تكوين
العقلانية النقدية ليست أمراً طارئاً على الفكر العربي الحديث والمعاصر ، بل هي في صلب الأسس التكوينية لهذا الفكر منذ أواسط القرن التاسع عشر . فقد خاض العقلانيون العرب بدءاً من تلك المرحلة مواجهات قاسية مع المنحى الدوغمائي المتشدّد الذي أنكر على العقل الإنساني حقه في الاجتهاد والتأويل والإبداع ، وكبّله بأطواق غليطة من الرقابة والمنع والتكفير ، فيما أصر هؤلاء على الانحياز إلى العقلانية النقدية باعتبارها السبيل المؤدي إلى النهوض والتقدّم ، وإلى إيمان يقوم على العقل لا على التقليد الاعمى .
إلا أن المثقف العربي استيقظ عقب نكسة 1967على هشاشة مقولاته ومسلّماته الإيديولوجية التاريخية ووجد نفسه وجهاً لوجه أمام تحديات الهزيمة بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والحضارية . الأمر الذي طرح المقاربة الثقافية للمأزق النهضوي العربي ، وما تعنيه من مراجعة نقدية جذرية للأفكار والقيم والأعراف السائدة . في إطار هذه المقاربة كتب عبدالله العروي ” الإيديولوجيا العربية المعاصرة ” وياسين الحافظ ” الهزيمة والايديولوجيا المهزومة ” وغالي شكري ” دكتاتورية التخلّف العربي ” وهشام شرابي ” البنية البطريركية ، بحث في المجتمع العربي المعاصر ” وجورج قرم ” انفجار المشرق العربي ” . وقدحفلت كتابات هؤلاء وسواهم بأمثلة على ارتداد المثقف العربي على البنى الايديولوجية التي شكّلت الخلفية النظرية للهزيمة ووضعت الثقافة العربية في قفص الاتهام في ما آل إليه الواقع العربي من تراجع وتخلّف واستبداد .
ولم يتوان بعض المثقفين في ما بعد عن اعتبار الثقافة العربية أصل البلاء في ما بدا تماهياًمع فكر الإستشراق الذي ألصق بهذه الثقافة كل سمات الجمود والإنغلاق وقابلية التآلف مع الإستبداد . فاعتبر خلدون حسن النقيب في “آراء في فقه التخلف ” أن ” الذل والإذلال سمة عامة في الثقافة العربية ، وإن أعلان العبودية أمر مقبول في تراثنا “وذهب فؤاد اسحق الخوري إلى أن ” العنف من صلب تراثنا ” وانه كأسلوب للتعامل ” جزء من شخصيتنا الإجتماعية والنفسية “.
في المقابل نبّه حليم بركات إلى أن الثقافة ليست كائناً تاماً مكوناً جاهزاً ، بل هي متطورة متغيّرة نسبية متحوّلة . ومن الخطأ افتراض خصوصية ثقافية عربية ذات سمات قارة ثابتة ، في وقت بات العالم كله ، بما فيه العالم العربي مفتوحاً على كل الأفكار والقيم والمفاهيم ، ومتفاعلاً مع كل الانماط السلوكية والاجتماعية والاخلاقية.
على خلفية هذه الرؤية الحركية التطورية للثقافة قامت مشاريع نقدية كبرى في الفكر العربي المعاصر ، حيث توجّه عبد الله العروي ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري وأدونيس وهاشم صالح وغيرهم إلى نقد الأبنية الثقافية العربية التي هي في رأيهم القاع السوسيولوجي للمحنة الحضارية العربية بهدف تأسيس رؤية عقلانية للإنسان والمجتمع والتاريخ ، متحررة من اليقينيات الدوغمائية السائدة ، رؤية تجديديةتجد في الثقافة ، الإجابة الحاسمة عن السؤال النهضوي المؤجل : لماذا تأخر العرب وتقدم الآخرون ؟
وإذا كان عبدالله العروي هو الرائد في طرح التقويم الإيديولوجي لهزيمة عام 67لأن ” من ينكر هئا التقويم انما يريد أن يجمد الحركة التحريرية العربية في مستوى قبل 1967″. فإن محمد عابد الجابري ذهب أبعد من ذلك ليرى أصل الخلل في إخفاق المشروع النهضوي العربي في ” العقل العربي ” . يقول في ” الخطاب العربي المعاصر “: ” ميدان واحد لم تتجه إليه أصابع الإتهام بعد ، وبشكل جدي وصارم ، هو تلك القوة أو الملكة أو الأداة التي بها “يقرأ” العربي و”يحلم “و”يفكر ” ويحاكم …إنه “العقل العربي ذاته “.
من هنا كان توجه الجابري ألى “العقل العربي” للبحث في آلية اشتغاله وفي العوامل الكامنة فيه ، ونمط تصوّره للكون والإنسان والتاريخ ، إذ هناك يجب أن تلتمس الإجابة عن السؤال النهضوي المزمن : لماذا تأخر العرب وتقدم الآخرون ؟ فهذا السؤال سيبقى معلقاً في رأيه ، إذا لم يطرح على الصعيد الابستمولوجي ، وما لم يتجه مباشرة الى ” العقل العربي ” . ف”المسلمون انما بدأوا يتأخرون حينما بدأ العقل عندهم يقدم استقالته ، في حين بدأ الأوروبيون يتقدمون حينما بدأ العقل عندهم يستيقظ ويسائل نفسه ” .
إن العقل إذاً بوصفه الأداةالمنتجة للقواعد المنظمة للواقع الإجتماعي العربي المتخلف ، هو مصدر الخلل الذي يجب أن يتوجه إليه النقد ، لتحديثه وتغيير مسلماته وأبنيته السائدة وآلية اشتغاله ، من أجل تحوُل تاريخي في صالح الإنسان العربي ، المهمة الأساسية والجوهرية لمشروع نقد العقل العربي عند الجابري الذي خلص إلى أنه في هذا التحول التاريخي يبرز الفكر “قوة فاعلة” عليها أن تفعل من أجل تغيير الشروط الإجتماعية التاريخية ، مثلما حدث في اوروبا وفي اليونان وعند العرب قديماً .
أن الهدف الأسمى الذي توخاه الجابري من مشروعه النقدي هو التحول في مسار النهضة العربية ، وقد أكد ذلك بقوله : “مشروعنا هادف ، فنحن لا نمارس النقد من أجل النقد ، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي ، والهدف : فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها ، وتعيد فينا زرعها ، ولعلها تفعل ذلك قريباً “.
من خلال النقد الإبستمولوجي رأى الجابري أن الثقافة العربية بوصفها الإطار المرجعي للعقل العربي ، ذات زمن واحد منذ أن تشكلت الى اليوم ، زمن يعيشه الإنسان العربي اليوم مثلما عاشه أجداده في القرون الماضية . إن العقل العربي والفكر العربي على العموم في بنيته وتصوراته ومفاهيمه وطريقة عمله ما زال امتداداً لعقل ما قبل النهضة . ومن هنا ” إن الفكر العربي الحديث والمعاصر هو بمجمله فكر لاتاريخي ، يفتقد الى الحد الأدنى من الموضوعية ، ولذلك كانت قراءته للتراث قراءة سلفية تنزه الماضي وتقدسه وتستمد منه “الحلول ” الجاهزة لمشاكل الحاضر والمستبل ” . فالمستقبل هو المجهول الذي يجب أن يقاس على معلوم هو الماضي ، فتتحول بذلك آلية قياس الغائب على الشاهد الى قياس الجديد على القديم ، وترتكز معرفة ما هو جديد على اكتشاف ما هو قديم ليقاس عليه .
لذلك ان الدعوة الى تحديث العقل العربي ستظل مجرد كلام فارغ ما لم تستهدف كسر بنية العقل المتحدر إلينا من عصر الإنحطاط ، وأول ما يجب كسره ، عن طريق النقد الصارم ، هو ثابتها البنيوي “القياس ” . إن تجديد العقل العربي يعني إحداث قطيعة تامة مع هذه البنية وامتداداتها الى الفكر العربي الحديث والمعاصر ، من خلال ممارسة نقدية عقلية تقوم على عدم التسليم بأي شيء إلا بعد فحصه ، ممارسة تشكل في ذاتها موقفاً ضد التقليد .
أذا كانت هذه هي منطلقات مشروع النقد الإبستمولوجي للعقل العربي عند الجابري ، فإن ما اقترحه من قواعد منهجية في هذا الإطار أتى مخيباً لهذه المنطلقات ، بل ناقضاًلها من الأساس ، في ما يذكر بالمآلات البائسة للعقلانية النقدية العربية ، من ز.ن.محمود الى طه حسين وتوفيق الحكيم وعباس العقاد ومحمد حسين هيكل واسماعيل مظهر وعلي عبد الرازق وغيرهم من الذين سلكوا خطاً انكفائياً يخالف أطروحاتهم الأساسية في العقلانية والإستقلال عن العقل التراثي.
فالجابري الذي أعلن تمرده على السلطة المرجعية للتراث ، رافضاً آلية القياس النقهي التي تحيل النموذج _السلف ، الى أصل يجب الإحتكام اليه دائماً في كل القضايا والإشكاليات ، كان في خطابه الإيديولوجي الأكثر تناقضاً مع المقدمات التي انطلق منها ، كما كان الأكثر بؤساً وتهافتاً في قراءته للمقولات المركزية في الخطاب السياسي العربي ، اذ انتهى في الواقع الى مساومات تلفيقية توفيقية على حساب العقل والرؤية العقلانية للإنسان والسياسة والمجتمع وظل اولاً وأخيراً أسير النموذج التراثي محتكماً في ما تطرحه الحداثة من تحديات معرفية طارئة وغير مسبوقة الى التراث باعتباره مرجعاً أحادياً لا يمكن تجاوزه أو الخروج عليه . فالتجديد في نظره ” لا يمكن أن يتم ألا من داخل تراثنا ” ببيئة المفاهيم الحداثية في التراث وتطويعها في شكل يساعدها على العمل داخله “. يقول في” التراث والحداثة ” :”في التعامل مع التراث أجد نفسي مضطراً الى أن اواصل البحث في هذا التراث نفسه عن مفاهيم وقوالب يمدني بها . ولكن لكي أتجاوزها أضفي عليها معنى آخر يربطها بالمفاهيم الجديدة ” .
“وفق هذا المنحى الإيديولوجي اقترح الجابري في “المستقبل العربي ” 12 _2007 وجوب العمل على “تبيئة وتأصيل قضايا الحاضر ، قيم الحداثة وأسس التحديث في ثقافتنا ، وذلك بإيجاد أصول لها تستطيع تأسيسها في وعينا ” أما التأصيل الذي يقترحه فيتلخص في بناء جسور تنقل ” الحاضر ” الى الماضي ليتأصل فيه ، وذلك انما يتم بإعادة بناء تاريخنا الثقافي بصورة تجعله يستجيب
لاهتماماتنا المعاصرة ، ويكون مرجعية لنا في الإتفاق والإختلاف ، في الإقتباس والإبداع .” ووفقالذلك اعتبر الجابري ان الأسس النظرية التي تقوم عليها حقوق الإنسان في الثقافة العربية الإسلامية لا تختلف جوهرياً عن الأسس الفلسفية التي قامت عليها حقوق الإنسان في الثقافة الغربية ، وان الإختلافات إنما ترجع الى اختلاف “أسباب النزول ” ، أي المعطيات الظرفية التي توخاها الشارع من نوع الحكم الذي أصدره في هذه القضية أو تلك ، ومن هذا المنظور فإن النظرة الرشدية الى العلاقة بين الدين والفلسفة ” نظرة صائبة فعلاً ، ملهمة حقاً”. وبهذا فإن الناقد الإبستمولوجي للعقل العربي ينتهي الى جعل الماضي ” التراث ” مرجعية الحاضر حيث لا يمكن التجديد إلا من داخله ، مستخدماً في ذلك كلمة ” النزول ” المرتبطة بالثقافة العربية الإسلامية ، المختلفة بأسسها الفلسفية بالكامل عن الثقافة الغربية التي أناطت كل القيم بالإنسان باعتباره المرجعية الأولى والأخيرة ، وليس بأية مرجعية أخرى تتعداه وتتعالى عليه .
هل يجوز بعد كل الثورة المعرفية التي لا تفتأ تحطم كل المسلمات أن يظل التراث مرجعية لحاضرنا ، وأن تبقى التوليفة الرشدية التي مضى عليها أكثر من ثمانية قرون ، الأنجع لمواجهة إشكاليات الحداثة ، والأنسب والأقوم للإجابة عن اسئلتها . ومعلوم ان إبن رشد كان فقيهاً رام في نهاية المطاف إخضاع الفلسفة للشرع الأمر الذي أثنى عليه الجابري ورلأى انه هو وحده هو الصحيح ، سواء تعلق الأمر ” بالعلاقة بين الدين والفلسفة أو بين الإسلام والحداثة المعاصرة . ذلك ان ترتيب هذه العلاقة ، كما يقول الجابري ” يجب أن يتم من داخل الشرع لا من خارجه …إذ ان كل ما يقع خارجه يجب أن يلتمس المشروعية داخله …والخطوة الأولى بحسب هذه الطريقة هي وضع قضايا الحداثة واحدة واحدة في ميزان الشرع ، ميزان الوجوب والمنع والمندوب والمكروه والمباح “.
هكذا يكون الجابري قد توسل من جديد آلية القياس الفقهي التي كان قد رفضها ، وعزا إليها تخلف العقل العربي وإعاقة الحداثة العربية . كما يكون قد أعاد ربط الفلسفة باللاهوت ، وتكون العقلانية التي نادى بها عقلانية مخضعة ، مختلفة في الجوهر والتوجه عن العقلانية الحداثية ، التي تؤمن بمرجعية العقل الإنساني وأولويته ، وتحرره من كل وصاية ، واستقلاليته إزاء كل المرجعيات .
فكبف ستنتظم مثلاً مفاهيم حداثية تنتمي الى الفضاء الحداثي ، في الفضاء التراثي المختلف اختلافاً أساسياً وجوهرياً؟
إن مفاهيم الفرد والمجتمع المدني والعقد الإجتماعي والديمقراطية وحقوق الأنسان ، لا يمكن إقحامها جنباً الى جنب مع مفاهيم الشورى والتسامح والتكافل ، كما مع مفاهيم الإنسان والفرد والعدل والحق والحرية ، فهذه جميعاً لها في المرجعية التراثية دلالات مختلفة ، بل متناقضة مع المرجعية الحداثية .
وهل بالإمكان طرح قيم الحداثة في المجتمعات العربية من دون ثورة في البنى الإقتصادية والإجتماعية والعلمية والإنتاجية والثقافية العربية ؟ هل بالإمكان طرح مسألة حقوقالإنسان قبل أن يعترف به فرداً حراً مستقلاً ؟ وهل بالإمكان الحديث عن حقوق المرأة قبل أن ينظر إليها ككائن سويّ له الحق في تقرير مصيره ولا يتعرض للأذى والإهانة ؟
لقد انتهى الجابري بتوفيقيته المنتمية الى التراث الفقهي الى استبعاد شعار ” العلمانية” من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية اللذين يعبّران ، كما يقول ، تعبيراً مطابقاً عن حاجات المجتمع العربي ، زاعماً ان شعار العلمانية ، انما طرحه مفكرون مسيحيون من الشام في ارتباط عضوي مع شعار ” الإستقلال عن الترك “وقيام دولة عربية في المشرق غير خاضعة للسلطة العثمانية ، الأمر الذي لا يتفق وحقيقة نوايا هؤلاء الذين كانوا في أكثرهم ، مؤيدين للرابطة العثمانية ، وعلى صلة وطيدة مع الإصلاحيين العثمانيين الذين عرفوا ب”العثمانيين الجدد “، فضلاً عن ذلك ان شعاري الديمقراطية والعقلانية لا معنى لهما من دون العلمانية ، لأن إفراغهما من مضمونهما العلماني ، أي المساواة المدنية والحرية الكاملة ومركزية الإنسان في الوجود السياسي والإجتماعي ، يحيلهما إلى شعار مخادع لا يجد حرجاً في التآلف مع التخلف والإستبداد .
هذه التناقضات وسواها تضع مشروع الجابري الذي أراده مدخلاً الى الحداثة العربية ، على محك الشك والمساءلة ، وتعيده إلى المأزق الذي حاول الخروج منه ، مأزق التساؤل التاريخي : لماذا تأخر العرب وتقدّم الآخرون ؟