معضلات نظرية أمام الفكر الإسلامي المعاصر: الجزء الثالث…مشكلة الدين والأخلاق

 تكوين

الأخلاق الإسلامية

– 1 –

موضوع هذه المقالة هو المقاربات النقدية للإسلام من زاوية أخلاقية. بعض هذه المقاربات عام، يأتي في سياق النقد الموجه إلى فكرة الدين ككل، وبعضها خاص موجه إلى الإسلام ذاته. تاريخيًا وكما حدث مع المسيحية، واجه الإسلام هذا النقد بشقيه في مراحل التكون المُبكرة في عصر التدوين، باشتباكه مع التيارات الدينية المجاورة، خصوصًا المسيحية والمانوية، أو مع الأفكار “الإلحادية” المتناثرة التي تنتمي إلى فضاء الثقافة الإسلامية ذاتها، ما بين القرنين الثاني والرابع الهجريين، كما يظهر في نصوص ابن المقفع وابن الراوندي ومحمد بن يحيى الرازي. وهو لا يزال يواجه هذا النقد -بشقيه أيضًا- من التيارات اللادينية والربوبية المعاصرة التي يتفاقم حضورها في المحيط الإسلامي مع تزايد الانغماس في الثقافة الحداثية.

بالنسبة إلى أوساط التدين الشعبي الدارجة، أي بالنسبة إلى غالبية الجمهور المسلم، قد يبدو هذا الطرح غريبًا وربما صادمًا، فالجمهور بتكوينه الطبيعي يُفهم الدين بوصفه مرادفًا للأخلاق الخيرة، ولا يتصور وجود أي مجال للتناقض بينهما. والسبب واضح وهو أنه لا ينغمس في تفاصيل الكلام اللاهوتي والفقه التشريعي الذي صنعه الفقهاء الكهنة في عصر التدوين وروجوا له بوصفه صُلبَ الدين.

إقرأ أيضًا: في نقد الكهنوت: الجزء الأول مناقشة حول المؤسسة الدينية

لكن الفكر الإسلامي المعاصر الذي يُصرُّ على تبني المنظومة الكلامية الفقهية الموروثة، ليس في وُسعه تجاهل المشكل، أو الاستمرار في مواجهته بآليات التبرير “السلفي” التقليدية، التي لم تعد قادرة على مناقشة الوعي الحداثي بدوافعه “الإنسانية”، وأدواته الاحتجاجية العقلية والعلمية.

2-

ثمة مشترك عام يجمع بين الديانات الإبراهيمية الثلاث التي نبعت من مصدر تاريخي واحد هو التجربة العبرية السامية. ومع ذلك تظهر تمايُزات واضحة تسمح بالحديث عن أخلاق يهودية وأخلاق مسيحية وأخلاق إسلامية. هذه التمايزات تعكس الفوارق الجزئية بينها في مستوى اللاهوت والشريعة، وتُشير -ضمنًا- إلى مصدرها الاجتماعي التاريخي.

في المشترك الإبراهيمي، الأخلاق إلهية:

  1. بمعنى أنها صادرة عن الله وليس عن الإنسان.
  2. بمعنى أن الإنسان يلتزم بها لا لوجوب ذاتي فيها، ولا لأنها تُحقق مصالحه الدنيوية، بل لأن طاعة الله واجبة، فالإنسان موجود في الحياة بفعل الله، وهو مملوك له كما يتملك البشر الأشياء.

لأخلاق هنا جزء من “الشريعة”، أي من منظومة التكاليف الإلهية التي يجب الانصياع لها بوصفها جوهر الدين، ومن ثم فهي تقوم على فكرة “الواجب” أو الالتزام:

  • في اليهودية يقوم الالتزام على أساس تعاقدي، فهو يرجع إلى مبدأ العهد أو الاتفاق الذي أبرمه الشعب مع الإله يهوه على تمكينه من الأرض مقابل اتباع الشريعة. وهي تبدأ بالوصايا العشرة (خروج 20) التي تُمثل لدى اليهود والمسيحيين خُلاصة النظام التشريعي الأخلاقي المقدس.
  • وفي المسيحية -كما يشرح فيورباخ– ينبني هذا الالتزام على فكرة “التضحية” عِرفانًا بالجميل للرب الذي ضحى بنفسه من أجل الإنسان. فالفضيلة لا تنبع من دافع إنساني أي من أجل الحب أو الخير في ذاته، بل لإرضاء الله الذي فدى الإنسان بابنه الوحيد. ولذلك فهي تزيد كلما أمعن الإنسان في إنكار ذاته ونفي حاجاته الطبيعية. وفي هذا الإطار تظهر أهمية القيم الزُهدية التي روج لها الكهنوت المسيحي بخصوص “الحب الجنسي” مُفترضًا أن “العذرية” هي الفضيلة الأولى في الإيمان المسيحي، فيما هي في الواقع مُناقضة للطبيعة البشرية، ومن ثم ليست فضيلة في ذاتها.
  • أما في الإسلام الذي لا يقول بلاهوت الفداء، فيقوم الالتزام الأخلاقي مباشرة على مبدأ الطاعة الواجبة لذاتها بحكم “العبودية” لله.

إقرأ أيضًا: من أجل تجديد التشريع الإسلامي

فالإنسان لم يُخلق أصلاً إلا لغاية واحدة هي عبادة الله “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” (الذاريات 56). المسألة تتعلق بإرادة الله لا بإرادة الإنسان العبد، فليس في وُسعه أصلاً أن يعرف الخير والشر إلا من طريق الوحي الإلهي، أي عن طريق النقل السمعي، بمعنى أن العقل لا يقدر على إدراك الحسن والقبيح بمفرده. ليس ذلك فحسب، بل إن الله ليس مُلزمًا بفعل ما هو خير من وجهة النظر البشرية، فليس ثمة واجب على الله في شيء حيال شيء أو حيال الإنسان، بل هو المُلزَم حيال الله بالطاعة مثلما يُلزم على العبد طاعة سيده.

– 3 –

جرى تكريس هذه الرؤية من التيار الكلامي الأشعري الذي تمكن من بسط هيمنته على مجمل الوعي الإسلامي العامي، والسُني بخاصة. وهي تولدت في سياق الجدل اللاهوتي الذي بدأه المعتزلة بشأن مسألة “خلق الإنسان لأفعاله“:

وفق المعتزلة الحسن والقبيح ذاتيان في الأفعال، والإنسان يقدر على إدراكها بنفسه بواسطة العقل، وأن الشرع إذا ورد بها كان مُخبرًا عنها لا مُنشئًا لها، والدليل هو أن الناس قبل أن تأتى الشرائع كانوا يحتكمون إلى العقل، وأن الرسل كانوا وهم في مَعْرض الاحتجاج على الناس، يطلبون منهم النظر إلى الأشياء بالعقل. لم تُناقش المسألة تحت عنوان “المشكل الأخلاقي”، لكن المشكل كان حاضرًا بمضمونه في صُلب النقاش الذي يدور بشأن قدرة الإنسان على فعل الأشياء والاختيار بينها مُقابل، قدرة الله وإرادته المطلقة. لم يكن السؤال المطروح هو: هل نشأت الأخلاق بصنع الإنسان أم أنها تشريع إلهي؟ بل كان السؤال هو: هل يستطيع الإنسان أن يُدرك الأخلاق الحسنة والسيئة بفطرته المباشرة؟ وكان الجواب الاعتزالي هو: نعم يستطيع ذلك، لأنه مُقتضى العدل الإلهي. يقتضي العدل الإلهي أن تكون أفعال الله كلها خيرة/حسنة، فلا بُد من معرفة الحُسن والقُبح من الأفعال، يشرح القاضي عبد الجبار: “من لم يعلم الفرق بين الحَسن والقَبيح لم يصح منه أن يُنزه الله تعالى عن تلك المقبحات ويضيف إليه المحسنات” (المغني، ج 11، ص 384).

المسألة إذن تتعلق بتنزيه الله عن القبح، أي نفي صدور الشر عنه. والنقاش برمته يجرى تحت عنوان “الصفات” الإلهية، التي يبرز فيها “التوحيد” و”العدل” بوصفها أصلين جامعين للفكر الاعتزالي. ومن المعلوم الآن أن كلام المعتزلة في هذه المسألة ظهر في سياق الاشتباك مع الأفكار الثنويةالمانوية (الفارسية) التي تنسب الشر إلى إله آخر غير إله الخير والنور، لأنه ليس معقولًا أن يوجد الشر في العالم مع وجود إله “واحد” خبير حكيم. يَرُدُّ المعتزلة أن ثمة إله واحد، لكنه ليس مسئولاً عن أفعال الشر، بل المسئول عنها هو الإنسان بسبب اختياره لها، وهذا مقتضى عدل الله.

– 4 –

بهذا الطرح العقلي يكشف الفكر الاعتزالي عن مذهب “إنساني” حر يُقر بفاعلية الإنسان حيال العالم، فهو قادر على “معرفة” الخير والشر بفطرته العقلية، وقادر على ‘اختيار” أفعاله وتنفيذها، ومن هنا تأتي مسئوليته عنها.

لكن الفكر الاعتزالي لا يصل إلى القول بأن الإنسان هو من صنع الأخلاق عبر تاريخه الاجتماعي الطويل كما تذهب التيارات الوضعية القديمة والحديثة. ففاعلية الإنسان الأخلاقية تأتي من الإقرار بقدرته على التمييز بين الخير والشر، وعلى الاختيار الحُر بينهما وكلتا القدرتين من خلق الله في الإنسان.

مقارنة بالفكر الأشعري -الذي يُهمين على مُجمل الوعي السني- يبدو المعتزلة “أقرب” إلى تقديم جواب ديني مفهوم عن سؤال الشر فيما يتعلق بالأفعال الإنسانية ومسئولية الإنسان عنها، لكنه ما يزال بعيدًا عن تقديم مثل هذا الجواب فيما يتعلق بسؤال “الشر الكوني” الذي يُصيب الإنسان ضد إرادته. وهو سؤال يُطرح بإلحاح من التيارات اللادينية المعاصرة التي تطلب تفسيرًا لوقوع الكوارث الطبيعية والمصائب الفردية والجماعية والتي تُدمر حياة البشر أو تفرض عليهم معاناة الألم. لماذا تسمح الإرادة الإلهية -التي يُفترض أنها خيرة- بوقوع البراكين والزلازل والأمراض؟ لماذا يُولد أطفال مُعاقين أو مصابين بالسرطان؟ ألا يتعارض هذا مع الصفات المُفترضة لإله “أخلاقي” كُليَ العلم والقدرة؟

بالنسبة إلى الأشاعرة، هذا السؤال مرفوض في مبدأه، لأن الله لا يُسأل عما يفعل، وهو لم يخلق الكون لعلة، بل بمحض إرادته، فالخلق خلقه يفعل ما يشاء كيف شاء، وليس عليه أصلاً استهداف صالح البشر أو ما هو أصلح لهم. وهذا من وجهة نظر الملحد المعاصر امتناع عن الجواب، ينطوي على إقرار ضمني بوجود المُشكل والعجز عن حله.

أما الفكر الاعتزالي فيتصدى للمشكل، ويحاول تقديم حل له من طريق نظريته في “الصلاح والأصلح”: كل فعل من أفعال الله فيه الصلاح والخير للناس، وإن بدا لهم الأمر على غير ذلك. يقول النظَّام “إن الله عز وجل لا يقدر أن يفعل بعباده خلاف ما فيه صلاحهم… لا يقدر الله تعالى على أن يُعمي بصيرًا أو يُزمن صحيحًا أو يُفقر غنيًا إذا علم أن البصر والصحة والغنى أصلح لهم، وكذلك لا يقدر على أن يُغني فقيرًا أو يُصحح مزمنًا إذا علم أن المرض والزَمانة والفقر أصلح لهم، ولا يقدر على أن يخلق حيةً أو عقربًا أو جسمًا يعلم أن خلق غيره أحسن من خلقه”. (انظر البغدادي، الفرق بين الفرق، دار الجيل، 1973، ص 116).

يُفرق المعتزلة بين الخير والشر من جهة، والنافع والضار من جهة أخرى، ويُصرح الجُبائي بأنه “ليس الأصلح هو الألذ، بل هو الأجود والأصوب في العاقبة كالحجامة والفصد وشرب الدواء وإن كانت مُؤلمة مكروهة إلا أنها الأصلح لصلاح عاقبتها”. وإذا جعل الله بعض الناس فقراء أو أعطاهم الدمامة أو العمى، فإن ذلك وإذا كان في الظاهر غير حسن فهو صلاح لهم. (انظر ابن حزم، الملل والنحل، ج 1، ص 84 – 85. وج 3، ص 92. وانظر الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 81). فبما أن الحكيم لا يفعل شيئاً جُزافًا، بل لعلة وغرض، لا يجوز أن يخلق الله شيئًا إلا ينتفع به العباد، أو يَعتبروا به، ولا يجوز أن يخلق شيئاً لا يراه أحد ولا يحس به. حتى الأطفال لا يؤلمهم الله في الدنيا إلا عِبرة للبالغين، وحتى المجانين عِبرة للعاقلين، والحيوانات التي تُذبح قال أكثر المعتزلة يجب على الله أن يعوضهم عن هذه الآلام. (انظر الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام، ص 397 – 401).

بالنسبة إلى العقل اللاديني المعاصر، يبدو هذا الطرح الاعتزالي مجرد صياغة معدلة للطرح الأشعري، فكلاهما يُحيل المسألة إلى “الإرادة الإلهية المطلقة”، وهي بعينها محل النزاع، ومن ثم فهو استدلال دائري: القول بأن ما حدث في الواقع من أحداث هو الأصلح، يعنى أن ما حدث هو الأخلاقي على الحقيقة، أي أن أخلاقية الحدث لا تتحدد برؤية الإنسان لها، بل بإرادة الله ذاته، ومن ثم لا يجوز محاكمة الفعل الإلهي إلى قيم من خارجها أي من صنع الإنسان. عند هذه النقطة صار المشكل واضحًا: نحن حيال تصورين متقابلين جذريًا لطبيعة الأخلاق، كل مُنهما يعكس موقفًا مختلفًا من الدين. هل ثمة أخلاق إنسانية مطلقة بذاتها، مستقلة عن الدين وسابقة عليه؟ أم أن الأخلاق مسألة دينية خالصة لا وجود لها خارج الدين؟

– 5 –

التيار النقدي المُبكر، والأخلاق

بالتوازي مع المنظومة المدرسية “الرسمية” التي يُمثلها الفقه بطابعه النقلي وعلم الكلام بطابعه شبه العقلي، اتسعت الثقافة الإسلامية في عصر التدوين لظهور مدونة فلسفية ذات طابع عقلي صريح، فقد بدأت تُظهر نتائج مثيرة لتلاقح النص العربي المقدس مع المحيط الهلنستي الواسع الذي انتقل إليه بموروثاته الدينية والفكرية المتعددة. لم يَبدُ الطرح المدرسي بنقليته الحرفية قادرًا على إقناع العقل الفلسفي، وتولد تيار نقدي مباشر موجه إلى السردية اللاهوتية والفقهية السائدة.

بعامة لم يَنْصب النقد في هذا السياق المبكر على مبدأ الدين، أعنى لم تُوجه سِهام النقد إلى الفكرة الإلهية، بقدر ما وجهت إلى الديانات القائمة، والكتابية خصوصًا بسردياتها التفصيلية، بدءًا من فكرة الوحي الشخصي عن طريق “الأنبياء”، إلى فكرة الطقوس والتكاليف التشريعية.

قياساً إلى فكرة النبوة، بدت “الفكرة الإلهية” أكثر قدرة على الصمود أمام شروط العقل النظري شديدة التطلب، وهو ما يظهر في وجود “الربوبيين” الذي يستوعبون مبدأ الوجود الإلهي على أسس عقلية، لكنهم لا يستوعبون مبدأ الوحي عن طريق أشخاص مُحددين يُسمون بالأنبياء، ولا يستوعبون كثيرًا من الطقوس والتشريعات التي ينسبها الكهنة والفقهاء إلى الله لأسباب ترجع إلى تناقضها مع العقل أو مع الأخلاق.

النقد الأخلاقي الذي وُجِهَ إلى الإسلام في هذه المرحلة، جاء في سياق الجدل حولهُ “النبوات”. وبدأ يظهر في المواجهة مع الأفكار المانوية الفارسية فيما صار يُعرف بحركة الزندقة، وهي الحركة التي لعبت دورًا فاعلاً في توليد الفكر الاعتزالي وتطوير مادته الكلامية بخصوص خلق الأفعال ومسألة الصفات. ثم تفاقم حضوره في الكتابات النظرية المُعمقة لمفكرين “عقليين” كبار، على رأسهم ابن المقفع (ت 137 هـ) وابن الراوندي (ت 298 هـ) وأبو بكر الرازي (ت 311 هـ) وأبو العلاء المعرى (ت 449 هـ). وهم جميعًا، كما يظهر من كتاباتهم ربوبيون يُقرون بفكرة الإله الخالق، لكنهم ينكرون وجود “الأنبياء” في الواقع، ويرفضون أن يكون الله قد خَصَّ أشخاصًا بأعيانهم، كي يوصلوا الوحي إلى البشر، فهذه الطريقة تتناقض -عقلاً- مع الحكمة المفترضة لإله حكيم عادل كُلىَ العلم والقدرة.

ينطلق جميع هؤلاء الكتاب من نقطة مشتركة هي: أن العقل، وهو أعظم نعم الله على الإنسان، يكفي بذاته لإدراك الخير والشر، والنافع والضار، أي قادر على معرفة الأخلاق. وهو -كما يُضيف الرازي– قادر أيضًا على معرفة الله، ومن ثم فلا حاجة إلى إرسال الرُسل. فهذه العملية ليست أقصر الطرق ولا أضمنها لتوصيل الحقائق إلى البشر، كما أنها تنطوي على تفضيل إلهي لفرد وجماعة على بقية خلقه وهم جميعًا متساوون في مخلوقيتهم لله، وهي تشير باختلافات اللاهوت والشريعة بين الرسل إلى تناقض مع مبدأ الصدور عن الإله الواحد، والأهم أنها تؤدى إلى الكراهية والشقاق وإثارة الحروب بين الناس.

يشرح أبو بكر الرازي هذه الحيثيات في مناظرته مع أبي حاتم الرازي: “من أين أوجبتم أن الله اختص قومًا بالنبوة دون قوم، وفضلهم على الناس، وجعلهم أدلة لهم، وأحوج الناس إليهم؟ ومن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختار لهم ذلك، ويُشلى بعضهم على بعض، ويؤكد بينهم العداوات ويُكثر المحاربات ويُهلك بذلك الناس؟… الأولى بحكمة الحكيم ورحمة الرحيم أن يُلهم عباده أجمعين معرفة منافعهم ومضارهم في عاجلهم وآجلهم، ولا يفضل بعضهم على بعض، فلا يكون بينهم تنازع ولا اختلاف فيهلكوا. وذلك أحوط لهم من أن يجعل بعضهم أئمة لبعض، فتصدق كل فرقة إمامها وتكذب غيره، ويضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف، ويعم البلاء ويهلكوا بالتعادي والمحاربات. وقد هلك بذلك كثير من الناس كما نرى” (انظر، أبو بكر الرازي، “رسائل فلسفية”، نشر بول كراوس، القاهرة 1939، ح 1، ص 295. وللاطلاع على مذهب الرازي الأخلاقي، ونظريته في النبوة، ومُجمل رؤيته التي وصفت “بالإلحادية”، أنظر كتبه “السيرة الفلسفية”، و”مخاريق الأنبياء”، و”كتاب العلم الإلهي”، وكتاب “الطب الروحاني”، وهي نصوص لم تنتشر على نطاق واسع تحت حصار الثقافة السلفية الرسمية، وأمكن الوصول إليها عبر ردود الخصوم، خصوصًا ردود أبي حاتم الرازي، ويرجع الفضل في ذلك إلى جهود التحقيق والتجميع التي بذلها بعض المستشرقين وفي مقدمتهم بول كراوس. راجع عبد الرحمن بدوي، “من تاريخ الإلحاد في الإسلام”).

وهكذا رتَّب التيار النقدي المبكر على النبوة، مآخذ “أخلاقية” متعددة، فأشار إلى فكرة “التمييز” التي تشي بغياب العدالة، لكنه وقف بخاصة على مُشكل “الكراهية” التي تدفع إلى الشقاق وتؤدى إلى الحرب واسترقاق البشر. ويُلخص أبو العلاء المعري هذا المعنى في اللزوميات، ببيته الشعرى المعروف: “إن الشرائع ألقت بيننا إحنا، وأورثتنا أفانين العداوات… وهل أبيحت نساء الروم عن عرض العرب إلا بأحكام النبوات”.

وهي صياغة “تراثية” لمُشكل النقد الرئيس الذي سوف يُوجه إلى الدين من التيار النقدي الحديث والمعاصر:

تعدد الديانات مع القول بالتوحيد الحصري، يعني نفي الآخر المخالف، ويؤدي بالضرورة إلى الحروب والدمار. وهي نتائج يصدقها الواقع عبر تاريخ التدين “الإبراهيمي” الطويل، من “مجازر” العهد القديم التي جرت -طبق الكتاب- على يد أنبياء عبريين، إلى “محارق” العصور الوسطى التي جرت على يد الكنيسة المسيحية، حتى “فتوحات” المسلمين وحروبهم التي لم تنقطع إلى اليوم، سواء في مواجهة الشعوب المجاورة أو فيما بينهم وبين أنفسهم.

– 6 –

بالنسبة إلى التيارات النقدية المعاصرة، يبدو مُشكل العنف زاعقًا أو أكثر حدة في خصوص الإسلام. فهو يطرح نفسه بوصفه ديانة قتالية “ذروة سِنامها الجهاد”، أي مبدأها الأسمى يقوم على الصدام والعنف، لا تتعلق المسألة بسجله التاريخي الفعلي منذ مراحل التكون، بل بمادته النظرية الثانية بالنصوص والفقه، التي تُشير إلى “حكم شرعي” مُؤبد يجرى إسناده إلى الله.

ربما من هذه الزاوية “الفقه – نصية”، يبدو الإسلام الديانة الأعنف قياسًا إلى المسيحية. وذلك بشرط الحديث عن المسيحية المعاصرة (خصوصًا النموذج الكاثوليكي) الذي يحاول التخفف من الارتباط بـ “العهد القديم”، وتكريس مساحة أوسع للإنجيل بطابعه السلمي، مع الاعتذار عن التاريخ الدموي العنيف للكنيسة بامتداد العصور الوسطى.

لكن الإسلام لا يبدو عنيفًا قياسًا إلى اليهودية التي تمتلك تراثًا قتاليًا واسعًا في مستوى النصوص والتاريخ جميعًا. كل ما هنالك أن العنف اليهودي المُسجل في التناخ تراجع تاريخيًا بسبب انهيار “الدولة” وتلاشي الزخم السياسي لليهود بعد الانتقال إلى حالة الشتات أو “الاستضعاف” الطويلة تحت ضغوط العنف الروماني المُضاد والانتشار الواسع للمسيحية، لكنه صار يظهر من جديد في هذه المنطقة المنكوبة من العالم بعد نشوء دولة “إسرائيل”.

بمقياس التاريخ الفعلي لا فارق في ممارسة العنف بين اليهودية والمسيحية والإسلام. يحضر العنف في الديانة كلما اقترنت بالسلطة، التي تستدعي غريزة القوة. واقعيًا، يتداخل العنف بالضرورة مع النسق التاريخي السائد للتدين الإبراهيمي، وذلك لسببين:

  1. مبدأ “الحصرية” التوحيدي، الذي يقول بلاهوت واحد مطابق للحق، ويدعو من ثم إلى نفي الآخر المخالف، ما يعنى إنكار “التعددية” الطبيعية داخل الاجتماع البشرى، ويدفع إلى المواجهة والصراع.
  2. مبدأ “الشريعة”، الذي يقول بقانون واحد مقدس، أي مُطلق مُؤبد في الزمن ومُتعدي للمكان، ما يعني الانغماس في الدولة والولوج في السلطة.

————

مُشكل العنف يُمثل النقطة الرئيسة في لائحة النقد الأخلاقي “المعاصرة” المُوجهة إلى الإسلام، لكن هذه اللائحة صارت تتسع لبنود تفصيلية أوسع.

يتبع

 

    اقرأ ايضا

    المزيد من المقالات

    مقالك الخاص

    شــارك وأثــر فـي النقــاش

    شــارك رأيــك الخــاص فـي المقــالات وأضــف قيمــة للنقــاش، حيــث يمكنــك المشاركــة والتفاعــل مــع المــواد المطروحـــة وتبـــادل وجهـــات النظـــر مــع الآخريــن.

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete
    Asset 1

    error Please select a file first cancel
    description |
    delete