معاوية وجدل التاريخ .. طاغية يجلس على رفارف الجنة!

تكوين

يمكن القول إنّ لحظة التأسيس الحقيقية للدولة في الإسلام، بدأت في العصر الأموي، على يد معاوية بن أبي سفيان، وأنّ كلّ ما سبق ذلك، كان مرحلة انتقالية، فشلت فيها كلّ أنماط التجريب في حقل الشورى لبناء نظام سياسي جديد. وبالتبعية، كان استدعاء النظام الملكي السائد آنذاك، هو الرد الحتمي على الفشل الذي لحق بالتجربة الأولى، والتي تجلّت في عهد الخلفاء الأربع الأوائل.

كان نظام الحكم بعد وفاة الرسول، عليه الصلاة والسلام، معضلة حقيقية، حيث لم تستقر النخبة بعد فشل اجتماع سقيفة بني ساعدة، على آلية واضحة لتداول السلطة، فغلبت قريش وتمّ إقصاء الأنصار وأهل الأمصار. وعانت الدولة/الجماعة ارتباكًا شديدًا مع بلوغ الصراع بين بني هاشم وبني أمية ذروته في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان.

سقيفة بني ساعدة وتجليات الصراع

لم يكن ما جرى في سقيفة بنى ساعدة، بأي حال، نوعًا من التطور السياسي القائم على قاعدة الشورى، لاختيار خليفة لرسول الله، ففي سابقة لم يعرف العرب مثيلاً لها من قبل، جرى نوع من المصادرة وفرض هيمنة قريش بفعالية العنف الرمزي (والمادي لاحقًا)، الذي قدّم المسوغات الدينية لإقصاء الآخر ضمناً، ونجحت المساومة التاريخية إثر الرواية المتداولة بكل تناقضاتها، بحيث باتت مخرجات السقيفة مسلّمة مطلقة، يستدعي كل طرف منها ما يؤيد وجهة نظره ورؤيته تجاه الحدث. لكن المنتج الأكثر استقرارًا، كان تكريس قاعدة: “الأئمة من قريش”. وهو المعطى الذي استقل عن صُنّاعه فيما بعد، ليحكم توجهاتهم ويؤطر صراعاتهم السياسية في نهاية الأمر؛ بفعالية أدائية عملت على مستويين؛ الأول: ديني؛ يسبغ على الحكم مسحة ربانية، والثاني: سياسي؛ نجح في إزاحة فصيل كامل، مقدمًا التبرير الأيديولوجي لعملية الإقصاء.

ويمكن القول إنّ اختيار الخليفة الأول، جاء في سياق محاولة دفع المجتمع المسلم في جزيرة العرب تجاه التحرك من مفهوم الجماعة الدينية، إلى مفهوم الدولة، والتي تموضعت وفق تفاهمات، شديدة الحساسية، مع مفهوم العصبية القبلّية. حيث ظلّت القبيلة بسطوتها الاجتماعية، المعطى الأكثر تأثيرًا على مجريات الأمور، وبقيت كذلك الفعالية السياسية لصلات القرابة، عنصرًا مؤثرًا في ترجيح كفة أحدهم على الآخر، ووفقًا لهذه الاعتبارات، كانت فرصة أبو بكر الصديق تكاد تكون معدومة في تبوأ مقعد الخلافة، فهو ينتمي إلى فرع تيم الأقل تأثيرًا، ولا يملك من الثروة أو القوة ما يدعم موقفه، لكن الرجل القوي -عمر بن الخطاب- قرّر أن يدفع بصاحب النبي، ليقود المرحلة الانتقالية، قبل أن ينفرد هو بخلافته، بعد أن تستتب أمور الدولة الناشئة.

ولا يمكن اعتبار وفاة الرسول أمرًا مفاجئًا للقبائل العربية، حيث كان التدهور في صحته، عليه السلام، سابقًا على وفاته بوقت كاف، ففي حجة الوداع، بدا وكأنّ النبي يودع أصحابه قائلاً:

“اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”.

كما مهد القرآن الكريم نفسه لحتمية الرحيل الوشيك للنبي، بقوله تعالى: “وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم..” (آل عمران /144).

وكما هو واضح، فالنص يستشرف ملامح المستقبل القريب، ممّا يعني وجود خلافات يبدو أنّها كانت سابقة على وفاة النبي، ما استدعى نزول الآية في ظل مشاورات بين رؤوس قريش، يرجح أنهّا كانت قائمة، في وقت مرض النبي الأخير، وربما قادها عمر بن الخطاب بنفسه، لحسم ملف الخلافة، لكنّ ذلك لم يكن ليتم، دون ترتيبات مع بني أمية؛ نظرًا لقرار سابق استقر لدى عمر وأبو بكر، بإقصاء بني هاشم عن الأمر.

كان عمر بن الخطاب، الرجل القوي، يثق في قدرته على قيادة الأمة في هذا الوقت الصعب، لكنّ اعتبارات الاختيار التقليدية لم تكن تنطبق عليه، الأمر الذي دفعه إلى محاولة تقويض هذه الاعتبارات وخلق شروط جديدة، ليمهد لنفسه الطريق مستقبلاً؛ فطرح على العرب اسم أبو بكر الصديق، ليضع قاعدة جديدة للاختيار، تقوم على الورع والقرب من النبي. ويبدو أنّ اقتراح عمر، الذي سبق اجتماع السقيفة، لاقى قبولاً، فلربما رأت القبائل أنّ الشيخ الكبير يستطيع أن يقود الجماعة بشكل مؤقت، ولو شكلياً، حتى تحسم القبائل أمرها، ويفرض الرجل القوى نفسه، أو يفرز الصراع قائدًا جديدًا، فيما بعد. وبالتالي يمكن فهم صمت رؤساء قريش بالتحديد على اختيار الصديق، وتخليهم عن علىّ بن أبي طالب، ويمكن كذلك فهم الانقلاب الكبير الذي حدث فيما بعد عندما اتضحت الرؤية، وبات عمر بن الخطاب هو الحاكم الفعلي، حيث سلّمه أبو بكر الصديق مقاليد الأمور؛ لتظهر هيمنة قريش المطلقة على الدولة الإسلامية.

حكم عمر بن الخطاب بشكل فردي مطلق، ليؤسس لهيمنة قريشية طويلة المدى، على المستويين السياسي والاجتماعي، لكنّه لم يهتم بصياغة نظام للحكم، يمكن من خلاله تداول السلطة وفق آليات سلمية. ولم يكن أمام بني أمية سوى الانتظار الطويل، وفق تفاهمات مع ابن الخطاب نفسه، الذي لم يجد غضاضة في تمكين معاوية بن أبي سفيان من حكم الشام في عهده. وهو ما يفسر عدم طرح عمر لفكرة استمرار السلطة في بني عدي (قومه)، حتى أنّه استثنى سعيد بن زيد بن نفيل، من بين سائر المبشرين بالجنة، ضمن المرشحين لخلافته[1].

كانت لحظة وفاة عمر بن الخطاب فارقة في تجلي الصراع على السلطة بين بني هاشم وبني أمية، وقد طرح اسم علي بن أبي طالب (هاشمي)، في مواجهة عثمان بن عفان (أموي)، بين آخرين ربما كان الهدف من وجودهم، رغبة عمر في عدم تكريس فكرة الاختيار المباشر، التي جاءت به إلى الحكم.

كانت كلّ الأمور تتجه إلى عثمان بن عفان، وربما هي إرادة عمر بن الخطاب أيضًا، والذي ترك معاوية على حكم الشام، رغم تحفظه على أداءه السياسي. وبالتبعية منح اختيار عثمان للخلافة، الضوء الأخضر للأمويين، للتمكن من مفاصل الدولة الناشئة، وكادت الثورة ضدّه، والتي انتهت بمقتله، أن تطيح بأحلام معاوية في الحكم.

استقطاب عائشة أجدى من حمل المصاحف

بحسب الرواية المتداولة، رفض معاوية بيعة علي بن أبي طالب، وتحول مقتل عثمان بن عفان إلى حصان طروادة الذي حمل الأمويين إلى الحكم، بعد الإطاحة ببني هاشم إثر معارك دموية، انتهت بمقتل علي بن أبي طالب.

كان من الواضح أنّ طرفي الصراع يتجهان نحو الحكم الملكي الوراثي، كآلية نافذة ونهائية لتحقيق الاستقرار وتلافي الصراعات المستقبلية، فاستقر علي بن أبي طالب على الحسن كولي للعهد من بعده[2]. على الرغم من أنّ أمير المؤمنين لم يكن يثق كثيرًا به، حيث روي عن علي أنّه قال: “يا أهل الكوفة لا تزوجوا الحسن، فإنّه رجل مطلاق، قد خشيت أن يورثنا عداوة في القبائل[3]. وربما كان ابنه محمد من خولة بنت جعفر، هو خياره بعد الحسين، لو كانت الأمور استقرت له.

وفي أعقاب مقتل عثمان، كان على معاوية أن يبحث عن سند قوي؛ لمناوئة علي بن أبي طالب. وتؤكد الأخبار أنّ عائشة كانت أول المحرضين على نكث بيعة علي، ورُوي أنّ طلحة والزبير قصدا مكة، حيث كانت عائشة، واجتمعوا مع مروان بن الحكم وبني أمية، للتحريض على الأخذ بدم عثمان[4]. فجاءوا إلى ماء الحوأب، ونبحت كلابه، فسألت عائشة، فقيل لها: هذا ماء الحوأب، فردت خطامها عنه، وذلك لما سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

“أيتكن صاحبة الجمل الأَدْبَب، والتي تنبحها كلاب الحوأب؟ فشهد طلحة والزبير أنّه ليس هذا ماء الحوأب، وخمسون رجلًا إليهم، وكانت أول شهادة زور دارت في الإسلام”[5].

كانت استراتيجية الأمويين واضحة، بعد أن نفذ الخليفة المقتول عثمان بن عفان الشق الأصعب منها، بتمكين بني أمية من مفاصل الدولة، وهو الأمر الذي كان يدور بخلد معاوية قبل أن يرفع جند الشام المصاحف على أسنة الرماح، طلبًا لثأر عثمان، وقد اختمرت في ذهنه فكرة اعداد ابنه يزيد لخلافته، على الرغم من أحقية عمرو بن العاص بولاية العهد، لو سارت الأمور حسب الكفاءة، ولو لم يمت ابن العاص قبل معاوية، لما تمكن يزيد من الخلافة.

وفي المقابل، سارت الأمور عكس ما كان علي بن أبي طالب يتمنى، وبويع الحسن بالخلافة بعد مقتل أبيه، وسرعان ما غلبت سماته الشخصية، وآثر الانسحاب، الأمر الذي نكأ جرحًا لم يندمل في نفس الحسين، وهو الغضب الذي انفجر بشكل انتحاري في كربلاء.

ويمكن القول إنّ معاوية بن أبي سفيان، كان رجل اللحظة بامتياز، حيث انتهج استراتيجية مركبة، قدمت السياسة على الدين لبناء أطر ناجزة في سياق الصراع السياسي مع خصومه، ثم ألبس هذه المواقف عباءة دينية ربانية؛ من أجل شرعنة سياساته.

في البدء صاغ معاوية رواية الإسلام الأول، ومنح نفسه مركزية فيها بوصفه كاتب الوحي، وهي الرواية التي أدخلها العباسيون في طور جديد، في مرحلة التدوين، وفيها تمّ عكس الموقف، فتحول معاوية، كما في الرواية الشيعية، إلى مغتصب للسلطة؛ ممّا يعني أنّ رواية الإسلام الأول التي وصلتنا، هي محض تعبير إيديولوجي، من مجموع الانحيازات السياسية والمذهبية؛ التي أطّرت الوعي الديني؛ عبر مجموع نتاجاته، وفق سيرورة شكلت في نهاية الأمر السياق الذي حكم حركة التاريخ.

ومن جهة أخرى، كان لدخول الشعوبية على خط الصراع السياسي والاجتماعي في العصر العباسي، أثرًا كبيرًا على مجال التراث العربي، حيث عنى العرب بالأخبار ونشطوا في تدوينها، في مواجهة الهجمة الشعوبية، التي صاغت هي الأخرى تاريخًا مقابلا للإسلام[6]. أو بمعنى أدق نزعت الشعوبية تجاه إعادة كتابة تاريخ الإسلام، وفق رؤية مغايرة، لعب فيها المتخيل دورًا مركزيًا.

الخبيث مقدساً

انتهج معاوية سياسة قبلية، نجح من خلالها في قمع التيارات المعارضة، وهو ما خلق في نهايات العصر الأموي حالة من عدم الاستقرار السياسي، حيث كانت القبائل مستاءة ومتذمرة من استبداد السلطة، وبعضها كان يطمح في ترسيخ نفوذ أوسع في الأمصار، فضلا عن ظهور العداوات القديمة، والصراعات المذهبية. وعليه استثمر العباسيون في أرض صالحة للثورة على الحكم لتغيير السلطة[7].

ويمكن القول إنّ معاوية بن أبي سفيان، دخل بالعرب إلى مجال الاشتباك مع العلاقة بين الديني والدنيوي، وهي علاقة نسبية تأثرت بوزن الدين في الدولة، واستخدمها معاوية بذكاء لتحديد الصيغ المختلفة لها، عبر وسائط رمزية، كان أبرزها الحفاظ على البيعة كوسيلة لكسب الشرعية، تتطلب اجماعًا ولو بالسيف، ليظهر المقدس غير الإلهي (الاجماع)، في حقل التداول المفاهيمي.

وإذا كان عبد اللطيف الهرماسي يرفض الثنائية الدوركايمية، حول انقسام المقدس إلى قطبين: طاهر وخبيث؛ بوصفها ازدواجية لا مجال لتطبيقها في الإسلام واليهودية، على وجه التحديد، حيث إنّ المقدس في الإسلام يحيل دائمًا على معنى الطهارة، والخبيث/المدنس هو الحرام بالضرورة[8]. إلّا أنّ معاوية انفرد وحده بوضع الخبيث ضمن المقدس، ونجح في ذلك بشكل براغماتي فريد.

كان معاوية في أمس الحاجة لدعم زياد بن أبيه، وكانت سمية أم زياد غانية واقعها أبو سفيان؛ فحملت منه بزياد ووضعته في فراش زوجها عبيد، ونشأ زياد وبرع في كثير من الأعمال، حتى نال رضا عمر بن الخطاب، ولما تولى علي بن أبي طالب الخلافة، استعمله على بلاد فارس، فضبطها واشتهر بكفاءته، فأراد معاوية استمالته، فراسله قائلاً: أنت أخي. لكن علي بن أبي طالب حذره. ولم يلتفت له زياد، ولكن بعد مقتل علي، جدّد معاوية محاولاته، وبالفعل اتفقا على الاستلحاق، وحضر الشهود في جلس معاوية، فشهدوا بأنّ زيادًا هو ولد أبو سفيان، وكان من جملة الشهود أبو مريم صاحب الخمار الذي أحضر سميّة إلى أبي سفيان[9].

كان الاستلحاق من خبيث القول والفعل، وقد عظم الأمر على الناس، حتى هجا أحد الشعراء معاوية قائلاً[10]:

ألا أبلغ معاوية بن حرب                      مبلغه عن الرجل اليماني

أتغضب أن يقال أبوك عف               وترضى أن يقال أبوك زان

فأقسم أن رحمك يا زياد                     كرحم الفيل من ولد الأتان

نجح معاوية في حسم التوتر القائم بين الديني والدنيوي، عبر إعادة صياغة تموضع المدنس في المجال الحيوي، ومن خلال تفعيل مضامين أولويات السياسة، نجح في إخضاع الاجتماع، وتمّ تمرير الخبيث (الاستلحاق)، بوصفه احتياجًا دينيًا لتبييض صفحة أبي سفيان، ومعالجة ذنبه، بنسبة ولده من الزنا إليه.

واعتمد معاوية في ذلك، على رجال من ذوي السلطة والنفوذ والدهاء السياسي في المقام الأول، فاحتل هؤلاء الصفوف الأولى في الدولة من أمثال: عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، والضحاك بن قيس الفهري وغيرهم.

كان معاوية صاحب التغييرات الكبرى التي حاقت بنظام الخلافة؛ فأمر برفع الحراب بين يديه، ووضع المقصورة في المسجد ليصلي بها؛ ليأمن هجمات الأعداء، خاصّة بعد مقتل عمر بن الخطاب، وعلى بن أبي طالب وهما يصليان، كما اتخذ لنفسه ألقابًا منها: مالك، الأول، الناصر لدين الله، خال المؤمنين، كاتب الوحي[11]. وهي ألقاب يتضح منها المغزى الديني المراد به إضفاء سمة القداسة على ملكه، ثم كانت الثورة الكبرى في نظام الخلافة ألا وهي فكرة ولاية العهد، التي كرست لنظام الوارثة في الحكم، بداعي أنّ ذلك يجنب المسلمين الفتن والقلائل، ويمنع سفك الدماء. وبين العنف واللين، تراوحت سياسة معاوية، المؤسس الثاني للدولة في الإسلام، وفي عنفوان شعوره بالقوة يقول: “نحن الزمان فمن رفعناه ارتفع، ومن وضعناه وُضع”[12].

ولا يمكن اختزال سياسات معاوية بن أبي سفيان، ضمن نسق التمثلات والأحلام السياسية، التي حملتها جماعة الأمويين فحسب، ذلك أنّ ما يضفي على تجربته السياسية خصوصيتها، هو ذلك الخطاب الأيديولوجي المتشظي إلى جملة من الخطابات ذات التقسيم الثنائي والثلاثي، والتي تشي بمجموعة من الدلالات حول الشعور الطاغي بالذات، والوعي المطابق للنزعة القبلية. فهو وإن فصل الدين على السياسة ضمنًا، كان يطرح دومًا شرعيته السياسية في سياق له منطقه الخاص، الذي يأخذ به الأمة إلى النجاة في مشهدية خلاصيّة، مفعمة بكل أشكال المعنى وأدوات انتاجه. وفي ذلك يقول: ” فاقبلونا بما فينا، فإنّ ما وراءنا شر لكم، وأنّ معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأت”[13].

وحيث يسود الفكر الديني، تكون لغة الشرعية والتبرير دينية بالأساس. وعليه لا تظهر الأيديولوجيا مستقلة بذاتها، أو بمعزل عن الدين، ولا تتجلى بنيتها الخاصة، ذلك أنّ “الأيديولوجيا خطاب حول شرعية النظام الاجتماعي عامّة، والسياسي منه خاصّة”[14].

وعليه. ظهرت جملة من الروايات عن أحوال وفضائل معاوية، فروي عن ابن عباس أنّه قال: “جاء جبريل إلى النبي فقال: يا محمد استوص بمعاوية، فإنّه أمين ‏على كتاب اللّه، ونعم الأمين هو”[15].  كما نسب إلى النبي أنّه قال في معاوية: “اللهم أجعله هاديا مهديًا وأهد به”. ونسب إلى النبي أنّه قال: “يا معاوية إن وليت أمرًا فاتق الله وأعدل”. وروى أحمد في مسنده أنّ النبي قال: ” الأمناء ثلاثة جبريل وأنا ومعاوية”. وعن خارجة بن زيد عن أبيه، روي أنّ رسول اللّه قال: “يا أم حبيبة، للّه اشد حبًا لمعاوية منك، كأني أراه على رفارف الجنة”[16].

ويروي الطبراني: أنّ عون بن مالك كان نائما بمسجد بأريحاء، فانتبه فإذا أسد يمشي إليه، فاخذ سلاحه فقال له ‏الأسد: صه إنّما أنا أرسلت إليك برسالة لتبلغها، قلت: من أرسلك؟ قال: اللّه أرسلني إليك لتعلم‏ معاوية أنّه من أهل الجنة، قلت: من معاوية؟ قال: ابن أبي سفيان[17].

وفي المقابل، ظهرت روايات أخرى تطعن في معاوية، منها: “إذا رأيتم معاوية على منبري فارجموه”. وأخرى: ” إذا رأيتم معاوية على المنبر فاقتلوه”. في مقابل رواية أخرى تقول: “إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه فإنّه أمين مأمون”[18].

وبغض النظر عن الإطار السياسي الذي حكم تلك الروايات، فإنّ الجدل المثار حول شخصية معاوية بن أبي سفيان، هو جدل سياسي في المقام الأولى، أفضى فيما بعد إلى اشتباك بنيوي في أصول الدين، ذلك أنّ اللحمة التاريخية التي شكلت ذلك النسق الأيديولوجي الفريد، لما يكن لها أبدًا أن تنفصل عن مسارات الأحداث التي اُنتج المعنى في حواضنها، وتجلى فيما بعد ضمن شبكة علائقية من المفاهيم التي تجمع ما بين المسلمات الربانية المطلقة، والسياسة كمشروع ناجز ونهائي لمجموعة من البشر، في حقبة تاريخية شديدة التعقيد.

 

المراجع:

[1] موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي، المجلد الأول، ج1، عصر النبوة والخلافة الراشدة، دار سفير، الجيزة، 2022،  ص 79.

[2] وقال ابن كثير في البداية والنهاية: ٦ / ٢٤٩. لأنّ عليا أوصى إليه، وبايعه أهل العراق… وقال صاحب الأغاني: ٦ / ١٢١: وقد أوصى بالإمامة بعده إلى ابن رسول الله وابنه وسليله وشبيهه في خلقه وهديه… ومثل ذلك في تيسير المطالب: ١٧٩. وفي إثبات الوصية: ١٥٢ وقال المسعودي: ان أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: واني أوصي إلى الحسن والحسين فاسمعوا لهما وأطيعوا أمرهما… وقال في مروج الذهب: ٢ / ٤١٣: لأنهما شريكاه في آية التطهير، وهذا قول كثير ممّن ذهب إلى القول بالنص.

[3] محمد بن أحمد الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأوناؤوط – محمد العرقسوسي، ط9، د.ت، ص 606.

[4] نادر حمامي: صورة الصحابي في كتب الحديث، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2014، ص 126

[5] أبو بكر بن العربي: كتاب العواصم من القواصم، دار الجيل، ط2، بيروت، 1987، ص 152.

[6] عبد الستار جبر: الهوية والذاكرة الجمعية، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2019، ص 181.

[7] نفسه: ص ص 176-177.

[8] عبد اللطيف الهرماسي: في الموروث الديني الإسلامي، قراءة سوسيولوجية تاريخية، دار التنوير، بيروت، 2012، ص ص 91 – 92.

[9] محمد الأبي ومحمد السنوسي: صحيح مسلم بشرح الأبي والسنوسي، 1-9 ج1، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 285.

[10] إحسان النص: الخطابة العربية في عصرها الذهبي، دار المعارف، القاهرة، 1964، ص 304.

[11] سامح إسماعيل: أيديولوجيا الإسلام السياسي والشيوعية، دار الساقي، بيروت، 2010، ص40.

[12] الثعالبي: لطائف اللطف، بيروت، دار المسيرة، 1980، ص 33.

[13] محمد شريف سليم: مجموعة من النظم والنثر للحفظ والتسميع، وزارة المعارف، القاهرة، 1918، ص 151.

[14] عبد اللطيف الهرماسي: المرجع المذكور، ص 155.

[15] أحمد بن حجر الهيثمي: كتاب الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، المطبعة الميمنية، 1894، القاهرة، ص 27.

[16] للمزيد انظر: محمد الأمين الشنقيطي: الأحاديث النبوية في فضائل معاوية بن أبي سفيان، دار الضياء.

[17] أحمد بن حجر الهيثمي: المرجع المذكور، ص 24.

[18] محمد السعيد بن بسيوني زغلول: الموسوعة الكبرى لأطراف الحديث النبوي الشريف 1-50 ج3، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 4930.

اقرأ ايضا

المزيد من المقالات

مقالك الخاص

شــارك وأثــر فـي النقــاش

شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

error Please select a file first cancel
description |
delete
Asset 1

error Please select a file first cancel
description |
delete