تكوين
– 1 –
ما الذي يجعل المرأة موضوعًا إشكاليًا؟
ثمة تناقض واضح بين ثقافة اللحظة الاجتماعية الراهنة والزامات الفقه الإسلامي عمومًا، وفقه المرأة بوجه خاص.
بوصفه تشريعات قانونية، تشكل الفقه كرد فعل لثقافة الاجتماع العربي السائدة فى مراحل النص والتدوين المبكرة، وهي ثقافة بدوية جافة ذات طابع ذكوري صريح. المشكل يأتي من أن الثقافة الاجتماعية تغيرت بالفعل، الأمر الذي يستدعى تغيرًا مقابلاً على مستوى التشريع القانوني، وهذا ممتنع “شرعًا”، لأن الفقه يجرى تثبيته كقانون مؤبد مبني على النصوص الإلهية المقدسة.
ما يزيد المشكل تعقيدًا هو أن التغير في الثقافة الاجتماعية لم يتم على نحو جذري وحاسم بحيث يفرض قوانينه الجديدة بقوة الأمر الواقع (وهذا يرجع إلى مستوى التطور الذي أحرزه المجتمع في البنى التحتية الاقتصادية والعقلية خصوصًا)، تعاني الثقافة الراهنة من حالة ازدواجية مربكة، تجمع أفقيًا بين مكوناتها التاريخية الموروثة ومفردات حداثية مكتسبة، صارت تجاور هذه المكونات وتضغط عليها. وبوجه عام، ظل المكون التراثي قادرًا على استثارة الحساسيات التقليدية الخاصة بالمرأة، والموروثة من ثقافة الفقه الذكورية التي تكاد تختزل المرأة إلى مسالة “عرض” خاص بالرجل. وفي المقابل، لا يبدو الإشعاع الحداثي كافيًا لإزاحة المكونات التراثية، لكنه يظل قادرًا على إثارة الوعي بالمشكل الذي تنطوي عليه المسألة كما تطرحها المدونة الفقهية.
إقرأ أيضًا: المرأةُ: جدلية الذات واللغة في تكوين الهُوِيَّة
في هذا السياق يظهر الدور السلبي الذي يلعبه التيار الأصولي في تصعيد الارتباك الثقافي الناجم عن الازدواجية: تنطلق الأصولية من موقف مبدئي مضاد لفكرة الحداثة، ومخاصم لنمط التدين الشعبي الذي يتسم بمرونة طبيعية حيال حركة التطور. وبتكوينها النقلي التقليدي، تستدعى الخيارات الأكثر رجعية (تشددًا) في المدونة الفقهية السلفية، خصوصًا في مسائل الأحوال الشخصية والمرأة، التي تحظى بموقع مركزي داخل الخطاب الأصولي. وهي مسألة تحتاج إلى نقاش تفسيري من زوايا علم النفس الاجتماعي والديني والمعرفي، حيث تكاد تختزل المرأة إلى قضية “عورة”، وتبدو مع ذلك وكأنها محور من المحاور الأصلية للدين.
تاريخيًا، اندمج الفقه بسهولة مع “العرف” داخل المحيط الإسلامي طوال المراحل السابقة على الحداثة، وهي ظاهرة مفهومة بما أن الفقه نشأ انعكاسًا للثقافة الاجتماعية السائدة والتي لم تشهد تغيرًا جذريًا منذ عصر التدوين. لكن العرف، وهو يشتغل من خلال آليات التدين الشعبي، يظل قادرًا على احتواء الفقه، وضبطه على موجات الواقع الاجتماعي المتغيرة. ونتيجة لذلك تظل هناك على الدوام مسافة بين النظام “النظري” الذي يفترضه كتاب الفقه، وممارسات الناس التي تفرزها حاجات الواقع اليومية المباشرة.
في النموذج المصري، ومع التحولات النسبية التي جلبتها الحداثة في البنى التحتية (الاقتصادية / العقلية / الاجتماعية)، أظهر التدين الشعبي مرونته الطبيعية، وتجاوب بسلاسة مع موجة التحديث العام التي بدأت في القرن التاسع عشر تحت عنوان النهضة، بما في ذلك التحول النسبي في وضعية المرأة، التى صارت تتخفف من غطاء الوجه وتقاليد الحجاب، وتخرج إلى العمل خارج المنزل، وتخالط الرجال، وتحصل على مكاسب نسبية في مركزها القانوني كزوجة، وكمواطن عامل داخل الدولة المدنية. الموجات الأصولية اللاحقة لم تفلح في إيقاف هذه الحركة، لكنها نجحت في تبطيئ إيقاعها بشكل بات واضحًا في المراحل المتأخرة.
في هذا السياق يظهر مأزق الفكر الإسلامي المعاصر وهو يواجه ضغوطًا مزدوجة من قبل التيارات الأصولية التي تذكره بمرجعيته التراثية (النصية والفقهية)، ومن قبل التيارات الحداثية وهي توجه سهام النقد إلى هذه المرجعية التراثية “التي كرست الوضعية الدونية للمرأة، وبخست قيمتها الإنسانية، كأَمةٍ مسبية تباع في سوق النخاسة ليتسرى بها الرجال، وكزوجة مقهورة يُسمح بتأديبها بالضرب، وكعضو ناقص الأهلية ومن ثم ناقص الحقوق داخل المجتمع، حيث لا يجوز لها أن تزوج نفسها بنفسها، وتحصل على نصف الميراث، وشهادتها بنصف شهادة رجل.
– 2 –
التأصيل الكتابي لوضعية المرأة
كانت الهيمنة الذكورية جزءًا من ثقافة البيئات السامية التي شهدت ميلاد الديانات الإبراهيمية جميعًا. وبقوة الاجتماع الطبيعية اخترقت هذه الثقافة جدار الدين، وصارت جزءًا من بنيته التشريعية. وهذا – ببساطة – هو تفسير العقل الوضعي لدونية المرأة حيال الرجل في الدين “بوصفه منتجًا بشريًا تاريخيًا، يعكس مفردات الثقافة الاجتماعية السائدة في لحظته التأسيسية”.
لكن العقل الديني يقدم تفسيريًا غيبيًا مغايرًا، فالوضعية الدونية للمرأة هي – بحكم التوراة – حكم نهائي مقرر من قبل الرب، عقابًا لها على خطيئة حواء حين أكلت من الشجرة التي نهاها عن الأكل منها في جنة عدن، وأغوت آدم فأكل منها: “قال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟” فقالت المرأة: “الحية أغرتني فأكلت”، فقال الرب الإله للحية “لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين وترابًا تأكلين كل أيام حياتك. وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه”. وقال للمرأة: “تكثيرًا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادًا، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك” (تكوين 3: 13 – 17).
منذ البداية كان وجود حواء حدثًا “ثانويًا” في قصة الخلق. فهي لم تخلق أصلاً بحسب التوراة، إلا لتكون “معينًا” لآدم. فبعد خلق، آدم واستقراره في الجنة، “قال الرب الإله: ليس جيدًا أن يكون وحده، فأصنع له معينًا نظيره” (تكوين: 18)
بتواتر النصوص تكرست صورة المرأة الملعونة بالخطيئة، ووصمت بالنجاسة إلى الأبد: “وكلم الرب موسى قائلاً: كلم بنى إسرائيل إذا حبلت امرأة وولدت ذكرًا تكون نجسة سبعة أيام. كما من أيام طمث علتها تكون نجسة. وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته. ثم تقيم ثلاثة وثلاثين يومًا في دم تطهيرها. كل شيء مقدس لا تمس، وإلي المقدس لا تجيء حتى تكمل أيام تطهيرها. وإن ولدت أنثى تكون نجسة أسبوعين كما في طمسها. ثم تقيم ستة وستين يومًا في دم تطهيرها. ومتى كملت أيام تطهيرها لأجل ابن أو ابنة تأتي بخروف حوْلى مُحرِقةً، وفرخ حمامةً أو يمامة ذبيحة خطية إلى باب خيمة الاجتماع الى الكاهن، فيقدمها أمام الرب ويكفِّر عنها فتطهر من ينبوع دمها” (لاويين 12: 1-7).
إقرأ أيضًا: لماذا لا تكون المرأة نبيا أو رسولا؟
وفي سفر الجامعة، تظهر المرأة كرمز للشر والجهل والحماقة: “درت أنا وقلبي لأعلم ولأبحث ولأطلب حكمة وعقلاً، ولأعرف الشر أنه جهالة، والحماقة أنها جنون، فوجدت أمرِّ من الموت المرأة، التي هي شباك، وقلبها إشراك، ويداها قيود. الصالح قدَّام الله ينجو منها، أما الخاطئ فيؤخذ بها” (الجامعة 6: 26-29).
ويسهب التلمود في شرح هذه الوضعية وهو يصور المرأة كمصدر دائم للشرور، ووسيلة من وسائل الشيطان ليوقع البشر في الخطيئة، يقول الرجل: “الحمد لله يا رب يا ملك الدنيا، يا من لم تخلقني أنثي.. واحسرتاه لمن كانت ذريته إناثًا.. أصلح النساء مشعوذات.. أرواحهن تافهة.. كل من يمشى وراء مشورة امرأة يسقط”. ونتيجة لذلك لا تكون المرأة بحسب الفقه اليهودي كاملة الأهلية، ومن ثم غير صالحة للتعلم وتولى المناصب، وهي تعفى من بعض الواجبات الدينية، ولا يسمح لها بالاقتراب من أماكن بعينها في المعبد ولا يحسب النساء في العدد الواجب توافره لاكتمال الصلاة، وإذا لمست عباءة “الطاليت” المخصصة للصلاة فإنها تنجسها، ويجب استبدالها.
– 3 –
حملت المسيحية الخطوط العامة للرؤية العبرية التي تربط خضوع المرأة للرجل بالخطيئة الأولى لحواء. صرح بولس في القرن الأول بأن “على المرأة أن تتلقى التعاليم وهى صامتة بكل خضوع. ولا أجيز للمرأة أن تعلم، ولا أن تتسلط على الرجل، بل تحافظ على السكوت، فإن آدم هو الذي جبل أولاً وبعده حواء. ولم يُغو آدم، بل المرأة هي التي أغويت فوقعت في المعصية” (رسالة طيموثاوث الأولى).
وكتب ترتليان في “زينة النساء”: “بالمشقة تلدين البنين أيتها المرأة، وإلى رجلك ستنقاد أشواقك وهو يسودك. أتجهلين أن حواء هي أنت؟ إن حكم الرب على جنسك ما يزال يسري في هذا العالم، فلتعيشي إذن ولا مناص كمتهمة، فأنت باب إبليس، أنت التي فكت أختام الشجرة المحرمة. أنت أول من عصى الأوامر الإلهية. وأنت التي نجحت فيما فشل فيه إبليس عندما ضللت ذلك الذي لم يجرؤ الشيطان على التعرض له. أنت التي قضيت بسهولة على الرجل، صورة الرب، فتلقى الموت جزاء فعلتك، يا من كنت السبب في موت ابن الله”.
في هذه النصوص يبدو التأصيل المسيحى لدونية المرأة لاهوتيًا خالصًا؛ فهو يستند مباشرة إلى “حكم الرب” على جنس النساء جزاءً على خطيئة حواء الأولى، وهي الخطيئة التي أدت بابن الله إلى مقارفة الموت فداءً للبشر. لقد جعل الله السيادة للرجل الذي تمثل الرب على صورته (في يسوع الذكر) عندما نزل من السموات، وهو الذي لم يجرأ الشيطان على التعرض له بالغواية.
– 4 –
في الإسلام، يظل التأصيل اللاهوتي حاضرًا؛ فدونية المرأة عن الرجل حكم مقرر من الله، لكنه لا يتكئ صراحة على فكرة الخطيئة الأولى لحواء كما في اليهودية والمسيحية، بل على فكرة “النقص” الأصلي في طبيعة الخلق. فالأنوثة نقص بحد ذاتها، أي بطبيعة التكوين الجسدي والنفسي الذي خلقه الله. وهذا هو معنى التفضيل المنصوص عليه في الآية 34 من سورة النساء كسبب لقوامة الرجل على المرأة.
وهو معنى متواتر في كتب التفسير والفقه على السواء؛ فعند ابن كثير: “الرجال قوامون على النساء” أي الرجل قيم على المرأة وهو رئيسها، وكبيرها، والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت.”. و”بما فضل الله بعضهم على بعض” أي لأن الرجال أفضل من النساء والرجل خير من المرأة، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال، وكذلك الملك الأعظم لقوله (ص) لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة، رواه البخاري” (تفسير ابن كثير، سورة النساء، الآية 34).
إقرأ أيضًا: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} قراءة معرفية لآيات المواريث
وعند القرطبي “يقال إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير، فجعل لهم حق القيام عليهن لذلك. وقيل للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء، لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة فيكون فيه قوة وشدة، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة فيكون فيه معنى اللين والضعف” (القرطبي الجامع لأحكام القرآن، النساء 34).
وفي الجامع عند ابن العربي المالكي: “قوله تعالى “بما فضل الله بعضهم على بعض” المعنى إني جعلت القوامية على المرأة للرجل لتفضيلي له عليها، وذلك لثلاثة أشياء؛ الأول كمال العقل والتمييز.. وهذا الذي بيَّن النبي (ص) في الحديث الصحيح “ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم منكن”.
وفي كتابه “الإشراف على نكت مسائل الخلاف” يعلل ابن علىّ البغدادي منع المرأة من تزويج نفسها بدون وليِّ ذكر بقوله: “لأنها ناقصة بالأنوثة كالأَمَة. ولأن طباع النساء شهوة النكاح والميل إلى الرجال، والتسرع في ذلك، فلو جعلت لهن العقود لتسرعن ولم يراعين كفاءة ولا حظًا في عاقبة، وفي ذلك ضرر بهن وبالأولياء فمنعن منه.
– 5 –
الوعي الحداثي – المتخفف إجمالاً من سلطة السرديات الغيبية – لا يكاد يفهم الربط بين دونية المرأة وفكرة التكفير عن الخطيئة الأولى كما يطرحها التأصيل اليهودي المسيحي، وهو لا يهضم فكرة النقص الأصلي كما يطرحها التأصيل الإسلامي. ويؤسس الفكر الحداثي رفضه للفكرتين على أسباب أخلاقية، وعلمية، واجتماعية نفعية: فبصرف النظر عن إشكالية “التصديق” التي تحيط بالرواية التوراتية، يبدو القول بمسئولية المرأة عمومًا عن خطيئة حواء، حكمًا مناقضًا للعدالة، ويصعب من ثم تنسيبه إلى العدل المفترض من إله خيِّر. أما القول بنقص التكوين العقلي والنفسي للمرأة قياسًا بالرجل، فيتعارض مع نتائج البحوث التجريبية الحديثة في علم التشريح وعلم النفس. ويؤدى القول بدونية المرأة إلى تعطيل إمكانياتها الإنسانية، وحرمان المجتمع من قوة عمل إضافية واسعة، ولازمة لاكتمال تنوعه الطبيعي.
يتعلق الأمر في الواقع بالثقافة الاجتماعية السائدة في لحظة التشريع الديني، وليس بأمر إلهي مفارق مقرر من خارج الاجتماع.
واقعيًا، كان التشريع الديني، كأي تشريع قانوني، يعبر عن ثقافة الواقع. ولذلك لم يواجه الفكر الديني الكتابي “مشكل” تبرير نظري لأحكام الشريعة بامتداد العصور الوسطى، حيث ظلت هذه الأحكام متناغمة مع الثقافة.
يقدم الفكر الحداثي قراءة نقدية صريحة لوضعية المرأة في الدين الكتابي عمومًا. وكالعادة، يحظى الفقه الإسلامي بمساحة أوسع في هذا السياق النقدي، بوصفه الفقه الأكثر جمودًا على المستوى العملي قياسًا إلى المسيحية الغربية التي أبدت مرونة ظاهرة لصالح حقوق المرأة، وأقرت بأهليتها الكاملة وفقًا لقانون الدولة المدنية، وذلك تحت ضغوط التطور الاقتصادي والاجتماعي الهائلة التي فرضتها الحداثة عبر القرون الثلاثة الأخيرة. ورغم المحاولات التجميلية ذات الطابع الدفاعي التي تقدمها التيارات الإسلامية “المعتدلة” استنادًا إلى المبادئ “الكلية” في القرآن، يظل من الصعب تمرير هذه المحاولات في ظل وجود التيارات “الأصولية والسلفية” وهي لا تزال تروج لأحكام السبي وملك اليمين التي تبيح أسر النساء وبيعهن في الأسواق للاستمتاع الجنسي، بوصفها أحكامًا شرعية ثابتة بالنصوص. ولا تزال تتبنى نظرية الزواج ببنائها الفقهي الذكوري الموروث من ثقافة العصور الوسطى، “والذي يسمح بنكاح الطفلة الصغيرة دون سن التاسعة، ويسمح برضاع الرجل البالغ من ثدي امرأة أجنبية كي تصبح من محارمه، فيما لا يسمح بتبني هذه المرأة للطفل الرضيع المحتاج إلى الرعاية. وبوجه عام، يفرض حصارًا واسعًا على إرادة المرأة بأبوابه التفصيلية في الولاية والقوامة والعصمة والحجاب والتأديب”.
– 6 –
نظرية الزواج
بني الفقه الإسلامي في عصر التدوين نظرية متكاملة في الزواج، تأسيسًا على مصادر نصية وغير نصية متعددة. ونتيجة للمذهبية والتنوع الجغرافي الناجم عن التوسع السياسي، احتوت النظرية على تباينات فرعية تكشف عن تبعية التشريع الدائمة لبيئته الثقافية. لكنها ظلت في مجملها تحمل السمات السائدة للاجتماع العربي في القرن السابع كما سجلها النص. وهي سمات مشتركة في المحيط السامي عمومًا، وتظهر بوضوح في النصوص العبرية والبابلية والآشورية المجاورة.
يمكن الإشارة – بالطبع – إلى استبعاد القرآن لبعض الممارسات الجاهلية الشائعة التي تتشابك مع الزواج ولم تكن شائعة على نطاق واسع كالشغار، والبدل، والاِستبضاع، والرهط، وإلى بعض التعديلات الثانوية التي تصب في مصلحة المرأة كما في أحكام العدة. لكن القرآن لم يخرج في خياراته التفصيلية عن الأعراف السائدة للزواج في الجزيرة العربية، وبشكل مجمل كان النظام الذي تبناه هو النظام الاعتيادي الشائع في المنطقة وخصوصًا في قريش.
لم تخرج النظرية الفقهية عن الإطار العام الذي سجله القرآن، لكنها بسبب طابعها التفصيلي ستعبر بشكل أوضح عن نظام الهيمنة الذكورية، وهو ما يظهر خصوصًا في معالجاتها التقنية الموسعة لأحكام الولاية، والعصمة، والتأديب.
ويعبر هذا النظام عن نفسه بشكل فج من خلال “التعريف” الذي يطرحه الفقه “لعقد الزواج”: فحسب التهانوي في “كشاف اصطلاحات الفنون” الزواج “عقد وضع لملك المتعة”. موضوع العقد المتعة، وغرضه التملك، المالك هو الرجل، أما المرأة فليست طرفًا في عقد الزواج، لأن طرفيه هما الزوج وولي المرأة، التي هي “محل” الاتفاق الواقع عليه تراضي الطرفين بالإيجاب والقبول، مثلما يكون “الشيء” المبيع محلاً للرضا في عقد البيع.
يكشف التعريف عن ثقافته الاجتماعية ذات الجذور السامية، التي كانت تعتبر المرأة المتزوجة ملكًا لزوجها، والفتاة العذراء ملكًا لأبيها، وأباحت للزوج المدين أن يبيع زوجته عند استحقاق سند الدين كما في قانون حمورابي، وتعاملت مع الزوجة كجزء من التركة يرثها أبناء الزوج المتوفى كما فى تقاليد بعض القبائل العربية، أو يجرى تحويلها إلى الأخ كما في النصوص العبرية.
وتظهر هذه الثقافة في لغة النصوص المنسوبة إلى النبي محمد، ففي حديث المرأة التي وهبت نفسها للنبي: “فخطبها رجل قال رسول الله (ص) هل معك من القرآن شيء؟ قال نعم. قال اذهب فقد ملكتكها بما معك من من القرآن. يضيف الراوي: جاء في بعض طرقه “ملكناكها، ومكناكها، وأملكناكها، وزوجناكها، وأنكحناكها، وزوجناكها، وأبحناكها”. (صحيح البخاري 5132، صحیح مسلم 1425، الدارقطني 3611).
وتواتر هذا المفهوم في كتب الفقه وتحول إلى مصطلح شائع، ففي الفقه المالكي نقرأ في كتاب “الإشراف على نكت مسائل الخلاف” أن النكاح “ينعقد بلفظ الهبة، والبيع، وكل لفظ تمليك يقتضي التأبيد دون التأقيت… ودليلنا قول الرسول (ص) قد ملکتکها بما معك من القرآن. ولأنه لفظ تمليك لا يقتضي توقيتًا، فأشبه لفظ النكاح والتزويج. ولأنه عقد معاوضة فجاز أن يعقد بأكثر من لفظين كالبيع”. (انظر الإشراف، للقاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي. دار ابن حزم، ط 1، 1999). ويؤكد ابن العربي في “أحكام القرآن” هذا المعنى منكرًا على الشافعي قوله إن النكاح لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج.
وبحسب ابن قدامة (الحنبلي) في المغني: “قال الثوري، والحسن بن صالح، وأبو حنيفة وأصحابه، وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود: ينعقد بلفظ الهبة، والصدقة والبيع والتمليك.
وفي هذا السياق يعتبر بعض الفقه أن “الزوجة” تدخل في مفهوم “ما ملكت اليمين” ففي معرض النقاش حول الآية 24 من سورة النساء “والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم” يقول القرطبي: قالوا معناه نكاح أو شراء. هذا قول أبي العالية، وعبيدة السلماني، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعطاء. ورواه عبيدة عن عمر. فأدخلوا النكاح (الزواج) تحت ملك اليمين” (انظر الجامع لأحكام القرآن، م 3، ج 5). وفي السياق ذاته تناقش الفقهاء حول سقوط حد الزنا بمناسبة العقد غير مكتمل الشروط “لشبهة الملك”.
– 7 –
تتكرر في الفقه الإشارة إلى الزواج بأنه عقد “معاوضة” وتتكرر المقايسة بينه وبين عقد البيع وأحيانًا الإجارة. واستخدم القرآن لفظ “الأجر” في معنى المهر، فهو العوض المقابل للمتعة. ويفهم من ذلك أن جهة الرجل هي وحدها الجهة المعتبرة في الاستمتاع، وكأن المرأة لا تستمتع، أو لا يجوز لها التصريح بأنها تستمتع. هي فقط موضوع المتعة التي تتقاضى في نظيرها الأجر، وهو لذلك التزام مفروض في حق الرجل. في ثلاث من أربع مرات أشار فيها القرآن إلى المهر ورد لفظ الأجر. وفي الآية 24 من سورة النساء ربط القرآن صراحة بينه وبين المتعة: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن من فريضة”. ويشرح القرطبي هذا المعنى بقوله: الاستمتاع التلذذ والأجور المهور. وسمي المهر أجرًا لأنه أجر الاستمتاع، وهذا نص على أن المهر يسمى أجرًا، وقد اختلف العلماء في المعقود عليه في النكاح ما هو: بدن المرأة، أو منفعة البضع، أو الكل؟ ثلاثة أقوال، والظاهر المجموع فإن العقد يقتضي ذلك.”.
واضح أن خلاف “العلماء” كما نقل القرطبي لا يدور على اختزال الزواج إلى متعة، أو كون المرأة موضوع المتعة، بل يدور على محل الاستمتاع من المرأة هل هو البدن عمومًا، أم البضع أي الوطء تحديدًا؟ وهو اختلاف لا يخرج بالمسألة عن نطاق المتعة الجنسية. فالبدن فى نص القرطبي لا يقابل مثلاً بالمشاعر، أو الروح أو الألفة أو السكينة، بل يقابله الوطء، مما يصرف معنى البدن فى النص إلى أشكال الاستمتاع الجنسي دون الجماع. بشكل فج تغيب المضامين الإنسانية والوجدانية ذات البعد النفسي التى يستوعبها الزواج كنظام عريق في الاجتماع البشرى.
وعند هذه النقطة تحضر فكرة المقارنة بين هذا الطرح الفقهي الخشن والنصوص القرآنية “الكلية” التي تعبر عن المطلق الأخلاقي. مثل “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة”. هنا يبرز سؤال بالغ الأهمية: كيف يمكن التوفيق داخل القرآن – ككتاب واحد – بين النصوص الكلية والنصوص التشريعية؟
النصوص الكلية ذات النفس الأخلاقي تعبر عن المعنى الجوهري للدين. وهي تعرضت للتحجيم على يد الفقه من خلال آليات تقنية متعددة (من التأويل، إلى النسخ، وتخصيص العام، وتقييد المطلق)، أما النصوص التشريعية فتعبر عن ثقافة الاجتماع السائدة في لحظة النص، وهي تتغير مع حركة التطور، ولذلك فهي بطبيعتها قابلة للتغير، بينما الأخلاق تعكس القانون الكلي المفارق، ولذلك فهي، وليس التشريع، ما يمثل الجوهر الثابت الذى يمكن تنسيبه إلى الدين.