تكوين
الميراث: مناقشةُ تاريخيةِ الشريعة
– 1 –
يقدم الرازي في “مفاتيح الغيب” خلفية تاريخية مجملة الأحكام المواريث في القرآن: “أعلم أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين: أحدهما النسب، والآخر العهد. أما النسب فهم ما كانوا يورثون الصغار ولا الإناث، بل كانوا يورثون من الأقارب الرجال الذين يقاتلون على الخيل ويأخذون الغنيمة. وأما العهد فمن وجهين:
- الأول: الحِلْفْ، كان الرجل في الجاهلية يقول لغيره دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك، فإذا تعاهدوا على هذا الوجه فأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت.
- والآخر، التبني، فإن الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فيُنسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه، وهذا التبني نوع من المعاهدة، ولما بعث الله محمدًا (ص) تركهم في أول الأمر على ما كانوا عليه في الجاهلية.
ومن العلماء من قال: بل قررهم الله على ذلك فقال “وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ” (النساء 33) والمراد التوارث بالنسب، ثم قال “وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ” (النساء 33) والمراد التوارث بالعهد، فهذا شرح أسباب التوارث في الجاهلية. وأما أسباب التوارث في الإسلام، فقد ذكرنا أن في أول الأمر قُرر الحلف والتبني، وزاد فيه أمرين آخرين:
- أحدهما، الهجرة، فكان المهاجر يرث من المهاجر وإن كان أجنبيًا عنه، إذ كان كل واحد منهما مختصًا بالآخر بمزيد من المخالطة والمخالصة، ولا يرثه غير المهاجر وإن كان من أقاربه.
- والآخر، المؤاخاة. كان الرسول (ص) يؤاخي بين كل اثنين منهم، وكان ذلك سببًا للتوارث. ثم إنه تعالى نسخ كل هذه الأسباب بقوله “وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ” (الأنفال 75). الذي تقرر عليه دين الإسلام أن أسباب التوريث ثلاثة: النسب، والنكاح، والولاء” (الرازي مفاتيح الغيب، م 5، .92، ص 164).
في هذا النص يقدم أبو بكر الرازي نوعًا من “التأصيل الاجتماعي” لنصوص القرآن، وهو طرح نادر في كتب التفسير التراثية. ويبدو الرازي، بسبب عقلانيته النسبية، أقل حرصًا على “تغييب” التوافق بين التشريع القرآني والأعراف الجاهلية. يتحرج العقل الفقهي في مجمله من المعنى الكامن في هذا التوافق، وهو أن يكون للحكم الديني المنصوص مصدر مستمد من بيئته الاجتماعية المباشرة. ولذلك فإن المدونات الفقهية وخصوصًا المتأخرة، تؤكد عادة أوجه الاختلاف، موحية بأن الإسلام جاء ناقضًا للحياة الجاهلية جملةً وتفصيلاً. (لا يظهر هذا التحرج في كتب السيرة والتأريخ المبكرة التي اهتمت بفكرة تجميع الأخبار، وتمتعت بدرجة عالية من العفوية، قبل تكون المدونة النظرية المنظمة في الكلام والفقه وأصول الفقه وعلوم التفسير).
– 2 –
بعامة -وكما في جميع التشريعات القرآنية- وافقت أحكام التوريث ما جرى عليه العرف الجاهلي: ظلت رابطة الدم هي السبب الأول للميراث، وظلت العصبية الذكورية خصوصًا من جهة الابن المحور الأول في هذه الرابطة. كما بقيت علاقة “الولاء” الجاهلية ضمن أسباب الميراث، سواء كان ولاء عتق أو ولاء عقد، وإن كان الفقه سيضفي على ولاء العقد لمسة “إسلامية“، إذ سوف يضيف الفقهاء “ولاء الإسلام” بالنسبة إلى الأمي الذي يدخل الإسلام على يد رجل مسلم، وقد قايسه المالكية على ولاء العتق. وفي التعريف الفقهي لا يخرج ميراث الولاء عن مفهومة الجاهلي المعروف، فهو: “الميراث الذي يستحقه المرء بسبب عتق شخص في ملكه، أو بسبب عقد موالاة” (انظر التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون).
واقعيًا كان التوريث بالهجرة والمؤاخاة في بداءة العهد المدني، صيغة “إسلامية” من عهد الحلف المعروف في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وهو عقد يتفق طرفاه على النصرة والتوارث، ويتم بإشهاد الشهود، وكان المكيون يعقدونه عند الكعبة. (انظر الطبري، التفسير، النساء 33. والجصاص، أحكام القرآن، باب ولاء الموالاة).
ويتفق الفقهاء على حصول النسخ في ميراث الهجرة والمؤاخاة، لكنهم لا يتفقون على حصوله في بقية صور الولاء وخصوصًا ولاء الحلف، وهذا مفهوم تمامًا بالنظر إلى الظروف الاجتماعية والسياسية التي استدعت فكرة التوريث بولاء الهجرة والمؤاخاة في بداءة الانتقال إلى المدينة، مع قلة العدد، وحاجة المهاجرين القرشيين إلى الدعم المالي، ثم انتفاء الحاجة إلى هذه الفكرة عندما تغيرت الظروف باتجاه القوة وتزايد العدد نتيجة لحركة الفتوح والغنائم.
أقرأ أيضًا: معضلات نظرية أمام الفكر الإسلامي المعاصر: الجزء السادس إشكالية المرأة
وضمن هذا السياق التوافقي يدخل النص القرآني في سورة النساء على حق المرأة في الميراث (آية 7) وإعطائها نصف نصيب الرجل (آية 11) أعنى أن القرآن لم يستحدث هذا الحكم استحداثًا في مبدأه، بل توافق فيه –أيضًا– مع العرف الجاهلي العام، خلافًا للفكرة الشائعة في المدونات الفقهية. يشير ابن حبيب في “المحبر” إلى:
“أن أول من جعل للبنات نصيبًا من الإرث من الجاهليين هو ذو المجاسد عامر بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر. ورث ماله في الجاهلية، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، فوافق حكمه حكم الإسلام”
(ابن حبيب، المحبر، ص 236 ، 324).
وثمة روايات في المصادر العربية تفيد “أن من الجاهليات من ورثن أزواجهن وذوي قرباهن، وأن سُنَّة حرمان النساء الإرث لم تكن سنة عامة عند جميع القبائل، وما ورد في الأخبار يخص على الأكثر أهل الحجاز” (انظر نماذج لهذه النقول عند جواد علي، المفصل، ج 5، ص 563).
يُفهم من نص ابن حبيب أن بعض القبائل العربية كانت تورث الذكر مثل حظ الأنثيين، لكنه يرى أن حكم عامر بن جشم الجاهلي هو الذي وافق حكم الإسلام، رغم أنه الأسبق. وذلك تلافيًا للطعن بأن يكون القرآن ناقلاً عن أعراف الجاهلية.
في واقع الأمر لم تكن المسافة الفاصلة بين التشريعات القرآنية والعرف الجاهلي بهذا القدر من الاتساع الذي توحي به المدونات الإسلامية المتأخرة. وما من تشريع قرآني إلا وله أصل في ممارسات العرب قبل الإسلام.
كان النص التشريعي القرآني مثل أي نص تشريعي؛ يعكس الحاجات الآنية المباشرة لبيئته الاجتماعية. أي كان يصدر ليكون رد فعل للحوار مع الواقع، لأنه يصدر فيه وبسببه. الموضوع التشريعي يتعلق دائمًا بمجتمع معين بالذات. ولو واجه القرآن مجتمعًا مختلفًا لتجادل مع واقع مختلف، ولكنا بصدد أحكام مختلفة مما نقرأه الآن.
هذا المعنى يُشير إلى واحد من قوانين الاجتماع، وهو ثابت بالاستقراء، ويبدو واضحاً في الوعي الحداثي العام، لكن التفكير السلفي لا يرتب عليه نتيجته الضرورية وهي القول بإقليمية التشريع وتاريخيته الزمنية. والسبب هو الدوجما النظرية الموروثة في العقل الديني بخصوص “مفهوم النص” و”مفهوم الشريعة” ، الذين تشكلا في الإسلام في عصر التدوين، بعد تكوين “المصحف” وتجميع الأحاديث وتبلور منظومة الكلام والفقه والأصول. وفق المفهوم الأول للنص القرآني وجود سماوي مفارق في اللوح المحفوظ، وهو مطلق أي ثابت بذاته في جميع أجزائه، بما في ذلك الأحكام التفصيلية الفرعية الواردة فيه، بغض النظر عن طبيعتها النسبية، بوصفها تتعلق بوقائع اجتماعية قابلة للتغير باستمرار، وبحسب المفهوم الثاني، تكتسب الأحكام التفصيلية سلطة إلزامية مؤبدة في الزمن وسارية في جميع السياقات الجغرافية. وكلاهما تصور مناقض لطبيعة الاجتماع، فالتشريع “قانون“، أي قابل للتغير بالضرورة. وهذه قاعدة لا يغير منها ورود القانون في نص ديني واكتسابه وصف “الشريعة“.
هذا التصور الذي اصطنعه “الفقه” في عصر التدوين، لم يكن حاضرًا بهذه الحدة النظرية في الوعي المبكر للصدر الأول الذي كان يُعاين الأحكام وهي تعبر عن حاجاته الفعلية المباشرة، ولم يكن قد توفر على مصطلحي النص والشريعة بوصفهما مفهومين نظريين: يروي الطبري في التفسير عن ابن عباس “أنه لما نزلت آية الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين، كرهها الناس أو بعضهم وقالوا: تعطى المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويُعطي الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة. اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله ينساه، أو نقول له فيغيره
“فقال بعضهم يا رسول الله أنعطي الجارية (البنت) نصف ما ترك أبوها وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم، ونعطى الصبي الميراث وليس يغني شيئًا، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، لا يعطون الميراث إلا من قاتل، يعطونه الأكبر فالأكبر” (انظر الطبري، التفسير، م 3، ج 4، النساء11).
وفق الرواية لم تكن الأحكام التشريعية، في وعي الصحابة، من المطلق الإيماني (أي الدين بالمعنى الضيق) الذي لا يقبل الجدل والنقاش، بل من القواعد الاجتماعية، ومن ثم فهي قابلة للنسيان وقابلة للمراجعة والتغيير. وهو الوعي الذي سوف يتطور لاحقًا بفعل الفقه وتبلور المفاهيم النظرية، التي سوف تعيد هيكلة الديانة وسوف تعطيها صيغتها النهائية المعروفة، لتكون بنية تكليفية (تشريعية) واسعة، خاضعة لسلطة الفقه التفسيرية ذات الطابع الكهنوتي. وهذه ظاهرة متكررة في تاريخ التدين الكتابي.
– 3 –
تقدم الرواية نموذجًا للسرديات العفوية التي تتكرر في كتب الأخبار المبكرة، وتكشف عن السياق الاجتماعي المزامن للنص التشريعي وهو سياق بدوي قَبَلِيْ، يقوم على اقتصاديات الغزو وحيازة الغنيمة وتحركه من ثم ثقافة ذكورية خشنة. ورغم أنها تسمح –أحيانًا– بتوريث النساء، إلا أنها تَبقى بعامة منحازة إلى جانب الرجل الذي يقدر على ممارسة القتال وتحصيل الغنائم، ومن ثم على اكتساب المال وإنفاقه. وهي بعينها الثقافة التي أقرها القرآن. ونص عليها صراحة في آية القوامة وآيات التوريث.
هذا التحليل “الواقعي” لا يتوافق مع الطرح الفقهي الموروث والشائع في الفكر الإسلامي المعاصر. فهو يُروج للقول بأن أحكام التوريث في القرآن مثلث انقلابًا كليًا على العرف الجاهلي الذي لم يكن يُورث المرأة، وأن إعطاءها نصف نصيب الرجل كان خطوة تقدمية ونوعًا من الإنصاف، وكان في الوقت نفسه ترجمة عادلة للفوارق الواضحة بين الرجل والمرأة، خصوصًا في الأدوار الاقتصادية.
الحديث عن فوارق في الأدوار الاقتصادية، ينطوي على: تفسير “اجتماعي/ثقافي” للحكم الشرعي، أي يربط ربطًا سببيًا بين الحكم وظروف الواقع البيئية، وهي ظروف متحركة وقابلة للتغير بطبيعة الاجتماع. أعني تتعدد وتختلف من مجتمع إلى آخر، وتتطور في المجتمع ذاته من عصر إلى آخر.
إقرأ أيضًا: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} قراءة معرفية لآيات المواريث
ورغم أن القرآن يلمح إلى هذا الربط وهو يعلل قوامة الرجال على النساء بقوله: “وبما أنفقوا من أموالهم”، إلا أن العقل السلفي -المبرمج على منظومة الفقه، وعلى فكرة اللوح المحفوظ- يكاد يُنكر أي فاعلية مؤثرة للاجتماع البشري حيال المنصوصات. فهو يتوجس من القول بإقرار الشرع للواقع الجاهلي، ويستنكر قابلية الشرع للتغير عند تغير ظروف الواقع. فالأحكام المنصوصة -كما فسرها السلف- لها وجود سماوي سابق في اللوح، وهي مُنزلة أصلاً وواجبة الطاعة لإرضاء الله، لا عن سياق المجتمع أو لإشباع حاجاته.
وذلك فالتيارات الأكثر سلفية تُنكر أن يكون الشرع قد أقر ضمنيًا بأعراف التوريث السائدة قبل ورود النص، أو أن النص أصدر تعبيرًا عن هذه الأعراف، ومن ثم فهي لا تُرحب بفكرة التدرج في الأحكام الشرعية التي تنبهت لها بعض كتب التفسير الأشعرية بنزوعها العقلاني النسبي، وهي تعلق على الآية السابعة من سورة النساء “لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا“.
– 4 –
تشير الآية إلى النساء إجمالاً (بنات، زوجات، أمهات، أخوات)
وهي تبدو مبدئيًا معنية بتقرير استحقاق النساء للإرث، كما يستحقه الرجال، وتتفق التفسيرات في أنها جاءت لتُبطل العُرْف الجاهلي الذي يحرم النساء الميراث قبل نزول آية الفرائض (11/ النساء).
في تفسيره “مفاتيح الغيب“، رأى الرازي أن الآية بصيغتها المجملة جاءت توطئة مقصودة لآية الفرائض، بغرض التدرج بالناس في الأحكام “فلا يمنع إذا كان للقوم عادة في توريث الكبار دون الصغار ودون النساء، أن ينقلهم سبحانه وتعالى عن تلك العادة قليلاً على التدريج، لأن الانتقال عن العادة شاق ثقيل على النفس… فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذا المجمل أولاً ثم أردفه بالتفصيل” (مفاتيح الغيب، النساء، آية 7).
يصنف كتاب الرازي واحدًا من كتب التفسير “العقلي“، وهي “تهمة” دينية صريحة بمقاييس التفكير السلفي. يضع الرازي يده هنا على مفهوم “التدرج في الأحكام”، وهو مفهوم يُشير إلى أن “النص” يتفهم قواعد الاجتماع، أي يُراعي حركة التطور، ويتعاطى معها بوصفها ضوابطَ مقصودةً لتوقيتات التشريع.
ما ألفت إليه هنا هو أن الإقرار بمفهوم التدرج/التطور بوصفه قاعدة مقبولة من قواعد النظام الاجتماعي، يستلزم الإقرار باضطراد القاعدة وسريانها المتواصل في المستقبل، وليس فقط في مرحلة صدور النص، لأن شيئًا لا يمنع الاجتماع تكوين عادات جديدة تتقاطع مع الحكم المنصوص وقد تتجاوزه، وهو ما يستلزم الإقرار في النهاية بأن “التشريع” تابعٌ واقعيٌ لحركة الاجتماع.
القول بالتدرج يعنى ضمنًا أن النص طوال فترة سكوته كان يقر بالحكم الساري قبل النزول. وهذا مفهوم طبيعي، لأن الاجتماع لا يقبل الفراغ التشريعي، وفي التشريع الإسلامي المبكر كان الأصل هو استصحاب قواعد العرف السائدة، والاستثناء هو تدخل النص القرآني. وفي هذه الحالة الأخيرة كان النص يأتي امتدادًا لقواعد العرف، أو تعديلًا -جزئيًا غالبًا- ناتجًا عن التحاور معها، وفى جميع الأحوال لم يقدم القرآن لائحة تشريعية مفصلة ومكتملة أو سابقة التجهيز.
لكن هذا المعنى مُستبعد تمامًا من قبل العقل الفقهي السلفي المهجوس بفكرة الدفاع عن إلهية التشريع، ومن ثم المباعدة بينه وبين مصادر العرف الجاهلي. ولذلك نجد القرطبي وهو يعلق على آية “… وللنساء نصيب” يسارع فينفي أن يكون الحكم العرفي السائد قبلها محل إقرار من الشرع الإسلامي في أي وقت؛ يشرح القرطبي: “قال الكيا الطبري: وقد ورد في بعض الآثار أن ما كانت الجاهلية تفعله من ترك توريث الصغير كان في صدر الإسلام إلى أن نسخته هذه الآية، ولم يثبت عندنا اشتمال الشريعة على ذلك، بل ثبت خلافه، فإن هذه الآية نزلت في ورثة سعيد بن الربيع فاسترجع رسول الله (ص) الميراث من العم، ولو كان ذلك ثابتًا من قبل في شرعنا ما استرجعه” (الجامع، النساء 61).
وابن العربي -وهو فقيه مالكي سابق على القرطبي وأوضح سلفيه منه– يؤكد هذا التوجه في كتابه “أحكام القرآن“: “في حديث جابر (توريث بنات بن الربيع) فائدة وهو أن ما كانت الجاهلية تفعل في صدر الإسلام لم يكن شرعًا مسكوتًا عنه مُقرًا عليه، لأنه لو كان شرعًا مُقرًا عليه لما حكم النبي على عمّ الصبيتين برد ما أخذ من مالهما، لأن الأحكام إذا مضت وجاءت النسخ بعدها إنما تؤثر في المستقبل، ولا ينقص ما به ما تقدم، بل كانت ظلامة وقعت” ( ابن العربي، أحكام القرآن، القسم الأول، النساء 11).
يستدل ابن العربي هنا بقاعدة “عدم رجعية القانون” أي امتناع تطبيق التشريع على وقائع تمت في الماضي قبل صدوره.
وهو استدلال متسرع ناتج عن الهاجس السلفي، فالواقعة محل
النقاش (وهي واقعة توريث البنات مع وجود عُصبة من الرجال) لم تكن قد اكتملت وانتهت قبل نزول أحكام التوريث في الآيتين 6، 11 من سورة النساء. بل كانت قضية مطروحة على النبي، وأوقف الفصل فيها حتى تنزلت الآيتان. فالواقعة -وفق الروايات- بدأت حين اشتكت امرأة أوس بن ثابت إلى الرسول، وقد تُوفي زوجها عنها وعن ثلاث بنات فجاء رجلين من بني عمه وهما وصيان له يقال لهما سويد وعرفجة، وأخذا ماله ولم يدفعا إليها أو إلى بناته شيئًا. فقال النبي ارجعي إلى بيتك حتى أنظر ما يحدث الله في أمرك، فنزلت هذه الآية، فأرسل النبي إلى الوصيين وقال: لا تقربا من مال أوس شيئًا، ثم نزلت بعد ذلك “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ” (انظر نص الروايات في الطبري، التفسير، النساء 6، 11. وفى القرطبي، الجامع، السابق).
وواقعيًا لا معنى لكلام ابن عربي عن النسخ، فنحن لسنا بصدد نصين صريحين صادرين عن المصدر نفسه، بل بصدد الحديث عن “التشريع السكوتي” في مرحلة التأسيس، كونه عملية تجرى بواسطة النص. ففي هذه العملية ينطوي سكوت النص بالضرورة على إقرار بالواقع التشريعي القائم. وهو إقرار إجمالي يشير إلى امتناع الفراغ القانوني.
الحديث المتكرر في الروايات عن شكوى امرأة إلى الرسول (امرأة ابن الربيع، أو امرأة أوس) يشير إلى وجود ثقافة موازية تسمح للنساء بإعلان التضرر من حجب الميراث عنهن.
وهو ما يؤيد الأخبار التي تُفيد بأن هذا الحجب لم يكن عرفًا نهائيًا مطلقًا في جميع أنحاء الجزيرة، أو أنه -على الأقل- كان حكمًا قابلاً للنقاش والجدل طبق العرف المقبول في المدينة. وبصورة أوضح نحن هنا أمام “التشريع” وهو ينتج عن حوار مباشر مع وقائع محددة، أي استجابة لحالة اجتماعية بيئية خاصة.
يتبع