تكوين
مقدمة
لا نبالغ في القول إن معاوية بن أبي سفيان كان هو الشخصية المحورية في الأحداث التي مرت بالمسلمين من مقتل عثمان بن عفان (35 هـ) وحتى توليه الخلافة (41 هـ) ثم تأسيسه لنظام المُلْك الوراثي بعد ذلك، أي الدولة الأموية التي حكمت العالم العربي الإسلامي تسعين سنة (41 هـ – 132 هـ)، ثم حكمت الأندلس لثلاثة قرون. والذي يجعلني أقول إنه الشخصية المحورية أسباب عديدة، منها دوره في توجيه الأحداث، وفي صناعتها ابتداءً وفي اتخاذ القرارات المصيرية الحاسمة.
في هذه الدراسة أحاول البحث في الجذور الاجتماعية – السياسية لتلك الظاهرة التي نسميها “معاوية”، فهو ليس مجرد شخصية محورية بل يمثل ظاهرة تاريخية. تَعَرَّف القارئ الحديث على معاوية من كتب التاريخ الإسلامي المكتوبة في القرن العشرين، أما الأكثر انتشاراً منها فكان كتاب طه حسين “الفتنة الكبرى” بجزأيه: “عثمان”، و”علي وبنوه”، بالإضافة إلى كتاب عباس العقاد “معاوية بن أبي سفيان”. صحيح أن الكتابين مكتوبان بأسلوب أدبي وسردي، لا بالأسلوب التاريخي الأكاديمي، إلا أن تأثيرهما في الاستقبال الثقافي العربي الحديث لأشخاص الفتنة كان كبيراً. ولا أعلم السبب الذي لم يجعل عباس العقاد يعنون كتابه عن معاوية بـ “عبقرية معاوية”؟ ربما لحساسية الموضوع الشديدة. وقد كتب طه الحسين باستفاضة، لا عن معاوية بالأخص بل عن أحداث الفتنة الكبرى بعامة.
نادراً ما نجد في التاريخ شخصية خلافية مثل شخصية معاوية، ونادراً ما نجد شخصية تأسيسية مثله أيضاً؛ فقد استلم الكيان السياسي الذي نسميه الدولة الإسلامية وهو يُدار بنظام، وغَيَّرَه إلى نظام آخر، وأسس لأسرة حاكمة، وصار ذلك الكيان يُسَمَّى باسم قبيلته “الدولة الأموية”.
معاوية ممثلاً للصراع القَبَلي الهاشمي – الأموي
ظهر معاوية في الكثير من الدراسات التاريخية النقدية الحديثة[1]. ردت هذه الدراسات أحداث الفتنة الكبرى إلى صراع بين بني هاشم وبني أمية، بدأ قبل الإسلام واستمر بعد ظهوره واكتسب الطابع الديني، لكنه في الأساس صراع قبلي على السلطة داخل البيت القرشي العام. إنه إذن صراع قرشي – قرشي. ولم يكن المحدثون هم أول من أبرز الأساس القبلي لهذا الصراع، فقد سبقهم إلى ذلك ابن خلدون في مقدمته، ثم تلميذه المقريزي الذي وضع كتاباً في غاية الأهمية وبعنوان لافت للنظر “كتاب النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم”. لقد كان القدماء على وعي بالطبيعة الحقيقية لصراعات الفتنة الكبرى وأساسها القبلي، وبالتالي لم يكن هذا الأساس اكتشافاً حديثاً بقدر ما كان بروزاً للمسكوت عنه طويلاً في التراث الإسلامي.
كان بنو هاشم مستقرين في مكة في حين ارتحل بنو أمية كثيراً في التجارة، وكانوا على صلة وثيقة بالشام قبل الدعوة الإسلامية، وقد اعتزلوا في الشام لعشر سنوات نتيجة لحكم وقع عليهم وعلى بني هاشم، قضى بأن يرتحل بنو أمية إلى الشام لعشر سنوات. وأعتقد أن هذه السنوات العشر كانت حاسمة في توطيد صلات بني أمية بالشام قبل ظهور الإسلام؛ ولم يكن غريباً على أبي بكر وعمر أن يوليا معاوية على الشام، فهو الأموي الأعرف بها. وأدى وجود معاوية الطويل في الشام وهو حوالي اثنين وعشرين عاماً، وهي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، إلى توطيد أركان نفوذه هناك.
يقول المقريزي إن بداية العداوة بين بني أمية وبني هاشم كانت عندما تولى هاشم السقاية والرفادة للحجيج وأنفق عليهم من ماله الخاص، في حين لم يفعل أمية ذلك، وتنازعا الزعامة، ولجآ إلى حكم أحد الكهان، وكان الحكم أن يخرج بنو أمية إلى الشام عشر سنين (ص 41 حسين مؤنس). يذكر المقريزي أن السبب في المنافرة بين هاشم وابن أخيه أمية سببها “أن هاشماً كانت له الرفادة التي سنها جده قصي بن كلاب بن مرة مع السقاية، وذلك أن أخاه عبد شمس كان يسافر وقلما يقيم بمكة، وكان رجلاً مُقِلاً، وله ولد كثير، فاصطلحت قريش على أن ولي هاشم السقاية والرفادة” (كتاب النزاع والتخاصم، ص 38 – 38).
الإسلام رسالة سماوية، لكنه دخل في تاريخ بشري معين، واندرج في سياق سياسي واجتماعي خاص بعرب شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، وأثر ذلك التاريخ والسياق على مسيرته. قبل ظهور الإسلام كان هناك تنافس ونزاع بين القبيلتين الأساسيتين في قريش، بني هاشم وبني أمية، واستمر هذا النزاع بعد ظهور الإسلام، حتى حدث الصدام النهائي بينهما في الحرب بين علي (بني هاشم) ومعاوية (بني أمية). انتصر بنو أمية، والدولة التي أسسها النبي “الهاشمي” سيطر عليها بنو أمية وصارت تتسمى باسمهم “الدولة الأموية”.
نجاح معاوية بين الصفات الشخصية والظروف التاريخية
إن تناولنا لسيرة معاوية وشخصيته يجب أن يجعلنا نتأمل في دور الفرد في صنع التاريخ، والظروف الخاصة التي تمكن بعض الأفراد من صنع التاريخ. كان معاوية شخصية استثنائية، رجل سياسة داهية، تمكن من وضع حد للفتنة التي قسمت المسلمين منذ مقتل عثمان.
تنتشر صورة لمعاوية سواء لدى الإخباريين والمؤرخين القدامى أو لدى الباحثين المحدثين قوامها صفات الدهاء، والمكر، والمخادعة، والسياسة اللبقة، والانتهازية، بل والمكيافيلية قبل ظهور مكيافيلي. هذه الصفات أغلبها سلبي، ويوصف بها معاوية بناء على النتائج النهائية للأحداث، لا بناء على وصف دقيق لمواقفه المرحلية، فمعاوية نفسه لم يكن يعرف النتيجة النهائية التي ستسفر عنها الأحداث، وإلا نسبنا إليه بصيرة لاستشراف المستقبل لا تتوافر إلا للأنبياء. من المؤكد أن معاوية كان يتصف بشيء من هذه الصفات كلها بطريقة ما، لكن في المجمل لم يصفه أحد بالتسرع أو الحماس الزائد أو الاندفاع أو التهور، وهي الصفات المحصورة كلها في خصومه وهي مثالبهم التي استفاد هو منها أقصى استفادة.
يصعب علينا وصف وصول معاوية لسدة الحكم وتوليه الخلافة على أنه تم بخديعة، رغم أن الكثير من المراجع الإسلامية تقول ذلك، وتقول أيضاً إنه وصل بخديعتين لا واحدة؛ الأولى هي حادثة التحكيم واحتمال تآمره مع عمرو بن العاص، والثانية عندما وعد الحسن بإرجاع الأمر شورى من بعده ومخالفة ذلك بأخذ البيعة لابنه يزيد، مما أسفر عن حلقة ثانية من الفتنة، أو ما يسمى بالفتنة الثانية. لاشك أن الصفات الشخصية لمعاوية ساهمت في نجاحه ووصوله إلى سدة الحكم، لكن لا يجب أن يجعلنا هذا نغفل عن دور العوامل الموضوعية في وصول الأمويين إلى الحكم، وهي عوامل تاريخية، شعر بها معاوية واستفاد منها، وبذلك صار معاوية ذلك الشخص الذي أدرك إمكاناته وإمكانات قبيلته بني أمية وظروف عصره جيداً، وواعياً بطبيعة الدولة الناشئة واحتياجاتها.
قال معاوية: “إن رسول الله (ص) كان معصوماً فولاني… ثم اسْتُخِلف أبو بكر فولاني، ثم اسْتُخْلِف عمر فولاني، ثم استخلف عثمان فولاني، فلم ألِ أحد منهم ولم يولني إلا وهو راضِ عني” (الطبري، 4، 321).
كان معاوية رجل الأقدار، هي التي صنعته، وركبها هو أيضاً واستفاد منها، وكأن التاريخ قد ألقى الكرة بين يديه ورجيله. فالذي سهل لمعاوية الوصول إلى الخلافة عدة عوامل تاريخية، لم يكن هو صانعها ولا موجهها، بل استفاد منها ووجد نفسه في الوسط منها. من هذه العوامل، غياب الكثير من السابقين إلى الإسلام بسبب الحروب أو طاعون عمواس (17 – 18 هـ) الذي راح ضحيته كل من خالد بن سعيد بن العاص وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح، ويزيد أخو معاوية (جعيط، الفتنة، ص 177).
لم يكن معاوية ببعيد عن النبي، فعلى الرغم من أنه لم يكن من السابقين إلى الإسلام، ولم يشترك في الغزوات النبوية الأولى، إلا أن النبي اتخذه كاتباً للوحي، وهو منصب رفيع، لقد ائتمنه النبي نفسه على كتاب الله. وهو بذلك لم يكن من الدائرة الضيقة المحيطة بالنبي مباشرة وحسب، بل كان من أخص الخواص باعتباره كاتباً للوحي. فقد لازم النبي في السنوات الأخيرة من حياته، وعايش شخصيته الاستثنائية الفذة، وكان على اتصال مباشر بتجربة النبوة في معينها السماوي. وبذلك كان يمكن لمعاوية أن يطالب لنفسه بمكانة عالية في السياق الإسلامي بجانب نسبه الأموي، فهو لم يكن مقطوع الصلة بالتجربة النبوية. هذا بالإضافة إلى أن نقطة انطلاق سلسلة الأحداث التي انتهت بتوليه الخلافة، أي النقطة الأصل، وهو أحداث الفتنة التي تسبب فيها عثمان وسياسته، لم يكن معاوية هو المتسبب فيها. أدت هذه الفتنة إلى حدوث انشقاق عميق داخل البيت الإسلامي بل وداخل البيت النبوي ذاته بين علي وعائشة، وداخل صفوف الصحابة[2]. هذا الانشقاق الذي لا يمكن وصفه إلا على أنه حرب أهلية، يسميها الوعي الإسلامي بالفتنة نظراً لتأثيرها السلبي الشديد على الروح والضمير الإسلامي وعلى الذكرى المثالية الجميلة التي يتركها النبي في نفس كل مسلم، هي ذاتها التي أدت في النهاية إلى وصول معاوية إلى السلطة. فلولا الفتنة ما كان لمعاوية أن يصل إلى الخلافة.
لم يكن معاوية قد حارب الإسلام، بعكس أبيه أبي سفيان، ولم يرفع سيفاً في مواجهة مسلم، إلا بعد احتدام الصراع بينه وبين علي في الفصل الأخير من الحرب بينهما، فلم يتدخل معاوية في الصراع بين علي من جهة وعائشة وطلحة والزبير من جهة أخرى. ربما دفعنا هذا الموقف المتوقف عن التدخل لوصفه بالخبث والدهاء والمكر والتريث المترقب كما يذهب إلى ذلك الكثير من القدامى والمحدثين، إلا أن معاوية كان رجلاً يعلم حدوده جيداً، وكان واضح الأهداف بصورة حادة. كل ما كان يطالب به آنذاك هو الثأر من قتلة عثمان والشورى. والذي جعله يطالب بالشورى علمه التام بعد وجود إجماع كامل من الصحابة غيرهم على علي، ولولا غياب ذلك الإجماع التام ما كان معاوية ليتجرأ على المطالبة بالشورى. قد ينظر البعض إلى مطالبة معاوية بالشورى أثناء خلافة علي أنها خروج على علي وعصيان وتمرد على الخليفة الشرعي، لكن شرعية علي لم تكن تامة إذا ما قورن بالإجماع السابق على الخلفاء الثلاثة الأوائل. إن مطالبة معاوية بالشورى بعد أن طلب منه علي البيعة يُذَكِّرنا بما سيفعله بعد ذلك وهو المطالبة بالتحكيم ورفع المصاحف على أسنة الرماح. معاوية إذن هو الذي طالب بالشورى وهو مبدأ إسلامي مبجل، وبتحكيم كتاب الله، وبذلك اكتسب التعاطف وشيء من الشرعية الدينية. صحيح أن أعداء معاوية ومنتقديه يصفون ما فعله سواء كان المطالبة بالشورى أو كان تحكيم كتاب الله بالخبث وسوء النية والدهاء، بهدف التأثير على العواطف الدينية للمسلمين، إلا أننا لا يمكن اختزال الأمر على هذا النحو، لسبب أساسي أشار إليه هشام جعيط (202 – 203)، وهو أن أصوات المطالبة بالتوقف عن القتال في صفين كانت آتية من معسكر معاوية، فلم يكن يمكنه تجاهل هذه الأصوات وإلا اتُّهِمَ بالتضحية برجاله في حرب إسلامية – إسلامية والتفريق بينهم.
عثمان والفتنة
تبدأ سلسلة الأحداث التي انتهت بوصول معاوية إلى الحكم بعثمان بن عفان، الذي أسفرت سياساته عن ثورة من أنحاء مختلفة أهمها مصر. أدت سياسات عثمان المحابية لعشيرته إلى تجدد حلم الأمويين بالسلطة والزعامة (جعيط، الفتنة، ص 180)، وكذلك إلى حدوث أول انشقاق بين صفوف الصحابة، ذلك لأن المعارضة لسياسة عثمان كانت آتية من أطراف عديدة، أهمها بعض كبار الصحابة مثل أبي ذر الغفاري.
حابى عثمان أقاربه وأسند إليهم مناصب هامة، وأسرته هم الأمويون.، وكان هذا هو أول ظهور لمبدأ القبيلة بعد الإسلام بعد أن توارى هذا المبدأ بفعل ما دعا إليه الإسلام من قيم عليا تتجاوز العصبية القبلية. وكان ظهور المبدأ القَبَلي على يد عثمان هو الذي أيقظ أطماع الأمويين، وهو نفسه الذي أيقظ في المقابل المبدأ نفسه والأطماع نفسها لدى الهاشميين.
يجب أن نأخذ في اعتبارنا أن اللحظة التي وصل فيها معاوية إلى السلطة كانت تتصف ببعض الخصائص التاريخية الخاصة للغاية. منها اهتزاز صورة الصحابة السابقين بعد الصراع الذي نشب بين بعضهم، منذ عثمان ومروراً بخلافة علي وحتى احتدام الصراع بينه وبين معاوية. اهتزت صورة الصحابة كثيراً بعد ظهور المعارضة ضد سياسة عثمان[3]، من جانب القراء في البداية، ثم من جانب عائشة وبعض كبار الصحابة من جهة أخرى؛ واهتزاز الصورة هذا هو المتضمن في كلمة “الفتنة”، وهي كلمة دينية تعبر عن أثر الصراعات السياسية في صورة الشخصيات الدينية لذلك العصر. يجب علينا أن نضع أنفسنا في مكان معاوية وننظر بعينيه إلى ما حدث. لاشك أن الفتنة تركت في نفسه أثراً خاصاً، اهتزت معه صورة الصحابة. فقد كان طلحة بن عبيد الله من كبار الصحابة وأحد العشرة المبشرين بالجنة ومن بين الثمانية الأوائل الذين أسلموا، وكان من المحرضين على عثمان، ومن المشاركين في المناوشات التي سبقت موقعة الجمل. أما الزبير بن العوام الصحابي الشهير فقد واجه علي في موقعة الجمل وقُتِلَ فيها. هذا بالإضافة إلى علي بن أبي طالب الذي صمت عن الثورة على عثمان ولم يدافع عنه، ولك ينجح في نيل القصاص من قتلته. أما عائشة رضي الله عنها فقد أدخلت نفسها في الصراع. كل هذه الأحداث أفقدت أمام معاوية كل هيبة كانت لهؤلاء في نظره، وقدمت له مشهداً فوضوياً دموياً صارت فيه الكلمة العليا للسيف، فنظر إلى القوة المسلحة على أنها هي الطريق الوحيد لاستعادة السلام والأمن وإيقاف حمام الدم الدائر بين المسلمين وبعضهم. لقد كان معاوية ينظر إلى نفسه على أنه المنقذ والأمل الأخير لاستعادة الدولة التي قاربت على الضياع وحقن دماء المسلمين.
رفض معاوية مبايعة علي
أرسل علي لمعاوية رسولاً يطالبه بالبيعة. أجاب معاوية رسول علي بشرطين: القصاص من قتلة عثمان، والشورى لانتخاب خليفة جديد . إن الشورى مبدأ إسلامي أصيل، مذكور في القرآن، وتم استخدامه في السقيفة وفي انتخاب عمر وعثمان، وبالتالي وضع معاوية علياً في مأزق. فعلي الذي يمثل أمجاد الإسلام الأولى والبقية الباقية من التجربة المحمدية الباهرة يواجه الآن بالمبدأ الإسلامي الأصيل، الشورى. قد نرى في مطالبة معاوية بالشورى دهاءً سياسياً ومكراً وربما تخطيطاً لإذكاء الفتنة ضد علي، لكن لا يجب علينا إساءة فهم معاوية أو المبالغة في إلحاق سوء النية به وبتحركاته.
لم يكن معاوية هو أول الرافضين لبيعة علي، ولم يكن وحده في ذلك، إذ لم يكن هناك إجماع على مبايعته. فلم يكن طلحة والزبير قد بايعا علياً عن رحابة صدر (تلكأ طلحة في البيعة وبايع تحت تهديد سيف مالك الأشتر، الطبري 4، 429. حسان بن ثابت لم يبايعه، وكعب بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وزيد بن ثابت، والمغيرة بن شعبة، سعد بن أبي وقاص، صهيب الرومي، أسامة بن زيد)، وسرعان ما أنشقا عليه بعد أن طالباه بالثأر من قتلة عثمان. ولا نلوم معاوية على الحرب بين علي من جهة وطلحة والزبير وعائشة من جهة أخرى، على الرغم من كل التخمينات حول دوره في إذكاء الفتنة على علي، إذ كان معاوية واضحاً للغاية في موقفه من بيعة علي. لقد جعلها مشروطة بالثأر من قتلة عثمان. هذا الشرط ينطوي على رفض معاوية للبيعة. هل شجع معاوية على هذا الرفض المبطن عدم وجود إجماع على بيعة علي بين الصحابة؟ ربما. إذا كان ذلك صحيحاً فإن عدم وجود إجماع على بيعة علي شجع رفض معاوية مبايعته، ورفض معاوية لمبايعته شجع الموقف الرافض لعلي وعلى رأسه عائشة وطلحة الزبير. إنها جدلية متضافرة من الأحداث التي أنتج بعضها البعض في تسلسل نادراً ما نجده في تاريخ البشرية.
وإذا وضعنا أنفسنا مكان معاوية بعد مقتل عثمان، فلا شك أنه أدرك أن شرعية علي مهزوزة في أصلها ومن بدايتها من جراء مقتل عثمان ذاته، وربما شجعه عدم وجود إجماع على علي أن يتخذ موقفه الرافض من البيعة. لكن الظاهر من سياق الأحداث أن رفضه للبيعة شجع على وقوف عائشة وطلحة والزبير ضد علي، ورغم ذلك لم يتدخل في الصراع بين الطرفين، وترك على وعائشة وطلحة والزبير يتحاربون، يراقب الأحداث من بعيد، رغم أنه رسمياً ووفق الأعراف القبلية هو ولي دم عثمان والأحق بأخذ الثأر له والاقتصاص من قتلته وفق المبادئ القرآنية؛ لقد كان معاوية هو صاحب الشرعية القبلية والدينية معاً في المطالبة بالاقتصاص من قتلة عثمان. كان معاوية يعلم جيداً بتعدد أطراف الصراع، فانتظر طويلاً دون أن يتدخل، ولم يواجه علي مواجهة مفتوحة وعسكرية إلا بعد موقعة الجمل (36 هـ). كان مقتل عثمان وتولي علي الخلافة سنة 35 هـ، وكانت موقعة الجمل سنة 36، وموقعة صفين بين علي ومعاوية سنة 37. نفهم من هذا الخط الزمني أن المواجهة العسكرية الشاملة بينهما لم تكن إلا بعد سنتين من إعلان معاوية رفضه مبايعة علي. ويُحْتَمَل أن يكون معاوية قد توقع هذه المواجهة العسكرية مع علي منذ أن رفض البيعة، لكنه لم يلجأ إليها مباشرة بل انتظر حتى تتضح الصورة. إن مخططاً استراتيجياً بعيد النظر ومسؤولاً مثل معاوية لم يكن ليغفل عن حقيقة أن رفضه لبيعة علي ستنتهي إلى مواجهة عسكرية معه.
عندما كان معاوية يصر على القصاص من قتلة عثمان، فقد كان يطرح نفسه ممثلاً للشرعية، التي كان عثمان يمثلها، وكذلك مدافعاً عن مبدأ الشورى الذي اختير عثمان على أساسه. أما من جهة الأعراف القبلية فقد كان معاوية هو ولي الدم في حادث قتل عثمان، فهو أموي مثله وهو من بين الأمويين صاحب أكبر منصب في الدولة الإسلامية باعتباره والياً على الشام. أما حربه مع علي في صفين فقد كانت مبررة من هذه الوجهة في النظر، لأن جيش علي كان يحوي القُرَّاء الذين واجهوا عثمان من البداية وكانوا قادة الثورة عليه والتي انتهت بمقتله. من وجهة نظر معاوية، كان قتلة عثمان يحاربون مع علي.
جبهة معاوية
ظل معاوية والياً على الشام طيلة 17 سنة قبل نشوب الصراع بينه وبين علي. في هذه السنوات نجح في توطيد حكمه هناك وفي عقد ولاءات قوية له. كانت جبهة معاوية الداخلية صلبة للغاية ومتماسكة، ذلك لأن الشام كان مهدداً على الدوام من البيزنطيين، مما فرض على معاوية استمرار سياسة الهجوم المتواصل فهو خير وسيلة للدفاع. كانت حدود الشام مفتوحة على آسيا الصغرى وبدون حدود طبيعية فاصلة يستطيع أن يأمن داخلها، فكان استمرار معاوية في الحرب ضد البيزنطيين هو الوسيلة الوحيدة لتأمين الشام، وهو أسلوب نقل الحرب إلى أرض العدو. وبذلك كان الشام كله تحت سيطرته الكاملة، والحرب المستمرة مع البيزنطيين وحدت جبهته ولم يحدث بها أي صراع مثلما حدث في الجبهة العراقية. لقد قضت الجيوش الإسلامية على الفرس بسرعة فائقة مذهلة، وأسقطت إمبراطوريتهم في عهد عمر، فكان العراقيون في مأمن تام من أي هجوم مضاد، فالعدو الفارسي اختفى تماماً، وبالتالي تفرغ العراقيون للصراع فيما بينهم، وبذلك كانت الجبهة العراقية منقسمة على نفسها دائماً عكس جبهة الشام. وبعد إنهاء وجود الفرس، كان معاوية هو المتولي لمهمة استكمال الفتوح الإسلامية في اتجاه الشمال مع البيزنطيين. ومن هنا ندرك أن مسؤولية الحفاظ على مكتسبات الفتوح الإسلامية ضد أي هجوم بيزنظي مضاد كانت على عاتق معاوية وحده، بالإضافة إلى أن الفوضى الشاملة في العراق من جراء الاقتتال بين المسلمين ثم توجه علي بجيشه لقتاله في الشام.
ربما كان معاوية ومعسكره على علم تام بتركيبة جيش علي، وأنه مكون من عدد لا بأس به من الثوار الذين قتلوا عثمان، وفي القلب من هؤلاء الثوار القُرَّاء، أول من يعترض على سياسة عثمان. ولذلك كان اقتراح عمرو بن العاص برفع جنود معاوية للمصاحف على أسنة الرماح، طلباً لتحكيم كتاب الله. كان هذا التحكيم هو الذي شق صف علي، وهو الذي حوَّل الثوار على عثمان إلى خوارج على علي [4]، وفي النهاية لقي حتفه على أيديهم.
ماذا كان يفعل علي رضي الله عنه من وفاة النبي إلى توليه الخلافة؟ وماذا كان يفعل معاوية؟ ظل علي في المدينة طوال خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وربما تولى القضاء في هذه الأثناء، وهي فترة تبلغ حوالي 24 سنة، من وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) 11 هجرية إلى توليه الخلافة 35 هجرية. أما معاوية فقد كان في نفس هذه الفترة منشغلاً بأعباء الفتوحات وإدارة الأراضي المفتوحة. فقد كان قائداً لجيش الإمداد الذي كان مع أخيه يزيد في حروب الردة في عهد أبي بكر، ثم اشترك مع أخيه في غزو الشام وفتح معه صيدا وعرقة وجبيل وبيروت. ثم ولاه عمر بن الخطاب الأردن في البداية (21 هـ) وألحق به دمشق ومحيطها الإقليمي بعد وفاة أخيه يزيد، ثم ولاه عثمان على الشام كله ومعظم بلاد الرافدين العليا (حوالي 25 هـ)، كما شارك معاوية في فتح أرمينيا[5]. فمع بداية خلافة علي، الذي لم يغادر المدينة منذ وفاة النبي، كان معاوية والياً على الشام لمدة 17 سنة وشارك في فتحها بنفسه. الاختلاف شاسع بين سيرتي علي ومعاوية، فقد كان معاوية عملياً وتاريخياً هو المؤهل للخلافة.
كان لعلي ماض إسلامي مشرف ومبهر، أما معاوية فقد كانت له الخبرة العملية، سواء في القتال المتواصل الذي لم يقف للحظة، أو في الإدارة. كان الماضي الإسلامي المجيد لعلي، وكان الحاضر لمعاوية، استطاع به أخذ المستقبل أيضاً، وربما كان الماضي الإسلامي المجيد لعلي عبئاً عليه حتى زاد من ثقله ولم يستطع الخروج به سالماً من الصراع.
وقد كان للطبيعة الإقليمية للصراع الدور الحاسم في انتصار معاوية النهائي، ذلك لأن طبيعة الشام الإقليمية وما صاحبها من طبيعة خاصة للفاتحين المسلمين قد أهلت معاوية كي يكون الطرف المنتصر. كان الشام موحداً بطبيعته بالمقارنة بالعراق الأكثر سيولة، وكانت جيوش الفتوحات في الشام قد استقرت في الشام لفترة حتى صار وطنها الجديد، في حين أن الجبهة العراقية شهدت حراكاً أعلى ةعدم استقرار سكاني. وحول الدور الإقليمي في الصراع يجب التشديد على أن اعتماد علي بن أبي طالب على العراق كان من عوامل ضعفه، أما اعتماد معاوية على الشام فكان من عوامل قوته. لقد فَقَدَ علي الكثير في صراعه مع طلحة والزبير وعائشة، فقد كانت الحرب معهم أول حرب واسعة بين مسلمين ومسلمين، وبذلك انزوت مميزات علي الرمزية والروحية والتاريخية باعتباره أحد أهم ممثلي الإسلام الأوائل، وبرز الجانب القبلي في صراعه مع معاوية، باعتباره صراعاً بين الهاشميين والأمويين، كما أدرك ذلك المقريزي في كتابه الشهير “كتاب النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم”[6].
وفي تقييمنا لمعاوية وسياساته يجب أن نأخذ في اعتبارنا أخطاء خصومه، فقد بنى نجاحاته على هذه الأخطاء ذاتها، ومنها أن علي هو الذي بادر بالهجوم على الشام، فظهر بصورة المعتدي في نظر معاوية وفريقه، وظهر معاوية في صورة المدافع، وظهر أهل الشام في صورة من يدافع عن وطنه.
لماذا لم يتفق علي ومعاوية على اقتسام مناطق حكمهما؟ كان من السهل على الطرفين القنوع بكل ما لدى كل طرف: يكتفي علي بالعراق وبلاد فارس، ويكتفي معاوية بالشام ومصر وأفريقيا. لكن هذا لم يحدث. لقد أبت الأطراف كلها إلا أن تحافظ على كامل الأراضي المفتموحة وعلى وحدة الدولة الناشئة. لقد رفضوا التقسيم لكنهم قسموا المسلمين. فكسب الأمويون ثم ثم العباسيون دولة واحدة موحدة غير منقسمة، لكنهم أحدثوا الانقسام الديني والمذهبي والطائفي بين المسلمين. لقد قامت الدولة الإسلامية الموحدة على مجتمع إسلامي مفكك ومنقسم على ذاته دوماً.
واقعة رفع المصاحف (التحكيم)
كثيراً ما تم تفسير رفع جيش معاوية للمصاحف طلباً لتحكيم القرآن على أنه خديعة كان هدفها إفشال نجاح علي العسكري، وبث الفرقة بين صفوف جيشه. والحقيقة أن هذا التفسير تالٍ على الحدث نفسه ومصادره الخوارج والشيعة، وكي نفهم موقف معاوية في هذه الوقعة يجب أن نفكر فيها بذاتها لا بما أسفرت عنه من نتائج. لم يكن جيش علي منتصراً وإلا لقضى على غريمه، كما لم يكن جيش معاوية منتصراً أيضاً، لكنه كان في موقف أقوى. ومصدر قوته أن جيش معاوية كان يحارب على أرضه، في حين كان جيش علي خارج المقال الإقليمي المحدد للعراق وبعيداً عن مراكز انطلاقه الأولى في الكوفة والبصرة. وبالتالي فلم يكن معاوية في موقف ضعف ولم يكن منهزماً ولا حتى على مقربة من الهزيمة حتى نفسر رفع المصاحف على أنه خديعة. لقد كانت محاولة صادقة لوقف القتال. لقد كان معاوية على علم تام بأن الطرفين خاسران في المعركة، ولم يكن على استعداد للتضحية بالمزيد من رجاله الذين ضحوا بأنفسهم من أجله. دائماً ما تم تصوير معركة صفين على أنها مواجهة بين التحزب لشخص وقبيلة (معاوية وبني أمية) في مقابل مناصرة المبدأ والشرعية (علي وما يمثله من سلطة روحية ونموذج إسلامي أصيل)؛ لكن على أرض المعركة لم تكن الصورة بهذه المعالم الثنائية الحادة. لقد أثبتت الأحداث أن ارتباط الجيش بقائدة ارتباطاً شخصياً قوياً في حالة معاوية كان من العوامل الحاسمة لانتصاره، كما أثبتت الأحداث نفسها أن الارتباط بمبدأ ومثال (علي) لم يكن كافياً للانتصار، بل أدى هذا الاتباط نفسه إلى انشقاقات عديدة في الجبهة الداخلية لعلي، لا في صورة انشقاق الخوارج وحسب، بل كذلك في صورة انسحاب الكثير من أنصاره في معركة النهروان التي شنها على الخوارج. لقد رفض الكثيرين من جيش علي الخروج معه لحرب الخوارج، وأدى الجدل الذي دار بينه وبين الخوارج لإضعافه أيديولوجياً وانهيار رمزيته الدينية ومكانته الروحية بين أتباعه. لقد سبق لعلي أن واجه جيشاً من المسلمين (طلحة والزبير وعائشة) وها هو مرة أخرى يواجه جيشاً آخر من المسلمين (الخوارج) ومن قبلهم جيشاً من المسلمين (جيش معاوية)؛ لقد وجد علي نفسه يحارب المسلمين، ومع الأخذ في الاعتبار أنه لم يشترك في الفتوحات، فإن كل معاركه كانت ضد مسلمين. لقد كان علي في الموقع الخاسر؛ ربما لم يكن هو الذي وضع نفسه في هذا الموقع وأن الظروف هي التي وضعته، ووجد نفسه فيها، لكن كان يجب عليه الانسحاب من البداية؛ لقد أخطأ في قبول الخلافة.
والمفارقة في واقعة رفع المصاحف، أن جيش علي كان هو الذي يحوي القُرَّاء، وهم أول من اعترض على سياسة عثمان وأول من حول الاعتراض والنقد إلى ثورة عليه انتهت بقتله. فصارت المواجهة في صفين بين جيش علي وفيه القراء الذين حفظوا القرآن في صدورهم، وجيش معاوية الذي رفع المصاحف. لكن كيف اطمأن معاوية لرفع المصاحف؟ ألم يكن يخشى من انقلاب تحكيم كتاب الله عليه ويخسر من جراء ذلك؟ إن وقعة رفع المصاحف ليست مجرد دعوة لتحكيم كتاب الله، بل كانت في حد ذاتها إصداراً لحكم شرعي من جانب جيش معاوية، وهو في صالح معاوية. تقول الآية {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات 9). وحسب هذه الآية، ومن وجهة نظر معاوية، فإن علي وأتباعه هم المعتدون، لأنهم خرجوا من العراق لغزو الشام. إن رفح المصاحف على أسنة الرماح قد نجح بالفعل في إنهاء العملية العسكرية ووضع حد لموقعة صفين.
قبل أن يرفع جيش معاوية المصاحف للتحكيم، كان معاوية قد استشهد بالقرآن تدعيماً لموقفه المطالِب بتسليم علي لقتلة عثمان، وهي الآية القائلة: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} (الإسراء 33)؛ يقول ابن كثير: “وروى الطبراني عن ابن عباس ، أنه قال : ما زلت موقنا أن معاوية سيلي الملك والسلطان من هذه الآية” . لقد كان معاوية يستند على شرعية دينية، ولم يكن علي منفرداً بالشرعية.
كان القُرَّاء جزءاً من جيش علي، وكان وجودهم ذلك خطراً للغاية على علي. إذ كانوا هم الذين ثاروا على عثمان وبالتالي كان لهم دور في قتله، وانضموا لعلي لما يمثله من ماض إسلامي ولما يتمتع به من رمزية وروحية إسلامية مرتبطة بالنبي نفسه. وكان هؤلاء القراء هم الذين سيتحولون إلى خوارج بعد ذلك، مسببين لجيش علي الفوضى والانقسام، وهم الذين سيواجههم علي في النهروان، تلك المذبحة التي صمم الخوارج على إثرها على قتل علي. لكن يجب علينا الانتباه إلى أن عدم اعتراف الخوارج بكل أطراف النزاع كان هو نفسه موقف أبي موسى الأشعري، المُحَكِّم الذي ارتضاه علي وقام بخلع علي ومعاوية معاً. فعلى المستوى الأيديولوجي لم يكن أبو موسى الأشعري ببعيد عن موقف الخوارج، فقد خرج هو نفسه على علي.
عندما ذهب علي إلى العراق بعد خلافته، كان جديداً عليها، فلم يشترك في فتحها ولا في إدراتها، وكانت العراق في عهده غير مندمجة، فقد حوت عناصر متباينة، وكانت فتنة مقتل عثمان تضرب في العراقيين وتقسمهم، لا في الشاميين الذين وحدهم ذلك المقتل نفسه. أما معاوية فقد كان والياً على الشام لسبع عشرة سنة في أول عهد علي وشارك في فتحها، وفي حمايتها من الهجوم البيزنطي المضاد. كان معاوية يتعامل في الشام على أنه أمير وحاكم بسلطات وصلاحيات كاملة. وعمل طول عهد معاوية في الشام على زيادة الروابط بينه وبين أهلها، وجمعهم الانتماء الإقليمي الواحد والاعتياد على العيش المشترك، وكان لكل هذه الاعتبارات أبلغ الأثر في انتصاره على علي (جعيط، الفتنة، 232).
رجل الأقدار
عندما أشرت في بداية هذه الدراسة إلى أن معاوية هو رجل الأقدار، فقد كنت أقصد بذلك أن الأقدار هي التي أتت به وأدت إلى نجاحه، ولا يعني هذا أنه لم يفعل شيئاً، بل على العكس، إذ وضع نفسه في مقدمة هذه الأقدار نفسها حتى قادته إلى نجاحه النهائي؛ لقد ركب الأقدار كما يركب القبطان السفينة ويستفيد من الرياح في تحريكها حتى لو كانت الرياح معاكسة لاتجاهه.
معاوية هو ابن عدو الإسلام أبو سفيان بن حرب، زعيم قريش الذي قاد الحرب ضد النبي في غزوة الأحزاب، وقد أسلم مع أولاده بعد الفتنة، وكان من الممكن استبعاد كل أولاد أبي سفيان ومنهم معاوية (وهم من بين الذين أسماهم النبي “الطُلَقاء”) من المناصب الهامة في الدولة الناشئة، لكن خبرة بني أمية ومهاراتهم السياسية والعسكرية أدت بأبي بكر وعمر إلى الاستعانة بمعاوية في حروب الردة وفي الفتوحات، وفي إدارة المناطق المفتوحة. وكان بنو أمية على معرفة جيدة بالشام قبل الإسلام نظراً لإقامتهم هناك لعشر سنين، فلم يكن غريباً على عمر بن الخطاب أن يولي معاوية هناك، فهو الأموي الأعرف لها. وكان هذا هو أول قدر لمعاوية.
ثم وجد معاوية عثمان بن عفان وقد تولي الخلافة، وهو المتحزب لقبيلته بني أمية، فثبته عثمان هناك وزاد من مساحة ولايته حتى شملت الشام. ثم قُتِل عُثمان، وهذا قدر آخر. إن قتل عثمان هو أحد الأسباب التي أدت إلى وصول معاوية إلى الحكم، فلولا قتل عثمان وما تلاه من أحداث لم يكن معاوية ليصل إلى الخلافة، لأنه وصل إليها بعد أحداث الفتنة التي كانت نهايتها خلافته.
ولم يكن معاوية هو الذي حارب علياً في موقعة الجمل، بل من حاربه هناك هم عائشة أم المؤمنين وطلحة والزبير. أدت موقعة الجمل إلى اهتزاز صورة علي كثيراً وإلى السحب من رصيده المعنوي ومن سلطاته خاصة على أهل العراق، فاستلم الخلافة ضعيفاً بجبهة مهتزة، ولم يكن لمعاوية أي دخل في كل ذلك، لكنه استفاد منه وكان في صالحه.
يلوم المؤرخون الخوارج لخروجهم على علي وإضعاف جبهته، لكن أول من خرج على علي وواجهه في حرب قاتلة هم السيدة عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير، فهم أول من خرج على علي، ولم يكونوا هم والخوارج اللاحقون الوحيدين الذين خرجوا على علي، إذ خرج عنه بعض أشراف البصرة الذين تقاعسوا عن الاشتراك معه في حملة النهروان على الخوارج. كان هذا الخروج المستمر والمتتالي على علي هو الذي أضعفه، وهو الذي عمل على تقوية خصمه معاوية، ولم يكن لمعاوية أي دخل في خروج عائشة وطلحة والزبير على علي، على الرغم من كل تلميحات المؤرخين القدماء إلى دور خفي لمعاوية في تشجيعهم على هذا الخروج، ففي النهاية لم ينضم إليهم معاوية في موقعة الجمل، ولم يواجه علياً مواجة عسكرية مفتوحة إلا في صفين سنة 37 هـ.
لقد كانت صفين هي المعركة الوحيدة التي دخلها معاوية ضد علي، في حين دخل علي نفسه في معارك عديدة لم يكن معاوية طرفاً فيها، مثل الجمل والنهروان. فعلى الرغم من الصراع الطويل والشديد بين علي ومعاوية، إلا أنهما لم يلتقيا في مواجهة عسكرية إلا في موقعة واحدة فقط هي صفين. وفي النهاية لم تكن نهاية علي على يد معاوية عدوه بل على يد الخوارج. لقد كان قتل الخوارج لعلي هو الذي أفسح المجال لمعاوية كي يتولى الخلافة، فقد أخلو له الساحة وخلصوه من خصمه. وليس صحيحاً أن علياً كان قد ضعف تماماً قبل مقتله وتخلى عنه حلفاءه، بل على العكس، إذ كان يجهز لجيش ضخم لغزو الشام، وكان الكوفيون معه على الرغم من الانشقاقات السابقة، وكان عازماً على مواصلة القتال ولا يمكن لأحد أن يدعي عليه أنه قد هُزِم قبل وفاته أو وهن في صراعه مع معاوية. وبذلك كان اغتياله مفاجئاً، لمعاوية ولكل الأطراف. واغتيال الخوارج لعلي هو مثال على الأقدار التي أقصدها والتي مهدت الطريق لتولي معاوية الخلافة بعد ذلك.
كما تتمثل الأقدار التي حملت معاوية إلى السلطة في أن الحسن بن علي قد تنازل له عن الخلافة؛ صحيح أن هذا التنازل جاء بعد سلسلة من المفاوضات بين معاوية والحسن، وعد فيها الحسن بالكثير من المكاسب والأمان، إلا أن الجيش الذي كان علي يعده قبل وفاته كان مستعداً للاستمرار في القتال، لولا بصيرة الحسن وحُسْن تقديره للموقف وعدم رغبته في تكرار مأساة أبيه، ففضَّل حسن دماء المسلمين وقرر عدم التضحية بالمزيد من أتباعه وآثر توحيد الأمة حتى ولو كان هذا التوحيد تحت معاوية. والحقيقة أن الحسن كان في قراره بالتنازل في منتهى الواقعية، إذ كان عالماً بقوة معاوية وبسيطرته على الكثير من أقاليم الدولة الإسلامية، وبذلك فرض معاوية نفسه بقوة الأمر الواقع، مقدماً نفسه على أنه قضاء الله وقدره.
وكانت الكوفة قد التفت حول الحسن بعد مقتل أبيه علي بن أبي طالب، وفرضته خليفة، فهو ابن علي وحفيد النبي، وكان في نظر الكثير من المسلمين آنذاك هو الوريث الشرعي للخلافة. لكن يجب أن ننتبه هنا إلى شيء مستجد؛ فتولية الحسن للخلافة بناء على حقه الوراثي عن علي وعن النبي هو ظهور مبدأ التوريث وتطبيقه لأول مرة في الإسلام.، قبل أن يورث معاوية الخلافة لابنه يزيد. لم يكن معاوية هو أول من يورث الحكم في الإسلام كما قيل عنه كثيراً، ذلك لأن مبايعة الحسن بالخلافة بعد مقتل أبيه علي هو أول سابقة للتوريث، وما كان معاوية حين ورَّث الخلافة لابنه يزيد مبتدعاً، بل كان متبعاً لسابقة الحسن. وما كانت مطالبة الكثير من المسلمين ومنهم الشيعة بالخلافة لأخيه الحسين بعد وفاة معاوية إلا مواجهة توريث بتوريث مضاد. لم يكن الأمويون هم الذين اخترعوا مبدأ توريث الحكم، فقد ظهر عند آل البيت مع الحسن أولاً، ثم عندهم وعند بني أمية معاً وفي الوقت نفسه مع الحسين في مقابل يزيد بن معاوية. لقد كان التوريث هو طبيعة العصر آنذاك، ولم يكن بدعة من معاوية.
لقد بويع الحسن بالخلافة بالفعل وبذلك كان خامس الخلفاء؛ صحيح أنه تنازل لمعاوية بعد ذلك، إلا أن تنازله هذا لا ينفي تلك الحقيقة وهي مبايعته للخلافة. كما أن تنازله لمعاوية كان مشروطاً؛ ففي مقابل تنازله، تكون الخلافة بعد معاوية شورى، ويمتنع معاوية عن أي عمل مؤذٍ للحسن وأهله ورفاقه. هذا التنازل المشروط هو دليل قوي على أن الذي يقوم بالتنازل هو صاحب الحق الأصلي، هو الخليفة الشرعي الذي من حقه أن يضع الشروط على الطرف الآخر. لم ينفذ معاوية هذه الشروط، بل سعى لتوريث الخلافة لابنه يزيد، بعد مقتل الحسن مسموماً (51 هـ). تقول المصادر الشيعية إن معاوية هو الذي أوعز إلى زوجة الحسن جعدة بنت الأشعث بدس السم له، وتنفي المصادر السنية ذلك. ودليلي على أن مبدأ التوريث قد ظهر قبل أن يورث معاوية الحكم لابنه،
رجل الجبر والقضاء والقدر
ويبدو أن الأقدار التي أشرت إليها والتي حملت معاوية إلى رأس السلطة قد تحولت في عقله إلى تبرير لحكمه عن طريق عقيدة الجبر التي كان أول من ابتدعها، وسار عليها كل الأمويين من بعده لتبرير حكمهم وأفعالهم.
لقد كانت كل الأحداث تسير في طريق تولي معاوية الخلافة، وهي أحداث لم يكن له دخل في صنعها رغم أنه حرك الكثير منها وصنع البعض منها، لكنه لم يكن مسيطراً أبداً على خط سيرها، وإلا نسبنا إليه عبقرية فوق بشرية. كل ما في الأمر أن الأقدار هي التي حملت معاوية إلى الحكم. ولعل هذه الأقدار هي التي أدت بالأمويين وعلى رأسهم وفي أولهم معاوية لابتداع مذهب الجبر، الذي برروا به حكمهم.
لقد كان معاوية أول من ابتدع مذهب الجبر كي يبرر للناس وصوله للحكم، وكي يفرض على الناس البيعة لابنه يزيد؛ فأثناء جدله مع خصومه في مطالبته البيعة ليزيد، ذكَّرَه سعيد بن عثمان بن عفان بأنه وصل إلى الخلافة بفضل أبيه عثمان وبإسمه، فرد عليه معاوية بِرَدٍّ يتضمن أنه وصل إلى الخلافة بقضاء الله وقدره ومشيئته. قال معاوية: “وأما أن أكون [قد] نلت ما أنا فيه بأبيك، فإنما هو المُلْكُ يؤتيه الله من يشاء”[7]؛ هنا يبرر معاوية وصوله للحكم بكونه إرادة الله، وهو يتحدث عن “المُلْك”، لا عن “الخلافة؛ الخلافة هي خلافة النبي، أو خلافة خلفاء النبي، لكن يتحدث معاوية هنا عن منصبه على أنه مُلْك، لا خلافة، ويبرر وصوله للملك بأنه مُلْك آتٍ من عند الله، وهو إشارة مبطنة إلى الآية القائلة: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ} (آل عمران 26)؛ وبذلك تجاوز معاوية مجرد الخلافة وأعلن صراحة أن ما فيه هو مُلْك يأتي مباشرة من الله وبإرادته وقضائه، متجاوزاً النبي ومتجاوزاً خلافة النبي.
وبنفس المنطق كان يقنع عائشة رضي الله عنها عندما حادثها في أمر بيعة يزيد، وقد ورد في قوله لها: “… إن أمر يزيد قضاء من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم”[8]؛ أي أنه قضاء من قضاء الله، وفي العبارة إشارة مبطنة إلى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب 36). يقدم معاوية نفسه وتوليته العهد لابنه على أنهما من قضاء الله وإرادته، وهذه هي عقيدة الجبر التي أرى أن معاوية هو مؤسسها وورثها عنه كل الأمويين من بعده؛ وسوف تنشأ المعتزلة في أواخر القرن الأول رداً على هذه العقيدة بالذات، مدافعة عن حرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، في مواجهة تبرير الأمويين لأفعالهم بعقيدة الجبر التي أسسها معاوية.
لقد كان معاوية هو الذي أمر جنود جيشه برفع المصاحف طلباً لتحكيم كتاب الله في صفين، وهو في مطالبته بالبيعة لابنه يزيد يكرر نفس أسلوب التحكيم، إذ يبطن في كلامه إشارات خفية لآيات قرآنية، وكأنه يلجأ مرة أخرى لتحكيم كتاب الله. لكن يتم ذلك في سياق مختلف، إنه يُحَكِّم قضاء الله وقدره ومشيئته مباشرة ويتخذها سنداً ومبرراً لحكمه وتوريثه الحكم لابنه.
توريث الحكم لابنه يزيد
كثيراً ما نقرأ ذماً في معاوية لكونه ورَّث الحكم لابنه يزيد، من حيث إنه أحدث بذلك سابقة غير مسبوقة في تاريخ الإسلام أو في تاريخ العرب، لكن يجب علينا تقييم ما فعله معاوية بعيداً عن الذم أو المدح، أي عن الحكم الأخلاقي عليه وعلى أفعاله، تقييماً موضوعياً محايداً نستطيع أن نتفهم منه دواعي تحويله للدولة إلى الحكم الوراثي. يقول الجاحظ معلقاً على ذلك التحول الذي أحدثه معاوية إنه حوَّل “… الإمامة مُلْكاً كسروياً، والخلافة منصباً قيصرياً”[9]. لقد قال الجاحظ هذه العبارة على سبيل النقد والذم، لكن من وجهة نظر تاريخية وسياسية محايدة، كان على معاوية أن يفعل ذلك، أي أن يحول الكيان السياسي الذي أسسه النبي إلى ملك كسروي والخلافة إلى منصب قيصري، لأن طبيعة العصر هي التي فرضت ذلك، فقد كان عصر الملوك والقياصرة، ولم يكن من الممكن للدولة الناشئة أن تعيش في عصر الملوك إلا بتحولها إلى النظام الملكي الوراثي.
لقد كان معاوية على وعي شديد بطبيعة عصره وبمطلبات الدولة في ذلك العصر، وكان يدرك أنه عصر الملوك، وكان على وعي عميق بأن العصر النبوي ومعه عصر أبي بكر وعمر لن يتكرر وأنه كان استثناءً من التاريخ البشري، وأن هذا العصر الاستثنائي لن يتكرر ويجب أن يسير التاريخ في مسيرته المعتادة[10]، ولذلك اتجه إلى الملك العضوض كما يقال. كان معاوية مدركاً لعصره وأنه عصر الملوك، فسار في ذلك الطريق منذ وقت مبكر جدا. فأثناء خلافة عمر بن الخطاب، بدأ معاوية في اتخاذ مظاهر الملوكية، إذ كان له موكب يلازمه، وعندما حضر عمر الشام رأى معاوية في موكبه ولامه على ذلك. دافع معاوية عن نفسه دفاعاً أبهر عمر وجعله يسكت عنه. قال له معاوية: “يا أمير المؤمنين إنَّا بأرضٍ عدوُّنا قريب منها، وله علينا عيون ذاكية، فأردت أن يروا للإسلام عِزَّاً” فقال عمر: “إن هذا لَكَيد لبيبٍ أو خُدعة أريبٍ”[11]. إن السبب الذي جعل معاوية يتخذ مظهر الملوك وهو والٍ على الشام في خلافة عمر بن الخطاب، هو نفسه السبب الذي سيجعله يغير نظام الدولة إلى الحكم الملكي الوراثي، فهو نظام الحكم الأصلح للأقوام التي كان يحكمها، سواء في الشام أو العراق أو مصر أو بلاد فارس، وهي كلها مناطق اعتادت شعوبها لآلاف السنين على الحكم الملكي؛ ومن جهة أخرى فإن توريث معاوية الحكم لابنه وأخذه العهد له أثناء حياته أو ما يعرف بنظام ولاية العهد، كان هو الأصلح في ذلك الزمان.
ربما يعترض معترض على هذا الحكم قائلاً إن النظام الملكي الوراثي من داخل الأسرة الحاكمة هو الذي أوقع الأمة الإسلامية في المزيد من الفتن طوال العصر الأموي وخاصة في عهد ابنه يزيد ونشوب ما يسمى بالفتنة الثانية التي انتهت بمقتل الحسين، إلا أن نظام توريث الحكم لم يكن هو السبب المباشر في الفتنة الثانية وظهور التشيع باعتباره قوة مقاتلة؛ فالسبب الأساسي لذلك هو سياسة معاوية تجاه علي وبنيه والتي أسرفت في إذلالهم، مثل أمره خطباء المساجد بالدعوة على علي، والإشاعة التي انتشرت حوله ومفادها أنه هو الذي دبر حادث تسميم الحسن، بالإضافة إلى سياسات يزيد ابنه أثناء خلافته مع شيعة علي والتي انتهت بمواجهات دموية معهم. فلا نستطيع أن نلقي على معاوية كل اللوم على كل الحروب التي حدثت بين الأمويين اللاحقين وشيعة علي.
واجه معاوية معارضة قوية في المدينة لبيعة يزيد، أتت من قدامى الصحابة وأبناء الصحابة، مما شكل أمامه تحدياً كبيراً؛ لكنه استطاع تفادي هذا التحدي بمهارة عالية كما سنرى. قد ننظر إلى تغلبه على هذا التحدي على أنه خبث ودهاء وحيلة ودبلوماسية كما قيل عنه دوماً، لكنه أكثر من ذلك، لقد كان معاوية يملك الحجة والمنطق ويتصف بالمهارة في الجدل والبرهنة على صحة موقفه. أدرك معاوية أنه ببيعته ليزيد يستحدث أمراً جديداً على العرب وعلى الإسلام، وكان على علم بأن المعارضة ضده تستند إلى هذا الاستحداث غير المسبوق، وقد كان المجتمع العربي آنذاك يكره الشيء المستحدث، فقد كان تقليدياً يحافظ على تراث الآباء وسُنَّة السابقين. واجه معاوية هذا التحدي بإشارته إلى أنه لم يكن هو الذي استحدث أمراً جديداً فيما يخص تولي السلطة؛ فحسب قوله، ترك النبي الأمة دون أن يستخلف أحداً، ثم استخلف أبو بكر عمر بن الخطاب، “فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله” أي الاستخلاف، ثم أمر عمر قبل وفاته بالشورى وحدد ستة يختاروا واحداً منهم لخلافته، وبذلك “صنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر”[12]، وبذلك لم يكن معاوية في توليته العهد لابنه يصنع شيئاً جديداً، ذلك لأن ابتداع طرق جديدة للاستخلاف كان من سوابق أبي بكر وعمر، وأنه بذلك يتبع سنتهما في صنع استخلاف جديد. فلم يكن هو وحده الذي خالف من سبقوه في طريقة الاستخلاف، فقد سبقه في هذه المخالفة أبي بكر وعمر، وهو يتبعهما في مخالفتهما، للنبي في حالة أبي بكر، ولأبي بكر في حالة عمر. وهذه حجة قوية، ومنطق عقلي مستخدم بمهارة، وليست مجرد دهاء ومكر وخبث. لقد كان معاوية يستخدم مواهب عقلية لديه.
سياسة بث الشقاق
بعد موقعة صفين (37 هـ)، حاول معاوية إحداث انشقاق داخل البصرة عاصمة الجنوب العراقي، لكن لم ينجح في ذلك. كان معاوية يريد استمالة الأشراف فيها، وهم شيوخ القبائل، ولكن كانت البصرة في حالة من الانشقاق والانقسام المسبق إلى الدرجة التي لم يستطع معها معاوية أخذها في صفه. قد نرى هذا الفشل على أنه فشل لمعاوية نفسه ولسياساته، لكن يجب علينا تقييم الموقف موضوعياً. لقد بايعت البصرة كلها علياً، لكن استجابت قبائل كثيرة بها لطلعة والزبير وعائشة في قضية مقتل عثمان، وقاتل الكثير من البصريين في موقعة الجمل ضد علي. وكانوا في ذلك عاطفيين وملتزمين بالصورة المثالية للإسلام، فكان من السهل استمالتهم لأي فريق كان طالما خاطب مشاعرهم الدينية. هذه الهشاشة التي تضرب في جذور المجتمع البصري هي ذاتها التي جعلت البصريين المشتركين في جيش علي في صفين قليلاً بالمقارنة بالكوفيين. ولذلك فالسبب في فشل معاوية لاستمالة البصريين يرجع إلى ميوعة مواقفهم من الأصل، لا إلى فشل سياسة الاستمالة التي نجح فيها معاوية في مواقف أخرى كثيرة، أهمها استمالة أشراف الكوفة أنفسهم بعد مقتل علي.
ومن ذلك نرى مواقف البصرة الغريبة التي ربما لم يفهما معاوية نفسه. لقد بايعت علي سنة 35 هـ، ثم حاربت ضده في موقعة الجمل سنة 36 هـ، ثم حاربت معه في موقعة صفين سنة 37 هـ، ثم تقاعست عن مشاركته في موقعة النهروان ضد الخوارج سنة 38 هـ. هذه الموقف المضطربة والمهتزة للبصرة ربما كانت هي التي شجعت معاوية على استمالتها لصفه، لكن هذا الموقف المضطرب والمهتز نفسه هو الذي أدى إلى فشله معها. ويبدو أن موقف البصرة هذا كان هو السياق السياسي الأصلي الذي أدى إلى ظهور المعتزلة هناك، فقد كان منشأ حركة المعتزلة من البصرة، وهي حركة فكرية وعقائدية شبه سياسية التزمت الحياد التام في مواقفها من الصراعات الإسلامية. كان اهتزاز واضطراب البصرة الأصلي في حروب الفتنة هو المناخ الذي تربى فيه المعتزلة.
معرفة معاوية بنفسية خصومه وأتباعه
كان معاوية يتمتع بصفة ربما غابت عن الكثير من الباحثين، وهي أنه كان على معرفة وثيقة بالطابع النفسي لخصومه وأتباعه على السواء، وكان يعاملهم من خلال تركيبتهم النفسية وطباعهم السيكولوجية التي كان يعرفها جيداً. ولدينا مثالان بارزان على ذلك. المثال الأول هو طريقته في التعامل مع زياد بن أبيه، والمسمى زياد بن عبيد الثقفي، وهو ابن غير شرعي لأبيه أبي سفيان، ولدته له جارية تسمى سمية وكانت عند أحد شيوخ ثقيف هو الحارث بن كلدة. والمثال الثاني وصيته لابنه يزيد قبيل وفاته، ينصحه فيها بكيفية التعامل مع خصومه المحتملين عندما يتسلم الخلافة بعد موته.
كان زياد شخصية عصامية، هو الذي صنع نفسه بنفسه، في مقابل كونه ابناً غير شرعي لأبي سفيان، فقد كان يحمل على كتفيه وحده عار هذا المولد، وعانى من اسمه، فقد أسماه الناس “ابن أبيه”، إشارة إلى هذه الولادة غير المشرفة خاصة للعربي في ذلك الوقت. اعترف أبو سفيان بأبوته لزياد لعلي بن أبي طالب في خلافة عمر بن الخطاب، لكنه خشى من إعلان ذلك خوفاً من عمر، كما اعترف به مرة أخرى حينما سبَّه أحد الناس في حضرة أبي سفيان فنهره أبو سفيان وقال له “ويحك أنا أبوه”. ولد زياد في العام الأول للهجرة، وأشركه عثمان في فتوح بلاد فارس، وتولى البصرة لفترة قصيرة في عهد علي، ولما اضطربت الأحوال في بلاد فارس، أرسله علي هناك، وتمكن زايد من إخضاعها والسيطرة عليها تماماً، وضمن زياد الجبهة الفارسية آمنة ومستقرة طوال صراعات علي وحروبه. ولنا هنا وقفة. زياد هو أخو معاوية، استعمله علي على بلاد فارس!!!. وبعد مقتل علي، ظل زياد مسيطراً على فارس لفترة طويلة، ولم يجرؤ معاوية على عزله، فطلب منه خراج فارس وقال له “صرفت بعضه في وجهه [أي في محله المناسب، مصاريف داخلية لتغطية تكاليف حكم فارس]،واستودعت بعضه للحاجة إليه، وحملت ما فضل على أمير المؤمنين رحمه الله”، أي أنه أدى الباقي إلى علي بن أبي طالب[13]. نلاحظ هنا مدى الجرأة التي يكلم بها زياد معاوية، فهو يرفض أن يؤدي له خراج فارس، الضخم للغاية. لقد كان زياد متحصناً على نحو جيد في فارس، داخل قلعة حصينة هناك ووسط جيش كبير. وعندما غضب عليه معاوية وهدده، رد زياد على معاوية بعنف شديد قائلاً للناس: ” أيها الناس كتب إليَّ ابن آكلة الأكباد وكهف النفاق وبقية الأحزاب يتوعدني، وبيني وبينه ابن عم رسول اللَّه [عبد الله بن عباس] فِي سبعين ألفًا، قبائع[14] سيوفهم عند أذقانهم، لا يلتفت أحد منهم حتى يموت، أما واللَّه لئن وصل هذا الأمر إليه ليجدني ضرَّابًا بالسيف”[15]. لقد سب زياد معاوية، وعيره بماضي أسرته غير المشرف مع الدعوة الإسلامية، فأم معاوية هي هند بنت عتبة التي كانت من أشد الناس عداء للنبي والمسلمين قبل إسهامها، وهي التي أكلت كبد حمزة بن عبد المطلب عندما استشهد في بدر، ويلقبه زياد بابن آكلة الأكباد. لقد كان زياد على وعي شديد بالأصول العائلية ولم يكن ينسى تنكر أبيه له وعدم استطاعته الإعلان عن أبوته له. كما أطلق زياد على معاوية “كهف النفاق وبقية الأحزاب”، مذكراً معاوية بأن أبيه أبا سفيان كان هو قائد الأحزاب في غزوة الأحزاب الشهيرة. ولنا أن نتساءل كيف يجرؤ زياد على التحدث عن معاوية بهذه الطريقة ويسبه ويعايره، ثم يهدده بحرب يمكن أن يشنها عليه بسبعين ألف مقاتل، وكل ذلك بعد مقتل علي. لم يستطع معاوية التعامل مع الموقف إلا بخطف أولاد زياد، وأرسل له مهدداً بقتلهم إذا لم يأت إليه، فرد عليه زياد رداً شديداً غير عابئ بتهديد معاوية له، ولم ينجح معاوية في استقدامه إلا بتوسط صحابي جليل هو المغيرة بن شعبة[16]. عفا معاوية عن زياد، وولاه البصرة سنة 45، ثم ضم إليه الكوفة بعد وفاة واليها المغيرة بن شعبة سنة 50، وأعلن بنوته لأبي سفيان وصار اسمه زياد بن أبي سفيان، وكان زياد نداً له مساوياً في سلطاته حتى قيل إنه كان يقتسم معه المُلك وأن زياد كان يتصرف كحاكم إقليمي مستقل سواء في البصرة والكوفة أو فارس. ولم يجرؤ معاوية على السعي لنيل البيعة لابنه يزيد إلا بعد وفاة زياد سنة 56.
أما المثال الثاني فهو وصاياه لابنه يزيد. كان معاوية في مرضه الأخير، وأبلغ ابنه أنه صنع له كل شيء تمهيداً لاستلامه السلطة، فقد هزم أعداء الخارج والداخل، وأخضع العرب، وجمعهم معاً في دولة واحدة حافظ عليها من الانقسام، وبذلك صار الأمر مستتباً له إلا من ثلاثة أشخاص حذره منهم، وقال إنهم سوف ينازعونه السلطة عندما يستلمها، وهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وكان هؤلاء الأربعة هم الذين رفضوا مبايعة معاوية لابنه يزيد وصرحوا له بذلك[17]. وما يهمنا في تحذير معاوية لابنه من معارضيه المحتملين، تحليله الدقيق لنفسية كل واحد منهم. قال معاوية لابنه يزيد: “فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذته[18] العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك؛ وأما الحسن بن علي فإن أهل العراق لن يَدَعوه حتى يُخرِجوه، فإن خرج عليك فظفرت به فافصح عنه فإن له رَحِماً ماسة وحقاً عظيماً؛ وأما ابن أبي بكر فرجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثلهم، ليس له هِمَّة إلا في النساء واللهو، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك مراوغة الثعلب، فإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إرباً إرباً”[19]. في هذه الوصية وصفاً دقيقاً لنفسية كل واحد منهم، يكشف عن معرفة معاوية التامة بطباع خصومه وبالكيفية التي يجب التعامل بها معهم من منطلق هذه الطباع. وقد ورد عند البلاذري توصية أخرى بصيغة مختلفة يزيد فيها معاوية من وصفه للحسين، ويقول ليزيد “سيكفيكه من قتل أباه وجرح أخاه”، أي سيتورط مع الخوارج مثلما تورط أبوه وأخوه وسينشغل بهم عنك؛ كما يقيِّم معاوية آل أبي طالب تقييماً قاسياً لكنه واقعي للغاية، مبلغاً ابنه أنهم لن يعادوه كثيراً لأنهم “قد مَدُّوا أعناقهم إلى غايةٍ أبت العرب أن تُعطيهم المقادةَ فيها، وهم محدودون”[20]؛ لقد كان معاوية ينظر إلى آل أبي طالب، أي علي وأبنائه، على أنهم سعوا للسلطة وهم غير مؤهلين لها، ولم يقدروا على أن يسوسوا العرب، فالقيادة عنده هي المهارة في السيطرة على العرب، سواء بالشدة أو باللين والدهاء، وهي كلها صفات لم تتوافر لآل أبي طالب، لكنها توفرت في معاوية ولذلك كُتِبَ له النجاح؛ كما يبلغ معاوية ابنه أن آل أبي طالب “محدودون”، أي أفقهم السياسي ضيق وقليلي الحيلة رغم سمعتهم الدينية العالية؛ إنها مثالية المبادئ والقيم العليا التي تفشل دائماً أمام واقعية السياسة، تلك التي يمثلها معاوية.
خاتمة
في تقييمنا لمعاوية، يجب أن نضع أنفسنا وسط الحدث نفسه ولا نفسره بما تبعه من أحداث، وأنا أقصد هنا واقعة رفضه لبيعة علي، إذ يجب علينا تفسير هذا الرفض وفق الظروف السائدة آنذاك. هل كان معاوية طامعاً في الخلافة برفضه لبيعة علي؟ إذ سلمنا بذلك فسوف يظهر معاوية أمامنا على أنه داهية وماكر كما يقال عنه دوماً، وسيظهر فوق ذلك على أنه مخطط استراتيجي بعيد النظر من الدرجة الأولى، لأنه نجح في هدفه في النهاية، وسيظهر على أنه رجل دولة من الطراز الأول ومن المؤسسين الفعليين للدولة الإسلامية التي كادت أن تنقسم وتتفتت لولا ما قام به، بل على أنه المؤسس الثاني لها بعد النبي محمد نفسه. وهو من هذه الجهة يستحق الإعجاب، لا الكراهية التي يُواجَه بها لدى الكثير من الأوساط الشيعية والسنية معاً. صحيح أنه كان سياسياً بارعاً ورجل دولة ومؤسساً لنظام سيبقى من بعده طويلاً، وهو الذي حوَّل الكيان السياسي الإسلامي الذي تركه النبي وورثه الخلفاء الأربعة إلى دولة ملكية وراثية سواء في عهد الأمويين أو العباسيين، إلا أننا لا يمكن أن نعزو إليه قدرات عجائبية مثل القدرة على استشراف المستقبل مثلاً وكأنه ينظر إليه من بلورة زجاجية، بل على العكس التام، إذ أن سبب نجاحه هو واقعيته الشديدة وتقييمه المادي الواقعي لقدراته وقدرات خصومه، ووعيه الشديد بطبيعة العصر وطبيعة المستقبل الذي يجب أن يكون عليه الكيان السياسي الذي أسسه النبي.
المصادر والمراجع:
[1] ) يوليوس فلهوزن، تاريخ الدولة العربية، من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الأموية، ترجمة محمد عبد الهادي أبوريدة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1958؛ هشام جعيط، الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 1991؛ خليل عبد الكريم، قريش: من القبيلة إلى الدولة المركزية، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت/ سينا للنشر، القاهرة، 1977؛ سيد محمود القمني، الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية، مكتبة مدبولي الصغير، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1996؛
[2] ) قام عثمان بن عفان بإرسال عمار بن ياسر إلى مصر بعد أن اعترض عليه عمار، ويبدو أن هذا كان نفياً سياسياً، وكان هذا أول انشقاق في صفوف الصحابة، فعمار كان من الصحابة المقربين ومن السابقين في الإسلام ويتصف بمكانة روحية عالية جداً. ومن المحتمل أن يكون عمار قد نشط في مصر وكان له دور في الثورة على عثمان، والتي كان المصريون عنصراً أساسياً فيها.
[3] ) كان لبيت المال خُمس الغنائم، مما أدى إلى تعاظم الثروة في يد عثمان، والذي اتُهِمَ على أنه كان لا يميز بين ماله الخاص وبيت المال، إذ قيل إنه كان يقترض منه.
[4]) تاريخ الطبري، الجزء الخامس، ص 49، أحداث سنة 37
[5]) البلاذري، فتوح البلدان، تحقيق عبد الله أنيس الطباع وعمر أنيس الطباع، مؤسسة المعارف، بيروت، 1987، ص 277.
[6] ) تقي الدين المقريزي، كتاب النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم، تحقيق حسن مؤنس، دار المعارف، القاهرة، 1988.
[7]) ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، تحقيق علي شيري، دار الأضواء، بيروت، 1990، الجزء الأول، ص 214.
[8] ) المرجع السابق، ص 205.
[9]) الجاحظ، من رسالته في بني أمية، في رسائل الجاحظ، جمع ونشر حسن السندوبي، المطبعة الرحمانية بمصر، 1933، ص 294.
[10] ) نُقِلَ عن معاوية قوله: “أيها الناس والله لَنَقْل الجبال الراسيات أَيْسَر من اتباع أبي بكر وعمر في سيرتهما، ولكني سالِكُ بكم طريقاً تقصر عمن تقدَّمني ولا يُدركني فيها مَن بعدي”، البلاذري، أنساب الأشراف، ص 141.
[11] ) البلاذري، أنساب الأشراف، ص 155.
[12] ) ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، الجزء الأول، ص 211 – 212.
[13] ) علي ظريف الأعصمي، مختصر تاريخ البصرة، تقديم وتحقيق عزة رفعت، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2001، ص 42.
[14]) حاملين سيوفهم على أكتافهم.
[15]) تاريخ الطبري، “أحداث سنة 41” الجزء الخامس، ص 170.
[16]) البلاذري، أنساب الأشراف، حققه وقدم له سهيل زكار ورياض زركلي، دار الفكر، بيروت، 1996، المجلد الخامس، ص 199 – 202.
[17]) تاريخ الطبري، الجزء الخامس، ص 303.
[18]) أرهقته وأتعبته بشدة.
[19] ) تاريخ الطبري، الجزء الخامس، ص 322 – 323.
[20] ) البلاذري، أنساب الأشراف، الجزء الخامس، ص 153.