تكوين
آمن كثيرٌ من الصوفيّة بأنّ الخلاف والصراع والعداء الموجود في عالم الخلق السفليّ مداره هنا فحسب، ونابع من تصرّفات البشر فيما بينهم، أمّا في العالم الإلهيّ العلويّ فلا وجود لأيّ لون من ألوان الخلاف والبغضاء. ولذا فإنّ السالك الحقَّ يسير في فضاء متناغم وعالم متّحد ومنسجم، يرى فيه جميع المذاهب والآراء بعين واحدة دون عداء أو بغضاء لأيّ واحد منها.
ومن هنا قال عين القضاة الهمداني ما ترجمته: “إنّ الشروط التي يجب توفّرها في شخص السّالك إلى الله قد ذكرها العارفون بشكل مجمل، ولكنّ تفصيل تلك الشروط والضوابط انتهت إلى مجموعة من المدارس والمذاهب وصلت إلى ثلاثة وسبعين فرقة، الأوّل في طريق السّالك، وفي اللّقاء الأوّل كان واحدًا وصورة واحدة، وإذا كانت السّبل مختلفة كان السّالك متشظّيًا ومنقسمًا”. وفي هذا الصدد نُسب إلى الحلّاج أنّه قال: (أنا علی مذهب ربّي)”. [راجع فروزانفر، شرح مثنوي شريف، ج 3/ 1050]
نظريّة الوحدة جلال الدين الرومي
وبحسب رؤية جلال الدّين الرّوميّ، فإنّ نظريّة الوحدة تجعل من عالم الخلق عالـمًا أجمل وأرحب في عين الصّوفي السّالك، فعندما يصل الإنسان إلى مرحلة الوحدة والانصهار لا يرى مجالا للاثنينية أو التّعارض بين لونين من ألوان السّلوك إلى ملك الملوك، بل يشاهد كلّ الأديان والمذاهب بعين الوحدة والانسجام. ويُرجع الصّراع والاقتتال بين البشر كما نشاهده اليوم إلى جهل فاعله بتلك الوحدة والضّابطة العامة التي تحكم الوجود والعالم.
يصرّح بذلك الروميّ في كتابه الأشهر (المثنوي) قائلًا: “وعندما يصبح من لا لون له أسيرًا للون، فإنّ أمثال موسى يتقاتلون فيما بينهم. وعندما تصل إلى مرحلة اللا لون ــــ التي كانت لك في الأصل ـــــ فإنّ الوفاق يتمّ بين موسى وفرعون. وإن خطر لك سؤال في هذه النقطة الدّقيقة، فمتى يكون اللون خاليًا من القيل والقال؟ وعجيب أن يكون اللّون قد صدر عمّن لا لون له، فكيف إذن نهض اللّون لقتال اللا لون؟ وفي الأصل أن الزّيت يطفو على الماء، فكيف يصير في النّهاية مضادًّا للماء؟ وعندما يُمزج الزيت بالماء، كيف صار الماء إذن عدوًّا للزيت؟ وما دام الورد من الشّوك والشّوك من الورد، فلماذا يشتبك كلاهما في حرب مع الآخر وفي نزاع؟ أو ربّما لم تكن هذه حربًا بل لحكمة، أو لعلّها مفتعلة كالخصومة بين باعة الحمير، أو لعلّها لا تكون هذا أو ذاك، بل حيرة، وينبغي البحث عن الكنز في هذا الخراب. وما تظنّه كنزًا ربما فقدت من جرّائه الكنز بسبب هذا التوهُّم. فاعلم أن الأوهام والأفكار بمثابة العمران، والكنز لا يوجد أبدًا في العمران. ففي العمران الوجود والقتال، وللعدم من الموجودات ألوان من العار. أليس الموجود قد انطلق صارخًا من العدم؟ بل إن العدم قد ردّ ذلك الموجود. فلا تقل إنني هارب من العدم، بل إنه هو الهارب منك، فتوقّف. إنّه يدعوك في الظّاهر صوب نفسه، لكنّه في الباطن يطردك بعصا الردّ. وإنها لنِعالٌ معكوسة (الاتجاه) أيّها السّاذج، فاعلم دائمًا كراهية فرعون من كليم الله. [مثنوي، ترجمة شتا، 1/235].
نلاحظ من خلال مطالعة الأبيات السابقة أنّ الرّوميّ يعتبر أنّ أصلَ ومنشأ الوجود وكذلك الأديان والمذاهب والمعتقدات من دون لون وبلا أيّة نزعة أو صبغة أو رائحة، ولكن لو أصبحت هذه الأديان والمذاهب في عالم الكثرة وتجلّت متجزّئة ومتعدّدة، وبتعبير مولانا عندما تكون أسيرة الألوان والنّزعات المختلفة، ستفضي إلى الاختلاف والصّراعات والحروب، من هنا فإنّ الرّوميّ يُرجع بعض النّزاعات التي نلحظها بين الناس إلى الاختلاف في الأسماء والرّموز والمظاهر وتباين وجهات النّظر وتفاوت الاستيعاب والمعرفة، بسبب الجهل بحقائق تلك الأشياء. وعليه فإنّ الاختلاف بين الدّيانات والمعتقدات يعود إلى التّفاوت في الرّؤية والنّظرة الشّاملة، كما يُرجع بعض تلك الخلافات إلى الاختلاف في الاسم والمظهر فحسب.
ويشبّه الرّوميّ السّالكين إلى الله والسّائرين في طريق الهدى، بأشخاص أربعة تنازعوا بشدّة عندما أعطاهم أحد الأشخاص درهمًا لشراء العنب، ورغم أنّ الأشخاص الأربعة كانوا مشتركين في البحث عن حقيقة العنب الواحدة، إلاّ أنّ كلّ واحدٍ منهم عبّر عن مراده (العنب) بلغته الخاصّة. وبسبب عدم فهم أحدهم لغة الآخر اشتعل النّزاع والصّراع فيما بينهم.
أعطى رجل درهمًا لأربعة أشخاص، قال أحدهم: لنشتر به “أنكور” أي عنب. قال آخر وكان عربيًّا: أنا أريد عنبًا، ليس “أنكور” أيُّها الـمحتال. وكان الثالث تركيًّا فقال: هذا لي، وأنا لا أريد عنبًا، بل أريد “أوزوم” (أي عنب). وكان الرابع روميًّا فقال: اتركوا هذا القيل، فأنا أريد “استافيل” (أي عنب). وانتهى النزاع بذلك النّفر إلى الـمشاجرة، ذلك أنّهم كانوا غافلين عن أسرار الأسماء، وتضاربوا بالأيدي من البله، كانوا شديدي الجهل، خاوين من الـمعرفة، ولو كان هناك صاحب سرّ عزيز عارف بالأسماء، لوفَّق بينهم. ولكان قد قال: إنّني بهذا الدرهم الواحد، سوف أحقّق رغباتكم جميعًا، ولو أودعتموني قلوبكم بلا نفاق، لقام درهمكم الوحيد هذا بمدد من الأعمال، ولصار درهمكم الوحيد هذا أربعة دراهم، والـمراد أنّ أربعة من الأعداء، من الـممكن أن يتوحّدوا بالاتفاق. فإن قولَ كلّ واحدٍ منكم على حدة يبعث على الحرب والفراق، وقولي أنا يوحّد بينكم. ومن ثمّ فاسكتوا أنتم وأطيعوا “أنصتوا”، وامضوا إلى حال سبيلكم، حتّى أصبح أنا عند النّقاش لسانكم. [مثنوي، ترجمة شتا، 2/305-306].
إقرأ أيضاً: العشق الصوفي ورحلة البحث عن المعنى
نلاحظ في القصة المساقة أنّ سبب الصراع بين النفر المجتمعين على هدف واحدٍ كان سببه الجهل بالمعنى، فكلّ منهم قد أُعطي لغةً بخلاف لغة الآخر، ولم يتعلّم واحدٌ منهم لغة الآخر، فضلًا عن جمع أحدهم لمعرفة كلّ اللغات، وهذا الجهل بالواقع أدّى إلى اختلافهم وتشاجرهم، ومن أجل غلبة أحدهم للآخر صار يوجه له أشدّ الضّربات لكمًا وعضًّا، في حين أن جميعهم كان يعني ويقصد شيئًا واحدًا، ومن هنا ينبّهنا مولانا الرّوميّ إلى الفكرة التي يمكن التعبير عنها على النّحو التّالي: أنّ أهل الأديان والمذاهب قد وقعوا في نفس الفخّ الذي وقع فيه أصحابنا الأربعة؛ ذلك أنّ الدّيانات الإلهيّة تقتبس قدسيّتها وقيمتها من نور واحد يشعّ بأنوار مختلفة، وتتفرّع أغصانها من شجرةٍ واحدةٍ تمدّ تلك الفروع بنفس الحبّ والعشق، من هنا فإنّ العارف لا يشاهد فرقًا أو تباينًا بين تلك الأنوار، ومع أنّ هذا المعنى لا يعني بالضّرورة تساوي الأديان وتشابهها، لكن يمكن من خلاله ممارسة التّسامح والصّفح مع أصحاب الدّيانات والمذاهب الأخرى. [عبد الحسين زرین کوب، پله پله تا ملاقات خدا، ص 982.].
وعلى ضوء هذه الرؤية تعود أصناف الأديان وألوان المذاهب المختلفة، سواء أكانت إسلاميّة أو مسيحيّة أو يهوديّة إلى نقطة واحدة لا غير، فالقصد والهدف من جميعها واحدٌ لا يتغير. يقول الرّوميّ موضّحًا هذا المعنى بعبارة صريحة: “وبرغم أنّ الطُّرق مختلفة يظلّ القصد واحدًا، ألا ترى أنّ ثمّة طرقًا كثيرة إلى الكعبة؟ فعند بعضهم الطّريق من الرّوم، وعند بعضهم من الشّام، وعند بعضهم من فارس، وعند بعضهم من الصّين، وعند بعضهم بطريق البحر من ناحية الهند واليمن، وهكذا إذا أنت تأمّلتَ الطّرقَ وجدتَ اختلافًا عظيمًا ومباينة لا حدود لها، أمّا عندما تنظر إلى المقصود فإنك تجدها جميعًا متّفقة وواحدة، قلوبُ الجميع متّفقة على الكعبة، للقلوب ارتباط وعشق ومحبّة عظيمة للكعبة ليس فيها مجال للاختلاف، وذلك التعلّق ليس كفرًا ولا إيمانًا… هذا يقول لذلك: إنك مبطلٌ وكافرٌ. وذلك الآخر يردُّ بالأوصاف نفسها. أقول: بمجرد أن يصلوا إلى الكعبة يغدو معلومًا أنّ ذلك الاحتراب إنما كان في الطّرق فحسب، وأنّ مقصودهم كان واحدًا… ولنعد إلى أصل الحديث: كلّ الناس في أعماق قلوبهم محبّون للحقّ وطلّابٌ له، ولديهم حاجة إليه في كلّ شيءٍ، يضعون رجاءهم فيه، ويرون أنه لا أحد غيره قادر ومتصرّف في شؤونهم. مثل هذا المعنى ليس كفرًا ولا إيمانًا. وليس لذلك اسم من الوجهة الباطنية. أما عندما ينساب ماء المعنى من الباطن نحو ميزاب اللّسان ويتجمّد، فإنه يستلزم صورة وعبارة؛ وهاهنا يغدو كفرًا وإيمانًا وخيرًا وشرًّا “. [جلال الدّين الرّومي، فيه ما فيه، ص153-154].
فالاختلافات ناشئة من اختلاف الأسماء والرّموز والتّفاسير والتّعابير، وهذا المعنى يبيّنه مولانا الرّومي في قصّة “الفيل والعميان” بشكل واضح، وهذه القصّة كما سنرى من أهمّ القصص التي رسّخت معاني التّسامح والتّعدّدية الدّينية. وردت قصة العميان والفيل في المثنوي المعنوي، بعد طرح مشكلة الخلافات التي نشأت عن الصّراع والتّخاصم بين أتباع الدّيانات من يهوديّة ونصرانيّة ومجوسيّة وإسلام، وليس للأديان في واقع الأمر أيّ دور مباشر أو غير مباشر في بروز هذه الخلافات، وإنّما لسوء التّقدير ومحدودية زاوية الرّؤية التي ينطلق منها كلّ أتباع دين لتشخيص الأمور أثر عميق المدى على طبيعة العلاقات بين أتباع هذه الديانات. يسرد الرّوميّ القصّة على النّحو الآتي: “كان الفيلُ موجودًا في حجرة مظلمة، وكان الهنود قد عرضوه فيها. ودخل الناس من أجل مشاهدته إلى تلك الحجرة المظلمة فردًا فردا. ولـمّا كانت رؤيته بالعين غير ممكنة، أخذوا يتحسّسونه بأيديهم في تلك الظلمة. فوقعت كفّ أحدهم على خرطومه، فقال: إن شكلَه مثل الأنبوبة. ووصلت كفُّ آخر إلى أذنه، فبدا له كأنه المروحة. أمّا الثالث فعندما تحسّس قدمه فقد صاح، لقد أدركت شكل الفيل، إنّه كالعمود. أمّا ذلك الذي وضع يده على ظهره فقد قال: هذا الفيل كأنه نجد. وهكذا فكلُّ من وصل منهم إلى جزء منه، كان يفهمه طبقا لما بلغ مسامعه عنه في كلّ مكان. واختلفت أقوالهم من اختلاف وجهات النّظر، قال أحدهم: إنه «معوجّ» كالدّال، وقال آخرٌ بل «مستقيم» كالألف. ولو كانت في يد كلّ واحد منهم شمعة، لانتفى الاختلاف عن أقوالهم. وعين الحسّ مثل كفّ اليد فحسب، وليست لكفّ واحدة قدرة الإحاطة به ككلّ. وعين البحر شيء وزبده شيء مختلف، فاترك الزّبد وانظر لعين البحر. إن حركة الزّبد من البحر ليل نهار، وأنت لا تفتأ تنظر إلى الزّبد ولا تنظر إلى البحر وهذا أمر عجيب. ونحن كالسّفن، يصطدم بعضها ببعضها الآخر، ونحن عُمي الأبصار في الماء الصافي. ويا منْ قد رحت في النّوم في سفينة الجسد، لقد رأيت الماء فانظر إلى ماء الماء. فللماء ماءٌ يسيّره، وللرّوح روحٌ تدعوها. وأين كان موسى وعيسى عندما كانت شمس «الحقيقة» تروي بالماء مزرعة الموجودات؟ وأين كان آدم وحوّاء ذلك الزمان الذي وضع الله تعالى فيه هذا الوتر في القوس؟ إن هذا الكلام ناقصٌ أبتر، وذلك الكلام الذي ليس بناقص هو من تلك النّاحية. فلو تحدثت عنه لزلّت قدمك، وويلاه إن لم تنبس عنه ببنت شفة. ولو قيل إنه على مثال الصّورة، فإنك تتعلق بنفس الصّورة أيها الفتى. وأنت مقيّدُ القدمِ كأنك النّباتُ في الأرض، وتحرِّك رأسك بهبّة نسيم دون يقين. لكن لا قدرة لك على الانتقال أو اقتلاع قدميك من هذا الطّين، فكيف تقتلع القدم من هذا الطّين وحياتك منه؟ إن السّير في حياتك هنا أمرٌ شديدُ الإشكال. وعندما تستمدّ الحياة من الحقّ أيها السّالك، تصبح بها مستغنيا وتمضي عن الطين. فالرّضيع عندما يفطم عن مرضعته، فإنه يتركها ويصير آكلاً لكلّ ما لذّ وطاب. وأنت ملتصق بلبن الأرض كالغلال، فابحث عن فطامك من قوت القلوب. وتغذّ من كلام الحكمة، فإنّ النّور قد صار مضمرًا فيه، يا من لست قابلاً لنور بلا حجب، حتى تصبح قابلاً للنّور أيّها الحبيب، حتى ترى المستور بلا حجب، فتتجوّل كالنّجوم فوق سِماك الأفلاك، بل تسافر بلا فلك سفرًا لا وصف له ولا كيفيّة. ألست بهذه الطّريقة قد جئت من العدم إلى الوجود؟ هيّا.. وقلْ كيف أتيت؟ لقد أتيت ثملاً. لقد انمحت طرق المجيء من ذاكرتك، لكننا سوف نتلو عليك رمزًا عنها. فاترك الفهم وكنْ آنذاك ذا فهم، وسدّ أذنيك وكنْ آنذاك صاحب أذن. لا، لن أتحدّث إليك فإنك لا تزال فجًّا، إنك لا زلت في الرّبيع لم ينضجك هجير الصّيف”.
ليس من الواجب تفسير عناصر القصّة، من قبيل بيان معنى الفيل والساق والأذن والأسنان والبطن، وكذلك بيان هويّة العميان واسم مدينتهم، إذ يمكن الاقتصار على المقارنة بين التّفكير والتّمثيل، بمعنى توضيح أنّه مثلما لم ير جميعُ العميان الفيل ليتمكنوا من معرفته معرفة كاملة، فإنّه يمكن اعتبار أولئك الذين لا قدرة لهم على معرفة كلّ الحقيقة من جميع أبعادها في حكم هؤلاء العميان أيضًا.
لم يكن للرّجال الذين حصل بينهم هذا الاختلاف القدرة على إدراك الحقيقة بكاملها، سواء كانوا عميانًا كما نصّت عليه القصة في أصولها الهنديّة، وكذلك القصّة بصورتها التي وردت عند أبي حيّان التّوحيدي في كتاب [المقابسات، ص 166] عن أفلاطون، وأبي حامد الغزالي في إحياء علوم الدّين- كتاب التوبة [ج4/ 10-11]، أم كانت حاسّة النظر عندهم كاملة، لكنّها كانت معطّلة بسبب وجودهم في مكان مظلم، وهذا ما يجعلهم في حكم العميان حال كونهم في هذا المكان الذي يلفّه الظّلام مثلما ورد في تمثيل الرّومي، ويطرح هذا الأمر قضايا عديدة تتعلق بطبيعة المعرفة البشرية، وهل للحواسّ القدرة على إدراك الحقيقة والفرق بين العقل الكلّيّ والعقل الجزئيّ، والوسائل التي تكفل للإنسان الانتقال من حالة المعرفة الجزئيّة والنسبيّة إلى المعرفة الكلّيّة واليقينيّة، والسلوك الذي يجب على الإنسان اتّباعه في حال الاختلاف وعدم الاتّفاق، بمعنى أن اللّجوء إلى النّزاع والتّخاصم أمر لا يخدم الإنسانيّة في شيء، والتعدّد منشؤه الزّاوية التي يرى منها الإنسان لبّ الوجود، مما يجعل التعصّب والانغلاق أمرًا غير مقصود، لأنّ الحقيقة موزّعة ابتداء، ولن ينحلّ الخلاف كما يرى جلال الدّين الرّوميّ إلّا باتّباع سبيل أمثل لتحقيق التّآلف والوفاق والمحبّة بعد الافتراق، ويقتضي هذا السبيل اتّهام الحواسّ لأنّها مضلّلة ولا تنتج إلا نتائج ناقصة، والعلم النّاتج عن إدراك الحواسّ ليس في تقدير الرّوميّ من أبواب العلم الواقعيّ، بل غالبًا ما يكون سطحيًّا، وشتّان بين العلم الواقعي الذي شبّهه مولانا جلال الدّين بالبحر، والعلم السطحيّ الذي لا يتجاوز الزّبد الذي سرعان ما ينحلّ إلى الأبد، ولا يرتفع هذا الخطر إلا بتوفير ظروف مناسبة للإدراك والمعرفة من قبيل أنْ يكون بيِدِ كلّ واحدٍ من الرّجال شمعة تضيء له المجال حتى يوضع حدّ للشّقاق والجدال.
إن تطبيق تمثيل اختلاف الرّجال في المكان المظلم حول تشبيه الفيل على قضايا المعرفة والاعتقاد، دعت كثيرًا من العلماء إلى اعتبار المثنوي كتابًا في العقائد قبل أنْ يكون كتابًا في التّصوّف والعرفان، حتّى أنّ شبلي النّعماني ذكر في ديباجة كتابه سوانح مولانا “أنّ الكتاب الحاضر هو رابع كتاب لنا في علم الكلام، حيث نشرنا قبله: كتاب علم الكلام الجديد، وعلم الكلام، والإمام الغزالي. إن المهتمّين بمولانا جلال الدّين في جميع أطراف الدّنيا لا يعرفونه إلا من جهة العرفان والتصوّف. وسيكون من الطّريف حقًّا ذكر اسمه بين زمرة المتكلِّمين” [خالد محمد عبده، الرّومي في الهند، ص23].
وبهذا تداعت الأفكار وتعدّدت الأنظار في معالجة أسرار القصّة واصطياد معانيها القريبة والبعيدة، بالنظر إلى أن الرّومي ربّما عدّ جميع الدّيانات صحيحة، ولكن وقع الخلاف بين المحقّقين هل أن اعتبارها صحيحة كان مطلقا بلا تقييد، أم أنه مقيّد بظهور الوحي المحمدي الذي كانت وظيفته إزالة الاختلاف بين أتباع الدّيانات، وهذا ما يحيل على نظرية التعدّديّة الدّينيّة، والقول بصحّة جميع الأديان، أو على أقل تقدير احتمال صحّتها في قلوب معتنقيها، وللإنسان أن يعذر أخاه الإنسان من هذا الوجه.
ولم تبتعد المستشرقة الألمانية أنّماري شيمل Anne-Marie Shimmel عمّا ذهب إليه كثير من الدّارسين حول هذه الحقيقة، فتناولت المسألة على طريقة المتكلّمين والحكماء، مؤكّدة “أنّ المخلوق لا يستطيع وصف الخالق الباري، ولا يعرف إلا آياته التي رآها في الآفاق وفي الأنفس، ولذلك اخترع المتصوّفون في الأقاليم السّبعة رموزا تشير إلى محدودية إدراكنا إن قصدنا وصف الله”، واستنتجت بعد تحليلها لتمثيل العميان والفيل أن ” هذه هي حال النّاس الذين يصفون الله على حسب ما يعرفون من صفاته، ولا طريق لهم إلى إدراك ذاته”، [التّصوّف كجسر بين الأديان والحضارات ص 77].
ولم يذهب خليفة عبد الحكيم بعيدًا عما اتّجهت إليه أنّا ماري شيمل، إذ قرّر بدوره “أن سائر النّاس يصلون إلى فهم الذّات الإلهيّة بواسطة أحد أوصافه، فيظنّون أنّهم أدركوا الحقيقة المطلقة، وهذا منتهى ما تصل إليه أقيسة الإنسان في خصوص الذّات والصّفات الإلهية. ومن هذا المنطلق، فإن الإيمان الواقعي، هو الاعتقاد بأنه مهما عجز البشر عن تحصيل المعرفة الكاملة، وكان ما يتصف به الإنسان من درجات الكمال في مستوى العقل والفهم والإدراك غير محدود، فإنه لا يجوز أن ننسب ذلك إلى الله، علمًا بأن هذه الأقيسة التي يتوصّل إليها الإنسان ليست خاطئة كلّها” [ميتافيزيقا جلال الدّين الرّومي، ص 45].
لم يكن مولانا جلال الدّين الرّوميّ أوّل من طرق موضوع طبيعة اختلاف العقائد والمذاهب والأديان، فقبله بقرون عدّة نطق الحلّاج قائلاً: يا بنيّ، الأديان كلّها لله عزّ وجلّ، شغل بكلّ دينٍ طائفة لا اختيارًا فيهم بل اختيارًا عليهم، فمن لام أحدًا ببطلان ما هو عليه فقد حكم أنّه اختار ذلك لنفسه، وهذا مذهب القَدَريّة، والقدريّة مجوس هذه الأمّة. واعلم أنّ اليهوديّة والنصرانيّة والإسلام وغير ذلك من الأديان هي ألقابٌ مختلفة وأسامٍ متغايرة، والمقصود منها لا يتغيّر ولا يختلف. [أخبار الحلاّج ومعه الطواسين، ص 54]
ومن ثم أنشد قائلًا:
تَفَكَّرتُ في الأَديانِ جِدّ مُحَقّق فَأَلفَيتُها أَصلاً لَهُ شَعبٌ جَمّا
فَلا تَطلُبَن لِلمَرءِ ديناً فَإِنَّهُ يَصُدُّ عَنِ الأَصلِ الوَثيقِ وَإِنَّما
يُطالِبُهُ أَصلٌ يُعَبِّرُ عِندَهُ ج َميعَ المعالي وَالمعاني فَيَفهَما.