مظاهر القمع الحضاري المعاصر عند ماركيوز: الجز الثالث

 تكوين

القمع الثقافي

يُعد القمع الثقافي جُزءًا لا يتجزأ من القمع العام السائد في المجتمعات المعاصرة. فلم تنجُ الثقافة من هيمنة النظام الرأسمالي وتسلطه، إذ أخضعها لمنطقه ومقولاته الحاكمة: كالفوائد والأرباح والعرض والطلب. ففي ظل هذه النظام عُوملت العلوم والآداب والفنون الرفيعة بوصفها سلعًا تجارية ومنتجات مادية شأنها شأن أي منتجات أخرى، وأصبح ما يُحدد قيمة الأعمال الفنية ليس سموها وأثرها الفعال في النفس الإنسانية، ولا مضمونها الرُوحي والأخلاقي، بل مدى استهلاكها والإقبال الجماهيري عليها، وقد لخص فرانك فاندي فيير Frank Vande Veire الأوضاع الثقافية في المجتمعات الصناعية المعاصرة عندما قال: “ينتج الفنان الحديث للسوق، أي للجماهير التي تمتلك القدرة الشرائية”([1])، لكن يرفض ماركيوز هذه النظرة التي تُعلي من شأن القيمة الاستهلاكية للأعمال الفنية على حساب قيمتها الجمالية والرُوحية، إذ يقول:

“أصبح الفن في مجتمع الاستهلاك مادة للاستهلاك الجماهيري ومن ثمَّ فقد وظيفته النقدية”([2]).

إن مَكمن الخطر في ارتباط الثقافة بعالم المال هو تحولها إلى وسيلة لخدمة أغراض رأس المال، إذ تُفرغُ من مضمونها التنويري والتوعوي الذي يلعب دورًا حيويًا في كشف الواقع المليء بالتناقضات والصراعات، وتُستغل بوصفها أيديولوجيا لتأييد الواقع الراهن، في حين أن المهمة الحقيقية للثقافة والفنون والآداب هي كشف أخطاء الواقع والتمرد عليه، وهذا ما أبرزه ماركيوز عندما رأى أن

“الثقافة الرفيعة أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الثقافة المادية، ومن ثمَّ فقدت بحكم تحولها هذا كثيرًا من حقيقتها”([3]).

 

إن ما يريد أن يقوله ماركيوز هو أن الثقافة المعاصرة فقدت قوتها الكاشفة والنافية للأوضاع البائسة، وأصبحت أداةً من أدوات سيطرة النظام الرأسمالي، وقد أطلق ماركيوز على هذه الثقافة المدعومة برأس المال، مُصطلح الثقافة الإيجابية. ويُشير هذا المصطلح إلى “صورة مقابلة لنظام لا يترك فيه الإنتاج المادي للحياة أي فُسحة مكانية أو زمانية لتلك المناطق للوجود التي شَخَّصَها القدماء بوصفها جميلة”([4]). يُوضح ماركيوز في هذا النص امتثالية الثقافة الإيجابية وتماهيها مع النظام القائم، فطغيان الطابع التجاري جعلها تخلو من أي مضمون جمالي يبعث في النفس شعورًا بالبهجة والسعادة.

على أية حال، إذا كان ماركيوز يكشف عن خطورة الطابع التجاري للثقافة المعاصرة، فإن أودورنو وهوركهايمر يُشددان على بعد آخر، وهو أن هذا الطابع أصبح مقترنا بسيادة قيم سطحية ومبتذلة، أطلقا عليها مصطلح ثقافة صناعة التسلية وهي

“الثقافة التي تمارس سلطتها على المستهلك بواسطة التسلية (…) والتسلية بمنزلة حمام مريح تحاول تجارة اللهو وصفه. فهي تجعل من الضحك أداة تجارة خادعة عن السعادة”([5]).

إن ما يُريد أن يقوله أدورنو وهوركهايمر هنا هو تحول الثقافة إلى صناعة للترفية والتسلية ليكون دورها هو المساعدة في غض الطرف عن التطرق إلى القضايا والأزمات الحقيقية المتأصلة في قلب المجتمعات المعاصرة، تجنبًا للتمرد عليها.

فنون الحداثة

وقد نجحت الرأسمالية بالفعل في تحقيق مسعاها عندما عملت لإعادة التأهيل النفسي للإنسان المعاصر، إذ خلقت داخله حالة من حالات الرضا التام عن نفسه ومجتمعه. ويطلق ماركيوز على هذه الحالة مصطلح الضمير السعيد، وهي حالة تُمليها عليه أنظمة الوفرة والرفاهية التي يعيش في كنفها ويستمتع بمزاياها المتعددة “فالتلبيات التي يُحققها المجتمع غير الحر تميل إلى خلق ضميرٍ سعيدٍ يقبل بمساوئ هذا المجتمع. وهذا الضمير دليلًا على أن صحوة الفكر والاستقلال الذاتي في سبيلهما إلى الضياع”([6]).

وفي مقابل هذا الضمير السعيد الذي حوَّل الإنسان إلى كائن ليِّن ومطيع ومتماهٍ مع النظام، يحتفي ماركيوز بالضمير التعِس، وهو الضمير الذي يئنُّ من سطوة الحاضر المستبد، ويتطلع إلى آمال وآفاق مستقبلية أكثر تحررًا، هو قلب عالم لا قلب له، وروح عالم لا روح له. هذا الضمير التعس هو ما عبرت عنه فنون وآداب القرن التاسع عشر وبداءات القرن العشرين قبل تزاوجهما مع المال والسياسة خير تعبير، وهذا ما نجده جليًّا في روايات تشارلز ديكنز، هنريك إبسن، جورج أورويل. فقد “كان الأدب والفن في جوهرهما، وقبل أن يملك المجتمع والثقافة إمكان التصالح والانسجام استلابيين، وكانا يحميان التناقض، ويُمثلان الضمير التعيس للعالم المنقسم، والإخفاقات والآمال غير المتحققة، والوعود المنكوث بها”([7]).

ليس ماركيوز وحده من يُقيم تمايزًا بين فنون الحداثة النابضة بالتحرر والرغبة في الإصلاح، والفنون التجارية المعاصرة التي انتشرت في ظل الرأسمالية المتطفلة، بل نجد إريكي سيفانين Erkki Sevanen يُقيم اختلافًا جوهريًا بين الفنون في العصرين، وينطلق من مدى الاستقلال الذي كان يتمتع به الفن الحديث، إذ “يُعد الاختلاف بين النظامين الحديث والمعاصر في الفنون اختلافًا حادًا، ففي الحداثة الكلاسيكية كان الفن يتمتع باستقلال جزئي عن المجتمع، أما الفن المعاصر فلا يحظى بهذا الاستقلال”([8]).

على أية حال، إن ما يريده ماركيوز هو إعادة بعث الضمير التعس الذي يعبر عن أنين المُسَتغلين والمقهورين في عصرنا الراهن، ولن يتحقق هذا إن لم تسترد الفنون والآداب مغزاهما الثوري الذي كانت تتقلده فيما سبق. فالتحرر الاجتماعي والسياسي يقتضي تحرر الثقافة بعامة، وتحرر الفنون والآداب بخاصة، لما لهما من أهمية عظمى في إنارة الوعي وكشف تناقضات الواقع، وهذا ما يُشدد عليه ماركيوز قائلًا:

“يدرك الفن الحقيقي البؤس ونقص السعادة السائدين في النظام القائم”([9]).

إدراك ماركيوز لدور الفن الجوهري في عملية التحرر هو ما جعله يسعى إلى ربط كافة أشكال التحرر بالتحرر الفني والإستاطيقي، فتحررهما من قبضة المجتمعات المعاصرة هو الشرط الضروري للخلاص السياسي والاجتماعي. ويتطلب تحرر الإستاطيقا عند ماركيوز تحرير الطاقات الخلاقة والإبداعية للخيال، إذ تكمن قيمة الخيال لدى ماركيوز في أنه مرتبط كلية بمبدأ اللذة وفي أنه يحوي داخله تمردًا لا شعوريًا مستمرًا ضد مبدأ الواقع الذي يقمعه، ولهذا يُعول ماركيوز تعويلًا كبيرًا على قوى الخيال الثوري الجامح إلى الإطاحة بمبدأ الواقع القمعي، ويمتلك الخيال بحكم تكوينه المقموع هذه المقدرة، إذ “يتحدث الخيال لغة مبدأ اللذة والتحرر (…) لأنه يحتفظ ببنية النفس ونوازعها بطريق أسبق على تنظيمها بواسطة مبدأ الواقع”([10]).

فمن وجهة نظر ماركيوز تتبلور ثورية الخيال في أنه يُمثل عودة للمكبوت الذي لا يتخلى أبدًا عن تحرره، وتحاول حرية الخيال المكبوت أن تكشف عن نفسها دائمًا، وترفض نسيان ما قُمع في مراحل تاريخية سابقة. فالخيال يحاول أن يُعبر دائمًا عن إمكاناته الحرة، ويسعى في أن يتحول إلى ممارسة تدفع بالمجتمع تجاه التحرر والكمال، فلقد أصبحت “مشروعية وحقيقة الخيال مطلبًا ضروريًا للفعل السياسي”([11]).

إقرأ أيضا: مظاهر القمع الحضاري المعاصر عند ماركيوز: الجزء الأول

رؤية الخيال مُحفزًا أصيلًا للفعل السياسي الطامح للحرية، جعل ماركيوز يعهد إليه بمهمة تكوين ما يُسمى بالحساسية الجديدة، وهو مصطلح يستخدمه ماركيوز للدلالة على الاحتياجات الحيوية الجديدة المبتورة الصلة باحتياجات مجتمعات الاستهلاك والسيطرة. وهي الاحتياجات التي لا يستطيع الإنسان أن يعيش دونها في المجتمع الحر، إنها ليست احتياجات بيولوجية فحسب، لكنها تتضمن تصورًا جديدًا للقيم واللغة والصور والإيماءات والنغمات الجديدة التي تُعبر عن “صعود غرائز الحياة ضد العنف والعدوان والاستغلال”([12]). إن الحساسية الجديدة التي يُرقيها الخيال هي سلبٌ لبنية المجتمعات القديمة القائمة على الكبت الغريزي والعدوانية والاستغلال، وتشييدٌ لبيئة جديدة تقوم على خلق توجهات مختلفة كُلية للحرية والجمال والإشباع الحقيقي للرغبات.

هكذا يؤدي الخيال في فلسفة ماركيوز دورين جوهريين:

  • الأول، هو السعي الدائم في التحرر من مبدأ الواقع القمعي.
  • والآخر، هو رسم ملامح جديدة لمبدأ واقع غير قمعي.

أي أن الخيال يقوم بوظيفتين هما: هدم القديم، وبناء الجديد. هذا الدور التحرري الذي يعزوه ماركيوز إلى الخيال، يُشبه الدور الذي يعزوه ماركس إلى البروليتاريا، فالآمال التي علقها ماركس على البروليتاريا في القرن التاسع عشر، أصبح يُناط لقوى الخيال الثوري تحقيقها في القرن العشرين، يقول ماركيوز: “إن الخيال قوة منتجة تعمل لتغيير العالم الاجتماعي والطبيعي”([13]).

الدور التحرري للخيال

إن الدور التحرري الذي يعزوه ماركيوز للخيال ينسحب على الفن أيضًا، فالفن كما ذكرنا آنفًا، قوة سالبة ومحررة شأنه شأن الخيال، ويتحدد الدور الثوري والتحرري للفن لدى ماركيوز فيما يلي:([14])

  • نفي المجتمع الراهن عن طريق نقد النوازع التدميرية والمغتربة
  • اقتراح صور وخيالات للنوازع المبدعة وغير المغتربة
  • رسم صورة لما ينبغي أن تكون عليه مجتمعات المستقبل

الخيال والفن لدى ماركيوز وجهان لعملة واحدة، ويجمع بينهما هدف مشترك وهو التحرر من القيود التي فرضتها المجتمعات الرأسمالية المعاصرة على البشر. هذا البُعد الثوري الذي يُناط به للفنون في عالمنا المعاصر يجعل الفن أكثر من محاكاة للواقع فحسب، فالفنون التي تحاكي الواقع لا تتضمن بداخلها على ما ينفي هذا الواقع ويسلبه، في حين أن الفن الحقيقي هو الذي يكشف زيف الواقع وتناقضاته، ويُبشر بمجتمع آخر تتحقق فيه قيم الحرية الحقيقية التي نرنو إليها.

إن الدور التحرري الذي يعزوه ماركيوز إلى الفن عندما جعل منه سلاحًا فعالًا في عملية الصراع والنضال ضد الرأسمالية، يُعد إسهامًا جديدًا في الفلسفة الماركسية. فماركس لم يُعول كثيرًا على دور الفن في عملية الصراع الطبقي، بل اعتقد أن العامل الاقتصادي وحده كفيل بتوجيه دفة الصراع ضد الرأسمالية، وهذا ما يرفضه ماركيوز قائلًا:

“لم يدرك ماركس أن الحل الاقتصادي المحضُ غير كافٍ، وأخفق في أن يرى أن الثورة المستقبلية يجب أن تتضمن أنماطًا مختلفة من القيم والوجود الإنساني، وهذه القيم إستاطيقية بدرجة كبيرة”([15]).

نقول نعم، لم يعزُ ماركس أهمية كبرى إلى الفنون في عملية التحرر والخلاص من الرأسمالية، لكن لا يعني هذا أنه أغفل دورها وأهملها كُلية، إذ نجد لها في كتاباته المبكرة حضورًا جليًا. ففي مخطوطات 1844 نجده يستشهد في حديثه عن النقود ودورها في تكريس الكراهية والشقاق بين البشر بأعمال شكسبير وجوته الأدبية، يقول ماركس:

“يؤكد شكسبير تأكيدًا خاصًا صفتين للنقود: أنها الإله المرئي الذي يحول كل الصفات الإنسانية والطبيعية إلى أضدادها (..) وأنها البغيُّ المشتركة والقواد المشترك للناس والأمم”([16]).

نلاحظ في هذا النص أنه لا يوجد اختلاف بين التوصيف الأدبي للنقود لدى شكسبير، وتوصيف ماركس لها. ويدرك ماركس جيدًا أنه لا فارق بين الصورتين: الأدبية والفلسفية في توصيف الواقع. فالفن الحقيقي من وجهة نظر ماركس، هو مرآة صادقة تعكس أزمات الواقع وتناقضاته، وهو وسيلة مهمة في إدارة عملية الصراع الطبقي، لكن ربما كان تعويل ماركس على العامل الاقتصادي أكثر من غيره من العوامل الأخرى، نابعًا لديه من أن الصراعات الطبقية تتجلي تجليًا واضحًا في الواقع الإنساني المعيش، وفي علاقات البشر العينية التي تظهر ظهورًا جليًا في المعاملات الاقتصادية عنها في الفن.

بالإضافة إلى ذاك يُضفي ماركس على الفنون في مجتمعه الشيوعي قيمة كبرى ويعدها مصدرًا من مصادر البهجة والمتعة التي ينبغي أن يتربى عليها المرء في ظل الشيوعية. ونجد لديه في مواضع متفرقة حديثًا شيقًا عن الأذن الموسيقية والعين التي تحس بجمال الأشياء وعلاقات الحب وإشباع المشاعر والأحاسيس، وهذا ما يدعونا إليه قائلا: “إذا كنت تريد أن تستمتع بالفن، فلا بُد أن تكون إنسانًا ذا تربية فنية”([17]). نستنتج من النص السابق أن المجتمع الشيوعي وفقًا لماركس، هو مجتمع يقوم على ترقية الحاسة الجمالية والفنية ولا يغفلهما كما يعتقد ماركيوز.

ويذهب الدكتور عبد المنعم الحفني في ترجمته لكتاب كارل ماركس: دور الأدب والفن في الاشتراكية، إلى عكس ما ذهب إليه ماركيوز. إذ يرى الحفني أن الفن لدى ماركس هو أحد أدوات الصراع ضد البرجوازية، فالفن له مغزىً سياسيًا مهمًا في الفلسفة الماركسية، هذا المغزى هو ما يُبرزه الحفني قائلًا: “عندما يكتب ماركس وإنجلز في الأدب والفن، فإنهما لا يكتبان بوصفها ناقدين، لكنهما يكتبان ليحققا فعلًا سياسيًا (…) فكتابتهما في الأدب والفن كانت كتابات في جوهرها في السياسة، وتساعد في عملية التغيير الاجتماعي”([18]). أمام كل هذه الشواهد لا يمكننا الاتفاق مع ماركيوز في تقليله من شأن الدور التحرري للأدب والفن لدى ماركس.

على أية حال، رغم الأهمية الجوهرية التي يعزوها ماركيوز إلى دور الفن في عملية التحرر من شرور المجتمع الرأسمالي، إلا أننا لا يجب أن نتسرع ونعتقد أن ماركيوز يريد تسيس الفن، أو جعل الفن أيديولوجيا تعبر عن مصالح طبقة بعينها. إن ثورية الفن تكمن في دوره التنويري للوعي وتسليطه للضوء على تناقضات الواقع ومحاولة تجاوز هذه التناقضات عن طريق رسم صور وخيالات لما ينبغي أن يكون عليه مجتمع المستقبل الحر. وهذا هو الدور الأساسي للفن الذي عبر عنه ماركيوز قائلًا: “إن الفن السياسي مصطلح خاطئ، فالفن لا يستطيع إنجاز هذا التحول، لكنه يُمكن أن يُحرر الإدراك والوعي المطلوب لحدوث هذا التحول”([19]). إن ما يُشدد عليه ماركيوز هنا هو أثر الفن غير المباشر في إدارة عملية الصراع عن طريق فضح الواقع المُزيف، وتبني مواقف للاحتجاج والرفض إزاء هذا الواقع، وهذا هو الدور الأساسي للفن لدى ماركيوز.

لكن إذا كان الخيال والفن عاملان غير مباشران في عملية التحرر، فماذا عن دور الفعل والممارسة السياسيين؟

القمع السياسي

إن تعدد مظاهر القمع التي أشرنا إليها سابقًا، تنبئنا مقدما بغياب الحرية والديموقراطية. ومع ذلك تَدعي معظم الأنظمة السياسية المعاصرة أنها أنظمة حرة، فهي المدافع الأعظم عن الديموقراطية وحقوق الإنسان وحرياته. وقد رسخت هذه الأنظمة بفضل المنظومة الهائلة للدعاية والإعلان أن الحريات الفردية على تنوعها واختلافها هي بديهيات لا يتطرق إليها شكٌ، وأنها من الحقوق اللصيقة بالأفراد التي لا يجوز انتزاعها منهم على الإطلاق، وأن أولى واجبات النظام السياسي هي حماية هذه الحريات.

لكن لماركيوز رأي آخر، إذ يرى أن بنية هذه الأنظمة موسومة بالاستبداد والقمع. وتتعدد مظاهر القمع السياسي في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة، ما بين قمع داخلي، حيث التقليص الحقيقي لمجالات الحرية الفردية وفرض الرقابة عليها. وبين القمع الخارج ، حيث الحروب الاستعمارية والتدخل لإعاقة حركات التحرر الوطني في الدول المُستعمرة، لتحقيق مزيدٍ من المطامع الاقتصادية والسياسية والعسكرية. وقد أبرز ماركيوز ديكتاتورية هذه الأنظمة في المستوى الدولي قائلًا:

“إن مجتمعات الوفرة الرأسمالية هي مجتمعات حرب، وأن لم يلاحظ ذلك مواطنيها يلاحظه ضحاياها. إنها تُلقي بالقنابل والمواد الكيميائية على فقراء الأرض وعلى أكواخهم ومستشفياتهم وحقولهم”([20]).

أما عن القمع السياسي الداخلي، فهو قمعٌ مستتر، إذ استطاعت الأنظمة السياسية المعاصرة إحداث تعديلات جوهرية في آليات السيطرة ومناهج التحكم في البشر، فقد أصبحت السيطرة غير علانية وتتم بطريقة غير سلطوية حتى لا يُتمرد عليها. لقد رسخت هذه الأنظمة في عقول مواطنيها أنهم أحرار، فهم يختارون من يُمثلهم عبر القنوات الديموقراطية، ويستهلكون ما يريدون، ويعبرون عن آرائهم بمنتهى الحرية “فقد أفسح الإخضاع بواسطة القوة الطريق إلى عبودية طوعية”([21]). أقنعت الأنظمة المعاصرة البشر أنه لا حاجة إلى التحرر، لأن الحرية متحققة في كافة المستويات. ومن ثمَّ فإن الدعوات إلى التحرر دعوات فارغة ودون مضمون حقيقي. والسؤال الذي يطرحه المدافعون عن هذه الأنظمة هو: ما القيود التي يريد البشر التحرر منها؟! هذه النغمة السائدة في هذه ظل الأنظمة هي ما أبرزها ماركيوز ساخرًا “ليس البشر في حاجة إلى التحرر!”([22]).

لكن يتصدى ماركيوز للمروجين والمدافعين عن زيادة مساحة الحرية في المجتمعات المعاصرة، مثل الفيلسوف النمساوي فون هايك  F.A. Hayekالذي يؤكد في كتابه دستور الحرية على أن “الحكومات قد قلصت من الضغط والإكراه المفروض على الأفراد”([23]). ويكشف ماركيوز في المقابل عن زيف هذه الادعاءات، ويرى في المقابل أن الأنظمة السياسية المعاصرة تُروج للوهم، وهم الحرية الذي لولاه لما كُتب لهذه الأنظمة الاستمرار، ويحذرنا ماركيوز تحذيرًا شديدًا من تصديق هذه الأوهام لأنها تعوق الإمكانات الحقيقية للتحرر “فالنظام الرأسمالي لا يقلص بيئة الحرية، بل يُقلص التوق إلى هذه البيئة”([24]).

يرى ماركيوز أن أول أدوات الأنظمة السياسية المعاصرة لتقليص الحريات الفردية هو فرض الديموقراطية التمثيلية على المواطنين، التي تُختزلُ الممارسة السياسية فيها في عملية الاقتراع فقط، وبعدها لا يعود للمواطنين أي دور في عمليات صنع القرار ولا في إدارة العملية السياسية برمتها، إذ تُؤخذ القرارات من أعلى لصالح الأقليات المسيطرة والحاكمة، وهذا ما يرفضه ماركيوز ويعدهُ انحرافًا بالممارسة السياسية نحو الديكتاتورية والشمولية التي لا تُقيم وزنًا لحريات الأفراد. ويصف ماركيوز خطورة هذه العملية قائلا: “تُقدم الديموقراطية الجماهيرية الأدوات السياسية لإقرار مبدأ الواقع القمعي، إنها لا تسمح للأفراد أن يشاركوا الحكومة التي تحكمهم في شيء”([25]).

لاقت الديموقراطية الجماهيرية بالفعل اعتراضًا كبيرًا من كثيرين. فهي وأن كانت تُعبر عن أحد تجليات الإرادة العامة في شكلها، إلا أنها لا تُعبر في مضمونها عن أي مظهر من مظاهر استقلال هذه الإرادة وحريتها، فبنيتها تنطوي على تناقض واضح، ففور أن يتنازل الشعب عن حقه في ممارسة أنشطته السياسية للحكومات التي ينتخبها، لن يعود له أي دور في المشاركة السياسية الحقيقية، وهو ما يتنافى مع جوهر الديموقراطية التي تعني المشاركة الشعبية في الحكم، وليس في اختيار الحاكم فقط.

أما الاعتراض الآخر على الديموقراطية الجماهيرية فيكمن في التخوف من عد قاعدة حكم الأغلبية هي القاعدة الشرعية الوحيدة لحماية القيم الديموقراطية، في حين أن طغيان الأغلبية وتهورها قد يأتي بأنظمة شمولية وديكتاتورية تقوض شرعية الممارسات الديموقراطية نفسها. هذا التخوف هو ما عبرت عنه الفيلسوفة الألمانية حنه أرنت قائلة: “ما كان لهتلر وستالين أن يتمسكا بزمام سلطتهما على شعوب عريضة بأسرها لو لم يكونا حائزين على رضا الجماهير وثقتها”([26]).

أما الاعتراض الثالث، فينطلق أصحابه من فكرة أن الجماهير غير مؤهلة للمشاركة في صنع القرارات السياسية، فهي لا تمتلك بحكم تكوينها الثقافي والمعرفي ما يؤهلها لهذا، ولذا لا بُد من ترك هذه المسألة للأقليات المستنيرة القادرة على إدارة شئون البلاد. فقد “حذر عديدٌ من المنظرين السياسيين مثل ولتر ليبمان وجاست دي أورتيجا من تدخل الجمهور في الأمور السياسية، وأكدوا الحاجة إلى وجود أقليات مُتعلمة تستطيع كبح جِماح المشاعر الجماهيرية المتهورة”([27]).

على أية حال ساعدت التحولات التي فرضتها الأنظمة السياسية الراهنة على الممارسة الديموقراطية في إنتاج أنماط من البشر أقرب إلى العبيد منهم إلى البشر الأحرار. إنهم يتماهون مع النظام ويعتقدون أن تطورهم وأمنهم وسلامتهم مقترن بأمن النظام وسلامته وتقدمه. لقد تلاشت الذوات السياسية المستقلة الواعية والقادرة على كشف الأوضاع القائمة ونقدها، وحَل محلها الحشد الجماهيري الذي يقضي على كل محاولات الاختلاف والتفرد، واختفى التمايز بين الأنا والآخر للدرجة التي لم تعد تحتل معها الأنا المُفكر المستقل مركز الصدارة، بل تراجعت ليحل محلها النحن والجماعة التي لا يكون للأنا قيمة خارجها. كل هذا دَعَّم بما لا يدع مجالًا للشك، الرضوخ للسياسات المطلوبة. هذا التغير الذي طرأ على بنية الشخصية المعاصرة، هو ما يعكس ماركيوز آثاره السلبية من الناحية السياسية عندما يقول: “مَهَّدَ تقلص الأنا الطريق لتكون الجماهير (…) فلم تعد الأنا قادرة على المحافظة على نفسها بوصفها ذاتًا، وأُفسح الطريق للتطابق الإستاتيكي للفرد مع الآخرين، ومع مبدأ الواقع الذي يخضع للإدارة”([28]).

ولا تتوقف سلسة القمع السياسي والحد من الحريات عند هذا الحد، بل يُشير ماركيوز إلى ملمحٍ آخر من ملامح تقلص الحريات السياسية في الديموقراطيات المعاصرة، وهو الملمح الخاص بدور اليسار ومدى فاعليته في ظل هذه الأنظمة، ويجزم ماركيوز بأن الأنظمة المعاصرة نجحت في تقليم أظافر المعارضة واليسار بشتى الطرق، سواء عن طريق استيعابهما ودمجهما في النظام أو عن طريق تضييق الخناق عليهما وشل قدرتهما على التواصل مع الجماهير.

إن توفير كل مقومات الراحة والرفاهية للأفراد صَعَّبَ مُهمة التغيير الاجتماعي والسياسي على المعارضة، فما هو البديل الأفضل الذي يُمكن أن تقدمه المعارضة للمواطنين؟ إن تجديد الرأسمالية لنفسها، وقدرتها الفائقة على رفع مستوى معيشة مواطنيها قد سحب البساط الجماهيري من تحت أقدام المعارضة. هذا المأزق الذي تواجهه المعارضة واليسار المعاصرين هو ما وضحه ماركيوز قائلا:

“إن محاولات التغير الجذري دون قاعدة جماهيرية هو شيء لا يمكن تخيله، وكذلك فأن محاولة تأسيس قاعدة جماهيرية في المستقبل القريب هو شيء لا يمكن تخيله أيضًا”([29]).

وتكمن العقبة الأخرى التي تُواجه اليسار في محاولة الفصل المتعمد بين أفكار اليسار والجمهور. وهي عقبة مفروضة عليه من الخارج بواسطة النظام، والهدف منها هو منع وصول الفكر السالب إلى قاعدة عريضة من الجماهير. وهذه العقبة اقتصادية، تتبلور في قلة الموارد المالية التي تمكن اليسار من التواصل مع الجماهير، إذ “يتكون الرأي العام بواسطة إعلام الاتصال الجماهيري، وما دامت لا تستطيع المعارضة شراء الوقت الكافي والملائم في وسائل الإعلان بقدر متساوٍ مع المؤيدين للنظام، فكيف ستغير المعارضة الرأي العام؟ لقد أصبح الرأي العام يتكون بهذه الطريقة الاحتكارية”([30]).

ولا ينتهي الأمر عند ممارسة الضغوط الاقتصادية على اليسار، بل يمضي ماركيوز إلى أبعد من ذلك عندما يكشف عن لجوء النظام إلى استخدام العنف المادي. فلا يتوقف القمع عند فرض معوقات خارجية على عمل اليسار، بل يمتد في كثير من الأحيان إلى استخدام أدوات الدولة القمعية التي لا تتسامح مع كل من يحاول تقويض النظام، إذ

“لن تستطع في وقتنا الراهن أن تكون حزبًا قويًا، ليس لأنه لم تعد هناك جماهير ثورية، بل لأن أدوات القمع أصبحت أقوى وأعنف بدرجة غير مسبوقة”([31]).

أمام كل هذه المعوقات لم يجد اليسار بُدًّا من توجيه أنظاره صوب الانشغال والاشتغال بقضايا سطحية، لا يُمثل الخوض فيها تهديدًا لأركان النظام “إذ خاض اليسار صراعًا من أجل تجديد المتنزهات العامة والشواطئ”([32])، لكن ينتقد ماركيوز هذا الدور لليسار، ويرى أنه يعمل لإعادة إنتاج النظام أكثر مما يعمل لتقويضه. لذا ينتهي ماركيوز إلى أن أفضل المهام التي يُمكن أن يؤديها اليسار في عصرنا الراهن هو الاكتفاء بنشر الوعي السياسي وتعميقه بين المواطنين.

تراجع دور اليسار في عصرنا الراهن ليس محلَّ إجماع، إذ يؤكد فون جوس Van Goss في المقابل على نجاح اليسار المعاصر وفاعليته. فمن وجهة نظره، خاض اليسار عديدًا من المعارك السياسية والاجتماعية والثقافية وحقق فيها انتصارات مُدوية، فلولا نضال اليسار من أجل تحرير السود لما أُلغي التمييز العنصري بين البيض والسود، كذلك خاض اليسار معارك كبرى حتى تنالُ المرأة حقوقها. وقد أبرز جوس هذا الدور المهم لليسار قائلًا: “بالنظر إلى التحولات الاجتماعية والقانونية والثقافية التي حدثت في القرن العشرين، تبدو إنجازات اليسار مذهلة (…) إذ مارس اليسار دورًا كبيرًا في الضغط على الكونجرس سـنة 1965 لسن قوانين الحقوق المدنية التي تُجرم كل أشكال التمييز”([33]).

ومن جانبنا نرى أنه رغم تواري دور اليسار في ستينيات القرن الماضي، وخاصة بعد حدوث الأزمات الأيديولوجية داخله بسبب فضائح الحقبة الستالينية، ودعم الحزب الشيوعي للممارسات العدوانية والإرهابية، إلا أن اليسار الأوروبي ما يزال فاعلًا وموجودًا في كثيرٍ من الأزمات. وما يزال يُمثل ضغطًا على الحكومات والأنظمة الراهنة لتحقيق عديدٍ من المطالب الإنسانية والعادلة. فهناك: جماعات مناهضة العولمة ومؤسسات المجتمع المدني وأحزاب الخضر ذات التوجه السياسي، وكلها تعمل ضد توجهات النظام، وحققت نجاحات ملموسة في أرض الواقع.

على أية حال، لا يُعبر ماركيوز عن تشاؤمه بخصوص غياب الدور التحرري والثوري لليسار، بل ينسحب تشاؤمه على دور البرلمانات. فبدلًا من أن تكون وظيفة البرلمان هي مراقبة أعمال الحكومات وعزلها متى أخلت بواجباتها، نجدها قد انحرفت عن أدوارها الرقابية وتماهت مع الحكومات في توجيه الجماهير وحشدها لتحقيق مصالح النظام. وقد نَدَّدَ ماركيوز بالموقف المُشين للكونجرس في الحرب ضد فيتنام قائلا: “ليس هناك ما يجعلنا نعتقد أن البرلمان هو من أجبر الحكومة على تغيير موقفها تجاه الحرب في فيتنام، إنها حركات الطلاب والمقاومة التي نددت بهذه الحرب”([34]).

في ظل هذه التحديات التي يفرضها النظام لإعاقة عمليات التحرر، يكون سؤال ما العمل سؤالًا جوهريًا؟ ما العمل إزاء كل مظاهر القمع هذه؟ وما سُبل التخلص منه؟ أهو الإصلاح أم الثورة؟ وما هي القوى التاريخية المُناط إليها الانتقال إلى مجتمع تتحقق فيه الحرية والعدالة والتضامن؟ وهل يمكن أن تتحقق هذه المثل السياسية العليا في الدول الاشتراكية التي تدعي دائما سعيها الدائم في تحقيق العدالة والمساواة بين البشر؟

في واقع الأمر، لا تختلف الأنظمة الاشتراكية من وجهة نظر ماركيوز، عن الرأسمالية في شيء، في تفشي الاستبداد والقمع والسيطرة. إنها بحكم التعايش التنافسي مع الغرب وبحكم شبح الحرب الذي يَلُوح في الأفق بين القطبين، انهمكت في سباق التسلح وجعلت كل همها العمل على الزيادة القصوى للإنتاج لرفع مستوى معيشة مواطنيها، في محاولة منها للحاق بالدول الرأسمالية المتقدمة. وفي غمار ذلك غضت الطَرْف عن بلوغ المُثل السياسية العليا، وهذا ما يوضحه ماركيوز قائلًا: “استمر تطور الاشتراكية في الانحراف عن أهدافه، ووضع نُصب أعينه نموذج مستوى المعيشة الأمريكي المرتفع”([35]).

بالإضافة إلى ذلك فإن فترة الإرهاب والقمع الستاليني في روسيا رسَّخت في الأذهان وجود صلة وثيقة بين الشيوعية والإرهاب، وأصبحت الشيوعية مرادفة للشر، وهو ما وَلَّد في نفوس البشر نفورًا كبيرًا منها. كل هذا صب بالتأكيد في مصلحة الأنظمة الرأسمالية التي عُدت النظام الأوحد للحرية ” فبسبب التطور القمعي الستاليني لم تكن الاشتراكية بديلًا جذابًا للرأسمالية”([36]).

ليس ماركيوز وحده من كشف عن الممارسات القمعية والإرهابية للأنظمة الاشتراكية، بل يتفق معه الفيلسوف وعالم الاجتماع الإنجليزي أنطوني جيدنز الذي عبر عن قلق الماركسيين والليبراليين من الإرهاب والقمع الشيوعي في روسيا، إذ نظر كثيرون بعين الخوف إلى عبارة خروتشوف التي قالها مزهوًا للدول الرأسمالية “سوف ندفنكم“([37])، واعتقدوا أن الأمور أصبحت على مشارف هولوكوست جديد.

إذا كان ماركيوز يساوي بين النظامين: الرأسمالي والاشتراكي في مساوئهما، تبقى للرأسمالية في رأينا مَيزة على الاشتراكية، وهي أنها وإن كانت تُمارس تضليلًا مُنظمًا ومُمنهجًا للوعي، إلا أنها لم تقم بممارسة القهر علانية، في حين مارست الاشتراكية السوفيتية هذا القمع علانية، من اعتقال المعارضين وقتلهم باسم تحقيق الاشتراكية.

على أية حال، إذا كان النظامان: الرأسمالي والاشتراكي موسمان بالقمع والاستبداد، ولا يصلحان لأن يكونا بيئة ملائمة لترقية الحرية الحقيقية، فما هو البديل الذي يطرحه ماركيوز؟

الاشتراكية الإنسانية

الاشتراكية الإنسانية أو الاشتراكية الجديدة، هي النظام الذي ينشده ماركيوز. وهي بمنزلة السلب والنفي التام للرأسمالية والاشتراكية السوفيتية. فهي تختلف عنهما اختلافًا جوهريًا في البنية وفي طريقة العمل، ففي البنية يتطلب تأسيسها بشرًا مختلفين عن البشر الموجودين حاليا، بشر ذو وعي وخيال مختلف واحتياجات بيولوجية وغريزية مختلفة، بشر يمتلكون دوافع غريزية ضد الوحشية والعدوان والقبح والقسوة وينزعون نحو الجمال والهدوء والسعادة. باختصار “بشر يرقون غرائز الحب والحياة على غرائز التنافس والعدوان”([38]).

أما عن طريقة عملها فهي لن تقوم على تشجيع إنتاج واستهلاك الحد الأقصى، ولن تقوم على مركزية الإنتاج والسوق الحرة، ولا على تشجيع التنافس بين المنتجين، بل ستقوم على إعادة التنظيم التقني للعالم بما يُحقق الخيرات والخدمات، وبلوغ الوجود الحسن، وإلغاء الفقر والكدح”([39]). إن ما يريده ماركيوز هو تأسيس اشتراكية تُحقق التضامن والتماسك الحقيقي بين البشر. اشتراكية يكون الإنسان فيها غاية في ذاته، ويكون عمله وسيلةً لسعادته وإشباع غرائزه، وليس أداة لعبوديته وقمعه والتحكم فيه.

إن فكرة ماركيوز عن الاشتراكية الإنسانية المبنية في جوهرها على الحب والتضامن والحرية تُظهر تأثر ماركيوز الشديد بماركس الشاب، وبخاصة في كتابه مخطوطات كارل ماركس لعام 1844. فقد ميز ماركس بين نمطين من البشر وبين نوعين من الاحتياجات الإنسانية: البشر الذين يعيشون في ظل أنظمة القمع والاستبداد التي تُرقيها الرأسمالية والملكية الخاصة، والبشر الذين يعيشون في ظل الشيوعية. فالإنسان في الأولى، وفق توصيف ماركس له “يصبح أكثر فقرًا بوصفه إنسانًا، وتصبح حاجته إلى المال أكثر إذا أراد أن يسيطر على الوجود (…) وكما أنه يهبط بكل شيء إلى شكله المجرد، فإنه يهبط بذاته في مجرى حركته إلى شيء كمي فحسب، ويصبح الإسراف والإفراط معياره الحقيقي. ومن الناحية الذاتية، فأن هذا يتجلى جزئيا في أن اتساع المنتجات والحاجات يهبط إلى عبودية مبتدعة دائمة الحساب لرغبات غير إنسانية”([40]).

يُشدد ماركس في نصه السابق على أن الإنسان الذي يعيش في ظل الرأسمالية ويخضع لها هو إنسان بلا إنسانية، إنسان مُغترب عن وجوده وذاته، ولا حاجة له إلا لعالم المال، فهو الوحيد الذي يُحقق له الشعور بالأمان، فإذا كانت معايير تقييم الإنسان معاييرًا داخليةً تنبع من ثقته بنفسه، ومن سمو قدراته العقلية والعاطفية وقدرته على الحب والعطاء، فقد أصبحت هذه المعايير في ظل الملكية الخاصة معايير خارجية تنبع من رؤية الآخرين وتقييمهم له،  ويقوم هذا التقييم في جوهره على توجهات مادية محضة: كالثروة والمكانة الاجتماعية. فالإنسان في ظل هذا النظام يساوي ما يملكه ولا شيء آخر.

أما النوع الثاني من البشر، فهو الذي يعيش في كنف الشيوعية التي تُمجد إنسانية الإنسان وتحتفي به أيما احتفاء، ولا تعدُّه وسيلة لبلوغ غايات غير إنسانية، بل تنظر إليه بوصفه القيمة الكبرى التي تسبغُ على سائر القيم كل ما لها من قيمة. ولا تتحدد احتياجات البشر في ظل الشيوعية في المال والاستهلاك، بل يحكمهم قانون التضامن والمحبة. ويصف ماركس هذه النوعية من البشر قائلا: “حين يرتبط العاملون الشيوعيون ببعضهم البعض، فإنهم يكتسبون حاجات جديدة –الحاجة إلى المجتمع– ما يبدو بوصفه وسيلة يصبح غاية (…) فالصحبة والترابط والحديث تكفيهم، ولم تعد الأخوة بين الناس لديهم عبارة جوفاء، وإنما حقيقة من حقائق الحياة”([41]). نلاحظ في هذا النص تشابهًا كبيرًا بين تصور ماركس للإنسان في المجتمع الشيوعي وتصور ماركيوز للإنسان الجديد واحتياجاته في ظل الاشتراكية الجديدة. ولبلوغ الإنسانية الجديدة والاحتياجات الجديدة لدى ماركس لا بُد من وجود الثورات والعنف المُسلح الذي تستحوذ به البروليتاريا على أجهزة الدولة البرجوازية وتنزع منها السلطة مكونةً مجتمعًا إنسانيًا جديدًا.

هناك مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها على ماركيوز مثل: كيف يمكننا بلوغ هذا الشكل الاجتماعي الجديد؟ هل عن طريق إحداث إصلاحات في النظام الموجود؟ أم أن الأمر يستعصي على الإصلاح؟ وفي هذه الحالة هل تُعد الثورة سبيلًا وحيدًا لبلوغ المرحلة التاريخية المنشودة؟ وهل تتوافر المقومات الثورية في المجتمع المعاصر؟ أم أن الشروط التاريخية غير مواتية لاندلاع مثل هذه الثورة التي تهدف إلى إحداث تغيرات راديكالية؟ ومن هو الحامل التاريخي الذي سيرفع ألوية هذه الثورة؟

بداءة يستبعد ماركيوز فرضية أن الأنظمة الراهنة قابلة للإصلاح، وهذا الاستبعاد لديه قضية محسومة ونهائية، فكل محاولة لإصلاح النظام تعوق عملية التحرر الإنساني، وتعمل لإعادة إنتاج أنظمة القمع والاستبداد. وهذا ما يؤكده قائلًا: “لا يمكن تشييد عالم الحرية الإنسانية انطلاقًا من الأنظمة الموجودة، فبنيتها الطبقية تُولد احتياجات وإشباعات تُعيد إنتاج عبودية الوجود الإنساني”([42]). يظهر جليًّا في هذا النص الأثر الماركسي في فلسفة ماركيوز، إذ يؤكد ماركس في عديدٍ من كتاباته ضرورة عدم التدخل في مجرى التاريخ ومحاولة تعديله أو تغييره، فإذا كان التاريخ هو تاريخ الصراع الطبقي، فإن أي محاولة لإصلاح النظام أو تعطيل الصراع ستأخر من عملية التحرر. وهذا ما أكده ماركس في الخطاب الذي ألقاه في المكتب المركزي لعصبة الشيوعيين قائلا: “فالأمر لدينا أن المُستهدف ليس تعديل الملكية الخاصة، بل إبادتها، وليس تقليل حدة العدوات الطبقية، بل إلغاء الطبقات، أي ليس تحسين المجتمع الحالي ولكن إقامة مجتمع جديد”([43]).

إذا كان الأمل غير معقود على الإصلاح، فبالتأكيد ستكون الثورة هي السبيل الوحيد للتحرر، وبالفعل يرى ماركيوز أنه لن يكون هناك مجال للتحرر من دون الفعل والممارسة الثوريين، لكن يبدو أن الفعل الثوري في ظل الرأسمالية الراهنة، سيظل أمنية يَعزُّ نيلها لأن “الثورة ليست على أجندة العمل”([44]).

ويرصد ماركيوز أسباب استحالة نشوب الثورة في عصرنا الراهن عندما يرى أنه من غير المعقول أن نطالب شعوب الدول الرأسمالية بالثورة ضد هذا النظام، فمن المعروف أن الشعوب تثور ضد الفقر والتخلف والجهل والمرض، في حين أن هدف الثورة التي ينشدها ماركيوز هو التحرر من الثراء والوفرة والتقدم والرفاهية، وهو ما يجعل من نشوب الثورات أشبه بالخرافة مستحيلة التحقيق، إذ “إننا نطلب التحرر من مجتمع لن تتكون فيه قاعدة جماهيرية لممارسة فعل التحرر الثوري”([45]). إن ما يريد أن يقوله ماركيوز هنا هو أن الظرف التاريخي الراهن الذي تعيشه الطبقات العاملة يقف ضد تطور وعيها الثوري، فقد تلاشت الظروف التي عاشتها البروليتاريا إبان القرن التاسع عشر؛ ظروف الاستغلال والسيطرة والقمع والبطالة التي كانت دافعًا للصراع الطبقي الذي كان صراعًا من أجل الوجود، أما الآن فحلت ظروف جديدة للاستيعاب والدمج. ومن ثم سيكون المطلب الثوري دربًا من دروب الخيال لدى الإرادة الشعبية التي تريد العيش دائما في رغد من الحياة.

لذا فقد اختفى الصراع الطبقي ولم تعد توجد طبقة اجتماعية تتعارض مصالحها مع النظام. فمصالح الطبقة التي كانت ثورية فيما سبق قد دُمجت ضمن مصالح النظام، وأصبح النظام هو الضامن لتحقيق مصالحها. إذ “دُمجت الطبقة العاملة في المجتمع الرأسمالي، وتأصل هذا الدمج في البنية التحتية للنظام، أي في الاقتصاد السياسي للرأسمالية”([46]). يشدد ماركيوز هنا على أن الطبقة العاملة التي كانت تُمثل فيما سبق تهديدًا ونفيًا للاقتصاد الرأسمالي، أصبحت الآن بمنزلة الدعامة التي يرتكز عليها هذا الاقتصاد، بل وعنصرًا أساسيًا من عناصر تطوره.

إن غياب الشروط الموضوعية والتاريخية الحاسمة لاندلاع الثورات، وعدم تطابق العاملين: الموضوعي والذاتي، يؤجل من إمكان حدوث الثورة. فانفصال العامل الموضوعي الذي تمثله البروليتاريا عن العامل الذاتي الذي يُمثله الوعي الطبقي للبروليتاريا، يُصعب من أداء البروليتاريا لوظيفتها الثورية، وهذا ما يبرزه ماركيوز قائلا: “في الأنظمة الرأسمالية لا يتطابق العاملان التاريخيان للتحول: العامل الموضوعي وهو الأساس الإنساني لعملية الإنتاج، والعامل الذاتي وهو الوعي السياسي الذي ينتشر بين الشباب غير الامتثاليين”([47]).

والسؤال الآن، إذا كانت البروليتاريا غير قادرة بحكم ظروفها التاريخية والاقتصادية الراهنة على قيادة عملية التحرر، فماذا عن الفئات الاجتماعية الأخرى التي لا تجد في الرأسمالية تعبيرًا عن أمانيها وتطلعاتها في حياة أفضل؟ فهل ستكون هذه الفئات قادرة على إنجاز فعل التحرر من مَغَبَّاتِ القمع الرأسمالي؟

هنا يتجه ماركيوز إلى الفئات الاجتماعية الأخرى البديلة عن البروليتاريا ليمتحن مدى صلاحيتها وقدرتها على تكوين قاعدة ثورية للتحرر. ويبدأ ماركيوز بفئة الطلاب، فهم يكونون شريحة اجتماعية كُبرى داخل المجتمعات المعاصرة، ونزوعهم التحرري لا يُمكن إنكاره، وخير شاهد على ذلك هو دورهم في حركة المقاومة في أحداث مايو عام 1968 بفرنسا ضد الرأسمالية والنزعة الاستهلاكية والاستعمار. كل هذا جعل ماركيوز يعدهم بريق الأمل الذي يلُوُح في أفق التغيير، لكنه يعود بعد ذلك ويؤكد أنه لا يمكن أن يكون الطلاب هم الحامل التاريخي للثورة في وقتنا الراهن، لأنهم “ليسوا قوة ثورية ولا حتى طليعية، طالما أنه لا توجد قاعدة شعبية وجماهيرية تتبعهم”([48]).

عدم قدرة الطلاب على قيادة الفعل الثوري التحرري هو ما جعل ماركيوز يتجه إلى البحث عن فئة أخرى ليرى مدى صلاحيتها في إنجاز هذه المُهمة من عدمه. ويلجأ ماركيوز في هذه المرة إلى فئة الزنوج والعاطلين وجماعات الهيبيز في أمريكا، فهذه الفئات لا تنعم بامتيازات الرأسمالية. فالزنوج يعانون التمييز العنصري ويسكنون الأحياء الفقيرة ولا يُدمجوا في عملية الإنتاج. كل هذا يُحفز لديهم طاقات التمرد والثورة ضد النظام “فالسود في الولايات المتحدة هم القوة الأكثر طبيعية للثورة”([49])، لكن يعود ماركيوز بعد ذلك ليؤكد عقم هذه الفرضية لأن النظام يعمل جاهدا لتشتيت واختراق كل طاقات النفي الموجودة داخله، إذ عمل لتقسيمها عندما سمح بصعود برجوازية السود، وهو ما أدى إلى تفتيت وحدتها وتلاشي قوتها “فالقوى بعيدة المدى للثوار السود أصبحت مهددة بالانقسام العميق داخل هذه الطبقة، بسبب صعود البرجوازية السوداء”([50]).

وإذا ما تطرقنا إلى موقف ماركيوز من جماعات الهيبيز، سنجد أنه يُعلي من شأن هذه المجموعات ويعدها تعبيرًا عن الاستهجان الغريزي ضد مجتمعات الوفرة. فهم مجموعات غير مُمتثلة ويتطلعون إلى التحرر الغريزي بطرق غير عنيفة ” إنهم يريدون احتياجات غريزية جديدة وقيم جديدة وثورة ضد الأخلاق التطهرية السائدة في المجتمع، إنهم يُمثلون بالفعل شكلًا غير عدواني للحياة”([51])، لكن لن تقوى هذه المجموعات المُتفرقة على قيادة فعل التحرر، وخاصة وأن مطالبهم قد تحقق كثيرٌ منها بفضل الثورة الجنسية. ويشير ماركيوز إلى سبب آخر يحول بينهم وبين قيادتهم لعملية التحرر، وهو أنه ليس لدى جماعات الهيبيز عداء مباشر مع القائمين على عملية الإنتاج، فهم مندمجون أيضا في قلب النظام الرأسمالي “فليست مجموعات الهيبيز وريثة للبروليتاريا”([52]).

يتجه ماركيوز بعد ذلك إلى البحث عن فئة أخرى تمتاز عن الفئات السابقة بأنها أكثر وعيًا، وهي فئة المثقفين من الطبقة الوسطى (الإنتليجنسيا). ويكمن الدور الأكبر لهذه الفئة في نشر الوعي بين المواطنين، فالمعركة الآن هي معركة لتنبيه الوعي بالمخاطر المُحدقة بالبشر بسبب القمع الرأسمالي “ففي ظل هذه الظروف يُعد التغير الجذري في الوعي هو البداءة الحقيقية في تغيير الوجود الاجتماعي”([53]).

لكن رغم أن الإنتليجنسيا تتمتع بالوعي الكافي الذي يُمكنها من تكوين قوة محركة لإدارة التغير الاجتماعي، إلا أنها حفاظًا على مصالحها تسير في الاتجاه المعاكس، اتجاه تكريس الوضع الراهن والدفاع عنه “فهذه الطبقة تستطيع بفضل موقعها أن تعطل وتعيد تنظيم وتوجيه نمط وعلاقات الإنتاج، ومع ذلك فليس لديها المصلحة ولا الاحتياج الحيوي لأن تفعل هذا، إنها مندمجة جيدًا وتُكافؤ على هذا الاندماج ([54]).

عدم قدرة الفئات الاجتماعية السابقة على التصدي للأنظمة القمعية الراهنة سواء بسبب اندماجها أو لعدم وجود قاعدة جماهيرية تتبعها، تجعلنا نطرح سؤالًا: هل يعني هذا استحالة الثورة على النظام؟ وإذا كانت الإجابة بالنفي، فهل سوف تولد طبقة جديدة تحمل على عاتقها مشروع التحرر؟

في الحقيقة إن اندلاع ثورات التحرر ضد الرأسمالية أمرٌ حتمي لا مفر منه لدى ماركيوز. وإذا كانت الشروط التاريخية والموضوعية غير مواتية لنشوب الثورات الآن، ستظل الثورة إمكان مؤجل لحين توافر الشروط التاريخية الملائمة. فالثورة لدى ماركيوز إمكان طوباوي متأصل في الواقع التاريخي، ولا يقصد ماركيوز بالطوباوية هنا اللامكان أو استحالة الحدوث، بل يقصد بها “هذا الذي يُمنع من الظهور بسبب قوة المجتمعات القائمة”([55]). إذًا الثورة لدى ماركيوز هي وجود بالقوة سوف يتحول في لحظة تاريخية محددة إلى وجود بالفعل، وأن عدم قابلية المشروع الطوباوي للتحقق الآن لا يُلغي دوره التنظيمي ووظيفته العملية التي يجب أن نضعها نصب أعيننا إذا أردنا تحقق هذا المشروع في أرض الواقع.

على أية حال يُدلل ماركيوز على وجهة نظره بحتمية اندلاع ثورات التحرر انطلاقًا من التناقضات والصراعات الداخلية الحادثة في قلب الأنظمة الرأسمالية المعاصرة في المستويين: الدولي والمحلي التي يرصدها ماركيوز فيما يلي:([56]).

  • يضع الاقتصاد الرأسمالي أعباءً ثقيلة ومتزايدة على دافع الضرائب.
  • يؤدي الاستخدام التدميري والقمعي المتزايد للثروات الهائلة إلى تناقص هذه الثروات، وإلى انتشار حالات الغضب العامة ضد هذا الاستخدام.
  • تؤدي زيادة الأتمتة إلى محو استخدام طاقة العمل الإنسانية في عمليات الإنتاج، ومن ثمَّ إلى زيادة البطالة.

يسير ماركيوز هنا على خطى ماركس في تأكيد حتمية انهيار الرأسمالية، وينطلق مثله من تحليل العوامل الاقتصادية لينتهي إلى أن هذه العوامل تحمل بذرة فناء هذه الأنظمة، ويتفق الاثنان على أن التقدم الاقتصادي المُقترن بغياب العدالة الاجتماعية سوف يُؤذن بأفول الرأسمالية، ويَحُول دون تحصين النظام لنفسه ضد الأزمات الداخلية والخارجية. وقد تنبأ إنجلز بحتمية هذا الانهيار كل عشرة سنوات “إذ لم يعد إفلاس البرجوازية السياسي والفكري بخَافٍ على البرجوازية، فإن إفلاسها الاقتصادي يتكرر بانتظام كل عشر سنوات”([57]).

ولا يسير ماركيوز على خطى ماركس في القول بحتمية انهيار الرأسمالية، بل يسير على خطاه في إلقاء مُهمة التحرير على عاتق البروليتاريا، فهي الطبقة الوحيدة القادرة على قلب النظام وتأسيس نظام جديد. ولن تحدث الثورة إلا عندما تسترد البروليتاريا وعيها الطبقي الثوري الذي كانت تَتَقَلَّدُه فيما مضى، ويصف ماركيوز حيوية دور البروليتاريا وقدرتها على التغيير قائلًا: “بينما تتوقف الطبقات العاملة عن أن تكون حفارة قبور الرأسماليين، تبقى هذه الوظيفة مؤجلة حين إتاحة الظروف المواتية”([58]).

أما عن باقي الفئات الأخرى فينحصر دورها وفق ما يرى ماركيوز في تقدم الدعم للبروليتاريا من الخارج. إنهم ليسوا أكثر من عوامل مساعدة للبروليتاريا في معركتها ضد البرجوازية، وسيقع على عاتق البروليتاريا وحدها، فور أن تسترد وعيها الثوري المفقود، خوض معركة التحرر، فهي طبقة ثورية في ذاتها حتى وإن حالت الظروف دون تحقيق ذلك في الوقت الراهن. وهذا ما يُبرزه ماركيوز قائلا: “إنه لمن العبث أن نقول إن الطبقة الوسطى يُمكن أن تحل محل البروليتاريا بوصفها طبقة ثورية، أو أن تصبح البروليتاريا الرثة قوة سياسية راديكالية (…) فالتحول الجذري للنظام الاجتماعي يعتمد على الطبقة التي ترتكز عليها عملية الإنتاج، إنها الطبقة العاملة الصناعية”([59]). فالبروليتاريا كانت وستظل هي الحامل التاريخي للثورة، ولا يمكن أن تنوب عنها أي طبقة أو فئة اجتماعية أخرى في أداء رسالتها الإنسانية العالمية.

في الأخير نرى أن ماركيوز قد قدم نفسه وقدمه عديدٌ من الباحثين مثل دوجلاس كيلنر وبول برنيس بوصفه أحد أهم المجددين في الفلسفة الماركسية، إذ زودها بمصطلحات وتصورات جديدة تزيد من قدرتها التحليلية والنقدية للمجتمعات الصناعية المعاصرة، كما زاوج بين الفلسفة الماركسية والتحليل النفسي ليوسع من قدرتها التفسيرية والشارحة لكثيرٍ من الظواهر الاجتماعية والتاريخية المعاصرة. هذا التجديد هو ما يُبرزه تلميذه كيلنر قائلا: “تتألف رؤية ماركيوز للماركسية من سلسلة المراجعات والتجديدات التي تقدم مشروعا نظريًا لفهم المجتمعات المعاصرة وتحولها”([60]). بالفعل هناك عديدٌ من الشواهد التي تؤكد فاعلية مصطلحاته الجديدة في تحليل المجتمع المعاصر، مثل التشيؤ وصنمية الإنسان والإنسان ذو البعد الواحد والمجتمع التكنولوجي والضمير السعيد والضمير التعس والإشباع الغريزي والحساسية الإنسانية الجديدة

لكننا عند مطالعتنا لكثيرٍ من نصوص ماركيوز، وجدنا أنه من الصعب إقصاءه خارج إطار دائرة الماركسية الأرثوذكسية التي تحاول إعادة تفسير التاريخ وتوجيهه بما يتماشى مع فلسفة ماركس. وتوضح عديدٌ من النصوص السابقة التي أوردناها أنه يتمسك حرفيًّا بالإطار النظري الذي رسمه ماركس ولا يريد الانحراف عنه في المقام الأخير، فرغم تحليلاته الثاقبة والناقدة للمجتمعات المعاصرة، ورغم إدراكه للتغيرات الهائلة التي طرأت على رأسمالية القرن العشرين والتغيرات الحادثة في بنية الطبقة العاملة وتركيبها، إلا أننا لا نجد لديه جوابًا يتسم بالمعقولية عن السؤال الآتي: ما الذي سوف يطرأ على البروليتاريا ليجعل منها طبقة ثورية تُطيح بنظام حقق، ولا يزال يحقق لها، كل مظاهر الراحة والرفاهية؟

عندما تنبأ ماركس في القرن التاسع عشر بحتمية اندلاع الثورات وانهيار الرأسمالية كان تدهور الأوضاع الاجتماعية والسياسية يُنذر بذلك، بسبب تفشي الاستغلال والسيطرة والقمع والبطالة، ومع ذلك لم تتحقق النبوءة الماركسية ولم تحدث الثورة في بلد صناعي متقدم كإنجلترا، ولم تنهار الرأسمالية في أوروبا حتى الآن. ورغم التطور الهائل الذي طرأ على الأوضاع الاجتماعية والسياسية للرأسمالية في القرن العشرين، إلا أن ماركيوز يسير على خطى ماركس نفسها في القول بحتمية الثورة، رغم تلاشي كل مظاهر البؤس التي كانت دافعًا للثورة في القرن التاسع عشر.

كذلك وجدنا عند تعاملنا مع نصوص ماركيوز التي تتعلق بالمجتمع التكنولوجي، أنها تشبه إلى بدرجة كبيرة تحليلات ماركس للمجتمع الرأسمالي. وينتهي ماركيوز إلى ما انتهى إليه ماركس نفسه في تحليلاته، وهو أن تحقيق الحرية والعدالة مُقترن باستيلاء البروليتاريا على وسائل الإنتاج، فبعد أن تصبح التكنولوجيا أداة في يد الدولة الاشتراكية الجديدة، سوف تُستخدم في تحقيق حرية الإنسان وقهر الاغتراب.

كما أن تصورات ماركيوز عن الاشتراكية الإنسانية والإنسان الجديد والاحتياجات الجديدة لا تخرج عن الطرح الماركسي. فإنسان ماركس في ظل المجتمع الشيوعي، هو الإنسان المُحب والحر وغير المغترب، الكاره لكل صور الاستغلال والسيطرة، وهي صورة الإنسان نفسها التي يريدها ماركيوز في مجتمعه الاشتراكي الإنساني الجديد.

في الحقيقة رأى ماركيوز المشكلات المعاصرة وشخصها بعيون الفيلسوف والمحلل والناقد للقرن العشرين، لكن الحلول التي قدمها للتحديات المفروضة كانت مستلهمة في معظمها من فلسفة ماركس في القرن التاسع عشر. إنها قراءة لرأسمالية القرن العشرين بعقلية القرن التاسع عشر، ولهذا جاءت في معظمها متناقضة مع الشواهد والأدلة التاريخية المعاصرة.

تُوفي ماركيوز عام 1979، ولم يُمهله القدر الفرصة ليرى التحولات السياسية والاقتصادية الكبرى التي حدثت في العالم في العَقْدين الآخرين من القرن العشرين. ففي عام 1989 انهار سور برلين الذي كان يفصل ألمانيا الغربية الرأسمالية عن ألمانيا الشرقية الاشتراكية، وهو ما عده المنظرون السياسيون ورجال الاقتصاد انهيارًا للاشتراكية في مستوى القارة الأوروبية. وبفعل هذا الانهيار أصبحت أوروبا بأسرها تدور في فلك النظام الرأسمالي الليبرالي. وفي عام 1991 انهار الإتحاد السوفيتي وحُلَّت الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، وبانهياره انهارت الكتلة الاشتراكية الشرقية واتجهت دول اشتراكية مثل: روسيا والصين، إلى الدوران في فلك الرأسمالية، وهو ما عده المنظرون انهيارًا للأنظمة الاشتراكية في المستوى العالمي.

تقف كل هذه الشواهد والأحداث في وجه ادعاءات ماركيوز بحتمية الثورة ضد الرأسمالية وتحقيق الاشتراكية الإنسانية. لقد استطاعت الرأسمالية حقًا، أن تُجدد نفسها، وأظهر هذا النظام جدارته وقدرته على البقاء عندما دمج بين الرأسمالية بوصفها طريقة في الإنتاج وكثير من المبادئ الاشتراكية التي تضمنها البيان الشيوعي، مثل تقليل ساعات العمل التي وصلت الآن في بعض البلدان الرأسمالية إلى أربع ساعات يوميًا، وزيادة الأجور وزيادة أوقات الفراغ. لقد حدث تطور كبير في بنية منطق التفكير الرأسمالي، فتوارى الاستغلال وحل محله المشاركة في الأرباح والثروات، وتوارت المنافسة الضارية بين الأفراد ليحل محلها فريق العمل، كل هذا يفسر كيف أن الرأسمالية حسنت من نفسها في كثير من النواحي، ولم تنهار كما تنبأ ماركس وماركيوز.

على أية حال تَبقى قراءة ماركيوز ورؤيته النقدية للأوضاع الراهنة في الدول الصناعية المعاصرة من القراءات المهمة التي تكشف عن الجوانب الخفية والتي يُمارس من طريقها القمع المستتر، كما تظل أفكاره عن اليوتوبيا بوصفها إمكان قابل للتحقيق حال توافر الشروط الملائمة، من الأفكار الجذابة التي تُحفز العقل دائمًا عن البحث الدؤوب لإيجاد الشروط الملائمة للتغير. وكذلك يُعد تصوره لدور الخيال الفني وعهد وسيلةً للتحرر، من الأفكار المُلهمة لكثيرين في عصرنا الراهن، وقد تجلى هذا في عديدٍ من الأعمال الفنية التي عُرضت في شاشات السينما والمسارح العالمية، التي تهدف لإثارة الوعي لدى قطاعات كبرى من البشر.

المصادر والمراجع:

[1] – Robrecht Vanderbeeken (ed), Drunk on Capitalism:an Interdisciplinary Reflection on Market, Economy, Art and Science, London, Springer, 2012, p: 93

[2] – Herbert Marcuse, Art and Liberation: Collected Papers of Herbert Marcuse, Vol:4, London, Routledge, 2007, p: 128

[3] –  هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، مصدر سبق ذكره، صـ 93

[4] – هربرت ماركيوز، فلسفات النفي: دراسات في النظرية النقدية، مصدر سبق ذكره، صـ 139

[5] – ماكس هوركهايمر، ثيودور ف. ادورنو، جدل التنوير، ترجمة / جورج كتورة، بيروت، دار الكتاب الجديدة، 2003، صـ 158، 164

[6] –  هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، مصدر سبق ذكره، صـ 116

[7] –  المصدر نفسه، صـ 97

[8] – Victoria D. Alexander (ed), Art and Challenge of  Market: From Commodification of Art to Artistic Critiques of Capitalism, Vol:2, Macmillan, Palgrave, 2018, p: 5

[9] – Herbert Marcuse, Art and Liberation, op.cit, p:102

[10] – Herbert Marcuse, Eros and Civilization: A Philosophical In quiry Into Freud, op.cit., p:120

[11] – Herbert Marcuse, an Essay on Liberation, op.cit., p:30

[12] – ibid., p:23

[13] – Herbert Marcuse, The New Left and The 1960s, op.cit., p: 82

[14] – Herbert Marcuse, Art and Liberation, op.cit, p:228

[15] – ibid., p:226

[16] – كارل ماركس، مخطوطات كارل ماركس لعام 1844، ترجمة/ محمد مستجير مصطفى، القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1974، صـ 128

 

[17] – المرجع السابق، صـ 130

[18] – كارل ماركس، دور الأدب والفن في الاشتراكية، ترجمة / عبد المنعم الحفني، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1968، صـ 7

[19] – ibid., 118

[20] – Herbert Marcuse, Toward a Critical Theory of Society: Collected Papers of Herbert Marcuse, Vol:2, op.cit., p:101

[21] – ibid., p:98

[22] – ibid., p: 99

[23] – F. A. Hayek, The Constitution of Liberty, Chicago, The University of Chicago Press,2011, p:72

[24] – Herbert Marcuse, an Essay on Liberation, op.cit., p:17

[25] – Herbert Marcuse, Eros and Civilization: A Philosophical In quiry Into Freud, op.cit., p:12

[26] – حنة أرندت، أسس التوتاليتارية، ترجمة / أنطوان أبو زيد، بيروت، دار الساقي، 1993، صـ 32

[27] – Paul Edward Gottfried, after Liberalism: Mass Democracy in The Managerial State, Princeton, Princeton University Press, 1999, p: 110

[28] – Herbert Marcuse, Five Lectures: Psychoanalysis, Politics, and Utopia, op.cit., p:47

[29] – Herbert Marcuse, The New Left and The 1960s, op.cit., p:123

[30] – ibid., p:124

[31] – loc- cit., p:124

[32] – Herbert Marcuse, Counterrevolution and Revolt, op. cit., p: 17

[33] – Van Goss, Rethinking The New Left:an Interpretative History, Macmilian, Palgrave, 2005, p: 2

[34] – Herbert Marcuse, an Essay on Liberation, op.cit., p: 69

[35] – ibid., p: vii

[36] – ibid., p: 85

[37] – أنطوني جيدنز، بعيدا عن اليمين واليسار: مستقبل السياسات الراديكالية، ترجمة / شوقي جلال، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2002، 96.

[38] – Herbert Marcuse, Marxism, Revolution and Utopia, op. cit., p: 253

[39] – Herbert Marcuse, Counterrevolution and Revolt, op. cit., p: 3

[40] – كارل ماركس، مخطوطات كارل ماركس لعام 1844، مرجع سبق ذكره، صـ 108

[41] – المرجع السابق، صـ 114

[42] – Herbert Marcuse, an Essay on Liberation, op.cit., p: 5

[43] – يفجيني كوفيشنكوف، بوريس بوجاتشوف، تطور الاشتراكية من خيال إلى علم، القاهرة، دار الثقافة الجديدة، 1980، صـ39.

[44] – Herbert Marcuse, an Essay on Liberation, op.cit., p: 56

[45] – Herbert Marcuse, The New Left and The 1960s, op.cit., p: 77

[46] – Herbert Marcuse, Counterrevolution and Revolt, op. cit., p: 6

[47] – ibid., p: 56

[48] – ibid., p: 60

[49] – ibid., p: 58

[50] – ibid., p: 57

[51] – Herbert Marcuse, The New Left and The 1960s, op.cit., p: 86

[52] – ibid., p: 64

[53] – Herbert Marcuse, an Essay on Liberation, op.cit., p: 53

[54] – ibid., p: 55

[55] – Herbert Marcuse, Marxism, Revolution and Utopia: Collected Papesr of Herbert Marcuse, Vol:6, op.cit., p: 250

[56] – Herbert Marcuse, Five Lectures: Psychoanalysis, Politics, and Utopia, op.cit., p: 98

[57] – فردريك إنجلز، الاشتراكية: الطوباوية والعلم، مرجع سبق ذكره، صـ 155

[58] – Herbert Marcuse, an Essay on Liberation, op.cit., p: 53

[59] – ibid., pp: 51-54

[60] – Douglas Kellner, Herbert Marcuse and The Crisis of Marxism, op.cit., p: 5

إقتباسات

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete