تكوين
“إذا حسبتم أن الفلسفة هي الدروس التي تُلقى على مسامع الطلاب، فقد ماتت. أما إذا حسبتموها كما أرادها سقراط، فقد بدأت”.
مقدمة
مستقبل الفلسفة في مصر سؤالاٌ بات مطروحًا في الساحة الفكرية المصرية بقوة، وقد أصبح محور جدال واسع في الآونة الأخيرة، خصوصًا بعد الجدل الذي أثاره قرار وزير التعليم المصري بإلغاء مادة الفلسفة في الصف الثالث الثانوي، مبررًا ذلك بتخفيف العبء عن الطلاب. لم تتأخر آثار هذا القرار في الظهور، إذ انعكست سريعًا على أقسام الفلسفة في الجامعات المصرية، حيث تراجعت نسبة الإقبال على التسجيل في تلك الأقسام بشكل ملحوظ، حتى كادت أقسام الفلسفة في عددٍ من الجامعات أن تَخلو فصولُها الدراسية الأولى من الطلاب تمامًا.
تلك الأزمة تهيمن على المشهد الفلسفي في الجامعات المصرية، وتهدد باحتمالية اختفاء الفلسفة من المؤسسات الأكاديمية في عامين أو ثلاثة. والمثير للدهشة ليس الخطر ذاته بقدر تعامل كثيرٍ من الأكاديميين المصريين معه، فعلى الرغم من إدراكهم العميق لحجم المشكلة ومعايشتهم اليومية لها، إلا أنهم يتجنبون الاعتراف بذلك، ويصرّون على أن “الأمور بخير” وكأن شيئًا لم يكن. إنهم يحافظون على نظام من الجمود الفكري لا نظير له، وكأن الاعتراف بالحقيقة يُهدد هيبة التخصص ويجعل حائطه الصدئ يتصدع، فالجميع يعلم السر، ولكن لا ينبغي أن نخبر به أحدًا، وكأنه سر الأسرار الذي لا ينبغي كشفه، حفاظًا على صورة زائفة لا تعكس سوى الفراغ والتآكل الداخلي للمؤسسة الفلسفية المزعومة.
إقرأ أيضًا: لماذا نَدْرس الفلسفة في “كلية الآداب ويدرسها الألمان في “كلية الفلسفة“؟
في ظل هذا المشهد تصاعدت النقاشات بشأن مستقبل الفلسفة وجدواها وأهميتها. لكن قبل أن نتحدث عن مستقبل الفلسفة، علينا أولًا أن نتساءل: “عن أي فلسفة نتحدث؟” هل هي الدروس التي يتلقاها الطلاب ولا تحرك فيهم ساكنًا -وتلك هي الصورة السائدة لدينا- أم هي القدرة على التساؤل والشك والنقد والبحث عن الحقيقة كما أرادها سقراط… وهذا هو ما نطمح إليه.
تتفرع عن المشكلة السابقة مشكلة أخرى ينبغي أن نجد لها حلًا، إنها مشكلة: “غياب الحاضر”؛ فالمستقبل يقوم على ركيزتين أساسيتين: الماضي والحاضر، فكيف عساه أن يكون مستقبلنا وقد ارتكز على قدم واحدة، هي الماضي، بلا حاضر فلسفي حقيقي، مما يجعل استشراف المستقبل أمرًا مُختلًّا ومفتقرًا إلى المنطق.
ثم ننطلق إلى تساؤل آخر يفرض نفسه، أين هم الفلاسفة الحقيقيون؟ أين هم أرباب الفلسفة ومريديها؟ والحقيقة أنهم في الغالب خارج أسوار الجامعة، فالنظام الجامعي له رجاله وحاشيته الخاصة، وهؤلاء لهم مواصفات معينة تفتقر في أغلبها إلى الإبداع والرغبة الحقيقية في التساؤل الفلسفي الصادق.
في ذاك المقال سوف نحاول تسليط الضوء على المفارقة الكبرى وهي: معضلة غياب الحاضر الفلسفي المنسي والمتروك، وكذلك غياب الأستاذ الحقيقي الذي يضمن استمرار النضال والمقاومة الفكرية، كما سنحاول تقديم رؤية مختلفة لاستشراف مستقبل الفلسفة في مصر، بعيدًا عن صراعاتها السطحية، لنبحث عن جوهرها الحقيقي ومعناها العميق.
وفي النهاية سوف يظل يتصاعد التساؤل المُلح لدينا: هل تموت الفلسفة في مصر؟ الوضع الحالي يوحي بذلك ظاهريًا على الأقل، ولكن كيف ذلك وهي من حملت مشاعل النور وأنتجت أرباب الفلسفة الحقيقين الذين نشروا الحكمة ومهدوا طريق التفلسف في العالم العربي كله؟ لذا نقول: العنقاء لا تموت، بل تحترق لتتوهج فتضيء الظلام وتهدي للطريق. الفلسفة كالعنقاء لا تنتهي أبدًا، بل تنهض من رمادها دومًا أكثر قوة وصلابة. العنقاء أسطورة، والأساطير لا تفنى، بل تمد جذورها في الحاضر وتمهد بفروعها للمستقبل.
1- بداءة الأزمة وتصدع الجدار
حين عَلت الصيحات المنددة بقرار وزير التعليم المصري بإلغاء مادة الفلسفة، سارع عديدٌ من الأكاديميين المتخصصين في الفلسفة إلى التهوين من الأمر، مؤكدين أنه لا داعي للجلبة، فالقرار –وفق زعمهم – لا يمس الجامعات، بل يهدف فقط إلى التخفيف عن الطلاب في مرحلة دراسية مرهقة. ونحن لا نعلم حقيقة ما إذا كانوا قصار الرأي والرؤية أم أنهم يتعمدون قلب الحقائق وإخلال الموازين، ما الدافع وراء تزييفهم لحقائق واضحة للجميع؟
وفي فترة وجيزة تكشفت الصورة الحقيقية واستعلنت الأمور، فالأمر ليس قرارًا تعليميًا معزولًا كما شاع وراج، بل حلقة ضمن سياق عالمي يتجه فيه الاقتصاد الرأسمالي إلى التركيز في المجالات التِقْنية، في حين تتراجع العلوم الإنسانية إلى الهامش، بل حتى أن مساحة ذاك الهامش لا تكف عن التقلص، فالرأسمالية لا تهتم بالإنسان، ولا تعنيها معاناته أو طبيعته، بل ما يهمها هو دوران عجلة الإنتاج وانضمام الأفراد إلى سلسلة التروس البشرية التي تحرك الآلة الاقتصادية. ومن هذا المنظور كان إلغاء الفلسفة في الثانوية العامة “ضربة في مقتل”، فهو بمنزلة تجفيف للمنابع، بطريقة ينصرف فيها الطلاب عن دراستها، فلا تُدرج في اختياراتهم الجامعية لاحقًا، إذ إنها لا تخدم المنظومة الرأسمالية، ولا تُعد مجالًا “عمليًا” أو “مُربحًا” وفق معايير السوق.
وفي ظل الصعود والتنامي السريع للذكاء الاصطناعي، يعتقد بعضهم من قصار النظر ومحدودي الفكر، بأن المعركة محكومة بالمادة وحدها، وأن الحياة ليست سوى تلبية للاحتياجات الأساسية، وكأن الإنسان وجد في هذا العالم ليحقق حاجات جسده فقط ثم يموت. فكل ما تقدمه الرأسمالية يصب في مصلحة نمو الجسد وحده، متعاملة مع الإنسان وكأنه أحد مشاريعها الخاصة، لكن ربما يعود ضيق أفق هؤلاء إلى سبب جوهري بسيط وهو: عدم دراستهم للفلسفة أصلًا.
والسؤال المهم الآن: هل كان قرار إلغاء الفلسفة شرًّا مطلقًا كما يبدو؟
ظاهريًا قد تبدو الإجابة نعم، ولكن الحقيقة تتكشف عند التأمل العميق في جوهر الأمور. فالشر المطلق الذي يظهر في تلك الأزمة قد يحمل في طياته “بذور الخير”، ولكن كيف؟
للإجابة عن هذا التساؤل، علينا أولًا العودة إلى السؤال الأساسي للمقال: عن أي فلسفة نتحدث؟
وقبل ذلك يجب أن ندرك أن تحديد الحاضر ليس بالمهمة السهلة، فالحاضر دائمًا ما يكون ضبابيًا غارقًا في تفاصيل عملية التحول، ولا يتضح إلا حين ننظر إليه بأثر رجعي. ومن هنا قد يكون إلغاء الفلسفة في صيغتها المدرسية التقليدية لدينا بمنزلة فرصة لإعادة التفكير في دور الفلسفة الحقيقي، بعيدًا عن قوالبها الجامدة والمُفرغة من جوهرها.
2- معضلة غياب الحاضر
إن غياب الحاضر هو الممهد لغياب المستقبل، فنحن في حاجة إلى الوقوف في الحاضر، والنظر إلى الماضي، كي نتمكن من استشراف المستقبل. إن استشراف المستقبل يتطلب أداة للرؤية، تشبه نظارة ذات عدستين: الأولى تنظر إلى الماضي، والأخرى إلى الحاضر ،لكننا لا نملك إلا عدسة الماضي، فكيف نرى المستقبل بعدسة واحدة؟ كيف نسير إلى الأمام ونحن نقف على قدم واحدة عرجاء؟ لهذا فإن السؤال عن مستقبل الفلسفة في مصر غير جائز من الأساس، إذ يحتاج أولًا إلى إعادة بناء الحاضر، قبل أن يكون هناك مجال للحديث عن المستقبل.
هذا عن عدم جواز السؤال، لكن ماذا عن التحليل الفلسفي لمفهوم الزمن؟ يتناول هيجل مكوّنات الزمن الأساسية -الماضي، الحاضر، المستقبل- ويذهب إلى أن الزمن “مكون من آنات يرفع كل آن منها الآخر”([1])، مما يعني أن الحاضر ضرورة لا غنى عنها في عملية تراكم اللحظات، وهو ما يُعدّ شرطًا أساسيًا لتكوّن المستقبل. فالحاضر هنا ليس آنًا عابرًا، وإنما عنصرًا جوهريًا في البنية الزمنية. حتى في التصورات الفلسفية الأكثر راديكالية، مثل تصور هيدجر للزمن، نجد أن الحاضر لا يُلغى، بل يُعاد تأطيره ضمن منظور مختلف، يبتعد به عن التقسيم المعتاد للزمن بوصفه آنات ثلاثة، فيقول:
“إنه فقط بقدر ما يكون الموجود الإنساني في عمومه بوصفه أنا أكون -ما- كنتُ”([2])
فالموجود الإنساني لا يستطيع أن يستشرف المستقبل دونما كانه، أو ما نقوله الماضي.([3]) ما يدل على أن استشراف المستقبل لا يتحقق إلا عبر استحضار الماضي، أو ما يُعرف بـ “ما كُنته”. لكي يتجه الإنسان نحو المستقبل، عليه أولًا أن يكون حاضرًا في واقعه، لأن المستقبل -وفق هذا التصور- لا يُمكن أن يكون سوى امتدادًا لما كان.
وقد ذهب بعض الفلاسفة، مثل هنري برجسون، إلى منح الحاضر واللحظة الراهنة أهمية قصوى، بوصفها المجال الوحيد الذي نملك فيه القدرة على الفعل. في ضوء مفهومه عن “الديمومة”، يؤكد برجسون أن إدراك الإنسان للزمن لا ينفصل عن تجربته في الحاضر، إذ يُعدّ الحاضر التجربة الواقعية الوحيدة للزمن، فالماضي قد انقضى، والمستقبل لم يبدأ بعد. ومن هنا، يرى كثيرٌ من الفلاسفة أن الحاضر هو المجال الوحيد المتاح للإنسان لممارسة حريته وتحقيق ذاته.
إقرأ أيضًا: بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة: من الدعوة إلى الفلسفة وصولا إلى الدفاع عنها
وعليه فإن هذه الرؤى لا تُبرز أهمية الحاضر فحسب، وإنما تؤكد على تفرده بوصفه اللحظة المفصلية التي يُبنى عليها المستقبل. وهو المجال المتاح أمامنا لإحداث التغيير المنشود. غير أن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هنا هو: ما هو حاضر الفلسفة في مصر؟ في الواقع لا يبدو أن للفلسفة في مصر حاضرًا حقيقيًا، لذا فنحن نفتقد إلى حاضر فعّال للفلسفة، ونظل مشدودين إلى ماضٍ مضيء تألقت فيه الفلسفة في مصر وأسهمت في إضاءة العالم العربي بأسره.
لذا فإن أولى خُطوات الإصلاح تقتضي فهْم الحاضر وتحليله بعمق، حتى نتمكّن من إدراك البنية المختلّة التي أسهمت في تكوينه، والعمل لتفكيك روابطها، وكسر القيود التي تُعيق التقدّم، تمهيدًا لإعادة بناء حاضرٍ فلسفي متماسك. وكلما كان هذا البناء أكثر رسوخًا وجودة، ازددنا قدرة على استشراف المستقبل وصياغته بوعي حقيقي وبمسؤولية صادقة.
3-غياب الأستاذ وانكسار المقاومة
وكي يتسنَّى لنا بناءُ حاضرٍ جيد، ينبغي أن يكون لدينا أستاذًا جيدًا أيضًا. فإذا نظرنا إلى الماضي، رأينا كيف كان الأستاذ الحقيقي وكيف أصبح في حاضرنا. فالأستاذ لا يقتصر دوره على الترقّي في الرتب الأكاديمية العليا -كما هو الحال فيما يمكن تسميته بـ “متلازمة الأستاذ الدكتور” في واقعنا المعاصر- ولا يقتصر كذلك على أداء المهام الوظيفية التقليدية من إلقاء المحاضرات وتصحيح الأوراق ومنح الدرجات، بل إن الأستاذ الحقيقي هو من يحمل قضية فكرية، ويتبنّى موقفًا معرفيًا واضحًا، ويُسهم في بناء مشروع فكري متكامل، يتجاوز حدود القاعة الدراسية ليؤثر في الوعي العام والمجال الثقافي الأوسع.
فالعظمة الحقيقية للفيلسوف لا تُقاس بتأثيره في مجال تخصّصه الضيّق فحسب، وإنما تتجلّى في مدى انعكاس أفكاره على مختلف الحقول المعرفية والمجالات الإنسانية الأخرى. فالأفكار المبتورة هي التي تتوقف عند حدود معيّنة، أما الأفكار النابضة بالحياة هي تلك التي تنفتح على الحوار وتتواصل مع غيرها وتُحدث أثرًا يمتدُّ ويتجاوز حدود منشئها.
يحدثنا حسن حنفي وهو شاهد على العصر، عن الأستاذ فيقول:
“وكان همِّي إنما هو تكوين مدرسةٍ فكرية في القسم كما فعل طه حسين وأمين الخولي بقسم اللغة العربية، ومصطفى عبد الرازق بقسم الفلسفة، ومحمد أنيس بقسم التاريخ، ومحمد صقر خفاجة بقسم الدراسات اليونانية واللاتينية، ورشاد رشدي بقسم اللغة الإنجليزية”([4]).
فالأستاذ لا يُشرف على الرسائل العلمية لإدراجها في سيرته الذاتية، سعيًا وراء المناصب وفرص العمل بالداخل والخارج فحسب، وإنما هو من يُنشئ جيلًا ويؤسس فكرًا. الطالب لديه مناضلٌ على طريق الحرية، غضٌّ وضعيف، مندفعٌ برعونة الشباب وقلة الخبرة، ودور الأستاذ هنا أن يكون رأس الحكمة، مستعينًا بخبرته الطويلة ونموّه العسير، ليهذّب ويوجّه ويرعى ويعتني، ويسقي طلابه بالحب والصدق والاهتمام الحقيقي.
إقرأ أيضًا: العلم وأبعاده الحضارية والثقافية: دراسة في مفهوم العلم عند الفيزيائي المصري علي مصطفى مُشَرفة
ذلك لأنه يدرك أن الأمر يتجاوز المادة، وبيع الكتاب الجامعي، وتحصيل نفقات المعيشة. إنه واعٍ بدوره الحقيقي في إعداد جيلٍ قادرٍ على التميُّز عليه، والتفوّق على من بعده، ورسم مسار الفلسفة بأيديهم، ليسهم بذلك في حلقة الوجود المتصلة، حتى يكتمل النسيج في تناغم وتكامل، دون قفزات مفاجئة أو عثرات مُربكة، هذا هو الأستاذ الحقيقي.
4- عن أي فلسفة نتحدث
الفلسفة في مصر حاليا ليست سوى مادة دراسية تُقدَّم إلى الطلاب بطريقة رتيبة، لا تحفّز فكرًا ولا تشجع عقلًا، ولو كان سقراط بيننا اليوم لرحل وانزوى بعيدًا، فلا سبيل هنا للنضال ولا للمقاومة.
ما حدث من إلغاء الفلسفة لم يكن شرًا مطلقًا، بل -على عكس ما يبدو- قد مهَّد لنا فرصة لحرث أرض الحاضر لتتهيّأ للزراعة من جديد، إذ إن الواقع قد انكشف وتعرت ملامحه، فانكشفت عوراته، وأصبحنا جميعًا في مواجهة مكشوفة، ينظر بعضنا إلى بعض، ويحاول كلٌّ منّا أن يستر نفسه بما يجده أمامه، ما جرى لم يكن سوى فوضى عارمة اجتاحت الوسط الأكاديمي كله، يسعى فيها كل فرد في إنقاذ نفسه -كما اعتاد- محاولًا العثور على عمل هنا أو هناك. وسط هذا الاضطراب، وضحت الرؤية وبرزت هشاشة الوضع الحالي.
الفلسفة عندنا في حالة موتٍ إكلينيكي منذ زمن بعيد، وكان من الأجدر بنا أن نرفع عنها أجهزة الإنعاش لتلقى حتفها بكرامة، بدلًا من اتباع سياسة الاستجداء التي سادت وانتشرت، فسمَّمت الواقع الفلسفي المصري وأمرضتنا جميعًا، لكن لم يمتلك أحد الجرأة الكافية لذلك، بسبب التفكير السائد الذي يقدّم لقمة العيش على أي شيء آخر.
يوضح حسن حنفي في ذكرياته كيف كانت تجربته في محاولة بناء مدارس فكرية وتوجيه دراسة الفلسفة إلى وضعها الصحيح فيقول: “وكان همي هو ربط القسم فلسفيٍّا، وتعاوُنَ الأساتذة مع بعضهم البعض لأداء الفلسفة بوصفها رسالة، وليس فقط بوصفها مهنة. كانت مهمةً صعبة، كيفية التعامل مع الزملاء ومع تضارُب المصالح وتدخُّل الأهواء البشرية مثل الغَيرة والحِقد”.([5])
وإن كان الوضع كذلك فأين هم الفلاسفة الحقيقيون؟ في الواقع إنهم في الغالب الأعم خارج أسوار الجامعة، فلا وظيفة لهم ولا منصب، مشتتون في الحياة، يحملون أحلامًا ضائعة وآمالًا كبيرة سرعان ما تلاشت. ويبدو النظام الجامعي كِيان مغلق، أشبه بجمهورية خاصة تحكمها مصالح ضيقة، تحيط نفسها بأسوار تمنع “الدخلاء”، حفاظًا على حالة الجمود والرتابة السائدة. ومن لا يندمج مع هذا القالب الجامد، لا مكان له بينهم، وهكذا يتحول الأكاديمي إلى ترس في آلة ضخمة تدور بلا توقف، في صراع محموم على المناصب والمصالح، بعيدًا عن جوهر الفلسفة ورُوحها الحقيقية. وبدلًا من أن يكون هاديًا ومرشدًا بحكم تخصّصه، أضحى في كثير من الحالات نموذجًا للضياع الوجودي والاضطراب الداخلي والغرق في أنماط من عدم الأصالة والزيف.
والآن بعد أن انفضَّ المُوُلِد وأُسدل الستار وأُطفئت الأضواء، من بقي ليدافع عن الفلسفة؟ هل هم أولئك المرتزقة([6]) الذين اعتادوا فرض كتبهم على الطلاب لضمان مكاسب مالية؟ بالطبع لا، فحين تراجعت الفلسفة بوصفها تخصصًا، تراجعت تجارتهم أيضًا، لذا سوف يبتعد المرتزقة وبائعو الكتب عن الساحة الفلسفية، لأنها لم تعد ميدانًا للاسترزاق. هؤلاء المسيطرون والمهيمنون على كل الوظائف وكل المناصب وكل الموارد، مصاصو دماء الفكر، سوف يبحثون عن منافذ عربية للنهل من منابعها ومواردها الغنية، ويتركون الواقع الفلسفي البائس الفقير ليخرب، تاركين هذه الأرض البور التي لم تَعُد تُدر عليهم الأرباح المعتادة.
إذن من بقي للفلسفة في لحظاتها الأخيرة؟
يُحلل حسن حنفي كيف يكون حال الطلاب في أثناء إعدادهم كي يكونوا أساتذة في القسم فيقول: وأمَّا المعيدون الجُدد فمنهم من يحتمي بالأستاذ المشرف الذي يساعده على فرض الحماية طبقًا للسلوك الشعبي في حماية النبُّوت لأنصاره كما هو الحال في الحرافيش « التوت والنبوت » لنجيب محفوظ. ومنهم من يظل صامتًا حتى يَدرُس الموقف ويعرف من أين يُؤكَل الكتِف، يُفرَض عليه موضوع الماجستير والدكتوراه، فلا يعيش المعيد تجربة الاختيار، ولا معاناة البحث العلمي، فيتَخرَّج شخصيةً باهتة، وعِلمُه منقول من الإنترنت، والموضوعات المنقولة من الغرب”.([7]) هؤلاء هم المزيفون لكن أين هم الحقيقيون؟ أين الغرباء، أولئك الذين يملكون رُوح الفكر، وخصوبة المنبع، ونقاء الرُوح؟ هؤلاء الغائبون هم من سيحرثون الأرض الخربة ويزرعون البذور الطيبة، ولن يقف أمامهم أحد، فهي أرض جرداء لا تعطي ولا تزهر.
ربما يبدو على وجوههم الضعف، ويلوح في مظهرهم البؤس، لكن حينما تخلو الساحة من المرتزقة وتصرخ الفلسفة مستغيثة، سيلبُّون النداء، فهم أبناؤها الحقيقيون، وهي أمهم الأصيلة، والأم الأصيلة هي التي تضمن لك السلالة الطيبة، لذا فمن المتوقع أن نجدهم وقد نبذوا جحورهم وهجروها، وخرجوا للدفاع عن أرض الفكر بأيدٍ عارية، لا يملكون سلاحًا ولا ناقة لهم ولا جمل، لكنهم أبناء الفلسفة وقد نادتهم بعد أن انفضَّ عنها المُدَّعون. وعلى الرغم من بؤسهم البادي، إلا أنهم سوف ينتصرون، لأنهم يمتلكون ثالوث النبوغ المجيد: “الإيمان، والصدق، والمحبة”، وبهذا الثالوث سوف تنتعش الأرض من جديد، وتنهض العنقاء من رمادها، مزدهرة، جلية، براقة.
المراجع
- حسن حنفي، (2019)، ذكريات، الجزء الأول، مؤسسة هنداوي.
- عبد الرحمن بدوي، (1973)، الزمان الوجودي، الطبعة الثالثة، دار الثقافة، بيروت.
- عبد الغفار مكاوي، (2020)، لِمَ الفلسفة: مع لوحة زمنية بمعالم تاريخ الفلسفة، مؤسسة هنداوي.
- كولن ولسون وجون جرانيت، (1992) فكرة الزمن عبر التاريخ، ترجمة: فؤاد كامل، مراجعة: شوقي جلال، الكويت: عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد159.
- مارتن هيدجر، (2003)، كتابات أساسية، السؤال عن التقنية (4)، ترجمة وتحرير إسماعيل مصدق، الجزء الثاني، العدد505، المجلس القومي للترجمة، مصر.
- Bloch, E. (1986). The principle of hope (N. Plaice, S. Plaice, & P. Knight, Trans.). MIT Press. (Original work published 1959).
- Gruen, L. (Ed.). (2021). Philosophy of the future: Contemporary perspectives. Oxford University Press.
- Rescher, N. (1998). The future as a philosophical problem. Society for Philosophy & Technology.
[1] عبد الرحمن بدوي، (1973)، الزمان الوجودي، الطبعة الثالثة، دار الثقافة، بيروت، صـ20.
[2]مارتن هيدجر، (2003)، كتابات أساسية، السؤال عن التقنية (4)، ترجمة وتحرير إسماعيل مصدق، الجزء الثاني، العدد505، المجلس القومي للترجمة، مصر، صـ 567.
[3] المرجع السابق، صـ 568.
[4] حسن حنفي، (2019)، ذكريات، الجزء الأول، مؤسسة هنداوي، صـ134.
وللمزيد حول تحليل ما آلت إليه الأوضاع الجامعية لأقسام الفلسفة انظر: الفصل الثامن من الكتاب نفسه: “رئاسة القسم ومحاولة تكوين مدراس فكرية” صـ (133-158). وعلى الرغم من أن حنفي كان يقصد قسم معين، وهو ما عمل فيه وانتمى إليه إلا أن الحال عام في كل الجامعات تقريبًا.
[5] المرجع السابق، صـ133.
[6] وهي لفظة دقيقة علميًا لوصف بعض الحالات العينية، وليست بغرض الإساءة أو الحطّ.
[7] المرجع السابق، صـ149.