي، على الماضي، ثم (البرهنة) انطلاقا من عملية الإسقاط هذه، على أن ما تم في الماضي يمكن تحقيقه في المستقبل “[3] وكان شعارها هو لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ومن أبرز ممثلي هذا التيار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده اللذين لبست دعوتهما لباس حركة دينية تنادي بالإصلاح، فترك التقليد في نظر هؤلاء يعني إلغاء كل التراث المعرفي والمنهجي المنحدر إلينا من عصر الانحطاط والحذر في الوقت ذاته من السقوط فريسة للفكر الغربي. أما التجديد في نظرهم، فينبغي بناء فهم جديد للدين عقيدة وشريعة، انطلاقا من الأصول مباشرة[4].
وإذا أردنا أن نقيم مشروع الرجلين (عبده والأفغاني) سنجد أن بناء التعامل المنهجي المباشر، مع الأصول المرجعية للثقافة الإسلامية، والتي تتجلى في القرآن بشكل أساسي، هو الأمر الذي لم يتحقق، لأن هؤلاء لم يفصلوا بشكل معرفي صارم، بين الدين المحفوظ في نصوص الوحي وهو القرآن المنزل، وبين المعرفة الدينية التي بدأ تشكلها بدءا من تجربة النبي التي يعتبرها عامة المسلمين من الوحي، وما تلاها من معارف في فهم وتأويل القرآن.
صحيح أن تفسير المنار الذي بدأه محمد عبده وأنهاه تلميذه رشيد رضا، مليء بجرأة السؤال، وعلى مستوى كبير من الوعي بطبيعة الواقع العربي الإسلامي، ولكن الهاجس الذي غلب عليه هو تقريب الهوة بين الإسلام ( كمعطى تراثي وتاريخي ونصي في نفس الوقت) وبين المدنية الغربية وما توصل إليه العلم الحديث، ولهذا اعتبر محمد عبده في تفسيره أن” الجن والشياطين بأنها القوى النفسية والغرائز المحركة للشهوات، هذا فضلا عن تأويله للطير الأبابيل في سورة الفيل بأنه مرض الجذري – فهو – يتحرك مرة في اتجاه التراث الإسلامي جاعلا منه الأصل والمعيار والقيمة، ويتحرك مرة أخرى في اتجاه العقل الغربي الرافض للأساطير والمعجزات، ولكن الباعث عن الحركة في الحالتين هو البحث عن النافع هنا وهناك “[5] وبهذا، فالجهد الذي قام به عبده هو جهد توفيقي كان من ورائه الدفاع عن الإسلام، أكثر ما هو جهد إبداعي لتأسيس آليات وأسس منهجية لفهم الإسلام فهما معاصرا. إن محمد عبده، لم يخرج عن سقف آليات علم أصول الفقه التي وضعها الشافعي ومن تلاه، كما لم يخرج عن آليات علوم القرآن، وقد جمع “بين عقيدة العدل عند المعتزلة وعقيدة التوحيد عند الأشاعرة “[6]
وعليه، فعبده وغيره من رواد النهضة، بقوا أوفياء بشكل أكبر للآليات التي أنتجت التراث الإسلامي، فلم يقرر لا هو ولا غيره في سؤال المنهج في التعامل مع المرجعية بشكل مباشر (القرآن) وبمعزل عن آليات علوم القرآن التي اعتمدها الأوائل، إذ غطى البحث في التراث ومجالاته العقلية عن سؤال المنهج في التعامل مع القرآن الكريم، هذا فضلا عن أن عبده وغيره من رواد النهضة لم يقرروا بشكل مباشر حول سؤال مفهوم الوحي الذي يتجلى في القرآن فقط، دون غيره من نصوص الحديث التي رويت عن الرسول الأكرم، باستثناء محاولات أحمد خان بالهند (1817م–1898م) الذي فسر القرآن بمنهج عقلي، وقد تأثر بمنهجه كل من الفيلسوف الشاعر محمد إقبال (1877م–1938م) وفضل الرحمن (1919م–1988م). وكذلك محمد توفيق صدقي[7] (ت. سنة، 1920م) الذي قال بأن الإسلام هو القرآن وحده.
ما ينطبق على عبده وغيره في جزء كبير منه ينسحب على محمد عابد الجابري، فيما له صلة بالموضوع الذي نحن بصدد معالجته، اللهم أن الجابري لم تحكمه عقلية الفقيه بقدر ما حكمته عقلية الفيلسوف الذي يسعى لفهم البنى والأنساق المعرفية التي كانت من وراء تشكل العقل العربي الإسلامي، وكما سبقت الإشارة أن المؤلف كان مسكونا بهاجس سؤال المنهج مع التراث، فهو لم يقبل بالقراءة التراثية للتراث بدعوته إلى القراءة العقلانية، فأرضية الإخلاف بينه وبين رواد النهضة تنحصر في موضوع سؤال المنهج في قراءة التراث. أما سؤال المنهج مع النص القرآني، فهو سؤال مغيب ومسكوت عنه، وينطبق الأمر نفسه على الكثير من المشاريع الفكرية التي اشتغلت على الموروث الثقافي الإسلامي كمشروع صاحب تجديد المنهج في تقويم التراث، طه عبد الرحمن.
- التراث والعقلانية الرشدية
لقد أشار محمد عابد الجابري من خلال كتابه نحن والتراث إشارة مهمة في سياق حديثه عن ابن رشد الذي يعتبره فيلسوفا عقلانيا بحق مفادها أن ” المشروعية التي كان يحتكم إليها الإسلام على عهد النبي لم تكن ظلامية ولا غيبية، بل كانت واقعية عقلانية، – ف – الخطاب القرآني… خطاب عقل وليس خطاب غنوص أو عرفان أو إشراق”[8] ولكن الجابري لم يقرر في شيء حول هذه الأبعاد العقلانية التي يتصف بها النص القرآني لا في كتابه “نحن والتراث” هذا ولا في غيره من رباعية نقد العقل العربي، التي يعترف من خلالها للنص القرآني بقوله: “إن القرآن نزل بلغة العرب، عرب الجاهلية. ولكن السؤال الذي يجب التقرير فيه بصدد طريقة فهم القران هو كالتالي: هل نزل القرآن بلغة العرب ليبقى مضمونه سجين العالم الذي تحمله هذه اللغة معها: عالم الأعرابي، أم أنه بالعكس من ذلك نزل بلغة العرب ليتجاوز بهم عالم جاهليتهم إلى عالم آخر، ليخرجهم ( من الظلمات إلى النور) “[9].
فإذا سلمنا للنص القرآني بأنه أخرج العرب من لحظة اللاعقل إلى لحظة العقل أي (من الظلمات إلى النور) أليس من الأولى البحث في ماهية الآليات التي وظف القرآن في ذلك، والعمل على كشف حمولته المعرفية من داخل بنيته النصية، لقد طرح الجابري سؤالا كيف نعيش عصرنا؟ وكيف نتعامل مع تراثنا؟ وبقي سؤال كيف نتعامل مع القرآن في العصر الحديث، سؤالا مغيبا أو مسكوت عنه من خلال رباعية نقد العقل العربي، العقل الذي كان النص القرآني مشكلا لجزء كبير منه كما أشرنا من قبل.
من خلال هذه الوقفة القصيرة مع الكتاب المؤسس للمشروع الجابري “ نحن والتراث” يمكننا القول إن ذهنية المؤلف المعرفية إن صح هذا القول، خالية في هذه الآونة التي كتب فيها هذا الكتاب، من سؤال تفسير القرآن.
… يتبع…
المراجع:
[2] محمد عابد الجابري، نحن والتراث؛ قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي، ط .6، المركز الثقافي العربي، 1996
[3] نفسه،ص.12
[4] نفسه،ص.13
[5] نصر حامد أبو زيد، النص والسلطة والحقيقة، المركز الثقافي العربي، البيضاء، ط. الخامسة، 2006ص.30
[6] نفسه، ص.30
[7] هو الدكتور محمد توفيق صدقي طبيب بمصلحة السجون بالقاهرة، كتب مقالات في مجلة المنار بعنوان ” الإسلام هو القرآن وحده ” مات سنة 1920م.
[8] نحن والتراث، م.س. ص.50
[9] بنية العقل العربي، م.س. ص.248